• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ملحمة عاشوراء بين نزيف الدماء وخلود الأسماء .
                          • الكاتب : احمد العقيلي .

ملحمة عاشوراء بين نزيف الدماء وخلود الأسماء

 تمهيــد

عاشوراء لوحة قدسية من عالم المثال خالية من الأنا عارية عن الذات يدرك مضمونها ويستنطق حقائقها ويستضيء بنورها ويستكشف أسرارها من صفى وارتقى لعالم المشاهدات القلبية ، لكونها الصورة الجامعة الحقيقية للخليفة الذي أراد الله تبارك وتعالى أن يجعله في أرضه ، كما أنها تمثل غاية الأوامر الإلهية منذ أبينا أدم والى يوم ينفخ في الصور ، لاسيما وهي _أي_ لوحة عاشوراء القرين التكويني للكتاب التدويني المنزل على الخاتم صل الله عليه واله وسلم فكانت لوحة جلية ناطقة لكل ما في كتاب الله العزيز الذي قال عنه عز من قائل " ما فرطنا في الكتاب من شيء " ليكون سيد  الشهداء "ع" الدليل الناطق التام في عرصة كربلاء لوحدة الكتاب و العترة والتجلي الأعظم لقول جده المصطفى الأكرم "ص" واله وسلم حينما قال "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".

لذا كان مصمم لوحة عاشوراء صلوات الله عليه التعبير الحقيقي والحجة البالغة والمثل الإلهي الذي لايشبهه شيء في كل شيء ، مختزلاً في لوحته كافة العناوين ومبطلاً كافة الحجج لغير الله ومانحاً الخلود للأوامر التدوينية في عالم الإمكان عبر صور ومعانً أتقن تقديمها لتبقى عالقةً في أذهان الموجودات ، فأنئ لليراع أن يسطر ما احتوته صفحات العشق الإلهي عبر لوحته التي صممها من شريان الحياة الطاهر له وللنخبة الطيبة الصادقة من أهل بيته وأصحابه "ع" سيما وأن ما يسطر عبارات و"العبارة حجاب للمعنى" كما يقول العارف الرباني الإمام الخميني "قدس"  ، فكيف لنا أن نقول ونصف بعد ذلك وعاشوراء كلها معنى ؟!! ، وأنئ لعالم الإمكان أن يجد للحسين "ع" بديلاً ليكون الذِبح العظيم الذي يفتدي به الخالق نداءات الأنبياء والمرسلين ومضمون الرسالات السماوية جمعاء وهو القائل "ع "عن زحفه بصغاره والنسوة من أهل بيته إلى كربلاء رداً على سؤال ابن عباس حبر الامة " شاء الله أن يراني قتيلاً وشاء الله أن يراهن سبايا " .

عليه فأن الحسين صلوات الله عليه اختيار الله ليكون الصورة الإلهية المدافعة عن نداء الحق الثابتة على الطاعة الباذلة غاية المجهود السامية فوق كل الاعتبارات الواقفة بوجه كل الافتراضات " ليحيى من حيى عن بينه ويهلك من هلك عن بينه " فهل بعد اختيار الخالق إختيار؟؟؟.

وإن أدركنا دفعاً للجدل شيٌ من اختيار الحق في أن يكون الشكل الترابي للحسين وأهل بيته وصحبه ودمائهم ثمناً يحفظ مسيرة البناء للإنسان الكامل من آدم وإلى الخاتم فهل لنا أن ندرك مضمون خدر الولاية وشرف الإمامة عقيلة بني هاشم زينب "ع" وكيف كانت صمام أمان اللوحة العاشورائية والمدافع عنها وحلقة الوصل بين الاختيار الإلهي ونتائجه في عالم الإمكان وهي " العالمة غير المعلمة " كما يصفها سيد الساجدين "ع" وهي القائد العسكري الفذ الذي تعلمنا من أبا الأحرار كيف ننظر إليها بعز وعظمة وإباء لا بضعف واستكانة وانكسار كما يحاول البعض أن يتوهمها رغم أن سيد الشهداء نقلها للبشرية جمعاء كصورة للأنثى المؤمنة الواعية ليلة شرح لها تفاصيل معسكره وخطوط دفاعاته وبين لها إصرار وعزيمة جنده ليلة الواقعة وهي ذاتها القائلة حينما وقفت على مصرعه صلوات الله عليهما بشموخ وعزة وكبرياء "اللهم تقبل منا هذا القربان" وهو معنى لا يصدر إلا ممن عرف الله وأطاعه ويمتلك القدرة على التضحية في سبيله إلى ما لا يمكن أن يحتويه لب أو يسطره يراع ، ومثلما ليس لأحد أن ينكر من أن عقيلة بني هاشم هي الحارس الأول لمضمون تلك اللوحة العظيمة من أن تشوه ميدانياً أو تُحجب حقيقتها عن الرأي العام الإسلامي بأقاويل المتقولين أو أبواق الإعلام السلطوي إلى يومنا هذا وهو الدور الذي لا يمكن لغير لبوة علي أن تقوم به في ميدان الكلمة الحرة الهادفة فليس لأحد القدرة أن يجعل من عاشوراء المفتاح الحقيقي للارتباط بصاحب الأمر "عج " وميدان البيعة والوفاء له دون أمضاء ولي الدم القائل " لأندبنك صباحاً ومساء ولأبكين عليك بدل الدموع دما " . لان السلسلة واحدة والمصدر واحد والهدف واحد وان تعددت الأدوار فلا معرفة لعاشوراء دون إمضاء ولي الأمر "عج" ولا قرب منه ولا قوة على الفوز بطاعته ورضاه دون عاشوراء .

