• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ابن عربي.. إمامُ العُرَفَاء.. وعدوُّ العُقَلاء! .
                          • الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .

ابن عربي.. إمامُ العُرَفَاء.. وعدوُّ العُقَلاء!

بسم الله الرحمن الرحيم
 
قال أمير المؤمنين عليه السلام في نهجه الشريف: النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.
 
كثيرةٌ هي المفردات التي يجهلها الإنسان.. في مسائل الدين والعقيدة.. والكون والعالم.. وغيرها..
ولقد صارَ العقلُ نفسه مظلوماً مجهولَ القدر! مع أنَّ قِوامَ كلّ شيء به..
فظلمه بعضُ من زعموا أنَّهم من أهل المعرفة بالله! ووجب عليهم أن يعرفوا قدره!
 
إنّ جدلية العقل والشريعة قديمةٌ مشهورةٌ معروفة.. لا نروم الحديث عنها.. لكنَّنا نعرض لموقف الشيعة من العقل، ثم موقف إمام العُرفاء.. ابن عربي.. الذي صار عدواً للعقلاء! ونُعَرِّجُ على موقف النصارى من ذلك ليكون الأمرُ جلياً بين الأديان والمذاهب..
 
أولاً: موقف الشيعة من العقل
 
يلخِّصُ موقفَ الشيعة من العقل حديثُ الإمام الصادق عليه السلام: لَا غِنَى أَخْصَبُ مِنَ العَقْلِ، وَلَا فَقْرَ أَحَطُّ مِنَ الحُمْق (الكافي ج‏1 ص29)، فالغنيُّ هو من اكتمل عقله فأفاد منه، والفقير هو الأحمق الذي لا يستثمر عقله!
 
وأما في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، فإنَّ العقلَ رزقٌ من الله تعالى!
فلقد ذُكِرَ بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام ثروة أهل الشام وفقر أهل العراق، فقال عليه السلام: أما علمتم أن عقل الرجل محسوبٌ عليه من رزقه؟! (مشكاة الأنوار ج2 ص163)
 
أهل الشام كانوا يتبعون معاوية، وكانوا أهل ثروة ومال، وأهل العراق كانوا يتبعون علياً عليه السلام، ولم يكونوا من أصحاب الثروات، ولكن لما كان العقل جزءً من الرزق الذي قسمه الله سبحانه وتعالى بين عباده، ولما أعطى الله المؤمنين العقل صاروا به أغنى الناس وإن كانوا من أهل الفقر، لأن أغنى الغِنى العقل!
 
والعقل هنا لا يُراد منه الأحكام والمُدرَكات الظنيَّة، بل القطعيَّات واليقينيات، التي تكون حُجَّتُها ذاتية، فلا نحتاجُ إلى إقامة دليلٍ للزوم العمل بها، وإن أرشدت الشريعة إلى ذلك، فتعدَّدت الآيات المباركة التي حثت على النظر والفكر والتعقل، فنزلت الآيات والنُّذُر لقومٍ يعقلون، وما تعقَّلَ هذه النُّذُر إلا العالمون ﴿وَما يَعْقِلُها إِلَّا العالِمُون‏﴾، وكان دور الأنبياء هو إثارة دفائن هذه العقول عند الناس.
 
مِن ثمَّ ظلَّ الشيعة يردِّدون حديثاً يفيد أنَّ الله سبحانه وتعالى يوجه خطابه للعقل.. ويأمره وينهاه.. وأنه به يعاقب وبه يثيب، حتى صار هذا القول عقيدةً راسخةً في مدرسة النبيِّ وآل بيته الأطهار عليهم السلام.
 
ولقد بلغت أهمية العقل في تراث آل محمدٍ عليهم السلام أنَّ أحد اصحاب الامام الصادق عليه السلام يذكر له شخصاً فيقول: فُلَانٌ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَفَضْلِهِ..
فهو يمتدحه من جهة العبادة والدِّين والفضل، لكنَّ الإمام عليه السلام لا يسأله عن مقدار هذه العبادة وصورتها، بل يسأله فيقول: كَيْفَ عَقْلُهُ؟!.. إِنَّ الثَّوَابَ عَلَى قَدْرِ العَقْل!
 
