• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : ألعائد ... قصة قصيرة .
                          • الكاتب : انمار رحمة الله .

ألعائد ... قصة قصيرة

 حين فتح عينيه ، صُدِمَ بلون اسود يصبغ المكان، والمشيعون قد رحلوا تاركين وراءهم جثةَ من شيعوه ودفنوه قبل دقائق رتيبة، ولم يعد هناك سوى امرأة بعيدة تضج بالبكاء، صنعتْ نسوةٌ مولولات حولها دائرةً إلى جانب قبر حديث، ومنظف يجول بين القبور يجمع  أوساخاً خلّفها الزائرون، وشيخٌ يحمل بيده كتاباً مقدساً، ينفّسُ به عن ضيق النائمين وخوفهم وسفرهم الطويل. الإحساس الأول الذي ظَهَرَ، ضيقٌ في التنفس يهجم رويداً رويداً، ورائحةٌ عجيبة تملأ المكان الضيّق الذي لا يتسع إلا لنفر واحد.(لعله حلم...؟) سأل نفسه وهو يحرك يده الخادرة ليكتشف بعد ثوان انه فعلا قد دُفِنَ وانه سيواجه أسوأ تجربة ستمرّ به في طريق حياته الذي التصقت به المفاجآت كالأرصفة. برودة المكان تغازل جسده المُلقى تحت التراب، لتعانقه أخيراً فيزول استغرابه عن سبب البرد، وإذ لم يقتله البرد سيقتله طمعُ القبر بالأوكسجين الذي سيُقدّرُ بالذهب بعد مدة وجيزة، وإذ لم يقتله الجو الخانق سيقتله الجوع أو العطش، وإذ لم يقتله الجميع سيفتك به الصمتُ المطبق الذي أوشك  أن يسلبه لبّه.
يحاول أن يخدع ارتباكه، فيدير رأسه المثقل قليلاً، ولكن عبثاً يحاول، لأن اللحد الذي أحكم عضته كتمساح، لن يسمح لضحيته (الرأس) بالمغادرة، بل الانتظار إلى وليمة الدود المتكررة.
 