وما هذه السطور سوى خطوة على طريق طويل قدم الله لنا فيه خير عباده ليحفظ دين خير خلقه دون أن يكون بحاجة ألينا عسى أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وعسى أن نكون ممن يمتلك أذناً واعية فندرك التدبير الإلهي ونشرع في تعزيز ذلك الدور العظيم لخيرة الله وصفوته بدأ من تنظيم علاقتنا بالحق ثم الأدنى فالأدنى وهكذا حتى نصبح مصداقاً لـ" ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير " فنكون أهلاً للالتحاق في ركاب " ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " لأننا نؤمن ان الحسين لازال في كربلاء ينادي في كل جيل " هل من ناصر ينصرنا " .

ميدان كربلاء تجليات الوراثة

ليس لي ولا لغيري استطاعة استنطاق حقائق عاشوراء وإدراك مضامينها وامتلاك أسرارها دون أن تكون هناك موافقة من مصمم اللوحة نفسه وإمضاء ولي الدم روحي وأرواح العالمين له الفداء كما أسلفنا ذلك لأن اختيار الحق تعالى لسيد الشهداء للمحافظة على جهود 124 ألف نبي ومرسل التي لولا وقفته تلك لذهبت أدراج الرياح هي التي منحته هذه الميزة والمكانة الإلهية كما منحته المودة في قلوب المؤمنين والملائكة اجمعين اذ يقول سبحانه " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا  " سورة مريم ، وليس ذلك فحسب بل الخلود في عالم الإمكان ، وهذه حقيقة مطلقة وإشارة عظيمة تضمنتها الزيارة المعروفة بزيارة وارث "ع" وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد ، إذ  يقرأ الزائر فيها "السلام عليك يا وارث ادم صفوة الله السلام عليك يا وارث نوح نبي الله السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله السلام عليك يا وارث موسى كليم الله السلام عليك يا وارث عيسى روح الله السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين ولي الله " ، "عليهم وعلى محمد واله الصلاة والسلام" وبنظرة للأسماء التي تضمنتها الزيارة الشريفة نرى أنها أسماء أولوا العزم من الأنبياء "ع " ما خلا اسم أبي البشر أدم "ع" قال تعالى" وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا " سورة طه ، وأسم سيد الأوصياء علي "ع" ومعنى تسميتهم بِأولي العزم أي أنهم أصحاب الشرائع والسنن التي انطلقت من مضمون رسالاتهم جميع البعثات الإلهية للأنبياء والمرسلين حتى بلغت هذا العدد الهائل اما العزم في اللغة فيعني توطين النفس على الفعل وفي ذلك قوله تعالى " فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " سورة آل عمران ، وفيه أيضاً أن  اختيارهم وتسميتهم بأولي العزم فلأن كل نبي جاء من بعد ادم "ع" تعبد بما كان عليه أدم "ع" إلى إن جاء نوح "ع" فجاء بمنهاج جديد وسنة جديدة وعزيمة ترك ما جاء به ادم من غير كفر به وهكذا كل من جاء من بعد نوح "ع" إلى أن جاء أبونا إبراهيم "ع" فجاء بسنة جديدة وشريعة جديدة وعزيمة ترك ما جاء به نوح "ع" من غير كفر به وينطبق الأمر ذاته على موسى وعيسى "ع" وهكذا حسب التسلسل الزمني إلى الخاتم "ص" واله وسلم إذ جاء بسنة جديدة وشريعة جديدة وعزيمة ترك ما جاء به عيسى "ع" من غير كفر به وأصبح الدين عند الله الإسلام مما يعني أننا حينما نقرأ هذا السلام في الزيارة نقر بأن إمامنا الحسين "ع" هو وارث لجميع الأنبياء والمرسلين ، وأهم ما ورث في ذلك دعواتهم لطريق الحق وبالتالي حينما وقف في عرصة كربلاء وقفته العظيمة كانت وقفة تجلي لمعنى الوراثة الالهية وحفاظاً على تلك الرسالات السماوية والنداءات الإلهية ودفاعاً عن تلكم الجهود للأنبياء والمرسلين التي ارتضى الباري سبحانه أن تجتمع جميعها في الدين الإسلامي الحنيف وعلى يد سيد انبياءه ورسله "ص" واله وذلك بقوله تعالى " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" سورة ال عمران ، ويكفينا الوصف الإلهي للدعوة المحمدية  بـ ..." وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " سورة الانبياء ، للقول بعالمية الرسالة الأحمدية وشمولها لجميع الرسالات التي سبقت أولاً ومنزلة حاملها ثانياً وان ما أتى به هو مضمون لما جاء به جميع الأنبياء والمرسلين ، ومن هنا يتبين لنا المراد من قول ريحانة رسول الله عن طاغية عصره " ومثلي لا يبايع مثله " ، لتتوج جهود الأنبياء والرسل تلك فيما بعد على يد خاتمهم وسيدهم في يوم غدير" خم " بالبيعة للإمام علي بن أبي طالب "ع" أميراً للمؤمنين وتبياناً لشكل نظام الدولة الإلهية وكأن الرسول الأعظم يقول للإمام أمير المؤمنين في بيعة الغدير" خذ يا علي هذه نداءات السماء وجهود الأنبياء والسبيل الذي دعي العباد ليسلكوه قد أمرني الله أن أحملك وأولادك أمانة الدفاع عنها إلى يوم الدين أو حتى يقوم القائم من ولدنا " وهنا يتضح لنا أول أسباب اقتران اسم أمير المؤمنين "ع" بأسماء أبو البشر وأولوا العزم من الأنبياء في الزيارة الأنفة الذكر وحينما يكون أميراً للمؤمنين فيدخل في ذلك العنوان جميع من امن بالله واليوم الآخر ، فتبصر!! .

