• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإسلام والديمقراطية: نظرة المحكوم إلى الحاكم هي القضية .
                          • الكاتب : محمد الحمّار .

الإسلام والديمقراطية: نظرة المحكوم إلى الحاكم هي القضية

 لا ديمقراطية بغَير منهجية. والذي زاد هذا الأمر تثبيتا هو فشل كبار المفكرين والحقوقيين العرب في إقناع الرئيس الأمريكي أوباما (1)، ومنه حكّامهم، في إرساء الديمقراطية. فلأني أعتقد أنّ الديمقراطية منهاجٌ أكثر منها فكرٌ ولأني لاحظتُ، في المقابل، أنه أُريد بها أن تنفذ إلى داخل البيئة الثقافية العربية الإسلامية كمحتوى ثقافيّ ومضمون سياسي وبُعد إيديولوجي، أفترض أنها لا بدّ أن تقع تحت طائلة المنهجية الشاملة التي تعوز المجتمع العربي الإسلامي. فالديمقراطية مرغوبٌ فيها لمّا تكون مَفصلا من مفاصل الجسم الثقافي المستقبلي، مثَلُها مثل العلم والمعرفة والتكنولوجيا وسائر مقومات الحداثة، فلا يحقّ إذن اعتبارها منهاجا خارج المنهجية العامة، وإلاّ فسيتكرر ما حدث بعدُ: الديمقراطية، في ثوبها المقدم نفسه لنا كمِنهاجٍ مُؤَدلج، غير ملائمة مع المضمون الثقافي الخصوصي، لذا فمآلها الرسوب.

نحن إذن لسنا ديمقراطيين لأننا متخلفون ولأنّ ليس لدينا منهاجا شاملا للخروج من التخلّف. ويمكن تسمية هذه الإعاقة التخلف المنهجي. وبالرغم من أنّ العكس صحيح أيضا، إلاّ أنّ صحته ثابتة في البعد الاستدلالي ولا تفيدُ في الإصلاح. ما من شك في أنّ طرح المشكلة معكوسة، أي على أننا متخلفون لأننا لسنا ديمقراطيين، أعتبره تكريسا للتخلف المنهجي وللتخلف ككلّ. وهو الاستبداد بعينه. وهو الذي جرى إلى حد الآن ومآله ضياع المجتمع وإعادة إنتاج الفشل والخيبة، بفعل انتظار ما لن يأتي أبدا. وبالتالي إذا نحن فعلا جِدّيين في تمسكنا بالديمقراطية فمن المفروض إعادة تدويرها، كمفهوم وكوسيلة وكتقنية وكمجموعة من القيم جلبتها لنا الحداثة، مثلما يتوجب إعادة تدوير سائر مقومات الحداثة من خلال المخزون الثقافي العام للعرب والمسلمين. وخَيرُ ما يُستحسَن اعتماده لقياس تفاعل الديمقراطية مع ثقافتنا هو الإسلام الحنيف، بناءا على أنه العامل الأساسي في هذه الثقافة. لنستقرأْ المنهاج الذي من شأنه أن يؤصّل الإسلام والديمقراطية في بعضهما البعض.

قبل الدخول في التفاصيل لا بدّ من التذكير بما قد بينّاه في ما سبق من الدراسات، والذي مفاده أنّ الحداثة هي المطالَبة بالانفتاح على الإسلام (2)، ما يُفهمُ منه أنّ الديمقراطية بدورها، طالما أنها واحدة من ركائز الحداثة، مطالبة بالانفتاح على الإسلام. لنرَ كيف.

هل صلة الدين بالسياسة حق؟ عموما سيساعدنا التحوير المنهجي على تحويل الرؤية إزاء مسألة الإسلام والديمقراطية، من مشكلة متصلة برفض السلطة في البلاد العربية الإسلامية إرساء التعددية السياسية إلى مشكلة وطيدة الصلة بالنظرة الخاطئة التي يتبناها المحكوم إزاء الحاكم. وفي هذا السياق سنلاحظ أنّ من أخطر تداعيات التخلف المنهجي على النظرة إلى الإسلام، من جهة، أنك ترى المسلم يرفض النظر إلى المساحات التي تنيرها شمس الإسلام ليفضّل النظر في الشمس مباشرة فيصاب بعكس ما يصبو إليه (إما التعصب أو الامبالاة؛ إمّا الإسلاموية أو العلمانية، وقد درسنا ذلك بالتدقيق في كثير من المقالات ). كما أنّ من أخطر تداعياته أيضا، ومن جهة أخرى، حالة الاستلاب (و ما يقابلها من استنفار)، وهي لا تقل خطورة عن الاستلاب للدين (و للنفور منه). وأعني هذه المرة الاستلاب لِمَا هو عُلوي غير الله سبحانه و تعالى : الدولة والسلطة. ولعل العلاقة وطيدة بين الاستلابَين : هذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه عسانا نعثر على بعض الآليات التي قد تساعدنا على فهم أدق لطبيعة العلاقة الممكن إرساؤها مستقبلا بين المسلم و الدولة، وذلك بالنظر إلى المحورين الأساسيين اللذان كانا و ما زالا يشكلان ذروة المزايدات سواء باتجاه إبراز التوافق بينهما أو إبراز التناقض الذي يصل أحيانا إلى التصادم بينهما. وهما كما قدمنا أنفا الإسلام والديمقراطية.

 

ولكن ربما وجب علينا، قبل الشروع في ذلك، التذكير ببعض المسلّمات حتى لا نقع في تعميق الخلط عوضا عن تقليصه أو محوه مثلما نعتزم القيام به :

أ. إن الإسلام ليس نظاما سياسيا و بالتالي نحجم بكل اقتناع عن مقارنته بالديمقراطية ( وهي نظام للحكم السياسي).

