منَ الوترِ الذي لا شفعَ لَهُ إلى الوترِ الموتورِ، ومنْ واحدِ الزمانِ الذي لا ثانيَ لهُ، لواحدٍ مثله لَم يُنجبْ الدَّهرُ غيرَهُ، كَلمةٌ صدرَتْ مِن صاحبِها وهو يقذفُ كبدَهُ يواسي بِها مَنْ يبكي لحالِهِ، بِهذه الحالِ وهو يظهرُ عظيمَ ما يَجري على مَن قيلَتْ لَهُ الكلمةُ، يَا لها من لوعةٍ، يَا لَهُ مِن حزنٍ، يا لها مِن نفوسٍ كبيرةٍ كاملةٍ.
هذه الكلمةُ تفيضُ حزناً بِما للحزينِ مِن كآبةٍ، وتنفدُ مِن بينِ حروفِها اللّوعةُ الشّديدةُ، لا يقولُها إلّا مَن رأى جسداً يوزّعُ، وأيتامَ الأشرافِ منَ الأشرارِ في البيداءِ تهرعُ، كلمةٌ يقطرُ مِنها الدمعُ، كما يقطرُ دمعُ الذي شُرّحَ وحيدُهُ أمامَ عينِهِ، بِسيفِ عدوٍّ دعيٍّ شامتٍ لا خلاقَ لَهُ ولا يُعرفُ لَهُ أبٌ، ولا يقدرُ أنْ يدفعَ عَن وحيدِهِ وهو بيدِ الأشرارِ، يَا لَها مِن نازلةٍ...
نعم، إنَّها عبارةُ مظلومٍ يواسي مظلوماً مثلَهُ، ومِن معصومٍ يصفُ ما يَجري على معصومٍ مثلِهِ، لا يُحتملُ في الكلامِ شيءٌ منَ المبالغةِ، فمَن بيدِهِ الحقيقةُ لا يحتاجُ المبالغةَ، لأيِّ شيءٍ يبالغُ؟ وحقائقُ الأشياءِ بينَ يديهِ كالدرهمِ بيدِ أحدنا يُقلِّبُهُ كيفَ يشاءُ.
حاله عندما قالَها: حيثُ أخذَتْ نارُ السّمِّ تجري في كلِّ جزءٍ يصلُ إليهِ دمُهُ، نطقَ بها وهو يقذفُ شيئاً من كبدِهِ، على فراشِ الموتِ، وهو على مقربةٍ منَ الفراقِ لهذِهِ الجميلةِ بوجودِهِ، هذه عبارةٌ لسيدِ شبابِ أهلِ الجنّةِ قالَها لسيّدهم الآخر، لمَن خُلقَتِ الحورُ مِن نورِهِ، لعمادِ كونِ الخليقة، لشرطِ قبولِ الأعمالِ...
نعم، سيدا شبابِ الجنّةِ التي ليسَ لشبابِها سواهما مِن سيدٍ فِيها، قالَها مَن ورثَ السؤددَ مِن سيد الكائنات (صلّى الله عليه وآله)، قالَها إمامُ الكونِ المجتبى الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام)...
قالَها... لكنْ متى؟
عِندَما جلسَ حبيبُ الله وابن حبيبهِ بينَ يديهِ، ونظرَ لحالتِهِ وهو يزفرُ حسرةً بعدَ حسرةٍ، تجولُ بعينهِ دمعةٌ بعدَ دمعةٍ، وبكى المخلوقُ الاستثنائيُّ، وبكى مَن ليسَ لَهُ شبيهٌ منَ البشرِ، وبكى رحمةُ الله الواسعةُ، وبكى بابُ نجاةِ الأمّةِ، نعم، بكى مِصباحُ الهُدى وسفينةُ النجاةِ، بكى الحُسين (عليه السّلام)، فَفزعَ المُجتبى وهو بهذِهِ الحالةِ، وكأنَّ الحديثَ هكذا:
-أبا عبد الله، تبكي؟ ما يُبكيكَ؟
-حالك يا أخي؟
-أبا عبد الله، إنّي وإنْ ظُلمْتُ ظُلامةً كبيرةً، وخذلَني مَن خذلَني، وطُعنْتُ وجُرحْتُ، وسرى السُّمُّ في بدني كَما تسري النَّارُ.
أخي، وإنْ مُنعْتُ مِن أنْ أُدفنَ عندَ جدِّي، وإنْ رُميتْ جنازتي بالسّهامِ حتى كادَتْ لا تُرى مِن كثرةِ السّهامِ، ولكنْ لا زلتَ معي، فَأنا لستُ وحيداً، لمْ يُقطّعْ بدني، لمْ يُحزّ رأسي، ونسائي في خدرِها، وأولادي عِندَ مَن هو لي كنفسي، ولمْ أغسّلْ بِالدِّماءِ، ولَم أُكفّنْ بِالتُّرابِ، ولَمْ يوسَّدْ رضيعي على صدري، مذبوحاً منَ الوريدِ إلى الوريدِ.
أخي أبا عبد الله، لا يومَ كَيومِكَ يا أبا عبد الله... لنْ تأتيَ فجيعةٌ كَفجيعتِكَ، لا يومَ كيومكَ يا حُسين، يا شهيد، يا وحيد، يا غريب... لا يومَ كَيومِكَ الذي تجري عليكَ فجيعةٌ ليسَ لها مثيلٌ يذكرُ:
أترى تجيء فجيعةٌ بأمضَّ من تلك الفجيعة
حيثُ الحسينُ على الثرى خيلُ العِدى طحنت ضُلوعه
لنبكِ معاً، فَما جَرى هذا وأكثر مِن ذلك بِما لا يُتصوّرُ؛ فَقدْ كَانَ بِما جَرى عليهِ أُسوةً للأنبياءِ، كَما كانِ لإسماعيل صادق الوعد المعذّب حيثُ ورد في كاملِ الزياراتِ ص137: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، قَالَ: "إِنَّ إِسْمَاعِيلَ اَلَّذِي قَالَ اللهُ (تَعَالَى) فِي كِتَابِهِ: {وَاُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ اَلْوَعْدِ وَكٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا}، لَمْ يَكُنْ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)، بَلْ كَانَ نَبِيّاً مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ، بَعَثَهُ اللهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَسَلَخُوا فَرْوَةَ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، فَأَتَاهُ مَلَكٌ عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكَ فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ: لِي أُسْوَةٌ بِمَا يُصْنَعُ بِالْحُسَيْنِ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ).
السّلامُ عليكَ يا أبا عبد الله الحُسين…
|