وفي حديثٍ آخر: إِذَا بَلَغَكُمْ عَنْ رَجُلٍ حُسْنُ حَالٍ فَانْظُرُوا فِي حُسْنِ عَقْلِهِ، فَإِنَّمَا يُجَازَى بِعَقْلِه‏!
وفي الحديث: يَا هِشَامُ، مَا بَعَثَ الله أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ الله، فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً، وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ الله أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا، وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلًا أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ..
 
فالتعقل هو ما أراده الله تعالى من عباده، ولأجله زرع فيهم العقل، ليكون ميزاناً يميزون به بين الحق والباطل..
 
هكذا صار العقلُ حجَّةً باطنة في قبال الحجة الظاهرة وهم الأنبياء..
هكذا.. مَا عُبِدَ الله بِشَيْ‏ءٍ أَفْضَلَ مِنَ العَقْلِ..
هكذا صار العقل ميزاناً: يُعْرَفُ بِهِ الصَّادِقُ عَلَى الله فَيُصَدِّقُهُ.. وَالكَاذِبُ عَلَى الله فَيُكَذِّبُه‏..
 
فهل عرفنا النبيَّ صلى الله عليه وآله وصدقه بغير العقل؟! وهل تبيَّنَ لنا كذب مسيلمة وأضرابه بغير العقل؟!
إِنَّ أَوَّلَ الأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا بِهِ العَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ الله زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُوراً لَهُمْ!
فَبِالعَقْلِ عَرَفَ العِبَادُ خَالِقَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ المُدَبِّرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمُ المُدَبَّرُونَ، وَأَنَّهُ البَاقِي وَهُمُ الفَانُونَ..
 
هذه صفوة القول من كلام الصادق عليه السلام.. من ثَمَّ سُئِلَ فقيل له: فَهَلْ يَكْتَفِي العِبَادُ بِالعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ؟!
 
قَالَ: إِنَّ العَاقِلَ لِدَلَالَةِ عَقْلِهِ الَّذِي جَعَلَهُ الله قِوَامَهُ وَزِينَتَهُ وَهِدَايَتَهُ، عَلِمَ أَنَّ الله هُوَ الحَقُّ، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّهُ، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً وَأَنَّ لَهُ كَرَاهِيَةً، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً وَأَنَّ لَهُ مَعْصِيَةً، فَلَمْ يَجِدْ عَقْلَهُ يَدُلُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِالعِلْمِ وَطَلَبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إِنْ لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ، فَوَجَبَ عَلَى العَاقِلِ طَلَبُ العِلْمِ وَالأَدَبِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ!
 
كانت هذه جملةً من روايات آل محمدٍ، من كتاب العقل والجهل من الكافي الشريف.. لزم بيانها ليتَّضح موقف الشيعة من العقل..
 
على أنَّ العقل ليس حجَّةً في الظنون، بل هو حُجَّةٌ في المُدرَكات العقلية القطعيَّة التي لا خلاف فيها، كالمحالات العقلية، ومنها امتناع اجتماع الضدين والنقيضين..
 
وفي مناظرة النبي صلى الله عليه وآله مع الثنوية، الذين زعموا أن للكون خالقاً يخلق الخير، وخالقاً آخر يخلق الشر.. احتج عليهم باستحالة اجتماع مثلين في محلٍ واحد.
 
ومثله الامام الصادق عليه السلام حين احتج على الملحدين باستحالة اجتماع صفة الأزل والعدم، والحدوث والقِدَم في شيء واحد، لأنَّ مآل اجتماع هاتين الصفتين الى اجتماع المتناقضين.
 
وهذا كله يرجع الى مدركات العقل القطعية، فعندما يدرك العقل أمراً بشكل قطعيٍّ لا لبس فيه، يكون هذا الادراك حجةً على العبد.
 
