• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : قراءة في السجل الملاحي لشط العرب من 1579 إلى 2012 .
                          • الكاتب : كاظم فنجان الحمامي .

قراءة في السجل الملاحي لشط العرب من 1579 إلى 2012

 ملف خاص نشرته جريدة (ذاكرة البصرة) في ملحقها المرفق مع العدد الثالث الصادر في حزيران 2012 وهي جريدة شهرية من إصدارات مركز دراسات البصرة / وزارة الثقافة
 ابتليت الممرات الملاحية المؤدية إلى الموانئ العراقية وشرايينها بكولسترول الترسبات الطينية المتراكمة بفعل ظاهرة الإرساب والترسيب الملازمة لدلتا شمال الخليج العربي, وتعرضت في المدة من عام 1579 ولغاية عام 2012 لسلسلة طويلة من التغيرات التي فرضتها عليها الظروف الطبيعية والسياسية والحربية, حتى كادت تكون الأكثر تغيرا من بين كل الممرات الملاحية في كوكب الأرض, وسنتناول في هذه الدراسة المختصرة مراحل تلك التغيرات, التي لم تكن في يوم من الأيام في صالح العراق إلا في حدود بضعة أعوام مبعثرة هنا وهناك على صفحات السجل التاريخي لهذا النهر العظيم, الذي تغافلت عنه المؤسسات السياسية والعسكرية والملاحية, وأهملته المراكز العلمية العراقية, ولم تتطرق إليه المقررات الدراسية, في مراحلها التعليمية كلها من الابتدائية إلى الجامعية, ووصل الوضع ببعض مؤسساتنا الإعلامية إلى تجاهل اسمه تماما على صفحات بعض الصحف المحلية, التي أطلقت عليه اسم (اروند رود) في صفحاتها الأولى, والمثير للعجب إن بعض الدراسات العراقية اختلطت عليها أسماء الأماكن الرئيسة في شط العرب, ولم تعد تميز الديك من الحمار, ونورد هنا بعض التسميات المضحكة كدليل على هذا التخبط, فقد تكرر اسم (جزر المحلة Muhalla), وملحقتها (إبهيرية Bahriyeh), والحقيقة ان المقصود هو جزيرة (محيلة), وليست (محلة), وهي جزيرة واحدة وليست (جزر), ولها أسماء كثيرة مثل (جزيرة حجي صلبوخ), و(شلهة الصيادين), واسمها الفارسي الجديد هو (جزيرة مينو), اما (ابهيرية) فلا وجود لها في شط العرب, ولا حتى عند قبائل (البهرة) في الباكستان, والحقيقة إن المقصود هو جزيرة (البحرية), وهي جزيرة تابعة لناحية السيبة, تقع عند منعطف شط العرب المار بمصفى عبادان, وورد اسم جزيرة (شطيت Shatait), والحقيقة إن المقصود هو جزيرة (أشطيط), وتعني مصغر (شط), وهي جزيرة تقع جنوبي عبادان, بين بواردة والدواسر, وورد اسم (معوية Ma'awiyeh), والحقيقة ان المقصود هو جزيرة (معاوية), وتقع على الضفة الإيرانية بين ميناء (خسروآباد), وميناء عبادان, وورد اسم مانقوحي Manquhi), والحقيقة إن المقصود هو منطقة (المنيوحي) الواقعة شمالي (القصبة) على الضفة الإيرانية عند موقع (البيت الشمالي), وتسكنها قبيلة الحميداويين العربية, وورد اسم (قناة تشيين Chaiyin canal), والحقيقة إن المقصود هنا هو نهر (خيين), والكلمة تعني بالعربية الدارجة (شقيقين), اثنان من الأخوة غرقا في هذا النهر عندما حاول الأول إنقاذ الثاني من الغرق, فصارت مأساتهما عنوانا للنهر, والنهر عبارة عن جدول صغير متفرع من شط العرب شمالي المحمرة يفصل الحدود البرية العراقية عن الإيرانية, وتكرر هذا اللغط في معظم الدراسات والخرائط المصاحبة لها, فارتأينا كتابة هذا الملخص السردي لتاريخ مدخل شط العرب من جهة البحر قبل أن تتغير هويته, وقبل أن يفقد مؤهلاته الملاحية والنهرية, وقبل أن تتشوه ملامحه الرئيسة أكثر مما هي مشوهة الآن. .
