• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : عالَم المعنى .
                          • الكاتب : يحيى غالي ياسين .

عالَم المعنى

عالَم المعنى هو العالَم المقابل لعالم الطبيعة والمادة التي نعيشها وتتحكم فينا قوانينها .. ولعالم المعنى الهيمنة على عالم المادة ويتخذ مقام العلية والسببية بالنسبة له ..
وعالم المعنى قد يُقسّم الى عالم المثال وعالم العقل ، وقد يقسم الى عالم الملكوت والجبروت واللاهوت .. الخ ، وقد يسمى بعالم الأمر في قبال عالم الخلق .. ولعل كل تسمية ناظرة الى جانب معين من جوانب عالم المعنى في قبال عالم المادة أو تستند الى قاسم معين .. فيوضح العلامة الطباطبائي في الميزان ويقول : [ توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة ، عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجرى على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل . وثانيها عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجوداً وفيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعية واليها تعود وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة . وثالثها عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجودا وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة وله نسبة السببية لما في عالم المثال ] الميزان ج١١ ص ٢٧١

وعلى العموم فإننا نُدرك وجداناً وبالجملة ماذا يعني عالم المعنى ، فهو العالم الغيبي بالنسبة لنا ، ونشعر بإنتمائنا اليه إيجاداً وديمومةً ، ويزداد تعلقنا فيه في بعض الأحوال والأزمان والأمكنة ونشعر بالقرب منه ، فإنه إن غاب عن حواسنا فإن آثاره لا تغيب عن سائر إدراكاتنا ومداخل المعرفة لدينا ..

فالاتصال والارتباط بعالم المعنى هو ارتباط واتصال بالمنبع وتمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها [ وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ] لقمان ٢٢ .

وهذا الارتباط يمثّل الواجب الأهمّ للبشرية والانجاز الأعظم لها على الإطلاق إن حققته وأستطاعت استثمار تلك الامكانية وذلك الاستعداد المودع فيها .. فمهما تقدم الإنسان في السيطرة على المادة واكتشاف أسرارها وتسخيرها لحياته وحاجاته المتنوعة فإن هذا التقدم يُعتبر بالنسبة الى عالم المعنى بمثابة القشر الى اللب .. ! .

جاءت الرسالات الإلهية لهذا الغرض الشريف ، دعت إليه ووفرت أسبابه ورسمت طرق الوصول اليه والفوز به .. وإسلامنا الحبيب هو أكمل تلك الرسالات وألصقها بعالم المعنى وأكشفها له ولعوالم الغيب ، شرّعَ أبوابها وفتح مغاليقها وفك رموزها وشفراتها وكشف عن طرقها ومسالكها الى الدرجة التي يقول فيها أمير المؤمنين عليه السلام وهو اللسان الصادق والقرآن الناطق في الإسلام : [ سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض ] إشارة منه الى ما يمكن أن يصل اليه المسلم من الارتقاء في عالم الغيب والسماء ، وإشارة منه الى أولوية هذا العلم والارتقاء على علم وارتقاء علوم الأرض والطبيعة ..

والاتصال بعالم المعنى له أفراد متعددة وطرق مختلفة ، وأول وأهمّ أفراده هي المعرفة [ أول الدين معرفته ] ، معرفة الله الأعمّ من العلم والعمل .. يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : [ لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطأونه بأرجلهم ، ولنعموا بمعرفة الله جل وعز ، وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله ، إن معرفة الله عز وجل آنس من كل وحشة ، وصاحب من كل وحدة ، ونور من كل ظلمة ، وقوة من كل ضعف ، وشفاء من كل سقم ] الكافي ٨ / ٢٤٧ ..

وبعد المعرفة قد وفّر الإسلام حزمةً من الاعتقادات والعبادات التي تطلّ على عالم المعنى بأوسع وأعلى وأجمل إطلالة ممكن أن تكون للبشرية في عالم الدنيا ..