ب. إن الإسلام ليس سياسة معيّنة و بالتالي نعتقد أنه لا يصحّ اختزاله في برنامج سياسي أو في حزب سياسي.

ج. إن الإسلام جد متّصل بالسياسة و لكن لا يجب أن تؤخذ هذه العلاقة، مهما كانت ثابتة و وثيقة، على أنّها مبرّر للخلط بينهما بصفة آلية، أي أننا نعتقد أنّه في صالح رموز الإسلام السياسي ، و وراءهم كل من والاهم من المسلمين، أن يبدّلوا النظرة إلى مكانة الإسلام في الحياة العامة، و ذلك باعتبارهم دارين أنّ الإسلام لم يمرّ بعدُ بكل مراحل النموّ والتّأقلم اللازمة ولم يتم انخراطه في الدورة الثقافية أوّلا، لكي يكون قادرا، في مرحلة لاحقة، على التعبير السياسي الفوري و الذي يفترض أن يكون مواكبا على وتيرة يومية  إن لم نقل آنية للأحداث في الساحة العمومية.

د. و نعني بتبديل النظرة إلى مكانة الدين الإسلامي أن يحتكم الحكّام و الساسة "العلمانيون" إلى القناعة الآتي ذكرها. وقبل ذكرها لا بدّ أن نلاحظ  أننا قد مشينا بعدُ نصف الطريق المؤدية إلى الاقتناع لمّا نشدّد على أن هؤلاء الساسة محقّين فعلا في رفضهم للخلط بين الديني و السياسي وبالتالي فإنّ إقناعهم لا يعني استدراجهم أو استجداءهم للفهم أنّ العكس هو الصحيح. إذ العكس ليس صحيحا.

 أمّا ما يبدو لنا في غاية الصحّة ( وهي القناعة التي قد يترتّب عنها تغيير النظرة) والذي كم نودّ لو يشترك كلا القطبين – العلماني و الإسلامي- في إيلائه الأهمّية القصوى في مستويات التفكير والاقتراح و القرار فيتمثّل في الحجّة على عدم وجود حاجة ماسّة لإدماج الإسلام السياسي في الحياة العامة. والحجّة هي أن  الديني يعمل و ينشط و يؤثّر فعلا في السياسي، إلاّ أنه لا يفعل ذلك مباشرة بل يفعله فوق أرضية واقعة تحت أرضية السياسي (3). فطبقة الديني تغذي و تشبع و تعدّل و تتفاعل- أو لنقل من المفروض أن تفعل ذلك في إطار صحّي للحياة العامة- مع طبقة السياسي، الطبقة العلوية (و التي تقع فيها الديمقراطية). وهذا في حدّ ذاته، لو يتمّ إدراكه كذلك، شيء جميل حقّا.                                  فلا أظن أن ليس هذا من أسمى مطالب الحساسية الإسلامية بكل تفرّعاتها، كما لا أظن أن الإنكباب على هذا الشأن بعزيز على الحكّام و الساسة غير الإسلاميين.

ه. ما دام المسلم يعاني من مشكلة تأقلم الديني مع السياسي، و بالتالي من مشكلات تأقلمه هو مع الأوّل و مع الثاني ومع الاثنين معا، و راح يعبّر عن توتّراته في هذا المضمار بشتّى أنواع التعابير، المقبول منها و غير المقبول، و بالنظر إلى المسلّمات السّابق ذكرها، أليس من الأجدر أن يتمّ الإصلاح أو التعديل أو التصحيح في المستوي السفلي أي الدّين، قبل أن يتمّ الإصلاح في المستوى العلوي أي السياسة؟ وحتّى وإن افترضنا أن ذلك سيكون من باب التّفريق، فالإجابة هي أن التفريق تفريق منهجي و ليس جوهريا بالمرّة ( لقد سبق أن أسلمنا بالصّلة الحميمة بين العنصرين). وفي هاته الحالة يمكن تطوير الإشكالية و طرحها كما يلي: هل لا يمكن للإصلاح السياسي عامة ومسألة إرساء الديمقراطية خاصة ( وهو موضوعنا) أن يأخذ العطب أو الخلط المنهجي المذكور( وهي لعمري أزمة منهجية) بأكثر من عين الاعتبار: بالاستهداف و بالاستبطان أي بالمزج الضروري و الكافي؟ علما وأن ذلك لن يكون فعّالا إلاّ في صورة القيام به في المستوى الفلسفي أوّلا و بالذّات؟

وفي هذا السياق الشائك تندرج دراستنا هذه. فلمّا نعود إلى الحديث عن الإسلام والديمقراطية من هذا المنظور سنتأكّد من أمرٍ منهجيّ و أساسي ذي مفصلين اثنين.                                              أوّلا، أن الديمقراطية، وهي مجموعة قيم للحداثة و في نفس الوقت وسيلة للتنظيم المؤسساتي للحكم، لا بدّ لها أن تخدم الإسلام : بالسّماح له بالتعبير القِيمي و كذلك الأدواتي ، ويتمّ ذلك في مستوى الأرضية التحتية التي تحدّثنا عنها أنفا.                                                                                    ثانيا، أن الإسلام، وهو نظام للحياة (وليس للحكم، لنكُن واضحين) وأيضا ترسانة هائلة ولامتناهية من القيم والوسائل، لا بدّ له أن يخدم الديمقراطية : بالتفاعل معها وبذلك مساعدة المسلمين على التّأقلم الجيّد و المتأصّل مع العصر.   