بداية لابد لنا من التطرق لبعض العناوين الكبيرة في سجل مدخل شط العرب, والذي يتحدد بين العوامة الملاحة (خفقة) وبين رصيف رقم (3) في الفاو, فالعوامة (خفقة) تقع في محيط ميناء خور العُمًيَّة, والرصيف رقم (3) النفطي يقع في الواجهة الشمالية لميناء الفاو, ويبلغ طول هذا المقطع الملاحي (20.9) ميل بحري بالتمام والكمال, وهو مقسم إلى ثلاثة مقاطع ثانوية ابتداءً من البحر, فالمقطع الأول ويطلق عليه (السد الخارجي Outer Bar), ويبدأ من العوامة (خفقة) إلى العوامة الملاحية رقم (10) في خرائط السبعينيات, وهو بطول (8.8) ميل بحري, والمقطع الثاني يسمى (السد الداخلي Inner Bar), ويبدأ من العوامة الملاحية رقم (10) إلى العوامة الملاحية رقم (14), وهو بطول (6.6) ميل بحري, والمقطع الثالث يسمى (مدخل الفاو Fao Reach), ويبدأ من العوامة الملاحية رقم (14) إلى الرصيف رقم (3) في الفاو, وهو بطول (5.5) ميل بحري. وبهذا تكون المسافة كلها (20.9) كما أسلفنا. وتجدر الإشارة هنا إلى إن التسمية الرسمية العامة المثبتة في الخرائط الملاحية والحدودية والسياسية لهذا الممر الملاحي الحيوي الفاصل بين العراق وإيران هي (قناة الروكا Rooka Channel), ولهذه التسمية حكاية تؤكد فصولها على حقوق العراق المفقودة في مسطحاته المائية وبحره الإقليمي, سنأتي على ذكرها في هذه الدراسة.
وهناك نقطة غامضة لابد من توضيحها حتى لا يصعب فهمها على القارئ, وهي إن مدخل الممر الملاحي لشط العرب كان في القرن السادس عشر الميلادي عند مقتربات جزيرة (خارك), وان ذلك الممر تحرك تدريجيا نحو الغرب حتى صار على بعد بضعة كيلومترات من مدخل قناة خور عبد الله, وانه اكتسب خلال مراحله الانتقالية تسميات متكررة ومتشابهة, فكلما ظهرت قناة جديدة غرب القناة القديمة أطلق الناس على القناة الجديدة تسمية (القناة الغربية), وأطلقوا تسمية (القناة الشرقية) على القناة الملاحية القديمة, ثم تندثر القناة الشرقية بمرور الزمن لتصبح القناة الغربية هي القناة الملاحية الرئيسة, ثم تتدخل العوامل الطبيعية لتحفر قناة ثالثة غرب القناة الرئيسة فتصبح القناة الثالثة هي الغربية وتصبح القناة الرئيسة هي الشرقية بعد أن كانت هي القناة الغربية, وهكذا تغيرت التسميات وتكررت بين غربية وشرقية تماشيا مع الزحف المتواصل نحو الغرب (باتجاه المياه الإقليمية العراقية), حتى جاء اليوم الذي انتبهت فيه شركة الهند الشرقية لهذا الزحف المتكرر, فولدت فكرة قناة (الروكا), التي وضعت حدا لهذا الزحف المتكرر, لتحافظ على الملامح الرئيسة في البوابة البحرية لشط العرب, فضبطت أبعادها وأعماقها وإحداثياتها بخطوط الطول والعرض. .
 