على أنَّ كلمة الشيعة لم تختلف في هذا الأمر، فلا عبرة لما يثيره بعض الجهال بزعمهم أن الأصوليين من علماء الشيعة وحدهم يعتمدون على العقل، بينما يرفض الأخباريون العقل.
لأنَّ هذه الشبهة انما تنشأ من الجهل المفرط بحقيقة العقل ودوره في الشريعة، وعند علماء الشيعة قاطبةً.. فلا فرق في حجيَّة العقل القطعي بين الأصولي والأخباري.. ولكن قد يختلفان في بعض مصاديقها..
 
فهذا الحر العاملي يقبل الدليل العقلي القطعي في فوائده.. وإنما يناقش في صغرياته (الفوائد الطوسية ص52).
وهذا الميرزا محمد الأخباري يصرِّحُ بلزوم العمل بالعقل فيقول: والعقل القاطع حجة الحجج لا حجة فوقه بالاتفاق! (يراجع كتاب معاول العقول لقلع أساس الأصول).
 
والنتيجة أن: مَنْ كَانَ عَاقِلًا كَانَ لَهُ دِينٌ، وَمَنْ كَانَ لَهُ دِينٌ دَخَلَ الجَنَّةَ.. كما عن الصادق عليه السلام.
ومَن لم يكن عاقلاً فأولئك ما خاطبهم الله تعالى، كما عن الرضا عليه السلام: لَا يُعْبَأُ بِأَهْلِ الدِّينِ مِمَّنْ لَا عَقْلَ لَه!
 
بهذا يتبين أنَّ كل من أسقط العقل وحاربه، والتزم بالمستحيلات العقلية، فليس مؤمناً بالله سبحانه وتعالى، وليس من أهل التوحيد حقاً ولا من أهل الدين والمعرفة، ولا ممَّن خاطبهم الله تعالى! اذ خرج هؤلاء عن دائرة الإنسانية!
 
ثانياً: موقف إمام العرفاء من العقل
 
ما تقدَّم كان موقف الشيعة من العقل.
ولكن..
ما هو موقف ابن عربّي من العقل؟!
وهو إمام العرفان والتصوف الأول.. ورمزه الأوحد بلا منازع!
 
يعتقد ابن عربي أنَّ كلَّ ما حكم العقل باستحالته هو واقعٌ فعلاً! حتى اجتماع الضدين، قال في الجزء الأول من فتوحاته عن أرض الحقيقة:
وأهل هذه الأرض أعرَفُ الناس بالله، وكلُّ ما أحاله العقل بدليله عندنا وجدناه في هذه الأرض ممكناً قد وقع! وإن الله على كل شي‏ء قدير، فعَلِمنَا أن العقول قاصرةٌ وأن الله قادرٌ على جمع الضدين! (الفتوحات المكية - أربع أجزاء - ج1 ص130).
 
إنَّ من أمَّهات المسائل العقلية هي امتناع اجتماع الضدين! فهو مما لا يُعقَل، وكذا النقيضين! فلا يعقل أن أكون موجوداً وغير موجود!
نعم الضدان (الوجوديان المتعاقبان) قد يرتفعان، لكنَّهما لا يجتمعان، بخلاف النقيضين (الوجودي والعدمي) فلا يجتمعان ولا يرتفعان.
 
وابن عربي يزعم وقوع ذلك لا إمكانه فقط.. فكلُّ ما كان ضداً للضد الآخر يمكن عنده أن يكون قد اجتمع معه، بل قد حصل ذلك فعلاً!
 
فإن قلت: ما المشكلة في هذا القول؟! ولماذا التوقُّف عند هذه الكلمة لابن عربي؟!
قلنا.. لنتأمل في النتائج المترتبة عليها..
 
قال في كتاب المعرفة: ومما يدلّك على ضعف النظر العقليّ من حيث فِكره كون العقل يحكم على العلّة أنها لا تكون معلولةً لمن هي علةٌ له، وهذا الحكم العقليّ لا خفاء به، وأمّا في علم التجليات، فإن العلّة تكونُ معلولةً لمن هي عِلّةٌ له! (ص57).
 