نعود إلى حكاية الجذب التي بدأنا بها المقدمة لنقول إنه يبدو فعلا أن عقلنا الجماعي يجذب باتجاه الأعالي، بإفراط نحو الأعالي، ولا مرّة، ولو مرّة واحدة نحو الأسفل.وهذا أمر غير عادى وغير صحّي نظرا لأن الحياة بأكملها تبدو مبنية على توازن الثنائيات على غرار الأبيض و الأسود، اليمين و الشمال، الكبير و الصغير، الحار و البارد ،الصواب  والخطأ، وباختصار،الحياة و الموت. فهو خلط لاواعي بين الاستسلام للقوّة الجاذبة الإلهية (وهو من الدين) والاستسلام لقّوّة السلطة، قوّة لم تقل الكتب، لا السماوية ولا الإنسانية، إنها لا بدّ أن تكون جاذبة. و قد يكون هذا الخلط الهجين و الخطير حقّا راجعا إلى الخلط في كيفية التعامل مع ثنائية  الديني والسياسي التي كنّا بصددها، ومبنيّا فوقه بفعل عوامل قد يطول شرحها في مضمار دراستنا الحالية.  وإلاّ، ماذا جرى للعقل حتى يبقى القاصي و الدّاني من مواطني المجتمعات العربية الإسلامية  في حالة من التشبث القصوى بفكرة أن كل تعاستهم مردّها الدولة، حتى و إن افترضنا جدلا أن الدولة في بلداننا مقصّرة  بخصوص الحريات عامة والديمقراطية خاصة ؟ و كيف يأبى هذا العقل أن يحاسب نفسه ثم أن  يجذب نحو الأسفل ، أين تولدُ و تنبلجُ صغريات الأحداث الحياتية ، و أين تنبثق من تلك الأحداث أحلام وطموحات و أفكارٌ يبقى المواطن (صاحب العقل) هو المسئول الأوّل ، لا مؤسسات الدولة أو الحكومة، عن تناميها في المتخيّل وفى الذهن و في الشعور و في القلب لتقوم مقام أخرى أكل عليها الدهر و شرب؟                                                                    

إذن هل الحكم والمحكوم تربطهما علاقة تبعية أم شراكة؟  يكون المرء فخورا بأن ينجح في الانطلاق من نفسه ؛" بل الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة"( القيامة 14)، ليتوصّل إلى نوع من التماهي بين كونه مسلما وكونه علمانيا (أو لائيكيا ، مثلما يحلو للبعض تسمية نفس الحساسية). وهذا لن يغير شيئا، لا في الإسلام ولا في العلمانية، طالما أنّ  لا تغيير الدين، ولا حتى تغيير العلمانية، هو الأمر المطروح اليوم أمام أنظار المسلمين. فالذي يهم تغييره هو الإنسان المسلم :"إنَّ اللهَ لا يَغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم" (الرعد 11). والانطلاق من النفس يعني، فيما  يعنيه بادئ ذي بدء، أن يعيد المواطن المسلم التمركز إزاء نفسه بأن يستعيد النظر إليها والثقة بها إلى درجة قلب نظرته إلى الحاكم ، من وضعية الخصم إلى وضعية الشريك. فالإصلاح الذي نراه ملائما للأوضاع الحالية للمسلم وذلك بالنظر إلى هذا النوع من الحاجيات يتلخّص في أن يكون المواطن المؤمن متيقنا من رغبته في أن يستعيد مكانته التي حظاه بها الله : مكانة "الأمة الوسط": "وَكَذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتكُونُوا شُهدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُم شَهيدًا" (البقرة 143). ونعتقد أن صفة الشراكة بينه وبين الحاكم قد تكون تجسيمَ إسعافٍ لتلك الوسطية. ولا أعتقد أن هنالك سبب واحد يمنع هذا المواطن من أن ينشرح صدره لمّا يرى أن على ذمته، في سبيل تحقيق ذاك المبتغى بالكدح المطلوب؛ "إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبّكَ كدْحًا فَمُلاقِيه" (الانشقاق 6)؛ تلك الترسانة الهائلة من الهياكل و الآليات التابعة في ظاهرها فقط للدولة و لكنها في باطنها مسخّرة له من لدن المجتمع ككل، شريطة أن يقوم هذا الأخير بدوره على أحسن وجه كأداة وصل بينه وبين الدولة بكافة رموزها. وهنا أقصد دور المجتمع المدني، الذي له مهمة تمرير تلك الأحلام والطموحات و الأفكار انطلاقا من الطابق السفلى للهرم الاجتماعي إلى غاية الطابق العلوي منه أين تنتظرها مؤسسات الدولة و الشعب وفى مقدمتها البرلمان لكي يتم تحويلها إلى قرارات وبرامج و مشاريع.

إن الفرصة تبدو سانحة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن يحصل التجاوب اللازم  بين كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع سيما أن طبيعة المجتمع المعاصر في مرحلته العلمية الحالية ،"مجتمع المعرفة"، و كذلك في مرحلته السابقة ( ولكنها مكمّلة للأخرى) ، "مجتمع التواصل"، إنما هي وصفة تبدو الأكثر تناسبا مع الظرف الراهن وقد يجدر استخدامها و الاحتكام إليها. فلم يعد كافيا ، لبلوغ التواصل بين طرفين أو أكثر، أن نرضى بمجرد مرور المعلومة بل يجب أن تكون هذه مشحونة بمعنى وأن يفرز المعنى" معرفة" (بالطبيعة و بالثقافة، بالسياسة و بالدين، بالاجتماع و بالاقتصاد، بالتعليم و بالتشغيل...). يقول أوتييى و لفي: " إن المعلومة بحاجة إلى أن تتناول ثم تحوّل إلى معرفة"(4). هذا بخصوص الواجهة التربوية لأيّ تدريب ممكن على الممارسة الديمقراطية.       