(روكا): روح شط العرب
 
روكا, أو الروكا ((Rooka اسم جميل نقشته السفن العملاقة على صفحات المذكرات الملاحية العراقية, ونال منذ بداية القرن الثامن عشر الميلادي قسطا كبيرا من اهتمام القائمين على تنظيم حركة سير السفن المغادرة والقادمة, من وإلى الموانئ الواقعة على ضفتي شط العرب, والروكا اسم يوثق حدود السيادة البحرية العراقية, ويرسم المسالك الملاحية للسفن المتوجهة إلى موانئ شط العرب, ويمثل النافذة التي يطل منها العراق على البحار والمحيطات. .
 
ظل اسم قناة الروكا مهابا في وثائق الأمم المتحدة. ومتصدرا لمعظم نصوص الاتفاقيات الحدودية المبرمة بين العراق وإيران, وتكرر هذا الاسم اللامع في كل المراجع الملاحية والجغرافية والتاريخية والسياسية, التي تحدثت عن مصب شط العرب في الخليج العربي من دون أن تشير تلك المرجع إلى سبب هذه التسمية أو معناها. وظل المعنى الحقيقي لقناة الروكا Rooka Channel مجهولا على مدى القرون الماضية, فعلى الرغم من أهمية هذه القناة الملاحية, وعلى الرغم من تداول هذا الاسم الجميل من قبل كل السفن الأجنبية والمحلية. لم نجد في بطون الكتب القديمة أو الحديثة ما يدلنا على فحوى الروكا أو معناها. . ولكوني من المهتمين بدراسة التاريخ الملاحي لشط العرب. فقد كان هذا الاسم الكبير يشغلني ويحثني على مواصلة البحث. . فمن غير المعقول أن أكون عاجزا عن تفسير معنى الاسم, وأنا الذي عملت في هذه القناة بصفة مرشد بحري ردحا من الزمن, فقررت أن أتعمق في البحث والتفتيش عن سر هذه التسمية الغريبة, فوجدت أن كلمة (Rooka) تعني في قاموس المفردات ( الانجلو – هندية  Anglo-Indian): (الوثيقة المكتوبة بخط اليد), وتعني أيضا عملة هندية محلية مصنوعة من الفضة, وتساوي حتى عام 1875 حوالي 1 إلى 2 روبية تقريبا, بيد ان تلك العملة القديمة اختفت بعد عام 1875 وحلت محلها الروبية, وهي الآن من المسكوكات النادرة, ولو فاضلنا بين المعنيين نجد إننا نميل إلى المعنى الذي يحمل في طياته كل ما يتعلق بالتوثيق والخرائط المرسومة باليد, ويبدو أن شركة الهند الشرقية كانت مضطرة إلى اعتماد هذه التسمية على خلفية النزاعات الحدودية المتكررة بين العراق وإيران حول مقتربات ومداخل شط العرب, فالمفهوم الذي يحمله المعنى الأول يشير إلى التوثيق الخطي, الذي ينبغي أن يعتمد في إثبات الحقوق لكلا البلدين. . أما المعنى الآخر. وهو العملة النقدية, فيكاد يكون مستبعدا لأسباب منطقية لا داعي لذكرها الآن. .
 
إذن ( قناة الروكا  Rooka Channel ) تعني: القناة الملاحية التي تم رسم مسالكها وتثبيت فناراتها بوثائق وأوراق قانونية رسمية مكتوبة بخط اليد, وبوثائق معروفة, ومعتمدة, ومصادق عليها. . وظلت قناة الروكا محتفظة بوثيقتها في القرون الماضية ولم تتغير مسالكها ومواقع فناراتها وأسلوبها في التعامل مع السفن التجارية, فتربصت بها التيارات المائية الجبارة, واغتالتها بكثبان الترسبات, التي انهمرت عليها كالسيل الجارف. ودفنتها تحت الأطيان المتراكمة. ومازالت ترقد هناك في مثواها الأخير. في المكان الذي كُتب بخط اليد في شهادة ميلادها, وفي (روكتها), التي ختمت بختم وإمضاء والي البصرة, فشاءت الأقدار أن تكون (روكتها) هي وصيتها وشهادة وفاتها, في إصرار عجيب منها, يرمي إلى توثيق الأبعاد السيادية للمياه الإقليمية العراقية. . ثم مضت التيارات في غيها وجبروتها. وراحت تنحت في أكتاف رأس البيشة, فحفرت لها قناة جديدة باتجاه خور عبد الله, وانحرفت تلك القناة الجديدة في مسارها, وابتعدت عن المضمون الذي نصت عليه وثيقة الروكا,  لكن دوي صوت الروكا سيبقى متصدرا كل المفاوضات, التي ستتناول موضوع سيادة العراق على مسطحاته المائية. . .
 