لقد كانت عاشوراء التجلي الحقيقي لمفهوم الوراثة الذي جاءت به الزيارة العظيمة وميدان التطبيق الحقيقي لمشروع الخلافة الإلهية وتبياناً لسبيل العزة والحمد الذي أراده الله في عالم الإمكان لولد آدم عبر هذه السلسلة العظيمة من الأنبياء والمرسلين فكان الوارث "ع" وهو الملم بتفاصيل الملحمة والمُوطن نفسه على مصائبها بعد أن عُد في حجر النبوة والخلافة الحقة حريصاً على أن تصل عاشوراء إلى جميع الأجيال وتُسقط معادلة الزمان والمكان وتكون مصدر يلهم الأحرار الأباة في كل عصر ويقض مضاجع الطغاة وفي ذلك نفهم مبتغى الإمام روح الله الموسوي الخميني اعلى الله مقامه الشريف اذ قال " كل ما لدينا من عاشوراء " لكونها – أي – عاشوراء التجلي الحقيقي لقوسي الصعود والنزول وصورة المشيئة الإلهية في أن لا تكون لله على الناس حجة مثلما هي تجليات لمعاني الثقافة الاسلامية والسياسة الاسلامية والكرامة والشجاعة والعزة والعبودية التي يطالب بها الاسلام لله عز وجل .

لذا كانت عاشوراء ميدان التجلي للوراثة التي خصها الله لسيد الشهداء كما ذُكرت في الزيارة المعروفة مذ وطئت ركابه ارض العراق وحتى أنفاسه القدسية الأخيرة وهذا لا يعني ان الوراثة لم تكن في سيد الشهداء مذ ولادته كما نؤمن وتدل على ذلك صريح الاحاديث المذكورة في الكتب المعتبرة لكنها تجلت بدقائق معانيها وابهى صورها في طريقة الى كربلاء وكان لتلك الوراثة الالهية الفضل في تغيير وجهة الصحابي الجليل زهير بن لقين المعروف بهواه العثماني فكان مصداقاً لمن خُص في قوله تعالى " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثـُمَّ اهْتـَدَى " سورة طه ، واستمرت نفحات الوراثة مع بداية الملحمة بشخص الحر ألرياحي الذي تجلى فيه قوله تعالى " أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " سورة الانعام ، ولم تتوقف إلى يومنا هذا ولن تتوقف إلى ما شاء الله وفي ذلك يتجلى لذي لب معنى أن يكون سيد شباب أهل الجنة " الوارث " و" ثأر الله " .

ولقد كان الإمام الحسين " ع " في كربلاء وريثاً للأنبياء بحق ليس في العلم فحسب إنما في السيرة والأخلاق والتعامل مع المتغيرات من حوله ليس لقلة أنصاره وكثرة أعداءه فهو " ع " لا يتعامل وفق هذه الموازين بل من اجل ان يرفع الحجاب عن بصيرة أولئك الذين أعمتهم أجهزة الاعلام الاموية آنذاك وما ارتداءه لعمة جده الهادي الامين " ص " واله وبردته وتذكيرهم بنسبه بعد ذلك لدليل على ما ذهبنا اليه .

ولعل قائل يقول فما بال إمامكم اذا كان كما تدعون لا يتعامل بموازين قلة انصاره وكثرة أعدائه ينادي يوم عاشوراء " الا من ناصر ينصرنا " فالجواب لمن " القى السمع وهو شهيد " اجل نادى سيد شباب اهل الجنة يوم عاشوراء بهذا النداء لكن ندائه خارج اطر الزمانية والمكانية فهو رسالة تنتقل عبر العصور لكل بني البشر ووجه النصرة فيها معناه لينصرنا على نفسه وجهله وشيطانه لنقوده لربه الذي يبتغي له الكمال وليس نصرة مادية كما يقيس البعض لان الله معه والملائكة من حوله ينتظرون أمره ولا عذر لمن لم يدرك معنى قوله "ع".

ولقد ارتقى سيد الشهداء " ع " في مراتب العالم العلوي حتى وصل إلى القمة التي استحقها في القرب من المليك المقتدر فأفنى ذاته المقدسة "ع " في سبيل الحق تعالى شأنه ليكون بعد ذلك ثأره ويخلد بخلوده وقد قابل ذلك إنحداراً من قبل أعداءه في العالم السفلي الى درجة استطاعوا فيها ان يكونوا بموازاة مرتبة ارتفاعه " ع " ولكن إلى درجة تنزهت حتى البهيمية عن أن تكون في تسافلها ولعل قائل يقول ان ذلك يعود لجهلهم به وبحقيقته ، لكن الحقيقة لا والله بل " جحدوا بها واستيقنتها انفسهم " عداوة وبغضا لان جده " ص " واله حطم كبرياء وغرور أجدادهم وأبيه " ع " حطم أصنامهم  واخيه " ع " قطع كل طريق امام مكرهم في جر الأمة الى ما يريدون من هاوية بعد ان تبين لهم سبيل الحق والرشاد وهو غير ما يأملون ولقد تمنوا من قبل أن ينزل القرآن على غيره " وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ  " سورة الزخرف ، ولطالما مكروا ورد الله مكرهم وكيدهم الى نحورهم وأنى لهم ذلك والباري يقول " وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ " .

سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم

لقد استطاع الإمام الحسين " ع " أن يعطي للأمة درساً بليغاً ومثالاً رائعاً في التضحية والفداء والثبات على نهج اختار له الحق عز وجل صفوة خلقه وخير عباده ، ولو أن الأمة اقتدت بالقادة الذين اختارهم الباري لها والتزمت في الدفاع عن نهج المصطفى محمد " ص " واله وكتابه الكريم وذلك بالوقوف الى جانب ريحانة رسول الله في عرصات كربلاء لما وصل الحال بالأمة في يومنا هذا الى دويلات ممزقة يحكمها اصلاف اجلاف بعناوين الملوك والرؤساء والامراء ممن باعوا دينهم بدنياهم واسكروا السواد الاعظم بإعلام مسموم تقف خلفه دوائر الاستكبار العالمي من اعداء الرسالة المحمدية من امثال امريكا واسرائيل فشتتوا شمل التشيع تحت عناوين وهمية مما يطرح تساؤلاً مهما حول محورية القيادة الشيعية التي لا تخلو منظومة القيادة منها . فماذا لو ترجمنا قولنا في زيارته "ع" بقولنا " اني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم " على ارض الواقع واجتمع شيعة ال محمد اليوم في مختلف بقاع المعمورة تحت راية واحدة تمثل النهج المحمدي الاصيل لاحد الفقهاء الجامع للشرائط ممن ثنيت له الوسادة ويمتلك القدرة للتصرف فقهيا وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً فهل سيكون وضعنا فيما لو تحقق ذلك كما هول الحال اليوم وهي سيتعرض شيعة البحرين الى ما يتعرضون له اليوم ومن قبلهم في العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان وغيرها من البلدان ؟ ، ثم الن يكون في اجتماع الشيعة تعجيل لفرج ولي الامر الغائب المنتظر المهدي ؟ ولماذا لا يكون ذلك ما هو المانع الحقيقي خلفه ام ترى ان الحديث في هذا الجانب يفتح جراحات وابواب لا يمكن غلقها ويُعد من الممنوعات رغم ان جميع اتباع مدرسة اهل البيت "ع" على يقين من أن اجتماع الشيعة تحت راية واحدة فيه ما فيه من ادخال السرور على القلوب الطاهرة لمحمد واله "ص" واله وسلم وتضميداً لجراح عاشوراء التي لازالت تنزف .

 ويكفينا في هذا المجال ما نقله الطبرسي من قول الحجة القائم المهدي ارواحنا فداه .. أمامنا الغائب يا شيعة ال محمد في رسالته للشيخ المفيد " قدس" الشريف يقول ..

" ولو أن أشياعنا – وفقهم الله لطاعته – على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم ، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا ، و لتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا . فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا تؤثره منهم . والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم ." ، فتدبروا في قول إمامكم " على اجتماع من القلوب " وتمنوا على بارئكم ان يجمع شملكم ويوحد صفوفكم ليُسر قلب إمامكم وتقر عيون رسول الله بكم وعسى ان يكون اجتماع قلوبكم وكلمتكم دون النظر الى قومياتكم عسى ان يكون ذلك مما يساهم في تجبير ضلع سيدة النساء فاطمة "ع" وتضميداً لجرح هامة سيد الوصيين "ع" وترياقاً يسكن الك كبد المجتبى المقطع واعلموا ان اجتماعكم وتوحيد صفوفكم بقدر ما يسر القلوب الطاهرة لمحمد واله " ص" واله وسلم فإنه يخيف اعدائكم ويرهبهم ويفقدهم صوابهم فهل فينا من يرفض ان يسر قلوب العترة ويخيف الاعداء ؟؟.

لذا لو ان الامة التزمت ببيعة نبيها في غدير خم وعاضدت قادتها وساندتهم في اداء الادوار الالهية المناطة بهم لما كان ذلك الانحراف الخطير الذي ادى لظهور دين لا يحمل من الاسلام الا اسمه ورسمه ينشر الرعب في بقاع الأرض باسم الاسلام الذي هو رسالة المحبة والسلام فأبى الله إلا ان يسلب المنكرون الناكثون المارقون القاسطون نِعم ولاية ال محمد اذ يقول عز من قائل " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ " سورة الجن .