هل سأستسلم ...؟) سؤالٌ أخافه من واقع جديد لم يألفه، ومشكلة ليست كالمشاكل التي واجهته في حياته، كـ (أريد مصروفاً للمدرس الخصوصي/ وفّر لنا مالاً لأشتري عقداً ثميناً كالذي لدى جارتي اللعينة / سيدي ثمن الخبز بـ.../ أنا موظف الكهرباء وعليكم قائمة بـ.../الحر/البرد/أصوات البائعين/لعنات النسوة والشيوخ المتجمهرين على أبواب الدوائر الحكومية. مشكلة من هذا النوع لم تصادفه، حيث لم يألف الناس أن أمواتاً يصحون بعد موتهم ، ولعل تلك الحادثة التي هزّتْ مدينته في تلك السنة، حين فتح أحد الموتى عينيه على المغتسل، هذه الحادثة الوحيدة التي أثارت ضجة كبيرة منذ زمن بعيد، ولو قارنها بحالته فالسابق أوفر حظاً منه، ومن ضمنها أن الأول اكتشف النّاس رجوعه للحياة قبل غسله وتشييعه ودفنه.
اللحظات تقرع في أذنيه كالطبل، والتساؤلات تحيط به كذئاب مفترسة من كل جانب، ماهو مشروعي المقبل للخلاص من محنتي هذه.؟) سأل نفسه في هذه اللحظة المليئة بالجنون، من سيفتح عليّ باباً من التراب.؟ ومن سيفكر بي والكل قد ناموا ليلتهم متناسين الرجل الذي يرقد الآن كما يظنون تحت لحاف التراب، من سيفكر بأن الحياة قد عادت إليّ من جديد ليزورني ويزيح عن كاهلي عبئاً هو الأثقل في العالم...؟). اليأس يتسلل إلى مغارة روحه المظلمة.تحسّست روحه المخنوقة ذكرياته الماضية، مرّتْ كأنها شريط سينمائي مصور، منذ اليوم الأول في المدرسة. (رحبوا بالتلميذ الجديد ) هكذا نطق معلمه الطويل ، المشتعل شيباً ، ذو العطر والهيئة اللتين يأتي بهما كل صباح، والأطفال المعبؤون  برائحة العرق والرغيف والمرق، ومطالعتهم للطفل الجديد وكأنَّه نزل من الفضاء. لعل الحبس الانفرادي الجديد ذكّره بطفولته الغائبة، ففي الحالتين تلاقفته أحضان حنونة دفيئة، في طفولته نام في حضن أمه المرأة، وألان هو ينام في حضن أمه الأرض. 
تذكّر كل شيء، أصدقاءه / أمه / أباه /زوجته التي لا يعرف أي ثقل سيمرُّ عليها ووحشة من دونه / شارعه/عمله/ كتبه ....كتبه الثمينة التي فرّط بها وليتها تأتي إلى صديقها القديم لتنقذه، تلك الكتب التي ما ثمّنها إلا هو، ولما تزل على الرفوف البليدة هنا وهناك مع مجموعة ضخمة من الحاجيات النادرة، والتي باعها كلها دفعة واحد، المكتبة والكتب والأشياء النادرة لديه، لتسديد أجور مادة (البلاتين) الثمينة التي زرعها في ساقه احد الأطباء المشهورين في مدينته .في ذلك اليوم حزن حزناً شديداً لأنه ضحّى بكل ما يملك من كتب ثمينة، من أجل الحصول على قطعة معدنية بحجم التينة أو أكبر بقليل، وعاد ليضحك ضحكات خافتة بعد انتهاء العملية، حين اكتشف أن كل الكنوز المعرفية وكل تلك الكتب الثمينة، تساوي قطعة بلاتين تافهة في نظره، وكل ما قرأه وتعلمه باعه ولم يصل لثمن البلاتين المغرور .
يفزع الرجل تحت التراب وهو ينتبه لكمية الأوكسجين التي بدأت تقلُّ وتنفد لتصبح ثمينة إلى أبعد الحدود. تنتابه رغبة الصراخ /البكاء/العويل. ولكن الرغبة في الخلاص تؤجل كل مشاريعه لاحقاً، وتقف شاخصةً أمامه بلا حراك. يداه تخربشان بحزم وجهَ التراب الصامت، لأن الحياة تناديه كعروس بكر، في الجانب الآخر من ضفة الدنيا، جالسة كحورية بحر تمشّط شعرها الأشقر. كيف أنجو..؟ ...كيف أنجو..؟) بدأ يستنطِق عقله ليدلّه على طريق نجاة، فالحياة تهرول مسرعة، وسلسلة الزمن أصابها الهذيان حين تحولت الثواني إلى دقائق  والدقائق إلى ساعات.وحيداً يصارع كي لا يصل ذلك الزائر المخيف الذي يدعونه الموت، إلى بستان روحه المعشوشب. الوقت يمرُّ والنّفَس يضيق وهو يفكر ولكن بلا جدوى، هناك بدأ النعاس يقترب لينقضَّ على فريسته النائمة بلا حراك، تسلل شعور اليأس إليه، حين أحسّ ببرودة تغزو أطرافه، وخدر يغفو على صدره. فتح عينيه بقوة ودهشة بعد أن التقطت أُذناه المتربتان  دبيباً، حرّك الدم في عروقه وهو يتحسّس تلك الأقدام الخفيفة على القبر (إنها أرْجُل...؟!) سأل نفسه مستغرباً، وبالفعل بدأ التراب يقلّل حمله الثقيل، حين تهاوت الحركات الحافرة فوق سطح الأرض، معلنةً نبش القبر بسرعة جنونية، حتى كُشِفَ خمارُ التراب وبان  وجه السماء ،فتسللت نسائمُ إلى جوف القبر لتلاطف رئته المخنوقة. فتح الرجل عينيه على مهل /تراخت أعضاؤه واكتفى بالنظر إلى الأكف التي أزاحت عنه القماط الأبدي، و إلى المصباح الذي يصرخ متوهجاً، فالوقت أشاح عن وجه الليل ، والشبحان اللذان نبشا القبر واقفان قربه بلا حراك، وكأنهما جذعا نخلتين، لم يعلم الرجل المدفون ولم يسأل لماذا...؟ولم...؟وكيف..؟عرف النابشان أنه على قيد الحياة فنهض على مهله متأوه /نافضاً ترابه، ولم يدر انه قذف ثلاثة أرباع الخوف في قلبي الرجلين اللذين وقعا على مؤخرتيهما، وهما يصرخان من شدة الفزع. دقّق الرجل العائد النظر في وجهي الرجلين، فلم يعرف لماذا تصرفا بهذه الطريقة ،وهل يعلمان...؟ صحيح كيف علما) إستفسر وهو يقترب منهما وهما يبتعدان ببطء، رفع الضوء الذي سقط من يد أحدهما ليرى وجهيهما، فأطلق ضحكة عالية ... عالية جداً كادت تحيي كل الأموات، حين اكتشف أن الشبحين اللذين نبشا قبره هما، دفان المدينة المعروف والطبيب الذي زرع في ساقه البلاتين.
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=21479
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 09 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16