• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : تمهيد للبحث عن تأثير السيد الشهيد محمدباقر الصدرفي تاريخ العراق المعاصر .
                          • الكاتب : د . صلاح مهدي الفضلي .

تمهيد للبحث عن تأثير السيد الشهيد محمدباقر الصدرفي تاريخ العراق المعاصر

الخوض في موضوع الشهيد محمد باقر الصدر تكتنفه صعوبات بالغة وتعقيدات جمة من جوانب متعددة ربما اهمها ان تلك الحقبة اتسمت بالتعتيم الشديد والقمع والبطش السلطوي اسهم ذلك في تغييب المزيد من الحقائق والوثائق اللتين يمكن الاعتماد عليها في تحليل وقراءة وتدوين ماحصل من احداث في بدايات التحرك الاسلامي.
ويجد الباحث نفسه امام مفترق طرق وفراغات لم تملأ فعلا وبقيت تعتريها الضبابية والغموض، وثمة تساؤلات يفرضها الواقع العراقي بقوة عن حقيقة ما كان يجري في تلك المرحلة الصعبة وهي بحاجة الى اجابات شاملة وكاملة وصريحة.
والسيد الشهيد  محمد باقر الصدر ظل الى وقت قريب بعيداً عن المناقشة والتحليل والتقييم وربما اسهمت شهادته في ازدياد التابعين له او المدعين به او الزاعمين له لاننا امة مولعة في تمجيد الموتى عند رحيلهم نحو السماء وتقريع الاحياء وطالما أنبنا الصدر في حياته وأبناه في مماته وشكوناه في حضوره وبكيانه عند غيابه، لكن الصدر يبقى مشعلاً وضاء ينير عتمة الطريق لابناء العراق واعلن بوقت مبكر عن خطورة حزب البعث الذي تسلط على رقاب الناس طيلة العقود الثلاث والنصف من الزمن.
الصعوبة في الكتابة عن الشهيد الصدر بشكل يلم بكل الظروف والمناخات المحيطة بحركته وسيرته تأتي من عدة جهات فمن جهة انه لم تدون او تسجل كل مراحل حركته بسبب التعتيم والتحجيم آنذاك ومن جهة اخرى ان الكتابات الموثقة عن الشهيد الصدر لم تف بشكل يدعو الى الاطمئنان اليها فما كتب عنه اما موتور ومنفعل اراد من الصدر جسراً للطعن بالاخرين او محبّ وعاطفي الى درجة افقدته التقييم السليم لتلك المرحلة المثيرة والصعبة بكل فصولها.
تقييم المرحلة التي عاشها الامام الشهيد محمد باقر الصدر قضية غاية في التعقيد والغموض والضبابية، وقد ترفع قوماً وتخفض اخرين لكن كتابة التأريخ بشكل موثق ومحقق هي المطلوب دون محاباة زيد او مجاراة عمرو، لان القضية تحتاج قدراً من الشجاعة وقدراً مماثلاً من الانصاف لكي لا تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
والامر الذي يجدر طرحه في هذا السياق ان القراءة للحدث لو جاءت بعد نهايات فصوله واتضاح تعقيداته اسهل بكثير من قراءاته اثناء حالات المخاض العسير، وكذلك ان تقييم الحدث وظروفه وفق المستجدات والتطورات التي شهدها الوعي السياسي والصحوة الاسلامية قضية بحاجة الى الوقفة لا التوقف والمراجعة لا التراجع، وبمعنى اوضح واصرح ان قراءة الحدث السابق وفق تطورات الحدث اللاحق قراءة منقوصة وغير مجدية، وذلك لامر بسيط هو ان الحدث والظروف المحيطة به تختلف تماماً عن الظروف المستجدة وتطورات الوعي والفهم والاداء.
