جاء في کتاب أحاديث أم المؤمنين عائشة للسيد مرتضى العسكري: وروى الحاكم عن عم يحيى بن سعيد أنه قال: لما كان يوم الجمل نادى علي في الناس: لا يرمين رجل بسهم، ولا يطعن برمح، ولا يضرب بسيف، ولا تبدأوا القوم بالقتال، وكلموهم بألطف الكلام، فإن هذا مقام من أفلح فيه فلح يوم القيامة. قال: فلم نزل وقوفا حتى تعالى النهار، ونادى القوم بأجمعهم: (يا لثارات عثمان)، قال وابن الحنفية أمامنا بربوة معه اللواء: يا أمير المؤمنين، فناداه علي، قال: فأقبل علينا يعرض بوجهه، فقال له علي: ما يقولون؟ فقال: يقولون: (يا لثارات عثمان) فرفع يديه فقال: اللهم اكبب اليوم قتلة عثمان بوجوههم. وروى الحاكم أن الزبير قال للأساورة الذين كانوا معه ارموهم برشق كأنه أراد أن ينشب القتال وقال ابن أعثم وغيره: إن عائشة قالت: ناولوني كفا من الحصاة، وحصبت بها وجوه أصحاب علي، وصاحت بأعلى صوتها: شاهت الوجوه كما صنع رسول الله يوم حنين، فناداها رجل من أصحاب علي وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى. وقال أبو مخنف وغيره واللفظ لأبي مخنف: فرمى أصحاب الجمل عسكر علي بالنبل رميا شديدا متتابعا فضج إليه أصحابه وقالوا: عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين. فعند ذلك استرجع علي ودعا بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات الفضول فلبسها. قال أبو مخنف: وطاف علي على أصحابه وهو يقرأ"أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة 214). قال طلحة: ألبت الناس على عثمان، قال علي: "يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" (النور 25). قال ابن عساكر: وبعث علي إلى طلحة أن القني، فلقيه فقال له: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) قال: نعم. قال له: فلم تقاتلني؟ وروى المسعودي أن مروان قال لما رأى طلحة: ما أبالي رميت هاهنا أم هاهنا جيش علي أو جيش البصرة فرماه في أكحله فقتله. وروى الطبري وقال: حملت ميمنة أمير المؤمنين علي على ميسرة أهل البصرة فاقتتلوا، ولاذ الناس بعائشة أكثرهم ضبة والأزد. فنادى علي، اقطعوا أنساع الهودج، واحتملت عائشة بهودجها، وأمر بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح، وقال: لعنه الله من دابة، فما أشبه بعجل بني إسرائيل، ثم قرأ: "وَانظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا" (طه 97). وفي تاريخ اليعقوبي: قتل في ذلك نيف وثلاثون ألفا. كانت هذه حصيلة المسلمين من الحرب يومذاك، وما أنتجت لهم بعده فكثيرة لا تحصى، وهائله لا تقدر. وإن من نتائجها القريبة إشعال معاوية الحرب بصفين، فإنها في حقيقتها كانت امتدادا لحرب الجمل، إذ أن قيام أم المؤمنين التيمية بالحرب على علي باسم الطلب بثار عثمان مهد السبيل لمعاوية الأموي أن يقيمها عليه كذلك، كما مهدت له السبيل أيضا لان يجعل الخلافة ملكا وراثيا في آل أمية أسرة الخليفة القتيل يورثها الآباء الأبناء. وكان من نتائج الحربين الجمل وصفين خروج الخوارج على علي وحربهم بنهروان.
وقال السيد مرتضى العسكري: وكان طبيعيا أن يستتبع ذلك تفريق كلمة المسلمين وانقسامهم إلى شيع وأحزاب فأصبحوا علوية وعثمانية وخوارج وبكرية إلى غير ذلك من طوائف متخاصمة تقوم بينها حروب دموية أحيانا وكلامية أخرى. وكان من مجالات حروبهم الكلامية واقعة الجمل نفسها ومن قام بها ورضي عنها. فقد قالت الخوارج فيها: إن عائشة وطلحة والزبير كفروا بمقاتلتهم عليا، وقالوا: إن عليا كان يوم ذاك على الحق ولكنه كفر بعد التحكيم. ولعنوا عليا في تركه اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم. وقال فريق من المعتزلة بفسق كلا الفريقين من أصحاب حرب الجمل وأنهم خالدون مخلدون في النار. وقال آخرون منهم: إن أحد الفريقين فاسق لا محالة وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادته. وقال أكثر الأشاعرة: إن أصحاب الجمل أخطأوا ولكنه خطأ مغفور كخطأ المجتهد في بعض مسائل الفروع ولا يلزم به الكفر ولا الفسق ولا التبري ولا العداوة.
واستطرد السيد العسكري عن ام المؤمنين وحرب الروايات واللسان قائلا: استعرضنا من حرب الجمل ما يساعدنا على دراسة شخصية أم المؤمنين من قريب أو بعيد. فوجدناها في هذه الحرب تجمع الناس على حرب علي بعدما بويع بالخلافة باسم الطلب بثأر عثمان، وتؤمر على جيشها أشد المؤلبين على عثمان طلحة والزبير من بعد بيعتهما لعلي. عبد الله بن الزبير كان وراء هذه الحرب وليس عبد الله بن سبأ الذي ما زال المؤرخون يلهجون باسمه منذ أكثر من ألف سنة. اعتمدنا في ما أوردنا من روايات في مقتل الخليفة عثمان و حرب الجمل على روايات موثوقة لدينا، ويقابل هذه الروايات روايات موضوعة وضعها راو واحد، ومنه أخذ الكتاب والمؤرخون كافة، والواضع لتلك المجموعة من الروايات هو: سيف بن عمر التميمي البرجمي الكوفي المتوفى سنة 170 ه، فإن هذا الراوي وضع أسطورة خرافية بطلها: عبد الله بن سبأ اليهودي الذي نسبه إلى صنعاء اليمن وعبر عنه بابن السوداء أحيانا. وقد فات الغالب من الكتاب والمؤرخين من الشرقين والمستشرقين: أن هذه الأسطورة وضعها راو واحد، وأن هذه الراوي مشهور عند القدامى من علماء الحديث بالوضع، ومتهم بالزندقة. وقد أخذ من هذا الراوي الطبري 310 ه في تاريخه. وابن عساكر 571 ه في موسوعته تاريخ مدينة دمشق. وابن أبي بكر 741 ه في كتابه التمهيد والبيان في فضائل الخليفة عثمان. ومن الطبري أخذ سائر الكتاب والمؤرخين إلى يومنا هذا مما بيناه مفصلا في كتابنا: عبد الله بن سبأ المدخل. ولما غلبها ابن أبي طالب وأرجعها إلى بيتها مغلوبة على أمرها ولم يكن من طبيعتها السكوت على الضيم أعلنت عليه حربا أخرى أشد ضراوة وأبقى أثرا من حرب الجمل إذ أقامت عليه حرب الدعاية: حرب اللسان، وهذه الحرب لم تنته بقتل ابن أبي طالب، بل اشتد أوارها بعده، واستمرت هي ماضية فيها ضده إلى أخريات سني حياتها، وأعلن معاوية في عصره الحرب نفسها على ابن أبي طالب وبذل في سبيلها ما كان له من مال وسلطان ودهاء فأصبحت الحرب حربه وهي التي تعينه فيها.
|