شركة الهند الشرقية
 
في عام 1579 حصل (وليام هاريون) على ترخيص من الأستانة للتجارة الدولية البحرية والبرية عبر شط العرب في ولاية البصرة, ثم حصل (هاريون) على ترخيص آخر عام 1600 لتوسيع تجارته البحرية, وتأسيس شركة متخصصة في هذا المضمار, وما لبثت هذه الشركة أن انقسمت إلى شركتين, اندمجتا في إطار تعاوني واحد عام 1709 تحت اسم جديد, هو (شركة الهند الشرقية), واتخذت من البصرة مقرا لها, وصار هذا المقر عام 1764 هو المركز الرئيس لإدارة العمليات التجارية بين الهند والعراق عبر الممرات الملاحية لشط العرب
 
مشاريع تشسني الملاحية
 
في عام 1834 جرت محاولات عدة لمسح قيعان الممرات الملاحية لمصب شط العرب, والتعرف على مداخلها الممتدة باتجاه الخليج العربي لتحديد أعماقها, وتحديد مدى صلاحيتها للملاحة, وإمكانية إزالة الترسبات منها, في هذا العام اصدر الباب العالي في الأستانة فرمانا عثمانيا وافق بموجبه على مشروع يهدف إلى تنشيط حركة السفن البخارية القادمة من البحر عن طريق شط العرب باتجاه المرافئ الصغيرة المقامة على نهري دجلة والفرات, وبدأ المشروع بتسيير سفينتين (باخرتين) بريطانيتين, حملتا اسم (دجلة), و(الفرات), بإشراف الملازم (فرانسز تشسني Francis Chesney), الذي اختار المباشرة برحلته من (حلب) في الشام إلى البصرة, فوصل مدينة (عنة) عام 1836, حيث انتهت الرحلة بغرق السفينة وطاقمها, توجه بعدها (تشسني) إلى بغداد, ليسلم مقاليد الرحلة إلى البريطاني (هنري بلوس لنج), الذي قام بتأسيس شركة عرفها الناس باسمه, وهي شركة (بيت لنج), وقام (هنري) عام 1837 بمسح شط العرب والحاجز الغريني, ووجد إن هناك قناتين في الخليج العربي كامتداد لشط العرب يفصل بينهما الحاجز الغريني, ولاحظ أيضا إن القناة الغربية كانت بعمق 16 قدما في حالة المد العالي. .
اما بخصوص السيادة العراقية المطلقة على شط العرب, فقد تحدث عنها (رولينسون Rawlinson) عام 1844 فقال: إن ضفاف (الفيلية) المرتبطة بمدينة المحمرة (خرمشهر) كانت تابعة لسلطة حاكم البصرة, وان تلك السلطة كانت تضم بساتين نهر بهمنشير, وتمتد حتى مرفأ (بندر شاهبور), ثم جاءت المادة الثانية من معاهدة (أرضروم) لسنة 1847 التي تنازلت بموجبها الحكومة العثمانية عن الضفة الشرقية لشط العرب, وتنازلت أيضا عن مدينة المحمرة, وجزيرة عبادان, ومرفأ عبادان, ومنحت السفن الخشبية الإيرانية حق الملاحة في شط العرب. . . 
 
