جاء في کتاب باب الحوائج الإمام موسى الكاظم عليه السلام للدكتور حسين الحاج حسن: علم الأنبياء: و تعرض عليه السّلام بعد هذا الى علم الأنبياء و الأئمة فقال: إن الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه عليهم يوفقهم اللّه، و يؤتيهم من مخزون علمه. و حكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم، ثم انظروا الى قوله تعالى: "أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" (يونس 35). و قال عزّ و جلّ: "وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا" (البقرة 269) و قال عزّ و جلّ في الأئمة من أهل بيت نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و عترته و ذريته "أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً" (النساء 54-55). فالعبد الصالح الذي اختاره اللّه عز و جل لأمور عباده شرح صدره لذلك، و أودع قلبه ينابيع الحكمة، و ألهمه العلم إلهاما، فهو معصوم، مؤيد، موفق، مسدد، قد أمن الخطايا و الزلل، و العثار، يخصه اللّه بذلك ليكون حجته على عباده، و شاهده على خلقه. "ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الحديد 21). فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه؟ أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه، تعدوا و بيت اللّه الحق، و نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون، و في كتاب اللّه الهدى و الشفاء فنبذوه و اتبعوا أهواءهم فذمهم اللّه و مقتهم و أتعسهم، فقال عز و جل: "وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (القصص 50). و قال عز و جل: "فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ" (محمد 8). و قال عز و جل: "كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ" (غافر 35). انتهى بذلك حديث الإمام الرضا عليه السّلام و هو حافل باكمل و أروع صور الاستدلال و الحجة الدامغة على ضرورة الإمامة، و استحالة الاختيار و الانتخاب من قبل سائر الناس، و وجوب رجوع التعيين في ذلك إلى اللّه تعالى وحده فهو الذي يختار لهذا المنصب الرفيع من يشاء من عباده ممن تتوفر فيه صفات العلم الغزير و المعرفة الواسعة الشاملة لشئون الحياة الفردية و الجماعية. و ممن يتحلى بطهارة النفس، و صفاء الذات، و عدم الانقياد و الخضوع لدواعي الهوى، و نوازع الشرور و الغرور. و بهذه الصفات الكاملة الشاملة يصلح الإمام لهداية الناس و اصلاحهم، و ارشادهم إلى طرق الخير و الكمال، و غرس روح الثقة و الفضيلة في نفوسهم ليكونوا كما أرادهم اللّه عز و جل و كما أرادهم نبي اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ" (آل عمران 110).
يقول الدكتور حسين الحاج حسن: نقطة هامة أخرى اعتمدها المخطط العباسي هي: عزل أئمة أهل البيت عليهم السّلام عن الحياة السياسية، و الرقابة المشددة عليهم، و منع الاتصال بهم، و ابعاد الناس عن الأخذ منهم فيما يعود إلى الأمور العقائدية و معالم الدين الإسلامي. لذلك وجدنا المنصور الدوانيقي يعهد إلى الإمام مالك، أحد رؤساء المذاهب الأربعة وضع كتاب في الفقه يحمل الناس على العمل به قهرا، فامتنع مالك أول الأمر، و هو تلميذ الإمام جعفر الصادق، ثم رضخ لأوامر المنصور بعد الترهيب و الترغيب فوضع كتابه المعروف بالموطأ. منذ ذلك الوقت بدأت الحكومات العباسية تساند أئمة المذاهب الأربعة، و تنشر فقههم، حتى انها حملت الناس على العمل بهذه المذاهب بعد أن اغدقت عليهم الأموال الطائلة، و كرمتهم تكريما عظيما لابعاد الناس عن المذهب الجعفري، مذهب الإمام الصادق و مذهب أئمة أهل البيت المتخذ برمته عن جدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، المتخذ عن النبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلم الذي هو أول من وضع بذرة التشيع، هذه البذرة الطيبة المباركة، و نماها و تعاهدها بالسقي و العناية. و أول من شجع على انتشار مذهب مالك الرشيد حيث أمر عامله على المدينة بان لا يقطع أمرا دون أن يأخذ رأي مالك، كما كان يجلس على الأرض لاستماع حديثه تكريما لمالك و تعظيما لمذهبه. ثم أصدر أوامره بأن لا يهتف أيام الحج إلا مالك، فأخذ الناس يزدحمون عليه و توافدت إليه الوفود من سائر الأقاليم لاستماع حديثه و أخذ الأحكام الشرعية منه. و كان لا يدنو إليه أحد لما أحيط به من التقدير الرسمي. فقد اجتمع به غلمان من السود غلاظ شداد يأتمرون بأمره، و ينكلون بمن شاء أن ينكل به. لقد علا شأن مالك بما أعطي من السلطة من مكانة مرموقة و عناية بالغة اولتها له الحكومة العباسية كما أولت غيره من أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى. و الغرض من ذلك واضح كل الوضوح و هو إضعاف كيان أئمة أهل البيت عليهم السّلام و القضاء على الشيعة الذين كانوا من أقوى الجبهات المعادية للحكم العباسي الظالم. لكنهم فشلوا و بقي الشيعة يجاهدون و ما زالوا في اعلاء كلمة الحق و صيانة الدين الاسلامي من الانحراف و التزوير. قال تعالى: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (الصف 8-9). و لا يخفى على أحد من المؤرخين و علماء الحديث و الصحابة المؤمنين أن الطائفة الشيعية حملت لواء الاصلاح و ثارت في وجه الطغاة و الظالمين المستبدين، و حفل تاريخها بالمآثر الطيّبة و المفاخر الحميدة و خدمة الاسلام مهما كلف الثمن. لقد جاهدوا ضد الظالمين لأن السكوت عن الظلم خيانة شرعية، و السكوت عن الظالم يعني مساعدته على ظلمه فلا بد إذن من المقاومة الشرعية. و أول المقاومين للظلم بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام و قد كلفه ذلك جهادا مريرا و حروبا دامية ضد المنحرفين عن الدين القويم أمثال معاوية بن أبي سفيان و أعوانه. ثم استلم راية الجهاد في سبيل اللّه ابنه الإمام الحسين عليه السّلام ضد يزيد الفاجر العاهر و أعوانه الذين اشتروا الضلالة بالهدى، و اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، و اشتروا الكفر بالايمان.
