تضمن الكتاب موضوعات سياسة المقاومة لحكام بني أمية، رسالته الى الزهري وحواره مع عباد البصري، الحالة السياسية والاجتماعية، معاني الاضطرار والانقطاع والنصر، مركز ومسؤولية الانسان في الحياة، الحقوق الذاتية، الدعوة الى المقاومة والصبر والثبات، طلب العلم، الحكمة، دعاء كميل، خطبه في وعظ الناس، مواقف السؤال، أحوال ما بعد الموت، المعاصي والركون الى الدنيا، الهوى والطاغوت، التقوى والزهد، التأريخ، العلاقة بالنفس وغربتها وعودتها، معرفة الله، و الخلوات النافعة. تشير حلقات المقال الى اشارات الكتاب لآيات القرآن الكريم.
جاء في کتاب الإمام زين العابدين، علي بن الحسين صفحة من دوره الثقافي و جهاده السياسي للشيخ محمد مهدي الآصفي: عن معنى الاضطرار: والاضطرار هو أن يفقد الإنسان، أمامه مسالك الخيارات، كلّها، إلا مسلكاً واحداً، يضطرّ إليه. فلو أن إنساناً أراد أن يغادر محلّ عمله إلى داره، لوجد أسباباً كثيرة للوصول إلى داره من وسائل النقل، ولكن إذا حدث خلل في الطائرة التي يُقلّها على ارتفاع خمسة وعشرين ألفَ قدم من الأرض، وأخذت تهتز كالسعفة في أعماق الجوّ، فلا يبقى خيار للمسافرين إلا اللجوء إلى الله تعالى فلو أن أهل الأرض جميعاً أرادوا أن ينقذوهم لم يستطيعوا إنقاذهم. هذا هو معنى الاضطرار. يفقد الإنسان كلّ الخيارات إلا مسلكاً واحداً يضطر الإنسان إليه، ولا تبقى له مندوحة ولا سعة في الاختيار. وهذه الحالة من الاضطرار عند اللجوء إلى الله تعالى في الدعاء هي التي تشير إليها أيّة سورة النمل في استجابة الدعاء "أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ" (النمل 62). فإن من يلجأ إلى الله، مضطراً، ولا يجد غير الله من يلجأ إليه، لا تفوته الإجابة البتة، إلا أن يكون في تأخير الإجابة أو تبديلها مصلحة يعرفها الله تعالى ولا يعرفها العبد. وإذا أراد العبد أن يدعو الله تعالى في حاجة من حاجاته لدنياه أو آخرته، عليه أن يقبل على الله بالدعاء في حالة الاضطرار، ليشمله وعد الله تعالى بالاستجابة لدعائه في أيّة سورة النمل.
وعن الانقطاع والاضطرار: ويتساءل المؤمنون: وأنّى لنا أن نحقّق حالة الاضطرار في نفوسنا وفي دعواتنا.. وهي حالة تكوينيّة واقعيّة، تحصل حيناً ولا تحصل أحياناً... وليس في كلّ حين يشعر الإنسان بالاضطرار في الدعاء، كما يشعر ركّاب الطائرة التي تتعرّض في أعماق الجوّ للخلل الفني؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن كلّ الناس في كلّ حاجاتهم- بدون استثناء- في حالة الاضطرار إلى الله، غير أن وعي الاضطرار لا يتسنّى لكلّ أحد إلا نادراً. فما من حاجة للإنسان إلا والإجابة فيها بيد الله تعالى، وحسب، والأسباب التي يسعى إليها الناس في قضاء حوائجهم كلّها من عند الله.. خاضعة لأمر الله، ولا تستجيب للإنسان إلا بإذن الله، فلو طلب الإنسان الرزق في السوق، ووجد أبواب الرزق أمامه مفتوحة في السوق، باباً باباً، فليس معنى ذلك أن أمامه مجموعة من الخيارات في ابتغاء الرزق. فإن هذه الأبواب كلّها من خلق الله وخاضعة لسلطان الله، يملك الله تعالى ازِمَّتَها ويحكمها ويتحكّم فيها، ويقبضها ويبسطها، وكم من نشيط ذكي يذهب إلى السوق فتنغلق عليه أبواب الرزق، فلا يجد سبيلًا إلى الرزق، في عرض السوق وطوله. وكم من ضعيف بليد يرزقه الله تعالى ويبسط له أبواب الرزق، وهذا هو معنى التوحيد في الرزق. يقول تعالى: "وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها" (هود 6). "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" (الذاريات 8). "قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ" (سبأ 24). اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ" (الرعد 26). قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ" (سبأ 36). وليس هذا بمعنى أن الإنسان لا يطلب الرزق من أبوابه، فإن الله تعالى يأمر الناس أن يطلبوا أرزاقهم من أبوابها. "فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ" (الملك 15). ولكن معنى ذلك أن يعرف الإنسان أن أبواب الرزق وأسبابه كلها بيد الله، وأنَّ هذه الأسباب جميعاً خاضعة لأمر الله، تعمل بإذن الله وأمره، سخّرها الله تعالى للإنسان بإذنه، فلو شاء أن يمنعها لم تتيسّر لأحد. فإذا وعى الإنسان هذه الحقيقة التوحيديّة الكبرى، عَلِمَ أن الرزق بيد الله وحسب، ولا يرزقه أحد غير الله، وعَلِمَ أن الشفاء بيد الله تعالى فقط، وأن الطبّ والدعاء أسباب سخرها تعالى لعلاجه.
