• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : رايات وقبائل الستينيات .
                          • الكاتب : د . نبيل ياسين .

رايات وقبائل الستينيات

 أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي ظهرت لي فيه أول مقالة منشورة . كان ذلك يوم 18 آب / أغسطس عام 1966 . كانت صحف بغداد مثل رُقُم وألواح السومريين والبابليين الطينية . وكان كهنة تلك المعابد التي تصدر تلك الرقم والألواح قد جاءوا من تضاريس البلاد ليأووا إلى تلك البيوت البغدادية القديمة بشناشيلها وأبوابها الخشبية وسلالمها الحجرية واسيجة سطوحها الحديدية المزخرفة في محلة جديد حسن باشا في قلب رصافة بغداد على نهر دجلة الأبدي. 

هناك تعرفت على جيل من كهنة الصحف . كان سجاد الغازي في (الثورة العربية) ,الجريدة الوحيدة التي اختارت جوار الصوفي عمر السهروردي في شمال شرق بغداد في منطقة الشيخ عمر , الضاجة شوارعها بمصلحي السيارات والحدادين ومعامل الدباغة ومخازن الأدوات الاحتياطية والسكراب ، قريبا من باب الطلسم الذي بقيت آثاره بعد أن نسفه الأتراك مرتين ، الأولى حين نسفه مراد الرابع بعد أن احتل بغداد في القرن الخامس عشر، والثانية بعد انسحابهم من بغداد في الحرب العالمية الأولى . لم يبقوا وراءهم أثرا ، سوى آثار الخراب .لقد نسفوا ماضينا أيضا. 
كان خالد الحلي محرر الأدب في المنار . هناك تعرفت عليه ، في ذلك البيت البغدادي بإيوانه الكبير وشبابيك حجراته المطلة على الإيوان في محلة جديد حسن باشا في الرصافة القديمة. حيث يبدأ الشارع بمقهى الزهاوي. وهناك رأيت فاضل العزاوي , قبل أن أتعرف عليه أكثر في ( الثورة العربية) , ثم لالتقية يوميا في مجلة ( ألف باء )حيث عملنا سوية أكثر من خمس سنوات .وكانت طريقته في لفظ مصطلح (السيد النائب)التي يصر على لفظها كلما قلنا صدام حسين أو النائب, توحي لي بالضحك وهو يحاول إخراجها بطريقة ترضي سامي مهدي رئيس التحرير، وفي منابر ثقافية ، مهرجان الكوفة الشعري ، اتحاد الأدباء ، جمعية الفنانين العراقيين ، نادي التعارف .قبل أن يذهب إلى ألمانيا في زمالة دراسية. وهناك أيضا تعرفت على خالد الحلي وقرأت له في مجلة ( العاملون في النفط ) التي كان يشرف عليها جبرا إبراهيم جبرا الذي سأتعرف عليه بعد هذا التاريخ بسنتين وانشر في مجلة (العاملون في النفط ) بعض قصائدي .كان خالد الحلي شاعرا مقلا وظل إلى الآن بحيث ضاع مع شعراء آخرين في زحام العالم المترامي الأطراف، حتى عرفت أخيرا انه في استراليا. 
من كان هناك أيضا؟ في دروب جديد حسن باشا وفي مقاهي الحيدرخانة ,( حسن عجمي ) و(البرلمان ) و ( عارف آغا) و( الزهاوي) كان عالم الأدب في بلادي يتسكع على أرصفة شارع الرشيد وفي كراسي المقاهي . كان ذلك هو المجد الوجودي لأدب جديد خرج من رماد انقلاب شباط عام 1963 . 