وعن عودة اعتقال المهدي للإمام عليه السّلام يقول مؤلف الكتاب حسين الحاج حسن: لما انتشر ذكر الإمام و ذاع صيته في جميع الآفاق الاسلامية، خاف المهدي على كرسيه و لم يتمالك حقده و غيظه، و اعتقد ان ملكه لا يستقر إلا باعتقال الإمام، فكتب الى عامله على المدينة يأمره بإرسال الإمام إليه فورا، و لما وصلت الرسالة و بلغ الإمام الخبر، تجهز للسفر من وقته، فسار عليه السّلام حتى انتهى الى زبالة فاستقبله أبو خالد بحزن، نظر إليه الإمام نظرة رأفة و رحمة و قال له: - ما لي أراك منقبضا؟ - كيف لا أنقبض و أنت سائر الى هذا الطاغية و لا آمن عليك. هذا الامام من روعه و أخبره أنه لا ضير عليه في سفره هذا. ثم انصرف الإمام متوجها الى بغداد. فلما وصل إليها أمر المهدي باعتقاله و إيداعه السجن، و نام المهدي تلك الليلة فرأى في منامه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام فخاطبه: يا محمد، "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ" (محمد 22). فنهض المهدي من نومه مذعورا و استدعى حاجبه الربيع فورا فلما مثل بين يديه سمع المهدي يردد هذه الآية المباركة، و أمره بإحضار الإمام موسى، فلما أقبل إليه عانقه و أجلسه الى جانبه ثم قال له بعطف غير مألوف منه: (يا أبا الحسن، إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقرأ عليّ الآية المذكورة، أ فتؤمنني أن لا تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ - و اللّه ما فعلت ذلك و لا هو من شأني. - صدقت، يا ربيع، اعطه ثلاثة آلاف دينار و رده الى أهله الى المدينة، فقام الربيع فشايعه و أحكم أمره و سرحه في الليل. و سارت قافلة الإمام عليه السّلام تطوي البيداء حتى انتهت الى (زبالة) و كان اليوم الذي عينه لأبي خالد الذي يترقب قدومه بفارغ الصبر. فلما قدم عليه السّلام عليه بادر يلثم يديه و الفرح باد عليه فأدرك الإمام سروره و قال له: (إن لهم إلي عودة لا أتخلص منها). و أشار الى ما يصنعه له هارون من اعتقاله له في سجونه.
وعن صلابة موقف الإمام يقول الدكتور الحاج حسن في كتابه: كان موقف الإمام عليه السّلام من الطاغية هارون موقفا واضحا كل الوضوح، تمثلت فيه صلابة العدل، و قوة الحق، و الدفاع عن المظلومين، و الوقوف الى جانبهم في كل شئونهم و شجونهم، فقد أعلن لشيعته أن التعاون مع السلطة الحاكمة حرام و لا يجوز بأي وجه من الوجوه. و شاعت في الأوساط الاسلامية فتوى الامام بحرمة الولاية من قبل هارون، و حرمة التعاون مع الحكام الظالمين فأوغر ذلك قلب هارون و حقد على الامام حقد بعيد الحدود. و الامام عليه السّلام كما يعلم الجميع لا يعرف المصانعة و التسامح مع الحق، و لا يداري فيما يعود الاساءة الى مصالح الأمة الاسلامية. فموقفه واضحا صريحا. لا لبس فيه. يروى انه دخل على هارون في بعض قصوره الأنيقة الفخمة التي لم ير مثلها في بغداد، فسأله هارون بعد أن أسكرته نشوة الحكم قائلا: ما هذه الدار؟ فأجابه الامام عليه السّلام غير مهتم بسلطانه و جبروته: هذه الدار دار الفاسقين. قال تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ" (الأعراف 146). لما سمع هارون هذا الكلام الثقيل على روحه أصابته رعدة عارمة و استولت عليه موجة من الاستياء. فقال للإمام: - دار من هي؟ - هي لشيعتنا فترة، و لغيرهم فتنة. - ما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ - أخذت منه عامرة و لا يأخذها إلا معمورة. - أين شيعتك؟ - فتلا عليه الإمام عليه السّلام قوله تعالى: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ" (البينة 1). فطفح إناء الغضب عند هارون و صاح غاضبا: - أ نحن كفار؟ فقال الإمام: لا، و لكن كما قال تعالى: "أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ" (ابراهيم 28). فغضب هارون و أغلظ في كلامه على الإمام. هكذا كان موقف الامام عليه السّلام مع هارون كموقف أبيه و جده عليهم السّلام لا لين فيه و لا هوادة أمام الحق. فالغاصب لمنصب الخلافة هو مختلس للسلطة و الحكم، و يجب أن يحاسب و يطالب بحقوق الأمة الاسلامية و كما قال سيّد الشهداء: (ما خرجت أشرا و لا بطرا و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي).
|