وتتفاضل مداخل عالم المعنى ( اعتقادات وعبادات ) فيما بينها ، فتتقدم الصلاة مثلاً على سائر العبادات ، فعن زريق عن أبي عبد الله عليه السلام قال : [ قلت له أي الاعمال أفضل بعد المعرفة ؟ قال : ما من شئ بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة ولا بعد المعرفة والصلاة شيء يعدل الزكاة ، ولا بعد ذلك شئ يعدل الصوم ، ولا بعد ذلك شئ يعدل الحج وفاتحة ذلك كله معرفتنا ، وخاتمته معرفتنا .. ] أمالي الطوسي ج 2 ص 305 . وسأل معاوية بن وهب أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربهم ، فقال : [ ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ، ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال : " وأوصاني بالصلاة " ] بحار الانوار ج٧٩ ص ٢٢٦ .
كما أن لانتظار الفرج المرتبة السامية ، فقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله [ أفضل أعمال أمتي انتظار فرج الله عز وجل ] ميزان الحكمة ج١ ص١٨٢

وكل تفاصيل الشريعة ، أوامرها وتروكها ، الإلزامية منها والمندوبة إنما هي علائق مع ذلك العالم ومنافذ له ، وكذلك من خلالها تنزل البركات والفيوضات الإلهية .. فالصلاة كما ورد معراج المؤمن ، والصدقة تقع بيد الله قبل يد السائل ، والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، والسجود على تربة الامام الحسين عليه السلام يخرق الحجب السبع كما ورد عن صادق العترة .. وهكذا .

وكلما كان العبد أكثر إنقطاعاً لله وعبادته أكثر إخلاصاً له جل وعلا كلما كانت تلك العبادة أكبر أثراً على صاحبها وأكثر علقةً له في عالم المعنى ، ولهذا نسمع أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشعبانية يقول [ اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ اِلَيْكَ ، وَاَنِرْ اَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها اِلَيْكَ ، حَتّى تَخْرِقَ اَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ اِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ ، وَتَصيرَ اَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ ] ..

فمما سبق يتبيّن لنا أن ثمّة شخصيتين لكل إنسان ، واحدة بايلوجية مادية تتناسب مع عالم المُلك والطبيعة ، وشخصية أخرى معنوية ذات امتدادات وارتباطات غيبية ملكوتية .. تختلفان بإختلاف عوالمهما ..

بناء وحيثيات المعنوية يختلف عن طبيعة بناء وحيثيات الشخصية المادية ، فزاد ولباس المعنوية التقوى ( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ ) ، ( وَلِبَاسُ ٱلتَّقۡوَىٰ ذَٰلِكَ خَيۡرٞۚ ) ، وطعامها العلم والمعرفة ( فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) حيث ورد أن الطعام هنا العلم ، وقد نمتلك في هذا العالم عيوناً جميلة وبصراً قويا ولكننا نكتشف بعد ذلك أن شخصيتنا في العالم الآخر غير مبصرة [ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا ، قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ ] طه ١٢٥ - ١٢٦ .

فصورتنا هناك مرتبطة بأعمالنا هنا ، وهيئتنا البشرية هنا قد تنقلب بسبب سوء أعمالنا الى حيوانية هناك .

يقول السيد الخميني قدس سره [ الإنسان كما أن له في هذه الدنيا صورة مُلكية دنيوية ، خلقها الله تبارك وتعالى في كمال الحسن والجمال والتركيب البديع ، والمتحيرة إزاءها عقول جميع الفلاسفة والعظماء ، والذي لم يستطع علم معرفة الأعضاء والتشريح حتى الآن أن يتعرف حاله بصورة صحيحة ، وقد ميّزه الله تعالى عن جميع المخلوقات بحسن التقويم وجودة وجمال المنظر ، كذلك فإن له أي للإنسان صورة وهيئة وشكلاً ملكوتياً غيبياً ، وهذه الصورة تابعة لملكات النفس والخُلق الباطن ... فمثلاً إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية ، وأصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة ، كانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم التي تتلاءم وذلك الخلق ، وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية ، وكان حكم مملكة الباطن والسريرة حكم سبع ، كانت صورته الغيبية الملكوتية صورة أحد السباع والبهائم ، وإذا أصبح الوهم والشيطنة هما الملكة ، وأصبحت للباطن والسريرة ملكات شيطانية كالخداع والتزوير والنميمة والغيبة ، تكون صورته الملكوتية صورة أحد الشياطين بما يتناسب وتلك ] الأربعون حديثا - جهاد النفس -

وكما أن للعالم المادي زمانه الذي تعدّه الليالي والأيام وتطوي صفحاته حركة الأجرام ، فكذلك للعالم المعنوي زمانه .. ومن خصوصيات هذا الزمان أن العمر المعنوي للإتسان فيه قد يطول أو يقصر عن العمر البايلوجي ..