المفاتيح الإلهية في معرفة الحسين

حينما نجعل ما تقدم منطلقاً للتحليق في رحاب فضاء عاشوراء في محاولة لأدراك مضامينها نحتاج لجناحي المعرفة واليقين ولن يكون ذلك دون أن نمتلك ما يُمكننا من ترسيخ تلك المعرفة وزيادة ذلك اليقين لنتمكن من معرفة كيف عطلت عاشوراء القوانين الكونية وألغت القوانين الطبيعة وأصبحت مجرة خاصة يجهل مكنونها اللب ويتحير فيها الجاهل ويستسلم عندها العالم لنصل إلى شيء من القدرة على معرفة المفاتيح الإلهية في معرفة الأسرار الحسينية الكبرى التي لها وجهان الأول لا يُكشف عنه إلا لمن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من الحسين " ع " فبايعه وشايعه حق المشايعة فغرف من درر و رشحات بحار المنَية بمراتبها الثلاث في قوله " حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا " ليكون المصطفى الاكرم المفتاح الاعظم في معرفة الاسرار الحسينية ومن خلاله نقف على عظمة الحقيقة الحسينية بلسان المصطفى "ص" واله وهو الذي لا ينطق عن الهوى ومن أولئك صحبه الأبرار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين كجابر بن عبد الله الأنصاري . لعل وعسى بعد ذلك أن ندرك سبب بكاء السماوات والأرض عليه ونزول المطر دماً وغيرها من الحوادث التي وقعت لحظة استشهاده .

والوجه الاخر يتجلى في قول جده المصطفى " ص " واله الذي " لا ينطق عن الهوى " حينما قال " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " مما يعني أن الحسين " ع "  يتمتع وسائر أهل البيت " ع " بكافة خصائص ومميزات القران الكريم وإلا فليس بمكان من الصحة أن يكونوا عدل الكتاب ، وبما أن القران نور فالحسين نور ، ولان القران لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالحسين كذلك معصوم ، بل في بعض المقامات نرى أن الإمام " ع " يفوق القران الكريم ببعض الخصائص وهذا ليس من الغلو بشيء اذ يقول عز من قائل في وصف كتابه العزيز " إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ويُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً  " سورة الاسراء ، أي أن إحدى وظائف القران الكريم الهداية  للتي هي أقوم وقد اختلف فيها المفسرون وفق الجغرافية الفكرية للمدرسة الاسلامية إلا أننا ننهل من المعين الذي لا ينضب والبحر الذي لا ينزف إذ قال في تفسير هذه الآية الكريمة عن امير المؤمنين " ع " في تفسير البرهان " التي هي اقوم ولايتنا اهل البيت " . وهنا نعرف ان من وظائف القران الكريم ما تعرفنا عليه بالمقابل نرى أن المصطفى " ص " وآله يقول عن ريحانته " إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة " أي انه لا يهدي للصواب والحق وليس هو الهدى فحسب بل هو مصباح ما موجود من الهدى أي هو نور كل هداية فهل ممكن بعد ذلك ان نطلق صفة المهتدي على انسان لم يعرف ويوالي الحسين أو يسكن حبه في  قلبه وهل لنا ان نبصر أي الفريقين اهدى !!؟؟ .

 ومن الخصائص الاخرى المشتركة ايضاً بين الحسين " ع " وسائر العترة الطاهرة والقران صفتي الظاهر والباطن فكما أن للقران ظاهر وباطن فبلا شك للحسين وسائر العترة الطاهرة "ع " ظاهر وباطن أما ظاهره فذلك الذي تؤمه الملايين من كل فج عميق في عرصة كربلاء تلك البقعة الطاهرة التي احتوت الحسين "ع " كصورة مادية يمكن للعقول البشرية أن تستوعبها سواء كانت مؤمنه بمكانة الحسين " ع " أو لم تكن وسواء عرفته على ما هو عليه أو لم تعرفه ولسان حال الكل يردد في حضرته المقدسة حين زيارته " فصلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وعلى أجسادكم وعلى أجسامكم وعلى ظاهركم وعلى باطنكم وعلى شاهدكم وعلى غائبكم " ولا أدعي أني أدرك باطنه عليه الصلاة والسلام لكني أؤمن انه وجه الله الذي يتوجه إليه كما نقرأ في الموروث من الزيارة " السلام عليك يا وجه الله " ويدلنا الباري سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن وجهه المبارك بقوله عز من قائل " فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ " سورة البقرة ، فنستدل هنا على أن صفة الوجه الإلهي منحها الله للإمام الحسين "ع" وسائر العترة الطاهرة الذين من خلالهم يتوجه العباد إلى الحق وهذا ليس من التطرف بمكان وشأنهم في ذلك شأن جدهم المصطفى حينما وصفه الحق تعالى بحقه " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " سورة الانفال ، فجعل تلك الرمية رمية لله عز وجل وكثير هي الآيات التي تمنح بالتعبير المجازي ما أشرنا إليه ، وبما أن وجه الله لا يحده مكان ولا زمان فأرى أنه من المستحيل أن يحدد الإمام الحسين " ع " بإطار لزمان ومكان ما وفي ذلك قال الإمام روح الله الموسوي الخميني " قدس " " كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء " وهنا لا أقول سوى أن من ينظر للإمام الحسين " ع  " على انه موجود في كربلاء فقط فنصيبه فيه قليل وهو مأجور على ذلك ويكون قد شاهده ولكن بعين واحده .. فتبصر.