 وهنالك قاعدة سياسية تبدو لنا خير حافز للمسلم ليراجع تعنّته السرمدي بأن يزيل اللّوم عن نفسه ليلصقه قسرا بالحاكم، مراجعة تفرضها الرغبة في تثبيت الذات مهما كان الحاكم مستبدّا. فلا نرى خيرا من ما قاله رالف ولدو أمرسون : "يجب على الدولة أن تتبع شخصية ونُمُوَّ المواطن ولا أن تُوجّهه ؛ إن ألدّ الغاصبين يتم استبعاده بسرعة ؛ والذين يُشيّدون أفكارا هُم فقط الذين يُشيّدون للخلود؛ وشكلُ الحكم الذي يُرجَّح هو تعبيرٌ عن ماهية الثقافة عند الشعب الذي قبِلهُ." (5) وهذه القاعدة تتفق مع الأخرى في الاتجاه "تحت- فوق" الذي بمقتضاه يتحول التعبير الثقافي من العائلة و المدرسة و الشارع ( من تحت ) إلى    البرلمان ثم الحكومة، وذلك عبر"مصفاة" المجتمع المدني، والله أعلم.  ولمّا يكون الأمر كذلك فإن التوجّه التربوي العام لهذا النوع من الممارسة الديمقراطية والذي لن يزيدها إلا تثبيتا وتعزيزا هو "المقاربة التبادلية"، التي تشيع الآن ومنذ سنوات في مجال التدريس التّواصلي للّغات بالخصوص. فالأمر يتعلق بتبادل تواصلي للمعلومة اللغوية المشحونة بمعنى سياسي ( ما دام التعايش السياسي هو سياقنا)، ولكن كذلك بعديد المعاني المكوّنة للسّياسي و المتفرّعة عنه. ويتمّ التواصل بين طرفين، المواطن من جهة والحاكم من الجهة الأخرى. وتكون هذه المقاربة خير دعم لتكاثر فرص التخاطب والتشاور لمّا يتوفر شرطان أساسيان على الأقل (من بين شروط أخرى):

-  أن يتم تبادل الاستفسار والانطباع والرأي والاستشارة بين الطرفين في اتجاه أفقي يسمح بالمرونة والسيولة من أجل حُسن التفاهم، عوضا عن التنزيل العمودي الذي يقتضي تنزيل المعلومة القرار أو المعلومة الخبر أو غيرها، من فوق (أي السلطة) إلى تحت (أي جمهور الشعب). 

- ثم، ما دامت الوسيلة هي المقاربة التواصلية ذات الاتجاه التبادلي، فإن الركيزة الأساسية الضامنة لإرساء الوضعية الأفقية هي أن يكون الطرف "المُعرَّض" أكثر من غيره إلى التلقّي، وهو في سياقنا هذا "المحكوم"، من الصنف المُتلقّي الإيجابي أي " المتناول النشيط" للمعلومة و للمعرفة. وذلك من أجل أن  يجسّم المتلقّي الإيجابي معرفته  بالموضوع قيد المعالجة بواسطة الطريقة "البنائية" التي تخوّل له السيطرة الذهنية و العاطفية على الموضوع، وبناءا عليه، المشاركة الفعلية والفعّالة، في كافة أصناف الحوار عموما و في الحوار السياسي خصوصا، بعد أن كان- في مرحلة ما قبل الديمقراطية- محكوما فعلا بالمعنى السلبي، لمّا كان يتسم بصفة المستهلك أكثر منه للعون المنتِج والفاعل، أي لمّا كان يفتقد الآليات الناجعة.

والسؤال الآن : هل من الصعب أن نفهم أن تلك المحكومية (بالمعنى السلبي) مردّها غياب البعد التنشيطي (أو التفاعلي) لدى المحكوم؟ طبعا لا، إذ أن منزلة المحكوم الدّونية (ما قبل الديمقراطية) في مجال التحاور مع السلطة من أسبابها كون المحكوم كان"متقبّلا سلبيّا" للمعلومة، وبالتالي فاقدا أيضا، بطبيعة الحال، لمهارات الحوار مع السلطة، بالمعنى الذي تعرّضنا له في النقطة السابقة.

 فلمّا نقول "دونية" ليس المقصود البعد التقني أو الأدواتي (آليات التخاطب والتفاهم) فقط، بل المقصود أيضا هو محصّلة ذلك الضعف الأدواتي : الضعف المعنوي أي الخنوع للسلطة، لكافّة أنماطها. ولعلّ هذا الخنوع المشلّ لحركة الإبداع الدافعة لعجلة الديمقراطية، أثر من آثار الكبح الذاتي أكثر منه واحد من مخلّفات التعرّض للقمع أوللاستبداد. لعلّه من مخلّفات الاستعمار التي لم تولّه نخبنا،لا في صدر الاستقلال ولا بعده، قيد أنملة من السهر والعناية بهدف استعجال الشفاء منه ، سيما أنها - في جلّ البلاد العربية و الإسلامية- اعتبرت همّ التنمية الأكبر هو التعليم معتقدة، ربّما، أنّ ما سخّر من وسائل و ما أعدّ من برامج كان كفيلا بالقضاء عليه.

