• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : أحضان دافئة .
                          • الكاتب : يسر فوزي .

أحضان دافئة

 توافدوا من جميع الأصقاع، أعناقهم مشرئبّة، ترنو إلى الانعتاق من قبضة الصّقيع...نصبوا الأوتاد والخيام قبالة مشرق تكدّست فوق ظلاله حرقة الثّلج... طال بهم الانتظار، تململت الجموع وتعالت الأصوات...
قال أحدهم: " صبرا، ستجود السّماء بفجر جديد، بربيع يرفل في بياضه، يشرّع إيقاع الألوان .. أطلقوا الزّغاريد، حلم النّجاة بات على قاب قوسين... " ثمّ لم يلبث أن حوّل عينيه، وجاه خيمةٍ شُدّ وثاقها في قلب السّاحات المكتظّة بضجيج الهتافات...كانت الجموع تتوافد إليها و تجلس القرفصاء أمام خيمتها، حتّى غدت واضحة معالمها، انبثق وجهها المألوف من بين الوجوه الشّاخصة، كانت تتحدّث بحرقة متوتّرة، وكأنّ مرارة الكون توقّدت نارا تلهب حنجرتها، فأشعلت مجاديف الحرف ونزيفها المطعون بالمعاناة... اعتصرته رجفة سَرَت بروحه المتطلّعة لسرّ الحياة، يهصره شعور التّلاشي في أحضانها الدّافئة، في الأيّام الخوالي ... أشرق وجهه وبين ضلوعه فرحة وأعياد. وتراقصت أمام عينيه لحظات حميمة افتكّها من ساعاتٍ خواء... كان يتخبّط في حيرته، مردّدا بصوت خفيض، إنّها هي تلك الفتاة المنبجسة في لحظات الصّفو العابرة في حياتي .. و عند الغفو  تدغدغ أحلامي، وتطرق أبواب قلبي، و تنتزعني من ظلمة أحشائي...
عَبَر الجموع،ضاغطا بواقي حلمه بين ضلوعه المرتجفة، تخلخله الأسئلة وتدفعه إلى التّقدّم، إلى أن وصل أمام خيمتها ونفذ إلى مسامعه صوتها الذّي يعرف نبراته جيّدا، يحدّق في الفراغ بعينين شاخصتين ونتوءات الصّمت تخز كيانه المضرّج بعرق الذّاكرة.. أخذت روحه بالشّروع في التّهاوي، يكاد يفقد توازنه، يتأرجح بين الدّهشة والضّياع وتغمر كينونته أمواج حالكة تتكسّر عند حافّة المشهد الذّي أغرقه في ظلمة الكون... فتاة أحلامه أضحت كسيحة الأطراف، تطلّع إلى عينيها الذّابلتين و القلق الباذخ الجاثم على أهدابها الكثيفة السّوداء، ووجهها المضرّج بالأحزان يرزح تحت سطوة الألم المتهدّل على أطرافها المتيبّسة، تحاول جاهدة الابتسام، كلّما تناهى إلى مسمعها دعوات تمطر روحها بعض السّكينة والأمل، و كلّما صدحت الحناجر بالهتاف وأطلقت النّسوة الزّغاريد، كانت تستحثّ عزائمهم و توقد في أرواحهم حبّ الحياة والعزم على مواصلة المسيرة، مسيرة النّصر و عناقيد الحرّية المشتهاة. كانت تروي تفاصيل حياتها المريرة، كيف انتزعوها من أهلها عنوة ودنّسوا مشوار حياتها وطمسوا معالم أرضها... كيف أسدلوا بينها و بين حبيبها الحجب الواهية وتداولوا على اغتصاب طينها البكر وسط صمت عري الكون... كانت تدفعهم إلى التّقدّم، قالت بصوت يكسر هزيم الرّعد:
" اخلوا السّاحات و واصلوا الزّحف، الهتاف سيصدأ في حناجركم الملتهبة و آذانهم أصابها الصّمم، لن يحرّكوا ساكنا، هذا المشهد المطلوب وأنتم تحقّقون لهم مآربهم ومزاعمهم ...حان الوقت لقطع اللّجام ، إنّي أسمع خببا يهزّ الأكوان، وأنتم من ستكسرون قيود الصّمت و ستعلوا أصواتكم السّاطعة في كلّ الأزمان..."
تعالت الأصوات من كلّ فجّ " لن نترك مقامك ، نخاف عند الزّحف أن ينقضّ عليك الغلاظ الكواسر وينهشون ما تبقّى من عودك المبارك .."