لماذا كربــلاء

وبعد أن توصلنا إلى أن سيد الشهداء " ع " هو وارث جهود الأنبياء والمرسلين في تبليغ رسائل السماء ومن حمل على عاتقه مهمة الدفاع عن تلكم الجهود الجبارة في نشر الدعوة الإلهية والمحافظة عليها وانه جاء الى كربلاء ليس تلبية لدعوة اهل الكوفة فقط رغم ان تلك الدعوة كانت سبباً ظاهرياً لتحرك إمام الامة إلا أن الأكبر من ذلك ماأشرنا اليه انفا وهو ماتجده بين سطور تصريحه المبارك حينما خرج بعياله من مكة المكرمة فقال " إني لم اخرج اشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (ص) وآله أريد أن أمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق ومن ردني فأصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين " كما توصلنا الى انه " ع " وجه الله الذي لا يؤطر في مكان أو زمان وعلينا أن لا نغفل عن التقدير الإلهي في رسم حركة الإمام من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة وإلى الكوفة تلك المدينة التي سبق وان نكثت بابيه واخيه من قبله وهو ما وصفه سيد الشهداء " ع " بقوله كجواباً لسؤال ابن عباس كما اشرنا سابقاً عن خروجه بالنسوة والصغار من عياله وهو المدرك لخبث سرائر اعدائه " شاء الله أن يراني قتيلا وشاء الله ان يراهن سبايا " فنقول :

إن المتتبع لسير قافلة الإمام الحسين "ع" منذ توجيه الحكومة الأموية لذليلها في المدينة المنورة بأخذ البيعة منه ليزيد " لع " والى لحظة وصوله إلى كربلاء يجد أن الإمام قد راعى حتى في خط سير قافلته أن لا يعطي حجة ولو بمقدار ذرة لمن يجد في نفسه عذراً لأن يتقول على الإمام " ع " بما لا يليق بمقامه المقدس فنرى انه انطلق من رحاب المدينة المنورة بجده الخاتم " ص " وآله إلى بيت الله الحرام وهذا تذكير للأمة بأمرين :

•أولهما أنه صاحب دعوة مقدسة متجذرة بالنبي الأكرم وبالتالي فكل ما يقوم به هو ضمن الدعوة المحمدية وليس بمتطفل أو طارئ  ولو كان رسول الله بمقامه لقام بما قام به ولده الحسين " ع " لاسيما إذا تدبرنا في قول جده " حسين مني وأنا من حسين " .

•الأمر الثاني تبيان لنسبه الشريف من خلال زيارته لقبر جده " ص " وآله ، ثم تتضح انطلاقته لبيت الله الحرام أنها كانت بمثابة نداء للأمة التي اجتمعت هناك بمناسبة موسم الحج من انه سينطلق في مواجهته للحكم التعسفي الأموي من بيت الله الحرام محور حركة الانبياء وقبلة المسلمين والذي يحتوي حجره الأسود على مواثيق وعهود جميع الأنبياء وبما انه هو المكلف بالدفاع عن تلك العهود والمواثيق كما تقدم فقد أراد الإمام " ع " أن يعطي مثالاً حسيا لذلك وبعداً مادياً لحركته الإلهية ناهيك عن البعد الاعلامي الذي قام به من خلال خطبه في بيت الله الحرام وبحضور المسلمين من شتى صقاع الارض إضافة إلى استلامه لرسائل أهل الكوفة أمام مرأى ومسمع الجميع ومن ثم إرساله لمسلم بن عقيل "ع " سفيراً عنه وأراد أيضاً من خلال ذلك أن يقول انه ليس بطالب لحكم وان كان حكم الأمة حق جعله الباري له .

وحتى تلبيته لكتب جماهيرالكوفة التي هي عاصمة الدولة الاسلامية الاولى في العالم بعد وفاة النبي المصطفى (ص) واله وهي التي شهدت فترة حكم امير المؤمنين وولده الإمام الحسن المجتبى " عليهما السلام " وهي التي ستكون عاصمة الامام المهدي من آل محمد " عج " اي عاصمة الدولة المهدوية الالهية التي تنتهي بإقامتها الحدود الوضعية والقوانين الظالمة فقد أراد الامام ان يلفت انظار الأمة بتلبيته لتلك الدعوة الى امرين :

•الاول ان الكوفة هي عاصمة دولة ال محمد "ع" بدء من امير المؤمنين "ع " وانتهاء بالمهدي منهم "عج " وفيها بيوتات النبيين وهي محط رحال المؤمنين .

•والثاني ان ما بين بيعة الأمة لنبيها بالولاية لمن ارتضاه الله وليا لها من بعده في غدير خم ونكثها لبيعتها ومن ثم قتلها لوليها والذي هو أمير المؤمنين كافة ومن بعد ذلك تآمرها وغدرها بولده المجتبى "ع " المنصوص عليه بالإمامة وإلى تجاهل الأمة لدور أهل بيت النبوة "ع " أدى إلى حدوث إنحرافاً خطيراً وكبيراً في مسارها عن خط سيرها الذي رسمه الباري لها من خلال دين أكمله وأرتضاه لها ببيعة غدير " خم " فكان هذا التحرك محاولة لإرجاع الامة الى جادة الحق وصراطه المستقيم وليس لمنفعة شخصية او دنيوية .

ولعمري لو تدبرنا في معنى لقب " أهل البيت " فلن نكون مخطئين فيما لو قلنا أن أهل البيت إضافة إلى أنهم أهل بيت النبي المصطفى " ص " وآله كما صرح هو في أكثر من مناسبة وعرفهم إلى الأمة ، كذلك يقصد بهم ورثة الأنبياء والمرسلين الممهدين لخاتمهم وسيدهم وهم كذلك أهل البيت الإلهي المعنوي الذي يدخل فيه كل من امن بالله واليوم الآخر وصدق المرسلين وبالتالي فمن وظائف الإمام الرئيسية أن يعيد الأمة إلى خط سيرها الصحيح خصوصا وان بارئها قد وصفها بالأمة المرحومة فيما لو توفرت الشروط الصحيحة .