تقارير متباينة
 
أشار (آندرو) عام 1857 إلى إن عمق الماء عند الحاجز الغريني كان يصل إلى 18 قدما, بسبب الجهود المتواضعة المبذولة لتنظيف الممرات الملاحية وإزالة ترسباتها,  ثم جاءت إصلاحات الوالي (مدحت باشا) عام 1872, لتعطي تلك الجهود شحنة جديدة, فقد قام الوالي بجلب آلة حفر لتعميق نهر الفرات المرتبط ملاحيا بالبصرة, وكان يرى فيه اقصر الشرايين الملاحية التي يفترض أن تغذي الموانئ الأوربية بالبضائع الهندية المتكدسة في خليج البصرة, وربما كان يرى الفرات بديلا عن السويس, ما يعني انه لم يكن مهتما بكري الحاجز الخارجي لشط العرب, إلا بعد أن باءت محاولات تنظيف الفرات بالفشل, ثم كرس جهوده في تطوير الملاحة في شط العرب, فأنشأ ورشة بحرية في البصرة لإصلاح السفن وصيانتها, وباشر بعمليات كري الطمي, وإزالة الأطيان من الحاجز الغريني, ولم يسعفه الحظ في استئناف مشاريعه المينائية في البصرة, بسبب عزله عن العراق, ولم يمتلك خليفته الحماس نفسه, فتوقفت آلات الحفر عن العمل, وتعرضت للتلف فغرقت على ضفاف شط العرب, ولم يتم الاستفادة منها, على الرغم من المبالغ الباهظة التي صرفت على استيرادها, فتردت أعماق مدخل شط العرب من (18) قدم إلى (11) قدم, وهذا ما أكد عليه السائح (جيري), الذي وصل الحاجز الغريني يوم 13/آذار/ 1878 عند ارتفاع المد, فقدر عمق الماء بحوالي (11) قدما ولمسافة ساعة من الإبحار, وفي عام 1890 قام الملازم Gunn بالمسح الهيدروغرافي العام فوجد قناتين بينهما ترسبات غرينية, ولاحظ إن القناة الشرقية وعلى الرغم من وجود مياه كثيرة فيها إلا إنها لم تكن مطروقة بسبب كثرة انحناءاتها, أما القناة المستعملة في الملاحة فكانت الغربية, وطولها عشرة أميال (16 كم), وعمقها عشرين قدما في أعلى حالات المد, ووجد قناة ثالثة بين القناتين تبدأ من نقطة التقائهما من جهة البحر وتجري بموازاة القناة الغربية, من دون أن يكون لها منفذ من جهة اليابسة باتجاه الفاو, يقدر طولها في حدود ستة أميال (10 كم), وعمقها (24) قدما في أعلى حالات المد, ولاحظ أيضا إن طول الحاجز الغريني أصبح عشرين ميلا (32 كم),
 
 
 
 
 
فرانك سترك يعمق الممر الملاحي
 
في عام 1895 كانت قناة الروكا في مدخل شط العرب تعد من الحواجز الطينية, التي تقف في وجه السفن العابرة للمحيطات. وكان الحد الأعلى لغاطس السفن المسموح لها بدخول هذه القناة محددا آنذاك بعشرين قدما فقط . فوقفت هذه التحديات أمام طموحات فرانك كلارك سترك (مؤسس شركة سترك لاين), الذي كان يخطط لتأسيس خط ملاحي جديد للسفن التي يزيد غاطسها على عشرين قدما . فقرر على أثرها اقتحام هذه العقبة الطبيعية, عن طريق شراء مجموعة من السفن الصغيرة , وتوظيفها للعمل في هذه المنطقة, لكي تقوم بتفريغ كميات لا بأس بها من حمولاتها المرسلة إلى موانئ شط العرب, و تخفيف غاطسها إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على تخطي الحاجز الطيني, وتأمين دخولها إلى قناة الروكا. فبدأ فرانك عام 1895 بشراء السفينة DWINA التي رابطت عند مدخل شط العرب من جهة البحر. ثم قام عام 1901بشراء السفينة ESTHER وأرسلها إلى قناة الروكا لتساهم في عمليات تخفيف غاطس السفن الكبيرة المتوجهة إلى البصرة. .
 
بوشر عام 1905 بمسح عام لشط العرب, ولوحظ إن تحسنا كبيرا قد طرأ على الممر الملاحي, لأن القناة الوسطى تطورت إلى قناة رئيسية, وصار لها مخرج من شط العرب إلى البحر, في حين اختفت كل من القناتين الشرقية والغربية, ولاحظ (Whigham) بأن السفن التي يصل غاطسها إلى عشرة أقدام تستطيع اجتياز الحاجز عند انخفاض المد (عند الجزر) ولمسافة خمسة أميال, بمعنى إن السفن التي يصل غاطسها إلى (20) قدما تستطيع أن تتخطى عقبة الحاجز الطبيعي في المد الأعلى, وفي عام 1910 ظهرت فكرة حفر سد الفاو من قبل مهندس ألماني بعدما اتضحت أهمية مد سكة حديد بغداد – بصرة, بيد ان تلك الفكرة ولدت ميتة, وفي عام 1911 أصبح عمق القناة عند الحاجز الداخلي (23) قدما, في توقيتات المد العالي (أقصى ارتفاع للمد), وظل عمقها بالقرب من الحاجز الخارجي (23) قدما في الوقت الذي اتسع فيه عرضها هناك, ومن نافلة القول نذكر أن فرانك سترك أسس شركته المعروفة باسم STRICK LINE عام 1913, وفتح لها مكتبا في كورنيش البصرة, وهو العام الذي تم التوقيع فيه على بروتوكول القسطنطينية لتسوية الحدود لعام 1914, وتم بموجبه تعريف حدود ميناء المحمرة المتصلة بنهر (كارون) بما لا يسمح لسلطة الموانئ العراقية ببسط نفوذها على المياه الداخلية لنهر (كارون), لكنه لم يسمح أيضا بتمدد المياه الداخلية الإيرانية نحو شط العرب, وألزمها بالبقاء خلف واجهات ميناء المحمرة. .
 