وربما لم تأخذ النخب المعنيّة داء الدّونية مأخذ الجدّ بسبب وقوعها في الخطأ المنهجي الذي طالما حذّر منه الأستاذ الجليل مالك بن نبي لمّا تمنّى لو يقوم المسلم بتقويم رؤياه لدوافع  التخلّف قائلا:" وفي المجال السياسي كانت العلاقة أيضا متناقضة في طرفيها.كان الحوار بين متكلّمين: في الطرف الأول الاستعمار، وفي طرف آخر القابلية للإستعمار.هذا الوضع الذي كان، وأخشى أن أقول ولا يزال قائما بين الاستعمار و القابلية للاستعمار لأننا لم نغير شروط القابلية للاستعمار في أنفسنا." (6) أليست المقاربة التواصلية التبادلية منهجا مغيّرا لهذه القابلية إن وجدت هذه الأخيرة حقّا؟ ما من شك في أنّ الجواب يكون بـ"نعم".

  وعلى صعيد آخر، إذا نحن نحتكم هنا إلى قواعد الألسنية وعلوم التربية فليس ذلك من باب التعقيد و إنما للسبب البسيط التالي: إنّ تكريس الديمقراطية عمل تحرري بالأساس، وإن الدراسات أثبتت أن للّغة شأن وباع في كل عملية تحرر يكون الإنسان محورها سيما أن النظام الديمقراطي المزمع إرساؤه في بلادنا إنما هو نظام من أنظمة التواصل المتعددة، وبناءا عليه فإن  أي إقصاء للعامل اللغوي من الشأن التحرري سيعدّ نقصا موصوفا وبالتالي عرقلة لأي مسار ديمقراطي في طور النشوء. " إن رؤية التواصل" عند  نعوم تشومسكي مثلا  "لها علاقة لا مفرّ منها بنظرياته في المعرفة و الإبداع و في التحرر من السلطة القمعية، و كذلك ناتجة عنها." (7)                                               

إذن في باب التمثيل البرلماني فلنتصوّر لحظة أننا تخطّينا تلك العقبة ( عقدة القابلية) بعد افتراض وجودها احتمالا، و لنرى كيف عسى أحدنا يتعامل مع بعض المواقف التي ربّما تشبه ألوانا من الإحراج قد تتعرض له جموع المواطنين لمّا يقع الدفع بثنائي الإسلام و الديمقراطية في محكّ الواقع: 

- لن أسمح للسلطة أن تلزمني بإجراء يجبرني على أداء الصلاة، ولو أني قد أكون ممّن يؤدّون، فعليّا، أضعاف الصلوات المفروضة يوميا. وكذلك الأمر بخصوص أركان الدين المتبقية : كما لن أسمح لها بأن تحرمني من أداء تلك الفرائض.                                                                               

-  يكون من باب المزح لو طُلِب من شقيقتي، مثلا، أن تمتثل إلى قانون يخوّل لبعلها أن يتزوّج امرأة ثانية ثم ثالثة ثم رابعة، إلا في صورة موافقة أغلبية جمهور الإناث على مثل هذا الإجراء. وهو شرط مستحيل التحقق.

-  يكون من باب العبثية لو أُمِرَت كل الإناث بأن لا تخرُجن من بيوتهن إلا إذا كن متحجّبات، أو أن تتركن أعمالهن(خارج البيت) ووظائفهن لبعولهن أو للرجال عامة. كما يكون من غير المعقول أيضا أن يمنع التحجب عن النسوة و الفتيات أينما رُحن وأينما كنّ.

-  لن يستطيع قانون وضعي أن يحرّم عليّ تناول المشروبات الكحولية لو أنا اخترت أن أفعل ذلك المحرّم، وفي المقابل لا بد أن يسمح لي القانون أن أنصهر في النسيج الجمعياتي حتى أكون قادرا على دعم فكرة مثل "مجتمع بدون كحول" لو خامرت الفكرة ذهني أوحصلت لديّ الرغبة في فعل ذلك نظرا لإيماني الراسخ بالقانون الإلهي المحرّم لشرب الخمر. 

- هكذا يكون لدينا أناس لن يمتنعوا عن فعل الحرام إلا بهدي من الخالق البارئ وأناس يجتنبوه بمحض إرادتهم و بفضل مشيئة الله : أناس يشربون المواد الكحولية و آخرون لا يفعلون، أناس يزنون و آخرون لا يزنون، أناس يتعاطون الربا و آخرون لا يتعاطونه و هلمّ جرّا. كما يكون لدينا أناس يتوصّلون إلى اجتناب محرّم ما ولكن لا يقدرون على اجتناب محرّم آخر، مثلما يصادف أن يعملوا عملا صالحا دون آخر. وما دمت أنا من البشر، مثلي مثل الذين قد يخطئون ومثل الذين قد لا يخطئون، قبل أن أكون مؤمنا حريصا على اجتناب الموبقات من جهة  وحريصا على أن يجتنبها الآخرون مثل حرصي على نفسي من جهة أخرى، فواجبي إزاء هؤلاء و أولئك لا يجب أن يتعدّى حدّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

المهم في كل هذا أن في كل الحالات، لا يجب أن يكون المسلم ملزما بانتظار مجيء "الدولة الإسلامية" لكي يقلع عن تعاطي المفسدات أو يكف عن الزنا أو يرفع يده عن مال اليتيم أو يتأمل الحياة بدون أن يكنز الذهب والفضة وبدون أن يجعل يده مغلولة إلى عنقه...المهم أن يكف عن ارتكاب المعاصي من تلقاء نفسه و بمحض قناعة من داخله مهما كان المناخ السياسي و مهما كان شكل الحكم السائد في المجتمع الذي ينتمي إليه أو المجتمع الذي قد يتواجد فيه ( كمسافر أو كمهاجر الخ).