لم أكن أتردد كثيرا على تلك المقاهي . وكان مثل هذا الامتناع مصدر تعليق الشاعر رياض قاسم الذي كان يرى فيه تعففا عن الوجودية . رياض وشريف الربيعي كانا صاحبي في جريدة الشعب ثم في الثورة. كنا نتقاسم العمل لنعوض أيام وليال أجازات يمنحها احدنا للآخر . كان رياض وشريف شاعرين في صف شعراء تلك الفترة. رياض المقل في الكتابة والنشر كان ما يزال يتكأ على قصائد نشرها في مجلة شعر .أما شريف الربيعي فنشر قصيدة في مجلة ألف باء. أيوب: في الرأس يا أيوب..ذلك ما اذكره منها، كما اذكر من قصيدة رياض في نفس المجلة :لصق جبيني يرتخي مرةً. كان سامي مهدي محررا أدبيا في مجلة ألف باء. اصدر رماد الفجيعة ,وكانت قصيدة كل عدد تحمل أهميتها.أول قصيدة انشرها في تلك المجلة عام 1969هي مواسم الأحزان:
أموت 
واحمل ُ التابوت في صدري كقطعة الحجر
اموتُ واعبر الطريق عبر وجهي المضاء بالحفر 
اموت ُ 
اطوف بالمنفى على راحلة الخسارة
فيرجع الرأس يغني ناسيا مداره .. 
تلك كانت قيم قصيدة الستينيات : البحث عن مصائر وسط التمزق والضياع والأمل . كثير من شعراء تلك الفترة لفهم الصمت لسبب أو لآخر : خالد الحلي ، خالد الخشان ، قيس لفتة مراد الذي اصدر أغاني الحلاج والذي عرفني بعبد الرحمن مجيد الربيعي في الحيدرخانة ، ومات منسيا ،. كان عبد الرحمن قد اصدر السيف والسفينة, مجموعته القصصية الأولى . عبد القادر الدليمي الذي ينزل الآن سجنا بلغاريا . شاعر آخر نسيت اسمه لكن وجهه ما يزال في ذاكرتي . صاحب هاشم الذي مات في المنفى في بيروت بعد أن جاء إليها من اليمن مصابا بالسرطان وقضيت معه الأيام الأخيرة له . خالد يوسف الذي تلفه عزلة مدينة اكستر البريطانية الآن ، اصدر مع عبد الأمير الحصيري( بيارق الآتين) في منتصف الستينات . كان خالد شاعرا حديثا ومقلا وقصائده قصيرة جدا كأنها بحجم ختم اسطواني ، بينما كان الحصيري يقود مطولاته العمودية مثل قوافل الإبل. ولست اعرف ما لذي يدفعني الآن إلى تذكر جيل منسي هو جيل الستينيات الذي استولى عدد محدود على انجازاته الأدبية وسجلها باسمه جزافا. لقد خرج أكثرهم من معتقلات انقلاب 8 شباط ، وكان عليهم أن يبحثوا ، وسط موجة من الإحباط والأسى المتكرر عن وجود في ملاجئ الحياة التي كانت مقاهي وصحفا ومجلات ودواوين . كان ذلك هو الإثبات الوحيد على الوجود . ولعل محاولة التأكد من الوجود عبر الكتابة هي التي نفخت في جيل كامل من الشعراء والكتاب والقصاصين روح الإحساس بالانتماء إلى وجود في الأدب بعد أن فشل الإحساس إلى وجود في الحزب . هكذا تواجد معا شعراء شيوعيون وبعثيون وشعراء آخرون ذوو ميول قريبة من هذا الفكر أو ذاك ، تواجدوا على طاولة واحدة في مقاهي الأدب التقليدية ، في مقهى عارف آغا أو مقهى حسن عجمي أو مقهى البرلمان أو مقهى الزهاوي ، التي كانت تضم مجالس يوم الجمعة الصباحية، أو في مقاهي جديدة انتخبوها هم في الأمسيات في مقهى ياسين أو مقهى البيضاء أو مقهى ليالي السمر في شارع أبي نؤاس على نهر دجلة. أو في مقهى إبراهيم التي اشتهرت باسم غير رسمي(مقهى المعقدين) فقد كان الأدب الوجودي يقود  اتجاهات الأدب العراقي الحديث آنذاك.المقهى المجاورة  لمطعم نزار في الشارع الأول بين شارعي السعدون وأبي نؤاس( قبل أربعين عاما لم تكن ثمة أسماء لأغلب الشوارع واليوم ضاعت الشوارع نفسها ) كنا نتواعد ونلتقي: عبد الستار ناصر ، حميد الخاقاني، عادل عبد الجبار، حسين الحسيني وآخرون. كان هناك آخرون أيضا: خضير عبد الأمير، جمعة اللامي، محمد المبارك ، حميد المطبعي، منير عبد الأمير، موسى كريدي ،طراد الكبيس، خالد علي مصطفى ، ماجد السامرائي، شجاع العاني ،  يوسف الحيدري . كانت  المقاهي تنتج ما يدور حول الأدب وتكمل ما يصدر من كتب في الشعر والقصة والنقد والرواية والترجمة. 