لذا فأن هدف حركة الامام الحسين عليه السلام هو اعادة الأمة لجادة الحق التي رسم معالمها خاتم النبيين " ص " وآله وبالتالي عدم ضياع جهود النبيين والمرسلين فكان لابد من وقفة شجاعة لتستيقظ الأمة من سباتها التي غطت به نتيجة الحكم الفاسد والجائر ولقد كان يعلم إمامنا " ع " ما يجري عليه وعلى اهل بيته إلا انه أيضاً كان يدرك الهدف الذي هو من وجهة نظر ريحانة رسول الله نفسه كان اغلى من دمائه الطاهرة وقد قال في ذلك عليه السلام " إن كان دين محمد - ويقصد هنا جميع الرسالات السماوية لان الله ختمها بالإسلام - لا يستقم الا بقتلي "- كي يبقى صراط الله المستقيم واضحاً جليا لعباده - فيا سيوف خذيني  " وهنا نستدل على ان الامام قاد ثورته العظيمه لاجل إستقامة الاعوجاج الذي حدث نتيجة الاسباب التي ذكرناها في حكم بني امية " لع " وإلا فالإمام يعرف اهل الكوفة وليس خافياً عليه تأريخ مكرهم وخداعهم ، إلا ان هذا هو سبيل المصلحين.

لماذا الحــوراء

قد يقول قائل ان كان كل ما تقدم صحيح والامام اكد على ان من مثله لا يمكن له ان يبايع مثل يزيد الفاجر الخمار وان المعصوم الذي يدرك تكليفه يدرك حجم وغدر وغل اهل الكوفة والتأريخ السيء الصيت لهم مع اهل البيت يمنحه اكثر من وقفة تأمل قبل مجيئه وبما انه مكلف بدوره فلماذا جاء بعرضه وشرفه عقيلة بني هاشم الحوراء زينب صلوات الله عليها وسائر النسوة من اهل بيته ؟.

فنقول لم يخفى عن فكر سبط المصطفى ما قد يقوم بها الاعلام الاموي من تشويه لملحمة عاشوراء وقد فعلوها ورد الله مكرهم ، لذا فقد استفاد "ع" مما منحته الشريعة الإسلامية لنصف المجتمع " الأنثى " من اهتماماً بالغاً ورعاية عجزت الأفكار المادية والعقائد الوضعية عن منحها لها ولو على سبيل المجاراة ، والتي تتجلى هذه الحقيقية للباحث المنصف دون أن يشوبها شائبة ، حيث حضرت الأنثى في أصعب واشد المواقف خطورة في التأريخ الإسلامي منذ عهد النبي الأكرم "ص" وآله ، ومن أبرز تلك المواقف وأصعبها بل أهمها على الإطلاق موقف معركة ألطف العظيمة ، حيث يدرك كل ذي لب الدور العظيم الذي رسمه سيد الشهداء الإمام الحسين "ع" للمرأة للمشاركة في تحقيق الأهداف النبيلة التي قام من اجلها أبا الأحرار والتي تتمحور في تحقيق إصلاح ما فسد من واقع الأمة آنذاك انطلاقا من التعاليم المنصوص عليها من قبل الشارع المقدس ، فكانت ربيبة النبوة والولاية عقيلة بني هاشم السيدة الحوراء زينب "ع" مثالا في الزهد والورع والتقى والتفان في ذات الحق تعالى لم ترهبها كثرة أعداءها ولم تخشى سطوة الطغاة الظالمين ممن تسلط على رقاب الأمة ، فكانت لسان الثورة الحسينية الناطق الذي عبر بكل دقة عن دقائق ما جرى في عاشوراء بدء من الانطلاقة وحتى الشهادة ، إذ أدت ما حملته من أمانة بكل صبر وجلد يعجز عنه صيد الرجال من الشجعان حينما وقفت على الجثمان الطاهر لأبي عبد الله الحسين "ع" وقالت " اللهم تقبل منا هذا القربان " .

اضافة الى ذلك فقد كان للعقيلة الطاهرة دوران في عاشوراء الاول يتمثل في كونها صمام امان لوحة عاشوراء ولسان الثورة الناطق والجهاز الاعلامي الشجاع الذي ادى دوره بكل اخلاص ووعي اخرست به الابواق الاعلامية الاموية ووقفت شامخة ابية تفرغ عن لسان ابيها وتتلألئ بنور التوحيد بعد إذ سألها الطاغية عن مشاهدتها لصنع الله بهم فأجابت الحوراء الانسية بكل ايمان وتقوى " ما رأيت إلا جميلا " ومن قبل ذلك قامت بتعرية اهل الكوفة في عظيم خطبها واينما حل ركب السبايا كانت الحوراء تنقل ما جرى وتضع الصورة الحقيقية لقيام عاشوراء في اذهان من غرتهم ابواق الحكومة الاموية .