فهو هنا يزعم أنَّ العلة تكون معلولةً لمن هي علّةٌ له في علم التجليات!
يعني صار السببُ مُسبَّباً! فَتَأخَّر وجود الشيء وتقدَّمَ! وصار المتقدِّمُ متأخراً والمتأخرُ متقدِّماً.. وليس شيء يمنع من أن يكون الموجودُ معدوماً! والمعدوم موجوداً!
 
إن هذه الأحكام العقلية لا خفاء فيها في هذه الدُّنيا، وسريانها إلى كل عالم من العوالم مما لا شكَّ فيه، لكنَّ ابن عربي يبطل كلَّ ذلك! بخلاف كل عاقلٍ على وجه البسيطة..
 
ويترتب على كلمات ابن عربي من إمكان (القول بما أحاله العقل) و (الجمع بين الضدين) و (كون العلة معلولةً لمن هي علّة له) و (الإبقاء على ظاهر كلّ النصوص) بطلان الشرائع السماوية بأكملها!
ذلك أن عدم الالتزام بأحكام العقل القطعية، والقول بالجمع بين الضدين كما النقيضين، ينافي كلّ أساسٍ تقوم عليه الأديان السماوية.
 
إذا كان هذا هو التأسيس العقليّ في مدرسة إمام العرفاء.. فلا عجب حينها أن يصير (العارف ابن عربيٍّ) هو (الله)!
 
يقول ابن عربي:
بسم الله الرحمن الرحيم أشهَدَني الحق بمشهد الحيرة، وطلوع نجم العدم‏.. ثم قال لي: أنت أنت، وأنا أنا.
ثم قال لي: أنت أنا، وأنا أنت!
ثم قال لي: لا أنت أنا، وأنا أنت.
ثم قال لي: لا أنا أنت، وأنت أنا.
ثم قال لي: لا أنت أنت، ولا أنت غيرك! (مشاهد الأسرار القدسية ص82).
 
ويقول:
ثم قال لي: أنا الأصل، وأنت الفرع!
ثم قال لي: الأصل أنت، والفرع أنا!
ثم قال لي: أنت الواحد! وأنا الأحد! فمن غاب عن الأحدية رآك، ومن بَقِيَ معها رأى نفسه! (مشاهد الأسرار القدسية ص85).
 
هذا هو عرفان ابن عربي ومَن تَبِعَهُ من المتصوّفة، جَهَالاتٌ وحماقاتٌ وجَمعٌ بين المتناقضات والأضداد، وتَعَدٍّ على مقام الذات الإلهية المقدّسة، ونسبةُ صفات الله تعالى للمخلوق العارف! فأيُّ دينٍ هو الدين الذي لا يعتمد على العقل؟!
 
ههنا امتزج الخالق بالمخلوق! وصار المخلوق أصلاً! والخالق فرعاً! في عين كون الخالق أصلاً والمخلوق فرعاً!
 
هذا هو عرفان ابن عربي، للعارف أن يقول فيه: أنا الله والله انا! وأنا لست الله والله ليس أنا! وأنا لست أنا! وما شئت فعبِّر من أمثال هذه الجهالات، التي يجمعها التعدي على مقام الذات الالهية المقدسة، وعلى مقام أنبياء الله ورسله وأوليائه.
 
ثالثاً: ابن عربي والنصارى
 
قد يسأل سائلٌ: مِن أين استقى إمامُ العُرفاء عقيدته؟ ومَن توافق هذه العقيدة؟ وهل لها صلةٌ بالنصارى؟!
لا بدَّ أولاً من بيان موقف الكتاب المقدس من العقل، فإنَّه صريحٌ في اعتماده على العقل كما القرآن الكريم، فقد ورد فيه: شَعْبٌ لاَ يَعْقِلُ يُصْرَعُ (هوشع 4: 14).
 