كان هذا العالم يبدو وكأنه يسير حرا طليقا بعيدا عن أية وصاية رسمية أو هيمنة حزبية . كان كذلك لفترة ما قبل أن تهب عاصفة الخلافات السياسية على تلك المقاهي وتقتلع عالمها وتلقي به إلى الخنادق ، الخنادق الإيديولوجية المتقابلة مرة أخرى والى الأبد. 
في نهاية الستينيات دخل الأدب من جديد في دروب الأحزاب التي تسعى إلى الائتلاف في جبهة وطنية سياسية . فأعيد تأسيس اتحاد الأدباء ليسرق طابعه الرسمي عفوية اللقاءات وسحر المقاهي الأدبية .لكن رغم كل هذا الفوران كانت رايات وقبائل الأدب تنعزل شيئا فشيئا عن مجتمعها وترفرف فوق رؤوس جيل كبير وطويل من الأسماء  الجديدة فيما كان جيل الجواهري والبياتي ومعهم  أدباء أكاديميون مثل علي جواد الطاهر وإبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي  حاضرا أيضا. 
في الجانب الأخر من بغداد، في جمعية التشكيليين العراقيين كان ضياء العزاوي ورافع الناصري وإسماعيل فتاح الترك وعلي طالب ومحمد مهر الدين وعامر العبيدي إلى جانب كاظم حيدر وحافظ الدروبي وراكان دبدوب وشاكر حسن آل سعيد يقودون تجديد الأساليب الفنية ويقيمون الأمسيات الشعرية في تفاعل التشكيل والكلمات .
دخل الإبداع إنفاق التحالفات، وصارت القصيدة جزء من التحالف السياسي أو الصراع الحزبي . وتحول الشاعر إلى رقم في قائمة الشيوعيين أو البعثيين قبل أن يتحول إلى رقم في قائمة الإسلاميين ، وانتهز البعض هذه الفرصة ليكون في القائمتين باعتباره مستقلا لينتفع من رضا الطرفين حتى ألان. وراح البعض الآخر من المبدعين المستقلين يغرقون في إبداعاتهم ورفضهم لهذا التقسيم القاسي ، منتمين لإبداعهم وفوضاهم وتمردهم ، بعيدا عن قصائد الجبهة الوطنية التي دبجها ، بالمعنى الحرفي للكلمة ، شعراء ، انقضوا ، فيما بعد على إنكار قصائدهم وطيها في ملفات النسيان ، قبل أن ينقضوا على الحزب الدكتاتوري الذي كان حليفهم قبل أيام أو قبل أشهر .