لقد وقع السفير الإيراني على برتوكول القسطنطينية من دون تحفظ إلا انه أبدى تخوفه بعد التوقيع من احتمال حرمان السفن الإيرانية من الملاحة في شط العرب. .
 
وفي عام 1917 تراوحت أعماق المدخل في حدود (29) قدما باستثناء مسافات قصيرة ظلت تعيق سير السفن التجارية العابرة للمحيطات وتمنعها من الوصول إلى البصرة, وتجد الإشارة إلى إن الحاجز الغريني الخارجي الذي كان عائقا بوجه الملاحة, وكان عقبة في طريق نمو ميناء البصرة, قد تغيرت أعماقه واتجاهاته مرات عدة منذ عام 1579 إلى عام 1917 وحدث ذلك لكثرة محاولات الدخول إلى شط العرب, التي قامت بها السفن الكبيرة ذات المحركات القوية, والتي كانت تزيح الكثير من الكثبان الرملية المترسبة في القاع, وتغير من اتجاهاتها, وربما ساعدت مياه الفيضانات الكبيرة المتدفقة بسرعات هائلة نحو البحر في تغيير أعماق واتجاهات الممر المائي, وفي هذا العام أيضا كتب (Buchanan) من البحرية الهندية عن طبيعة الحاجز الغريني وامتداده مشيرا إلى إن المسالك الملاحية في مدخل شط العرب لم تكن واضحة الملامح, ولم تؤثث بالعلامات الملاحية الدالة عليها, إلا في وقت متأخر, ولم يكن يعرفها أحد سوى الأدلاء البحريين العرب (المرشدين البحريين) الذين كانوا يقيمون في جزيرة (خارك), فهم الوحيدون الذين برعوا وقتذاك في تنفيذ مهمات إرشاد السفن الأجنبية عبر ممرات شط العرب على الوجه الأكمل. فسعت الملاحة الهندية البريطانية التي كانت مكلفة بنقل البريد بين البصرة وبومباي الى وضع بعض العوامات الدالة على مسالك القناة وتوضيح مواقع الحاجز الغريني بعد عام 1917, بيد ان هذا الإجراء لم يكن مضمونا أيضا حتى قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى بسبب تردي الأعماق مرة أخرى, إذ كانت السفن التي يصل غاطسها إلى (21) قدما يتعذر عليها استئناف رحلتها إلى ميناء البصرة عبر هذه المنطقة الضحلة ما لمن تفرغ جزءا من حمولتها خارج الحاجز الغريني, وهكذا نجد ان تلك الترسبات المتراكمة في مصب شط العرب كانت هي العقبة الوحيدة التي تقف بوجه السفن الكبيرة وتمنعها من الوصول إلى البصرة, بيد ان عمليات الحفر في ذلك الزمان دخلت في مرحلة جديدة بعد المصادقة على بيان سير السفن في المياه الداخلية عام 1919, والذي تأسست بموجبه الموانئ العراقية بشكلها الحضاري الجديد, وشرعت ببناء ميناء المعقل, وميناء الفاو, ومرافئ (الواصلية) و(الخورة), فسعت عام 1923 للحصول على قرض مالي من شركة النفط الأنجلو إيرانية لشراء سفن الحفر البخارية, وتوظيفها في تعميق السد الخارجي (الحاجز الغريني), وتهذيب أعماقه, وبالاتجاه الذي يضمن تعميق الممر الملاحي الى (28) قدم في الند العالي, وتوسيعه بعرض (300) قدم, مقابل استقطاع رسوم مالية من السفن القادمة والمغادرة بهدف تسديد أقساط قرض الحفارات البخارية, التي باشرت أعمالها في العام التالي, وأصبحت قناة (الروكا) في عام 1926جاهزة مرة أخرى لاستقبال السفن العابرة للمحيطات, وافتتحت رسميا من قبل جلالة الملك فيصل الأول, واستمرت عمليات الحفر  بإيقاع ثابت, وأصبحت القناة قادرة على استيعاب السفن العابرة للمحيطات بفضل الحفر والتعميق المتواصل بعد عام 1926, وبات بإمكان السفن اجتياز السد الخارجي عند المدخل, والتوجه مباشرة إلى البصرة دونما حاجة إلى إجراءات تخفيف الغاطس, وتحسنت الأعماق في طول السد الخارجي وعرضه حتى بلغت في عام 1928 (30) قدما في المد العالي, وبلغت تكاليف مشروع الحفر والتعميق للمدة من 1924 إلى 1928 قرابة (462.010) جنيها إسترلينيا, وقد اشتركت الحفارات البخارية (Liger) التي التحقت بالمشروع في كانون الأول من عام 1924, والحفارة (Tigon), التي التحقت بالمشروع في آذار عام 1925, والحفارتان تم تصنيعهما في ورشات (Wm, Simons & Co) في اسكتلنده, وفي عام 1930 صار بإمكان السفن التي يصل غاطسها الى (30) قدما اجتياز السد الخارجي والسد الداخلي والوصول إلى مدخل الفاو بانسيابية كاملة من دون عوائق, مع إقامة الدولة العراقية المعاصرة وحصول العراق على عضويته في عصبة الأمم عام 1932 كان عليه أن يواجه من جديد بمطالب إيرانية جديدة وهكذا سرعان ما دخل البلدان بنزاعات, لكن الحكومة العراقية قررت اللجوء إلى عصبة الأمم للتحكيم بين الطرفين ولم ينتج من العصبة شيئا سوى الطلب بان تبقى الأمور على ما هي عليه بين البلدين, في حين واصلت الموانئ العراقية تنفيذ خططها وتعاقدت على شراء سفينة حفر ثالثة تم تدشينها في التاسع عشر من آذار عام 1935 وهي الحفارة (Onger) وكانت لها القدرة على حفر (2000) طنا من الكثبان الرملية المغمورة في القاع في غضون ساعة واحدة, ويبين لنا الجدول التالي كميات الأطيان المرفوعة بالأطنان والياردات المكعبة من قاع شط العرب لغاية آذار 1935:-
 