و قد يعيد المسلم الكرّة في تعاطي الفساد (لا قدّر الله) ولكن الأفضل أن يكون ذلك العود بداعي الخطأ. أوقد يكون العود قد حصل بسبب قناعة  كنتيجة لسوء فهم هذا المسلم للدين أو كنتيجة لتمرّده على الدين. وفي هذه الحالة الأخيرة وجب التحسّب، في المقابل، إلى كون المسلم الغيور على دينه (أو لنقل ذاك الذي يزعم أنه أكثر غيرة من ذاك الذي وقع في المعصية) سوف يميل- ميلا أخلاقيا وشرعيا- إلى الحكم على المسلم المخالف للشرع. وبناءا على أن العلاقة التي نحن بصدد تدارسها إنما هي علاقة المسلم بنظيره المسلم في السلّم الديمقراطي و حكم الأغلبية وليس بالمقياس الديني الصرف، لا بدّ التأكيد على أنه بقدر ما يجب أن نعتبر اشمئزاز المواطن المستقيم ممّا فعله المواطن المذنب في حق الدين ردة فعل طبيعية، بقدر ما يجب أن نعتبر التزام المواطن (المستقيم و المذنب على حد سواء) بأن يحترم كلاهما الآخر في ما اختار أن يفعل، شريطة أن لا يحصل للذي يحترم الآخر أيّ ضرر، له أو لمعتقداته، سواء باتجاه تعزيز الدين (في وضع المسلم العاصي إزاء المسلم المستقيم) أو باتجاه عصيان الدين و التمرّد عليه (في وضع المسلم المستقيم إزاء المسلم المذنب: نقصد في حالة مثل السكر الخ).

 ونحن نتصوّر أن قاعدة الاحترام هذه لا بد أن تتجسم في التشريع الوضعي للمجتمع لكي تضع الحد اللازم بين ما هو وضعيّ أي ومساعد على التعايش بين كل أصناف المواطنين، بدءًا بالمؤمن وانتهاء إلى المارق أوالمرتدّ  أو الملحد أو الماأدري، وبين ما هو شرعيّ إسلامي أي منحصر في بوتقة الإيمان وبالتالي ليس مطلوب منه أن يزجّ بكل أصناف المواطنين قسرا فيها دون سواها. كما تجدر الملاحظة أن المتنفس الطبيعي لكل صنف من تلك الأصناف المتعايشة في ظل النظام ألتعددي الديمقراطي يتمثل في مختلف القنوات من منظمات ومؤسسات غير حكومية يعجّ بها المجتمع المدني من شأنها أن تتيح الفرص المتكافئة لكل صنف لكي يعزّز المسلمون من خلالها وبفضلها انتماءهم العقائدي مثلما هو الشأن بسائر الانتمآءات التي تسمح بها فكرة التعددية.

على هذا النحو نكون قد حقّقنا مكاسب في حقل التنظيم السياسي من شأنها أن ترضي متطلبات الدين الحنيف وتدعّم  لدى من هم حريصون على دينهم  ، فضلا عن إنجاز الفرائض والعبادات ،أيضا تحمّل مسؤوليات إزاء من هم أقل منهم إيمانا أو حرصا على الإيمان، وذلك بالتحلّي بالصبر وبالرأفة وبالإحسان، من أجل التعايش والتعارف و الألفة، في نسق ميداني مشترك :" يَا أيُّهَا الناسُ إنَّا خَلقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثَى وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" ( الحجرات 13) ومن أجل مرضاة الله، في نسق الإيمان: "إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم" (الحجرات 13) .

كما نكون قد حققنا مكاسب ( التمثيل الديمقراطي) لم تكن لتتحقق لولا جملة من القيم والآليات تنبع من صميم الإسلام: عقيدة التوحيد. وأعني بذلك قيما مثل الاستقامة، والعدل و الاعتدال، وعدم التولّي ("مدبرين"، "على أعقابنا") وعدم النكوص، والإقامة والوجهة الصحيحة :"فَأقِمْ وَجْهَكَ للدِّينِ حَنِيفًا فِطرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا " (الروم 30) .

فهل تخضع العقيدة لأي تمثيل في البرلمان؟ نفهم مما سبق أنّ الاستقامة تنشأ من العقيدة، من عقيدتك ومن عقيدتي ومن عقيدة كل مواطن مؤمن. وهي تنشأ بفضل ممارسة الدين بالعبادة وبشتى الأفعال، بممارسة أركان الإسلام الخمسة طبعا، وكذلك بالمعاملات ، ابتداءً من جميل الكلام ووصولا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومرورا بالبر بالوالدين وحُسن تربية الأطفال وضمان حق اليتيم وإيتاء الوارث حقه في الميراث و ما إلى ذلك من صنائع الحلال، وهي في معظمها أفعال حسية رغم أنها إما ناجمة عن رغبة ماورائية (تلبية نداء الخالق و الإقتداء بالرسول الأعظم، صلعم)، و إما هادفة إلى تحقيق رغبة ماورائية (ثواب الآخرة والتكفير عن الذنوب)، ممّا يجعل هذه الأفعال، رغم متانتها الغيبية، قابلة للاشتراك مع أفعال أولئك الذين لا يؤمنون أو أولئك الأضعف إيمانا من المؤمن الحق.

