• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : للموت تراخيص أخرى .
                          • الكاتب : ا . د . ناصر الاسدي .

للموت تراخيص أخرى

إنها العاشرة من ضحى يوم قائض .. توجسنا خوفا .أدركنا أن ثمة  حزن موجع سيداهمنا . ولم يكذب حدسنا حين عاد أبي وخالي وهما يعلنان موت عبد الله في مشفى المدينة الرئيس .

وقع الخبر علينا كالصاعقة . مادت الأرض بنا لطمنا خدودنا وثلة من زملائنا في المدرسة الابتدائية الذين أقاموا على الفور حدادهم .

خرج التلاميذ جماعات صوب مغتسل الجامع القريب لإلقاء النضرة الأخيرة على جثمان زميلهم الراحل .

السيارة التي أقلت الفقيد تتحدث عن زمن آخر حين كانت السيارات  تصنع هياكلها من الخشب .كنت المح والدي وخالي والد الفقيد قد لفا نقابيهما بإحكام .و كنت ارمق المشهد بحزن غريب غبت بعدها بنوبة بكاء أباحت الكثير من الوشائج مع الراحل الصغير الذي كان رفيقا لطفولة من نوع خاص كان يدرك من خلالها أن رحيله موشك لامحالة . قال لي عبد الله يوما :

-        مللت دنياكم , هناك العالم الذي انتظر .

-        أتعني الآخرة ؟

-        أجل . لاظلم فيها , لاموت , لاألم .

يضحك عبد الله بحرقة وكنت الأقرب منه أدرك سر حزنه وكنت اشاهد دموعه المنهمرة دونما انقطاع وكأنه يودعني

قال :

-        لاتنساني بالدعاء .

-        أنا راحل عما قريب .

-        قلت مخففا عنه حزنه .

-        لاتقل ذلك ياعبد الله فعمرك طويل .

-        لا أنا أشاهد رحيلي كما لو أنه أمامي .

-        أرجوك لاتنساني .

عانقني وبكى ثم طفقت ابكي معه ثم انطلقنا نجتاز الرواق المؤدي إلى بيتنا في الناحية . كان ليلا حين قدم بصحبة إخوته وجدته ينقلون اخف الأغراض إلى بيتنا خوف مداهمة الفيضان الذي يوشك الانقضاض على قريتهم الكائنة بجوار النهر الكبير .

كانت مئذنة الجامع القريب تعلن الخبر , وفي البيت القصبي كان الحزن يجتاح المعزين .أقيمت الفاتحة على روح عبد الله , بينما كان حصار الفيضان يوشك على الانقضاض  بل كان يلامس أطراف الخيمة المخصصة لذلك .

في الليلة التي جاءنا عبد الله بصحبة أخوته وجدته أدركت أن عبد الله تحرر من الألم وكان يضحك دونما انقطاع , خفت عليه وتيقنت من رحيله  . كان يتحدث عن الفيضان بفرح كبير قال عبد الله :

-        جميل أن أصنع زورقا من القصب لأطفو عليه .

رد الجميع

-        ونحن كذلك .

انفض المعزون ورفعت خيمة العزاء ولم تمر لحظات إلا والفيضان يكتسح المكان برمته , ذلك المكان الذي شهد طفولة حزينة لطفل وهبه الله الوفاء والحب والصوت الجميل كنت أراقبه حينما يؤذن للصلاة كان عبد الله يردد وراء المؤذن بصوت شجي يقطع القلوب . رحل عبد الله ولم يشهد زوارقنا التي صنعناها من القصب وكنا نطفو عليها لكن بحسرة الفاقدين لان رفيق طفولتنا البريئة عبد الله صار في ذمة الخلود .         

 

تمت .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=19330
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 07 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19