وعن النصر يقول الشيخ الآصفي رحمه الله في كتابه: وعَلِمَ أن النصر بيد الله تعالى فقط وأن السلاح والقيادة والعدّة والعدد والتخطيط أسباب سخّرها الله لنا. وإذا شاء الله عطّل هذه الأسباب ونقضها وحال بيننا وبين النصر. فقد نصر الله تعالى المؤمنين ببدر وهم أذلّة ضعفاء "وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ" (آل عمران 123). وهُزِموا في حنين، وهم كثرة، أقوياء، سادة الجزيرة، ثمّ فتح الله عليهم ورزقهم النصر، "وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً" (التوبة 25). "كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً" (البقرة 249). ذلك كلّه لنعلم أن النصر من عند الله. فقط. "وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ" (آل عمران 126) (الأنفال 10). وأن الشفاء من عند الله. "وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" (الشعراء 80). وأن الرزق من عند الله. "وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها" (هود 6). اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ. (الرعد 26). "أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ" (الزمر 52). "لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ" (الشورى 12). وإذا وعى الإنسان هذه الحقائق يعرف أنّه مضطرّ إلى الله في كلّ شأن من شؤونه. فإذا سعى إلى الرزق، فإن الرزق بيد الله تعالى وحده، وهو مضطرّ إلى الله في تحصيل الرزق. وإذا سعى إلى الشفاء عرف أن الشفاء بيد الله، وهو مضطرّ إلى الله في تحصيل الشفاء. وإذا سعى إلى النصر عرف أن النصر كله بيد الله ولا سبيل له إلى تحقيق شيء من النصر إلا إذا أراد الله. عندئذٍ يعي الإنسان معنى الاضطرار إلى الله تعالى في كلّ شأن من شؤونه وكل حاجة من حاجاته. وكل دعاء له عندئذٍ يكون عن اضطرار، ويقترن بالاستجابة، كما وعدنا الله تعالى، إلا أن يكون في تأخير الإجابة أو تبديله مصلحة للعبد لا يعرفها العبد، ويعرفها الله. وهذا هو وعي الاضطرار. وكل الناس في كلّ شؤونهم مضطرّون إلى الله تعالى. "يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" (فاطر 15). والفقر هو الاضطرار، ولا معنى للفقر غير الاضطرار. وإنّ لوعي الاضطرار مفتاحاً إذا عرفه العبد شرح الله صدره للاضطرار إليه في حالات الرخاء، وأشعره الاضطرار في اليسر والسعة، وهذا المفتاح هو قوله صلى الله عليه وآله وسلّم، كما في الرواية: (إسألوا الله عزّ وجلّ مابدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل، فإنه إن لم ييسر لم يتيسّر).
جاء في کتاب الإمام زين العابدين، علي بن الحسين صفحة من دوره الثقافي و جهاده السياسي للشيخ محمد مهدي الآصفي: كيف يلجأ الإنسان إلى الله في أيّام اضطراره؟ إذا عرف الإنسان اضطراره إلى الله تعالى في منازل الآخرة، وعرف أن لا سبيل له إلى تجاوز ذلك اليوم، ولابدّ له من استقبال تلك المنازل، ولا خيار له في تلك المنازل الصعبة إلا اللجوء إلى الله.. فلابدّ له من أن يسعى في الحياة الدنيا، قبل أن يفارقها، إلى تحصيل مرضاة الله لتلك المنازل في الآخرة. وسبيل الإنسان لتحصيل مرضاة الله في تلك المنازل الرهيبة هي طاعة الله تعالى والاستجابة لأمره في الدنيا. تأمّلوا في هذه الآيّة الكريمة: "اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ، وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ" (الشورى 47). يدعو الله تعالى عباده للاستجابة لأمره في الحياة الدنيا، قبل أن يأتي اليوم الموعود الذي لا مردّ له، ولا يمكن تجاوزه. وعندئذ لا ملجأ لكم من الله إلا الله، ولا مجال للإنسان من الهروب عن الله، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ، ولا ينفعه إنكار ذنوبه وسيّئاته بين يدي الله، "وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍٍ" (الشورى 47).
|