هذا جوابي عن سؤالٍ تفضَّل به علَيَّ أَحدُ الأَصدقاءِ الموقرين:
إِنَّ عدمَ التصريحِ في القرآنِ الكريمِ باسمِ وليٍّ صالحٍ من أَولياءِ اللٰهِ تعالى من البشرِ لا يعني عدمَ الاعتناءِ به ، بل إِنَّ منهم مَنِ اختُبرَ إِيمانُ البشرِ بتركِ ذِكرِه في القرآنِ ؛ فكان هو المُعتنَى به إِلهيًّا ، والمُبتلَى الناسُ بلزومِ منحِهِ حقِّه استنتاجًا لشأنِه في ظلِّ حُسنِ سيرتِه ، وعُلُوِّ مَقامِه.
ولو كان ذِكرُ الاسمِ الصريحِ وكثرتُه القرآنيةُ لأَحدِ الصالحينَ هي المعيارَ للإِيمانِ به لكان موسى (عليهِ السلامُ) هو الأَولَ على النبيِّين (عليهِمُ السلامُ) كلِّهِم لأَنَّه ورد (١٣٦) مئةً وستةً وثلاثين موضعًا في القرآنِ ، ولكان النبيُّ محمدٌ (صلَّى اللٰـهُ عليه وآلِه) في المرتبةِ (١٧ / ٢٥) السابعةَ عشرةَ من بينِ خمسةٍ وعشرين نبيًّا ذُكرُوا بأَسمائِهم صراحةً في القرآنِ الكريم ؛ لأَنه ورد (٤) مراتٍ باسمِ (محمدٍ) ومرةً واحدةً باسمِ (أَحمدَ).
إِذًا ؛ ليس للذِّكرِ الصريحِ وعددِ مراتِ ورودِه شأنٌ إِزاءِ مَقامِ الشخصِ نفسِه بين الرِّفعةِ والهبوطِ ؛ فالمَقامُ الرفيعُ بالخُلُقِ الرفيعِ والإِيمانِ والتقوى.
إِنَّ التشريعَ الإِسلاميَّ قائمٌ على ثلاثةِ محاورَ رئيسَةٍ هي:
١- النصُّ القرآنيُّ. ويُسمَّى المجمَلَ.
٢- السنةُ النبويةُ التي تتضمنُ نصَّ الحديثِ النبويِّ الشريفِ الذي يُسمَّى (المُفصِّلَ) ، وما وُثِّقَ عنِ النبيِّ (صلَّى اللٰـهُ عليه وآلِه) من معاملاتٍ وعباداتٍ وأَفعالٍ وتقاريرَ ونهجِ حياةٍ وتوجيهٍ ، وما يتصِلُ به من نصوصٍ ومناهجَ حياةٍ ومعاملاتٍ وعباداتٍ إِماميةٍ.
٣- العقلُ الذي به التدبُّرُ والتحليلُ والقرارُ ، وهو يضطمُّ على ميدانِ الاجتهادِ إِكمالًا للأَداءِ الأَمثلِ عند عدمِ النصِّ من جهةٍ ، أَو عند تبيينِ النصِّ وتحليلِ متطلباتِه من جهةٍ أُخرى.
فالمُجمَلُ (النصُّ القرآنيُّ) يُبيِّنُه ويُحدِّدُ ميدانَه واختصاصَه ومرادَه ودَلالتَه المفصَّلُ (النصُّ النبويُّ فالإِماميُّ التابعُ له) وما يلتحقُ بهما من أَثرِ العقلِ وتحليلٍ بالدِّرايةِ.