فالرغبة الدافعة أو الرغبة الجاذبة إنما هي قيمة ميتافيزيقية ثابتة، وهي ممّا لا يدع مجالا للشك مقوّية للفعل بما أنها مغذية للعقل وللروح وللبصيرة، إلا أنها تبقى ،في حد ذاتها، جوهرا غير قابل للتحويل إلى خطاب وصفي أو سياسي. وذلك بالرغم من أنه بالإمكان التعبير عن هذا الجوهر بلغة الوصف الأدبي أي في حدود الأدب الديني والعقائدي. فشتّان بين الوصف الديني (وهو ليس محلّ دراستنا) والوصف السياسي خاصة لمّا يقع تقييم هذا الأخير من المنظور التعددي (وهو ما نحن بصدد القيام به).

إذن توجد الرغبة الدينية الآن في وضع لا يسمح لا للأفراد ولا للنسيج الجمعياتي و لا للأحزاب السياسية  و لا للصحافة بأن توصلها إلى البرلمان، وذلك بحكم أن هؤلاء كلّهم  من مستعملي لغة الوصف السياسي دون غيرها، بينما هي، من منظور عقيدة التوحيد كنه ليس بحاجة إلى وسيط، إذن غير قابل للتصريف بلغة الوساطة (لغة الوصف السياسي) لكي ترسخ و تنمو وتقوى وتصمد. بل فإن مجرد التفكير في تمثيلها بالوساطة والوكالة والنيابة قد يعتبر شركا وجب تجنبه، والله أعلم.

إذن الرغبة في شأن، والفعل المنبثق عنها في شأن. هي شأنها الله و فعلها شأنه الله و"قيصر". فالقول إن شأن الفعل النابع منها هو الله إنما هو من باب التثبيت العقدي والديني، وهذا لا يخص إلا المؤمنين، ولهذا السبب فهو لا يهم الديمقراطية في شيء.أما أن نقول إن شأن الفعل النابع من الرغبة هو شأن "قيصر" فهو من باب القاسم المشترك بين مواطنين متفقين على أن يحكمهم حاكم آدميّ على غرار حكام الدنيا الذين اتفقوا مع رعاياهم على تبنّي النظام الديمقراطي المعاصر شكلا للتحاكم بينهم.

هكذا ربما كانت الدولة وما تزال متفرقة عن الدين إلا في حالات الدولة الثيوقراطية، وهو نمط لم يعرفه الإسلام قط . فمن المفروض إذن أن تبقى الدولة متفرقة عنه، في أسوأ الحالات بسبب أن ماهية الشيء القابل للتمثيل البرلماني (فكرة إنجاز الفعل) هي ذات الأولوية، مقارنة بماهية الشيء غير القابل له (الرغبة ذات البعد الماورائي).

ومن هنا نفهم كيف أن السجال حول صفة الدولة التي قد تليق بنا دون غيرها،أعلمانية هي أم إسلامية، صار فاقدا لواجب وجوده. فالدولة التي هي على ذمتنا الآن تشتمل على مواصفات الدولة المثالية.إنها  ذات مفصل علماني وآخر إسلامي وهي، بسبب هذا التمفصل، غير قابلة للتجزئة ، إذ الفعل (وهو الذي يلتفّ حوله وبكل قوة التمثيل البرلماني) لا يمكن أن يقبل التجزئة في جانبه العملي و الميداني. وهل يأمل مواطنو ومواطنات المجتمع أن يحققوا، بفضل  النظام  ديمقراطي غير الإنجاز العملي و الميداني؟ أما أسس وركائز ومنابع وخلفيات الأفكار المقترحة (على عكس الأفكار نفسها)، من عقائد وأعراف وعادات وتقاليد، فهي لن تقبل بأن يتم تحويل مسالكها، سواء أكان ذلك في ظل نظام حكم ثيوقراطي أو دكتاتوري أو ديمقراطي مثل الذي نحن يصدده أو غيره، إذ أن مسالكها الطبيعة لا تخرج عن بوتقة الثقافة. وإن فعلت، فالمشكل لن يكون محسوبا، لا على المنظومة الديمقراطية (بدعوى مثلا أنها لا تتماشى مع الإسلام) ولا على الحاكم ولا على المحكومين. فالمشكل عندئذ يكون في الثقافة بالذات (8) 

إن الدولة العربية والإسلامية المعاصرة علمانية من ناحية وإسلامية من الناحية الأخرى. فهي علمانية  طالما أن الفكرة المرغوب في تحقيقها من طرف المواطن المؤمن ليست قابلة للترجمة في قنوات التمثيل الديمقراطي المتصلة بالبرلمان إلاّ في وجهها الظاهر الذي يرضى عنه المواطن العلماني أو المواطن الملحد أو المواطن الاّأدري: الوجه الملموس والمحسوس والقابل للتوظيف المباشر في صورة تبنّيه من طرف السلطة التشريعية ( البرلمان) ثم إحالته على السلطة التنفيذية (الحكومة) للتطبيق. ففي هذه الصورة لم يعد لمفهوم مواطن أو ناشط "علماني" أي معنى طالما أنه، بتلك الطريقة في إيصال الفكرة، يكون قد ضمن لنفسه شرطا أساسيا كان يلازمه كمطلب سياسي : عدم المزج بين الديني و الدنيوي.