ومن الواضح جداً ان الحقبة الماضية في العقود الماضية (الخمسينيات والستينيات) اتسمت بغياب الوعي الحركي الاسلامي السياسي وشمل ذلك الوعي الحوزوي ايضاً والحظر في الخوض في قضايا معاصرة تنأى قليلاً عن النمط الكلاسيكي السائد في الفقه والاصول كما هو السياق العام في الاداء الحوزوي ، فكان رجل الدين الذي يتحدث في السياسة او يحاول الكتابة في الفلسفة والاقتصاد يمثل حالة تثير الدهشة والغرابة وربما التفسيق في الوسط الحوزوي ، وكان بعض الفضلاء في الحوزة يمسك كتاب فلسفتنا للشهيد الصدر بمنديل لكي لا يتنجس وكـان آخرون من فضلائنا يستنجسون الاناء
 الذي يشرب منه احمد الخميني لان والده يدرس الفلسفة في الحوزة العلمية او يمارس السياسة، بينما اصبح رجل الدين في عصرنا الحاضر ممن لا يتدخل في السياسة او لا يبحث في الفلسفة وقضايا الفكر المعاصر غير جدير في الجو الحوزوي الراهن.
وتأسيساً على ذلك فإن تقييم حركة الشهيد محمد باقر الصدر وفق المتغيرات والتطورات الحالية قضية ينبغي التأمل فيها والتأني لكي لا نظلم الشهيد مرتين، مرة في تركه وحيداً يقاسي اوغاد البعث وبشاعة الطاغية صدام واخرى عندما نخطّىء منهجه ونقّيمه وفق رؤانا الجديدة. 
الشهيد الصدر استشرف واقع امة عانت من التهميش والاقصاء والالغاء من الحكومات المتعاقبة على العراق ، واختزل حركة التغيير بزمن قصير لكي يعيد للامة كيانها وهيبتها وهويتها وبدد ركود الصمت وثقافة التبرير ومزّق رداء الخوف الذي ارتدته الامة عقوداً طويلة .
وبناء على ما مرّ ذكره فانه يصعب على الباحث اعطاء البحث حقه في شخصية اثارت الجدل الواسع في الوسط السياسي والفكري والحوزوي، واجتمعت فيها مزايا وسجايا قلما تتوفر مجتمعة في غيره من اعلام الفكر في الاسلام.
نهضة الشهيد الصدر هي نهضة فريدة في الاداء الحركي الشيعي واستثنائية في مسارها وانطلاقها ، تختلف عن بقية النهضات الثورية في العراق، من نواحي عديدة قد تكون تصديها لمواجهة السلطة البعثية في وقت مبكر ومرجعية فتية ظلت منتشرة في الوسط النخبوي ومنحسرة في الوسط الشعبي بسبب وجود مرجعيات تقليدية تحظى بجماهيرية في الداخل والخارج.
وينبغي التنويه على قضية هامة في هذا السياق وهي ان جهاد علماء الشيعة ضد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 وثورة العشرين الكبرى وما اعقبها من مواقف علمائنا بتحريم الانتخابات كان مرحلة سابقة ومتقدمة عن طبيعة النهضة التي قام بها الشهيد الصدر لكن الفارق هو ان الشهيد الصدر كان فريداً يقود الركب بوجه ابشع طاغية في المنطقة والعالم وفي ظروف تختلف تماماً عن تلك الظروف بشاعة وقمعاً ووحشية.
والاشراف على العمل الحزبي او التأسيس له قضية تستبطن المزيد من المغامرة والجرأة لا بلحاظ الوضع الامني او الحظر الحكومي للاحزاب وانما بحسب الواقع الحوزوي وقوالبه في التحصيل والبحث والارشاد واهمال الاهتمام الحركي الحزبي وميول الاغلبية من رجال الدين الى التبتل والاحتياط والانعزال عن امور الدنيا وشؤونها السياسية التي تعتبر في نظرهم نمطاً من الركون الى الدنيا ومغرياتها.