وقد جاء في النصِّ القرآنيِّ: ﴿وإِذ قالَتِ الملائِكَةُ يا مَريَمُ إِنَّ اللٰهَ اصطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفاكِ على نِساءِ العالَمينَ﴾ [آل عمران/٤٢]. وجاء في المروياتِ المفصِّلةِ لهذا النصِّ أَنَّ السيدةَ مريمَ (عليها السلامُ) كانت سيدةَ نساءِ العالَمين في زمانِها وعصرِها ، أَمَّا السيدةُ الزهراءُ (عليها السلامُ) فهي سيدةُ نساءِ العالَمين من الأَولين والآخِرين بدليلِ آيةِ المباهلةِ التي نصُّها: ﴿فمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فقُل تَعالَوا نَدْعُ أَبناءَنا وأَبناءَكُم ونِساءَنا ونِساءَكُم وأَنفُسَنا وأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِلْ فنَجعَل لَّعنَةَ اللٰهِ عَلَى الكاذِبينَ﴾ [آل عمران/٦١] التي جعلتِ السيدةَ الزهراءَ (عليهِ السلامُ) بمَقامِ الـ(نساءِ) كُلِّهِنَّ ، وكانت آيةَ رُجْحانِ مَقامِها (عليها السلامُ) على مَقامِ نساءِ النصارَى (المُباهَلِ بهِنَّ) اللائي تأتي السيدةُ مريمُ (عليها السلامُ) على أَعلى جمعِهِنَّ شمولَ حِجاجٍ وتقابلٍ ؛ فهذا برهانْ جلِيٌّ لبيانِ الشأن.
وسوى ما مرَّ فإنه قد ثبتَ بالدليلِ الواضحِ أَنَّ الزهراءَ (عليها السلامُ) بَضعةٌ روحيةٌ وجسميةٌ منَ النبيِّ (صلَّى اللٰـهُ عليه وآلِه) إِذ قال: ((فاطمةُ بَضعةٌ مني)) ، وكان يصفُها بـ((أُمِّ أَبيها)) وهو سيدُ الخلقِ أَجمعين ؛ فمَن كانت جزءًا كريمًا منه ويصفُها بأُمِّه ؛ فهي إِذًا سيدةُ الخلقِ أَجمعين بوَقارِ شأنِها عندَ أَبيها لأَنه هو (صلَّى اللٰـهُ عليه وآلِه) سيدُ الخلقِ أَجمعين من الأَولين والآخِرين لكنها لا تسودُ على أَبيها وبعلِها لاعتبارِ الطاعةِ والتوقيرِ والأَصلِ والقِوامةِ بالوَلايةِ النبويةِ ، والطاعةِ الأَبويةِ والزوجيةِ ؛ فتفرَّدتْ بسيادةِ النساءِ تخصيصًا لجنسِها من جهةٍ ، وبسيادةِ نساءِ العالَمين من جهةٍ أُخرى مرتبةً تكوينيةً بعد أَبيها سيدِ المرسلين (صلَّى اللٰـهُ عليه وآلِه) وبعلِها سيدِ الوصيين (عليهِ السلامُ) فضلًا عن أَنَّها كريمةُ أَهلِ البيتِ الذين نزل بحقِّهم - وهي مشمولةٌ به - قولُه تعالى: ﴿...إِنَّما يُريدُ اللٰهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ ويُطَهِّرَكُم تَطهيرًا﴾ [الأحزاب/٣٣] ؛ فالحكمةُ الإِلهيةُ هي التي قضتْ بأَنَّ تكونَ السيدةُ الزهراءُ (عليها السلامُ) التي (أُذهِب عنها الرجسُ ، وطُهِّرت تطهيرًا) بإِرادتِه تعالى وأَمرِه سيدةً لنساء العالمينَ كُلِّهِنَّ أَجمعين.
وأَخيرًا أَقولُ: إِنَّ الاصطِفاءَ والتطهيرِ اختيارٌ وتزكيةٌ ولا يعني السيادةَ المطلقةَ على أَفرادِ الجنسِ. أَمَّا السيادةُ والتطهيرُ فتنصيبٌ مُطلَقٌ وتزكيةٌ على أَفرادِ الجنسِ ؛ فسلامٌ على مريمَ العذراءِ المُصطفاةِ المُطهَّرةِ على نساءِ العالمين ، وعلى فاطمةَ الزهراءِ سيدةِ نساءِ العالمين.
هذا موجزٌ من دليلِ القرآنِ والحديثِ الشريفِ يُوظِّفُه العقلُ برهانًا ودليلًا قاطعًا على سيادةِ السيدةِ الزهراءِ (عليهِ السلامُ) نساءَ العالَمينَ.
|