لكنَّ العجيب أنَّ النصارى لم يلتزموا تماماً بما يمليه عليهم كتابهم المقدَّس، ففي وثيقةٍ مهمة جداً للأب صفرونيوس، بطريرك القدس، وأحد آباء الكنيسة الكبار، المعاصر للنبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وآله (فقد ولد قبل حوالي 10 أو 20 سنة من ولادة النبي صلى الله عليه وآله، وكانت بعثة النبي قبل وفاة صفرونيوس ب28 عاماً)..
 
وهو الذي حَذَّرَ في مصر من دخول دعوة الإسلام إليها.. يقول معبِّراً عن حقيقة العقيدة النصرانية:
يقول: ومعرفة قواعد المنطق لازمةٌ لفحص الحُجة والدليل، ولاكتشاف التناقض، أو الباطل في كلام الناس.. ولكن قواعد المنطق مهما كانت تعجز أمام عمل الله.. إن قواعد معرفة الصواب من الخطأ - رغم ضرورتها - فهي خاصةٌ بنا نحن البشر، ولا يمكن أن تُستخدَمَ كأداةٍ لفحص حكمة الله، لأنّ حكمة الله أعظم (فرح الخليقة الجديدة ص15).
 
إنَّ القاعدة العقلية لا تختلف ولا تتخلف، فالصغير مثلاً لا يمكن أن يكون أكبر من الكبير! وهذه القاعدة لا يمكن أن تُخرَم! لكنَّها تنخرم عند صفرونيوس.. لأنَّه يريد أن يفتح باباً للقول بالثالوث، وهو قولٌ قائم على قبول التناقض في الذات الإلهية المقدَّسة!
 
أن يكون الإله واحداً ومتعدداً في الوقت نفسه هو تناقضٌ لا يمكن أن يُقبَل، إلا عندهم!
 
وللأب توماش شبيدلك اليسوعي محاولةٌ للتخلًّص من إشكال التناقض في عقيدة التثليث، تبتني على التمييز بين المادة وما وراء المادة، فيقرّ بأنه لا يمكن أن يكون الواحدُ ثلاثةً إلا مع القول بالتجزئة، ولكنّ هذا مقصورٌ على عالم المادة ولا يشمل ما وراءها، وعليه يمكن قبول التناقض في الذات الإلهية المقدسة!
 
يقول: يواصل المشكّكون قولهم (كيف يمكن للواحد أن يكون ثلاثة) بدون تجزئة؟! وهذا بالطبع هو الصواب عينه بالنسبة للأشياء المادية. أما بالنسبة للأشخاص الذين يحيون الإيمان، يؤمنون إيماناً قوياً بأنّ ثلاثة أشخاصٍ يشكّلون شخصيّة واحدة، وهذا هو الغنى الحقيقي الذي يزرعه الإيمان في نفوس المؤمنين (نحن في الثالوث ص15).
 
ولكن..
إذا كنا لا نقبلُ كون عيسى عليه السلام أو بطرس موجوداً وغير موجودٍ في الوقت والظرف عينه، لاستلزامه الجمع بين المتناقضين، فهل يمكن أن نقبل اتّصافَ الله تعالى بصفتين متناقضتين؟ كأن يكون واحداً ومُتَعَدِّدَاً؟ أو بسيطاً ومُرِكَّبَاً؟ أي غير مُرَكَّبٍ ومُرَكَّب! أو أن يكون موجوداً في المكان وغير موجودٍ فيه! إن هذا يعني سقوط أسس الأدلة العقلية، فلا يبقى حجرٌ على حجرٍ في المنظومة الفكريّة البشرية.
 
هكذا صارت عقيدة النصارى وعقيدة المتصوفة العُرفاء متناقضةً، فسقطت المنظومة العقلية.. واغترفا من مدرسة الانحراف نفسها.
 
الثمرة
 
التزم الشيعة بأنَّ العقل مقدَّمٌ على كل ما سواه في أحكامه العقلية القطعية، ولا يمكن معرفة الله بغير ذلك، وأنه لا يمكن المصير الى قبول المتناقضات العقلية، لأنَّ هذا يعني سقوط كل المعارف.
 