 كما أن الدولة المعاصرة إسلامية لأن الفكرة المرغوب في تحقيقها من طرف المواطن المؤمن ما كانت لتمرّ إلى مراحل متقدمة من التعبير و المنافسة الفكرية (في البرلمان) ثم ما كانت لتربح أصواتا لفائدتها (على غرار فكرة المواطن العلماني أو الملحد أو الاّأدريّ) لو لم تتخطّ بنجاح مرحلة ما قبل اتصالها بقنوات البرلمان، أي مرحلة "الحمل" و التخمّر في عديد أجهزة المجتمع المدني من جمعيات و صحف ونشريات  مكتوبة ومسموعة ومرئية.ففي هذه الصورة لم يعد لمفهوم مواطن أو ناشط "إسلامي" أي معنى طالما أنه، بتلك الطريقة في إيصال الفكرة،يكون قد ضمن لنفسه شرطا أساسيا كان يلازمه مثل ظلّه كمطلب سياسي: عدم الفصل بين الديني و الدنيوي.

فلئن تحقق الفصل لدى العلماني فذلك الفصل إنما هو في الآن ذاته امتداد لأطروحات إيمانية أو لأخرى غير إيمانية على حد سوى. ولئن تحقق المزج لدى المؤمن الحريص عليه فذلك المزج إنما هواسترداد للدّور الطبيعي للدين بمعنى أن الحسي أ و الملموس يأتي كامتداد منطقي و طبيعي للعقائدي.

فالإيمان، وهو القوة التحتية للفكرة المرجوّ تحويلها إلى قرار أو إجراء أو قانون، يستحيل تمثيله على أنه كذلك. إنه نسيج خاص بشخصية المؤمن دون غيره من المواطنين، و المواطن صاحب الإيمان "الصارخ" (الذي يسمّى الآن بالإسلامي) يشترك مع الآخر،صاحب الإيمان"الصامت" (الذي يسمى الآن بالعلماني) أوالملحد أو الاّأدريّ في تحويل المسلّمات والمقدمات، سواء أكانت هذه إسلامية أم وضعية أم غيرها،مختلفة عن بعضها البعض باختلاف أصحابها، إلى طموحات و تطلعات وآمال ورغبات و اقتراحات من شأنها أن توحّد أصحابها في المجال الميداني و الأدواتي والوظيفي. وهذا اللون من الوحدة الاجتماعية راجع بالأساس إلى الهدف السامي الذي لا يمكن أن يشك أو يشكك فيه طرفان: المصلحة العامة.

في نهاية المطاف يمكن القول إن المؤمن الحريص على المزج بين الدنيوي والديني لن يزيد عن الفصائل العقائدية الأخرى (وحتى غير المؤمن وكذلك المؤمن الملتزم بعدم الخلط) شيئا بخصوص الممارسة الديمقراطية. وإن هو اعتقد أنه  يتفوّق على الآخرين، أو على الأقل، يتميّز عنهم في شيء عدا التسابق و التنافس النزيهين اللذين تسمح بهما "قوانين اللعبة" (الديمقراطية) فقد يكون هذا الشيء هو محصّلة إيمانه المبدئي بأهليته  للانتفاع بالآثار الحسنة للإيمان،الذي يضاهي إيمانه بعدم التفريق بين الدنيوي والديني، وكذلك ناتج عنه.

 فهذا الأمر، أي الاعتقاد بالتفوّق والتميّز،أو حتى بالامتياز، لابدّ أن يؤخذ كما هو،بما أنه إيمان وليس فعلا، أعني أن يبقى خاضعا للمعايير التابعة لبوتقة العبادة :"إنَّ أكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أتْقاكُمْ" (الحجرات 13)، لا  لتلك التي يتم الاتفاق عليها كآليات منظمة للحياة العامة (شؤون الدنيا وليس شؤون الدين) والتي تعنى بالتجسيم الأدواتي للإيمان (لأي نوع من الإيمان وليس بالضرورة للإيمان الإسلامي) ولا تعنى بالإيمان نفسه، ممّا لن يمسّ بسوء، لا الأس الديمقراطي و لا الأس الإسلامي. وقد تكون هذا عيّنة من حصيلة التقدّم المنهجي الذي لا بدّ أن يطال كافة أوجه الحياة، والله أعلم.

محمد الحمّار

المراجع والهوامش:

(1) وقد سلموا له وثيقة شهيرة في هذا الصدد بعد بضعة أشهر من تسلمه الحكم.

(2) دراستي " مقاومة التخلف اللغوي بوابة لانفتاح الحداثة على الإسلام"/ " مقاومة التخلف اللغوي مدخل الحداثة إلى الإسلام"؛ نُشرت في أكثر من المواقع.

(3) ولهذا السبب كنتُ في البداية أسميتُ الإطار الفكري الذي سأعمل فيه "التحت اجتهاد".                                                                                            

Authier et Levy   (1996) Les Arbres de Connaissances. Paris : La(4) Découverte/Poche. Cités par Bernd Ruschoff  sur http://www.uni-ess.de    (page 2/10)                                                               

                                         (5)

Ralph Waldo Emerson , «Essays », Ed.Dent Dutton,1976,  page 311

                                                  (6)" دور المسلم ورسالته". دارالفكر، دمشق، 1989. مع الملاحظ أنّ الفكر الإسلامي يبدو أنه تراجع مؤخرا في تصديق معاينة مالك بن ننبي.  

          

William H.Walcottذكره   (7)

Linguistic Competence and Generative Grammar  في                                                                                               http://www.radicalpedagogy.icaap.org   من 4  ص 2

لمزيد التعرف على المنهجية اللغوية: المرجع عدد 2.

(8) وأنا أعتقد أن هذا المشكل موجود فعلا في بلداننا. ولهذا السبب ناديتُ و ما زلتُ أُنادي بما أسميتُه "الثقافة الوسيطة"؛ إيديولوجيا انتقالية تساهم في بلورتها كافة الفعاليات الفكرية، بالإبداع والتوليد والتحويل والبناء المعرفي.                                                                                  




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=20954
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 08 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29