المقطع الملاحي المحفور
 
كميات الحفر بالطن
 
كميات الحفر بالياردات المكعبة
 
قناة الروكا
 
131,116,468
 
98,337,351
 
مدخل عبادان (بواردة)
 
443,133
 
332,350
 
أرصفة عبادان
 
374,379
 
280,748
 
جنوب المحمرة
 
2,465,389
 
1,849,042
 
أرصفة ميناء المعقل
 
391,521
 
293,641
 
المجموع الكلي
 
134,790,890
 
101,093,168
ووصلت الأعماق في نهاية عام 1935 إلى (32) قدما, وتم تأثيث الممر الملاحي بالعوامات والإشارات والفنارات البحرية, واعتمدت الموانئ العراقية نظاما ملاحيا صارما لتحديد توقيتات دخول السفن ومغادرتها على أسس علمية وتنظيمية تفرض السيطرة على حركة القوافل المغادرة والقادمة, ووضعت مجموعة من محطات السيطرة في أماكن متفرقة لمراقبة السفن الماخرة في شط العرب, وجهزتها بالأبراج والصواري, ومعدات الاتصالات اللاسلكية, وبعد عامين من إحراز هذا التقدم الكبير, إي في عام 1937, اشترك البلدان (العراق وإيران) في حلف (مهاباد), وهو حلف امني جمعهما مع أفغانستان وتركيا في إطار إقليمي واحد, فبادر العراق إلى تحسين العلاقات الملاحية في شط العرب, لكنه لم يلق الاستجابة من الطرف الآخر, وما أن وصل عبد الكريم قاسم إلى السلطة في عام 1958 حتى عادت طهران إلى لعبتها القديمة بتقديم الدعم اللوجستي للحركات الكردية المتمردة على الحكومة المركزية في بغداد, بهدف إحراز بعض المكاسب الملاحية في شط العرب, وفي نيسان من عام 1960 أعد قسم الدراسات التابع لوزارة الخارجية البريطانية دراسة موجزة عن شط العرب, بيَّن فيها مطالبات إيران باعتماد خط (التالوك) ومنحها مكاسب إضافية في الشط, وقد تم عرض تلك الدراسة في الجزائر عام 1975, وكانت هي الأساس الذي كتبت بموجبة معاهدة 1975, ففقد العراق نصف حقوقه الموروثة في شط العرب, وبدأ العد التنازلي لتقديم المزيد من التنازلات, حتى كاد العراق أن يفقد سيطرته الملاحية والسيادية في السنوات اللاحقة على هذا النهر العراقي الأصيل, إن لم يكن قد فقدها بالفعل. .
 