في المقابل..
 
1. زَعَمَ دُعاة الحداثة أنَّ المسلمين قد رموا العقل خلف ظهورهم! فكذَّبهم المنطق والوجدان!
 
2. وزعم النصرانيُّ أنَّهُ يعتمدُ على العقل، لكنَّهُ خالفَهُ وأسقط الضرورات العقلية عندما قال أن الله الواحد هو ثلاثة!
 
3. وزعم المخالف لنا في المذهب أنه من أهل العقل، لكنَّه أسقطه عندما يقدّم المفضول على الفاضل.. والله يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمُونَ﴾..
 
4. وزعم إمام المتصوفة والعرفاء ابن عربي أنه من أهل العقل أيضاً.. لكنه خالفه والتزم بإمكان الاجتماع بين النقيضين! بل وقوعه!
فانهارت بهذا منظومته المعرفية بأكملها.. حتى صار هو والله واحداً!
 
لكن العجب كل العجب..
من شيعيٍّ يأخذ معارفه عن ابن عربي!
يترك النبع الصافي! ويذهب إلى العيون الكدرة!
 
فصرت ترى بين العرفاء الشيعة من يقول أنَّهُ صار والله واحداً!
وصرت ترى وحدةَ حالٍ بين عارفٍ شيعيٍ مؤمن بمحمد وآل محمد، وبين أعداء آل محمدٍ عليهم السلام!
 
لقد صار الشيعة أغنى الأغنياء بعدما استدلوا بالعقل على الخالق عز وجل، وعلى الرسول صلى الله عليه وآله، وعلى الإمام عليه السلام، ثم أخذوا المعارف التي لا تتناهى من نَبعٍ صافٍ قال فيه الباقر عليه السلام: ذَهَبَ النَّاسُ إِلَى عَيْنٍ كَدِرَةٍ يُفْرَغُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَمَنْ أَتَى آلَ مُحَمَّدٍ أَتَى عَيْناً صَافِيَةً تَجْرِي بِعِلْمِ الله، لَيْسَ لَهَا نَفَادٌ وَلَا انْقِطَاع‏ (بصائر الدرجات ج‏1 ص499).
 
العين الكدرة هي عين المخالفين لنا في المذاهب والأديان، هي عينٌ كدرةٌ يفرغ بعضها في بعض، فيفرغ الفكر النصراني في فكر ابن عربي، ثم يفرغ فكر ابن عربي في الفكر العرفاني، حتى لو كان ذلك بلبوسٍ شيعي!
 
فمن التزم بعقيدة ابن عربي، وجلَّلَه وعظَّمَه وأكبره وسار على نهجه، فقد اتبع العيون الكدرة!
ولئن كان شيعياً.. فإنه قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير..
 
فترك العترة الطاهرة، واعتقد بعقيدة ابن عربي في باب توحيد الله والكشف والشهود! فما كان على دين آل محمدٍ عليهم السلام.. وإن زعم أنه محبٌ وموالٍ لهم عليهم السلام، لأنَّ المحبّ يقتدي بمحبوبه.. ولا يخالفه..
 
ليست محبة محمدٍ وآل محمد لقلقة لسان! إنها عقيدة راسخة في القلب، وفي عقل كل انسانٍ مؤمنٍ موالٍ.
ولقد صار هؤلاء المنحرفون أشدَّ على شيعتنا من ألدّ أعدائهم.. لأنهم يسلبونهم الأديان..
 
وصار إمامُ العرفاء.. ابن عربي.. عدواً للعقلاء.. والشيعة سادة العقلاء.. لأنهم عقلوا عن الله.. وهو عدو لهم يريد أن يحرفهم عن عقيدتهم!
 
فالله الله في أديانكم أيها الموالون..
ثبتنا الله وإياكم على القول الثابت.
 
والحمد لله رب العالمين




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=191881
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2024 / 03 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 3