فقد يُكتب في سجل صفحاتنا وسيرتنا الذاتية الدينية أن لدينا 50 سنة صلاة وصيام وحجة واحدة وعمرة واحدة ومقدار من الصدقة والزكاة .. الخ ، بينما يُكتب في سجل العمر المعنوي أننا حججنا الف حجة واعتمرنا الف عمرة وصيام 70 سنة أو 700 سنة بسبب الثواب الذي نحصل عليه من زيارة الحسين ع مشيا أو لصيام يوم المبعث أو فزنا بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر .. الخ .

وهناك أوقات في عالم المُلك هي في خصوصياتها وأمتيازاتها من عالم المعنى والملكوت ، كشهر رجب الأصب الذي يعتبره بعض العلماء والصالحين أول أشهر السنة المعنوية ، فيقول الشيخ المرجع اليعقوبي دام ظله في إحدى كلماته [ المعروف أن بداية السنة الهجرية هو الأول من المحرم، وعند بعض المؤرخين أنه الأول من ربيع الأول باعتباره مبدأ هجرة الرسول (ص) وعند البعض الأول من شهر رمضان بحسب ما يستفاد من بعض الأدعية، هذا ولكن السنة المعنوية عند طالبي الكمال والمشتاقين إلى رضا الله تبارك وتعالى تبدأ في الأول من رجب، البداية التي تعني الانطلاقة الجديدة، وتعبئة الهمة، وزيادة النشاط، ومراجعة صحائف الأعمال الماضية و الأمل بفتح صحائف جديدة بيضاء . ولعل من الشواهد على ذلك أن أصحاب كتب السنن والمستحبات كمفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي ومصابيح الجنان للسيد عباس الكاشاني يبدأون أعمال أيام وشهور السنة بأعمال شهر رجب، ويذكرون صلاة لشهر جمادى الآخرة باعتباره آخر شهر في السنة ] .

ولو تتبعنا الروايات الواردة في فضل شهر رجب الأصب لأكدت لنا هذا المعنى :

* قَالَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السَّلام) : " رَجَبٌ‏ شَهْرٌ عَظِيمٌ يُضَاعِفُ اللَّهُ فِيهِ الْحَسَنَاتِ وَ يَمْحُو فِيهِ السَّيِّئَاتِ ، مَنْ صَامَ يَوْماً مِنْ رَجَبٍ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ سَنَةٍ، وَ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ" من لا يحضره الفقيه: 2 / 92

* رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السَّلام) أنَّهُ قَالَ : " ... ‏وَمنْ‏ تَصَدَّقَ‏ بِصَدَقَةٍ فِي رَجَبٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَ لَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَ لَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" فضائل الاشهر الثلاثة للشيخ الصدوق .

* روى بشير الدهان عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنَّهُ قال : " من زار الحسين‏ بن علي عليهما السلام أوّل يوم من رجب‏ غفر اللّه له البتّة" إقبال الأعمال (الإقبال بالأعمال الحسنة): 3 / 219

* روى مُعَاوِيَةُ بْن عَمَّار عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جعفر بن محمد الصادق (عليه السَّلام) أَنهُ قَالَ : "الْمُعْتَمِرُ يَعْتَمِرُ فِي أَيِّ شُهُورِ السَّنَةِ شَاءَ ، وَأَفْضَلُ الْعُمْرَةِ عُمْرَةُ رَجَبٍ" الكافي : 4/536 ،

وفقنا الله وإياكم لكل خير وبركة




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=199109
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2025 / 01 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 10