كراهية العمل الحزبي في الوسط الحوزوي والديني كان ينبع من تجربة مريرة عانى منها الكثيرون من الاداء الحزبي اللاديني للاحزاب العلمانية وغيرها الذي اعطى انطباعاً سلبياً عن اساس الحزبية واعتبرها البعض صنمية وفئوية لا تليق برجال العلم الذين اوقفوا انفسهم لخدمة الجميع.
وتصدي السيد محمد باقر الصدر الى العمل الحزبي تأسيساً واشرافاً انما يعني قفزاً على الواقع ومرتكزاته وخروجاً على النمط السائد الذي يعتبر مقدساً او مألوفاً في عرف الكثيرين، ويعكس في نفس الوقت الرؤية الاستشرافية للشهيد الصدر وقناعته الاكيدة في اهمية العمل الحزبي في عهد كان العمل الحزبـي حكراً على غير الاسلاميين الذين اريد لهم ان يعيشوا في داخل جدران المساجد منهمكين في التسبيح والتهليل والطقوس والبكاء واللطم دون ان يكون لهم دوراً في شؤون السياسة والمجتمع وسط شعور اسلامي بالعزلة والاحباط والانكفاء وصمت حوزوي مريب من المبادرة
 والتحرك على تحصين الوضع الاسلامي في العراق وحماية المعتقدات الدينية من الاراجيف والشبهات والافتراءات.
بينما كان المد الشيوعي والتيار القومي يتموّجان في الشارع العربي والعراقي ويفرضان وجودهما وافكارهما على المجتمع العربي والاسلامي. 
ولم يبادر احد لمواجهة هذا الواقع وتعقيداته للحضور في الميدان والاثبات والبرهنة للعالم كله بان الدين هو الحل وهو الكفيل في حصانة اكيدة وضمانة حتمية من الانزلاق والزيغ والانحراف الا مبادرة المرجع الراحل السيد محسن الحكيم بفتواه الشهيرة :(الشيوعية كفر والحاد) التي اعتبرها بعض المراقبين بانها جاءت لخدمة حزب البعث لاسباب تعبوية وهو محض افتراء ، بالاضافة الى مشاريع المكتبة الاسلامية التي انتشرت في العراق واطلق عليها مكتبة السيد الحكيم.
في خضم هذه المناخات وتعقيداتها وانحسار الفكر الاسلامي الحركي وغياب المبادرات الاسلامية لمواجهة المخاطر والتحديات نهض السيد الشهيد محمد باقر الصدر مشمّراً عن ساعديه لينفض غبار الجهل والاحباط عن وجه العراق، ويسهم في تأسيس حزب اسلامي مع نخبة من طلائع التحرك الاسلامي في العراق، وتم تأسيس حزب الدعوة الاسلامية وسط جدل حوزوي مثير بين مؤيد ومندد ومتردد.
ولم يقف الشهيد الصدر على حدود التأسيس ومخاضاته بل بادر لمواجهة الفكر الفلسفي الغربي الوافد في طروحاته المتعددة فألف فلسفتنا واقتصادنا والاسس المنطقية للاستقراء برؤية اسلامية فكرية معاصرة اتسمت بالنقض والاثبات وتسفيه الافكار الالحادية التي وجدت انبهاراً واسعاً في الوسط الشعبي.
لم يلجأ السيد الشهيد محمد باقر الصدر الى اسلوب رد الفعل والانفعال والدفاع عن الافكار الاسلامية والعقيدية بل كان فاعلاً في مهاجمة تلك الافكار والتيارات والمدارس الغربية الفلسفية بالدراسة والتحليل العميق.
ولولا يد الغدر والقدر لواصل هذا المفكر العملاق عطاءه الفكري والفلسفي لاغناء الوعي الاسلامي والمكتبة الاسلامية بما يمكن ان يسهم في النهوض والرقي الحضاري. وتصميمه على الشهادة في مواجهة ابشع سلطة دموية في العالم وهو في عهد مبكر للعطاء الفكري بل في أوج عبقريته وألقه قد وضع نهاية لهذا الفكر المتجدد والمعمق ولم تكتمل فصول كتابه الاخير( مجتمعنا) بسبـب قرار السلطة الجائر باعدامه.