القلق الملول يتسلّل إلى معالم وجهها و يهزّ روحها المدجّجة بحرقة مدقعة : " هل حملت أدراج الرّياح حديثي وأفرغته عند مصبّ النّسيان؟ ماذا أصاب بصيرتكم، لم يتوقّف تاريخنا عند أقدام زعيم أو عمائم تدثّر رؤوس القباب، أنتم الزّعماء و أنتم العمائم وأنتم مطر السّماء ... لا أريد شفقة ولا منّة ولا سلوى من أحدكم ...المدامع لا تحفر في الصّخور والخوف يكبّل أقدام الرّجال و يشرّع لطم الصّدور .. وحده المطر الهادر من يحفر في شرع الكون أخدود الحرّية والنّجاة  إلى يوم النّشور" .
تقدّم نحوها وجثا قبالتها، وأصابعه الرّاجفة تنزّ عرقا باردا، فتسري رجفة تهزّ روحه النّازفة :
- " لمَ لا تزحفي معنا؟؟؟ سنحملك على الأعناق..."
تناهى إلى سمعها صوته المرتجف، المشحون بعاطفة آسرة، تخشّبت أطرافها من فرط الذّهول، لم تتبيّن ملامح وجهه، ولكن ذاك الصّوت الرّخيم، المحفور في قلاع الذّاكرة فتّح أحداق بصيرتها... لملمت تسارع نبضها المتوحّد بنبضه العاشق، وابتسمت في دَعَةٍ، قالت:
- " كلّما فاحت سنابل الضّوء، أتنفّس سرّ الماء المتدفّق في مملكة الذّاكرة. وحده العشق تعرش عناقيده ما بين ماءٍ ومـــاء."
حدّق مذهولا بعينيها... الجمود يدقّ أطرافه المتهاوية في صمت الكون، يفترسه وخز الأشواك وأطلقت روحه صرخة تهتزّ لها الأرحام ساعة المخاض : " قد عبث الأوغاد ببصرها، كي لا تقشع مداد النّور القادم على مهل فوق هودج الصّباح"...
- "هودج الصّباح نسائمه تلفح أرواحنا. كن هنيئا، البصيرة متيقّظة.. عليكم فقط بالزّحف على ليلٍ يشتدّ سواده ويتعاظم أواره ..."
- " صقيع اللّيل مازال يخِزُ أجسادنا كسيف حادّ الحواف، يُدمي أرواحنا ويُضرّجها بسيلٍ من الكلوم والأحزان..."
دهمتها هالات الدّهشة وبصرها الشّاخص يرتطم بأمواج هائجة، مثقلة بالألم .. يحشرها في ظلمة أقبية بلا نوافذ، تتمشّى في أطرافها المتيبّسة، فتُشعل جذوة روحها غضبا هادرا ..
- " لا تحدّق في وجهي المنهك، لا تشفق على أطرافي الكسيحة، مفجوعة أنا بعاطفتك المبتورة...
انظر إليّ، كلّما رماني حجر أسودٌ، أنحني وألتقط حلمي بين ذراعيّ وأواصل المسير."
اهتزّت أوتاد الخيام لصدى صوتها المضرّج بسطوة الإيمان، وابتدأ الزّحف وخَلتِ السّاحات... لم يبق سوى خيمتها المنتصبة في قلب الكون، وعاشقا جاثيا تحت أقدامها يبكي مصاب حبيبته، تدمي قلبه قسوة لم يعْهَدها، لم تَكُ قطّ من خصالها....
- "سأوارى الثّرى بعد حين ....
لا تبحث عن سارق غضارة عشبي، بل ابحث عن غيمة ماطرة تروي بها غلّة الجوى في صدري ... حينها فقط ستُجدَلُ ضفائر الرّبيع في فوهة الصّقيع."
يرتفع جسدها بين أرضٍ وسماء...
- " المؤمن لا تُزلزلُ أقدامه عند أوّل صدمة جائرة.... تذكّر أنّ خمائل الحق تُضيء قناديلها مــا بين موت وموت...."
كان يراقبها في صمت، تحدوه رغبة في عناقٍ أبديّ يُصهر روحه بين أحضانها الدّافئة. دمعه المهراق يسّاقط في جيوب المدى... ينطلق في ركضٍ محموم، لهاثه يمتدّ في أطراف الكون، يدقّ الأجراس ويضيء المآذن. يصرخ حدّ التّلاشي في أحضانها و يخطّ فوق الرّمال الملتهبة : أدرك الرّبيع الآن من دسّ ورقه الأخضر في منفى الأشواك... من مرّغ غضارة عُشبه في وحل الظّلام، من حمّم عطره، ونضارة زهره ... من رشّ المروج الخُضر نقيع الحقد الأسود .... لن أهيم على وجهي بعد اليوم، الأطراف الكسيحة ستنبتُ ألف قدم و العيون البصيرة سينبجسُ منها النّور ... حان الوقت لضمّ الضّلوع.
ينفض عنه غشاوة الرّماد، يحمل قلبه وضلعه الأيسر و يواصل المسير قبلة خمائل النّور .. المطر يغمر نبضه المُتسارع ... يغسل أوجــــاع الرّوح.
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=22988
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 10 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29