لقد سلمت أضواء الستينات الباهرة نفسها لظلام دامس . ظلام زينته المهرجانات والقاعات ودعوات السفر الى الخارج والولائم والدعم الحزبي من قيادتي الحزبين لمثقفي كل حزب . وبلا جدال ، صرعت الثقافة العراقية الواعية والتنويرية ، على عشب حديقة اتحاد الأدباء حيث كان مثقفو الحزب الشيوعي يلحون في الجلوس على موائد حلفائهم دون طائل ويلقون بنا إلى المذبح كضحايا لمعبد التحالف. لا احد يستطيع أن يمحو التاريخ ، رغم أن البعض يحاول محموه كما يحاول تلميذ محو كلمة سطرها غلطا في دفتره . لكن تاريخ الثقافة ليس دفترا مدرسيا . وحتى الآن ، يهرع هؤلاء المثقفون ، هؤلاء دون غيرهم ، مع تلامذتهم الصغار الذين تربوا في حلقات ذكرهم ، على ترك الثقافة وترك الإبداع لمهاجمة التاريخ وتزويره . وكأن هذا هو واجبهم لأنهم نشأوا بسبب هذا التزوير لا غير. فبدل سحر الإبداع ظهر إلى الوجود سحر الاصطفاف السياسي الذي كان ، وما يزال ، يعتبر الأسلوب الأكثر شيوعا للتسويق الأدبي. وبدل الحديث عن الشعر ، سيطر الحديث عن سياسة التحالف في جلسات المثقفين . وبدل التقييم النقدي ظهر التقييم الحزبي. لا احد ، يملك من ضمير المثقف، مثقال ذرة ، يستطيع أن يكذّب هذا الواقع المرير الذي وجدنا أنفسنا فيه ، والذي كان فاتحة للجحافل الفاشية ، التي تقدمت، فيما كانت الثقافة تمهد الطريق ببلدوزرات عملاقة للسيطرة على ارض الثقافة والفكر, قبل السيطرة على الجيش والإدارات والنفط والعلاقات الدولية . ولقد اثبت تاريخ العراق ، القديم والحديث ، أن السيطرة على الثقافة يعنى سقوط الأبراج والأسوار والخنادق التي تحمي البلاد . واليوم نستطيع أن نتبين اثر هذا السقوط . وسقوط نخبة الجمال والإبداع في وحل التبعية والتطرف المتقلب والوجدان الإيديولوجي المتغير مع تغير كل انتماء ومع تغير كل جهة ونظام. فحين تنهار ثقافة بلد ينهار مجتمعه وتتسلط الدكتاتورية والجهل والأمية وثقافة القطيع وثقافة المكرمة . هكذا كان مردوخ ، كبير آلهة البلاد ، هدفا للسيطرة من قبل الغزاة ، وكان انتقاله من بابل إلى أية مدينة أخرى ، نذير الخراب الذي يحل بأرض الرافدين . وما مردوخ إلا ثقافتنا وعقلنا وطقوسنا ومعابدنا ، وآهاتنا وادعيتنا وسحرنا وصلواتنا وابتهالاتنا التي تصعد من أجواف صدورنا حتى عنان السماء بعد كل مذبحة وكل فاجعة . ليس أدل على ذلك ، من أن أدباء الستينات ، وجدوا أنفسهم في سياق تيار يمر تحت أرجلهم قاسما الثقافة العراقية إلى قسمين ، فعبر البعض وبقي البعض ، ووضع البعض الآخر قدما هنا وقدما هناك ، ولكن التآكل كان يمتد في الغرين البارد تحت الأقدام لتنهار الضفاف كلها ، ومنذ ذلك الانهيار لم يبق من المثقف إلا هجرته في قلب الضفة التي اختارها, في قلبها ليتحد معها في أهاب لا يفرق بين دور الضحية ودور الجلاد.وداعا أيتها السنوات التي كانت نزلا على الطريق ، لقد فرت خيولنا في البرية ، وما عاد بمستطاع هذا النزل سوى إغلاق أبوابه ، بعد أن وقف المثقف العراقي على دكته ووضع خطاه في التيه ، التيه الذي لا نزل فيه ولا حانة على الطريق تستقبل فيها سيدوري كلكامش القادم من البرية لتزيل عن وجهه وعثاء السفر وتسقيه من شراب البلاد وتطعمه من خبز الحياة كي يعود إلى أوروك مرة أخرى.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=20381
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19