ان تأثير محمد باقر الصدر امتد بعد مماته ألقاً دائماً وحيوية متجددة وحمل مشعل أفكاره رجال لم ترهبهم الطغاة ولم تخدعهم الدنيا ببريقها وبعد أن تسلّموا قيادة الامة والمسيرة في المنبر وفي مقاعد الارشاد وفي صهوات الاعلام وكراسي الحكم ـ اصبحوا خدّاماً وليس حكاماً، وكان محمد باقر الصدر أمامهم بفكره وتواضعه وشجاعته .
يقول كاتب معاصر ( لو قدّر للصدر أن يعيش عقدين آخرين من الزمن لأشبع مشكلات العصر حلولاً ونظريات ومواقفاً ، لكن عواملاً كثيرة تظافرت على إحتواء هذه الظاهرة والحد من إتساعها ، خوفاً من مدّها الآتي الذي حاول اجتياز الحدود الجغرافية التي كان يتأطر بها الصدر ) 
ويعدّ محمد باقر الصدر شخصية شاملة جامعة وكخصيصة ذاتية يصدق عليه مفهوم العصمة التكوينية بوصفه شخصية اسلامية متكاملة ، ولنا ان نصفه بأنه (إسلام متحرك) ، وموضوعياً ، فهو تأريخ امة تمتد لقرن من الزمن ونقطـة ارتكاز لثلاث حقب من الزمن رسمت التاريخ المعاصر لبلاد الرافدين .
الحقبة الاولى هي باكورة الوعي السياسي الشيعي المعاصر إذ  الدور الفاعل للمرجعية الدينية في قيادة الامة، وتصديها للعمل الجهادي ومقارعة الانكليز وامتداد هذا الاثر في تحريك الوعي عند شباب الامة وظهور التيار الاصلاحي المنطلق في باطن الحوزة الدينية الشريفة، ليظهر جيل الحقبة الثانية المؤسس للحركة الاسلامية المعاصرة اواسط القرن الماضي 1950 والحقبة الثالثة، وهي زمن التحدي وتمظهر الفكر الاسلامي الحركي بعناصر القوة، والخروج الى الشارع وصنع الثورات واجتثاث الفساد وتطهير المجتمعات من قوى الشر .
ان الحقبة الممتدة من عام 1908م حتى عام 2003م هي التاريخ المعاصر للعراق الحديث وقد تصارعت فيها الافكار الاسلامية مع الافكار التبشيرية والعالمية الوافدة الى المنطقة الاسلامية ، هذا التصارع الذي تحول الى ارض الواقع انهاراً من الدماء دفع ثمنها المتصدون لعملية التغيير، وحركة التصحيح، وتثوير الواقع الآسن للمجتمعات المتخلفة بالاثر الاستعماري .
وقد برز شخص السيد الصدر على ارض الصراع حاملاً هموم جيل كامل مستوعباً لآثار حقبة زمنية وضعت علماء الوعي والثورة على المحك لينطلق انطلاقة جديدة، فيكون خطاً متصلاً مع قادة الوعي والثورة الذين خفت نورهم عام 1923 راغمين .
وتتبلور المعاناة الجسيمة للمرجعية الرشيدة التي ظهرت بقوة في الحقبة الزمنية الثالثة حينما احتدم الصراع واخذ طابع المواجهة منحى التصفيات واثبات الوجود 00 وقد خطأ صنّاع القرار في السياسة العالمية خطأً فاضحاً حينما عمدوا الى القوة في تصفية رجال الرأي والضمير ولم يعلموا إن شجرة الاحرار تكبر وتنمو كلما سقيت بالدماء ولم يخطر ببالهم ان الاطاحة برأس محمد باقر الصدر قد زلزل كياناتهم وطوّح اساسها الرميم وقد برهن لهم هذا الرمز الكبير ان الجماهيردائما اقوى من الطغاة .
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=1896
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 12 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20