في عام 1975 وقبل التوقيع على المعاهدة الكارثية, توسعت الموانئ العراقية في مشاريع الحفر البحري لتشمل مناطق السد الخارجي والسد الداخلي ومدخل الفاو, وتعاملت مع جميع أنواع سفن الحفر العملاقة , ابتداءً من السفن البخارية القديمة كالحفارة (بصرة), و(بغداد), و(كركوك), و(كربلاء), و(السليمانية), و(الموصل) ..الخ. وانتهاءً بالحفارات الحديثة المتطورة, كالحفارة (الحلة), و(المربد), و(الصمود), و(القادسية), و(الزبير), و(التحرير), و(النجف), و(الخليج العربي), و(غزة), و(سيناء), و(النصر)..الخ.
 
وامتلكت الموانئ العراقية أسطولاً كبيراً من سفن الحفر التخصصية, التي ساهمت في تهذيب أعماق شط العرب, ثم جاءت الضربة القاصمة عام 1980 على أثر اندلاع الحرب التي دمرت الموانئ العراقية كلها, وأخرجتها من الخدمة, وأغرقت أسطول الحفر كله, فصار مصير  قناة (الروكا) بيد التيارات المائية المتقلبة, التي راحت تمارس هوايتها في الهدم والنحت والإرساب والترسيب والتعرية والتجريف, فتغيرت مسالك الدخول إلى شط العرب من جهة البحر, وزحفت الممرات الملاحية المحفورة في السد الخارجي نحو الجهة العراقية, فتقدمت السواحل الإيرانية على حساب السواحل العراقية المتراجعة, واستمر التراجع الطبيعي في مدخل شط العرب منذ عام 1980 وحتى يومنا هذا (2012), وصارت إيران هي التي تضع العلامات الملاحية التي حددت شكل الممرات الملاحية وأطوالها وأبعادها, وكاد الانحراف يهدد مصير ميناء خور العمية, خصوصا بعد ان وصل الزحف إلى مقترباته, ما شجع إيران على المطالبة بضم ميناء خور العمية إلى المياه الإقليمية الإيرانية, وفقد شط العرب اسمه وهويته, وصار يعرف في الخرائط الملاحية العالمية باسم (أروند رود),
 
 
 
من خلال ما تقدم يتضح لنا إن شط العرب مر بثلاث مراحل قاسية, المرحلة الأولى تلخصت بالصراع العثماني الفارسي المتفجر بالحروب والمواجهات العسكرية, والمرحلة الثانية تمثلت بالغزو البريطاني بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى, والمرحلة الثالثة جاءت بعد استقلال العراق, وتصدي حكوماته الوطنية للمطامع الإيرانية المتكررة في شط العرب. .
 
ولو كان لقناة الروكا لسان ناطق لكشفت لنا عن أسرارها وهمومها, وحدثتنا بحكايات لا حصر لها عن الأساطيل العملاقة التي مرت بها في القرون الماضية, ولتكلمت بلغة عربية فصيحة عن لوعتها وغضبها على ما حل بها من خراب وما لحق بها من دمار, لكنها وللأسف الشديد مازالت تنام هناك نومة اللحود في قبرها الذي دفنته بها تراكمات الأطيان ونفايات الحروب . وحتى شواهد قبرها لم تسلم من عبث العابثين الذين أزالوا بقايا الفنارات الدالة عليها, واقتلعوها من جذورها, ولم يتبق لها أي شاهد سوى الرافعة البحرية العملاقة عنترة التي ساقتها الأقدار لتتعرض للغرق عند مدخل شط العرب. .
 
 

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=19109
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 07 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29