أسـرار عاشـوراء

لوحة عاشوراء بما صممها سيد الشهداء " ع " كونية المعالم لأنها جزء لا يتجزأ من الدعوة المحمدية الحقه للعالمين بل هي خلاصة الاوامر الالهية وكل فعل فيها صدر عن سيد الشهداء كان مدركا له عارفاً به وبحجم المسؤولية فيه وهو الذي أُعد لذلك في حجر النبوة والولاية ومن قبلها نشئ في رحم الطهارة فقدم الاضاحي مهما ارتفعت قيمتها في سبيل الهدف المنشود فكانت لها قوانينها الخاصة التي تعجز عن اداركها العقول التي انغمست في عالم المادة ولا تؤمن " بعبدي اطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون " فمهما تحدثنا عن اختيار الله للحسين "ع" في عالم الامكان وتخيير سيد الشهداء بين لقاء الله مخضباً بدمه حافظاً لحدود الحق مكرماً بالتضحية سيداً لشباب اهل الجنة او النصر في عاشوراء ضمن قوانين عالم الامكان وتطبيق سيد الشهداء لقمة ما تربى عليه واعُد من أجله فلن تصل العبارات لما حدث ولن تكفي الاوراق ولا الاقلام لان عاشوراء صوت الله والحسين كلمته " قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا " سورة الكهف ، لكن بنظرة ملئها القصر والجهل بحق ومقام سيد الشهداء "ع" نقول ان لعاشوراء اسرار قبل وقوعها وبعد وقوعها عام 61 للهجرة ومن اسرارها قبل وقوعها :

 أن نوح أحد الأنبياء الذين أرسلهم الله لدعوة الناس إلى عبادته وهو من اولى العزم لكن من أين أتى اسمه 'نوح' واسمه الحقيقي 'عبدالملك' الجواب من كثرة نياحه و بكائه على الإمام الحسين "ع" سميّ بنوح و أبنائه أربعة أسماؤهم " حام وسام ويام ونام " و إذا قرأتم أول حرف من كل اسم فستجدون الاسم حسين!!.

ومن اسرارها قبل وقوعها أيضاً :

الحروف القرآنية المقطعة في اول بعض السور القرآنية ومنها ما جاء في سورة مريم " كهيعص " جاء في بعض التفاسير ان هذه الحروف من انباء الغيب اطلع عليها عبده زكريا ثم قصها على محمد صلى الله عليه وآله. وذلك ان زكريا سأل ربه ان يعلمه اسماء الخمسة فأهبط عليه جبريل فعلمه اياها، فكان زكريا اذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سري عنه همه وانجلى كربه. واذا ذكر اسم الحسين خنقته العبرة فسأل الله عن سبب ذلك فأخبره القصة فقال:

كهيعص : فالكاف اسم كربلاء ، والهاء : هلاك العترة الطاهرة ، والياء : يزيد وهو ظالم الحسين عليه السلام والعين : عطشه ، والصاد : صبره ، فلما سمع زكريا ذلك لم يفارق مسجده ثلاثة ايام واقبل على البكاء والنحيب . وكان يدعو ربه ان يرزقه ولد تقر به عينه على الكبر وان يفتنه بحبه ثم يفجعه به كما فجع محمدا بولده . فرزقه الله يحيى وفجعه به.

اما اسرار عاشوراء عند حدوثها فهي تنبئنا على انها مجرة خاصه بعالم خاص غير خاضع لقوانين عالم الامكان وهذا ليس تطرفاً ومن ذلك الغاءها لقانون الجاذبية الذي ينبهر به الكثير وعميت أعينهم عن حقيقة  دم المولى عبد الله الرضيع "ع" روحي فداه إذ عطل هذا القانون حيث ارتفع للسماء ولم تسقط منه قطرة واحدة .

 ومن تلك الاسرار العظيمة ان الجميع يعلم في عالم الامكان بفساد الراس بمجرد فصله عن جسد الانسان وتتعطل جميع الوظائف المناطة به إلا أن رأس المولى ابا عبد الله الحسين روحي فداه بقي على الرمح من ارض المعركة الى الشام يؤدي وظائفه كاملة دون نقصان من كلام وسمع ونظر .. الخ . ولو ان القلوب التي في الصدور تستوعب لما كتم عنا ائمة الهدى اسرار ملحمة عاشوراء إلا أنه قد تواتر عنهم عليهم السلام قولهم " امرنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا ثلاث نبي مرسل او ملك مقرب او عبد امتحن الله قلبه للأيمان " .

ومن اعظم اسرار عاشوراء خلودها الى يومنا هذا وحتى تقوم القيامة وابرز من ساهم في تثبيت ذلك الخلود الدور الذي اداه زين العابدين وسيد الساجدين "ع" فقد كان صاحب الدور الأساسي في حفظ نهضة عاشوراء واستمرارية مدرسة كربلاء المقدسة بعد أن أدى كل ما بوسعه لإحياء ظلامة أبيه الحسين "ع" حتى استمرت قضية عاشوراء والنهضة الحسينية المباركة إلى يومنا هذا.

فقد سعى "ع" دائماً إلى تشكيل مجالس الحزن والعزاء على شهداء كربلاء وبيان ما جرى فيها من الظلم والجور..

فكان ببصيرته الثاقبة كلما نظر إلى عماته وأخواته شرع بالبكاء عالياً.

وإذا ما سقط نظره "ع" على طفل رضيع جرت دموعه على خديه.

وإذا ما شاهدت عينيه رأسا مقطوعاً حتى إذا كان لحيوان ، أو عند ما كان يريد الجزار ذبح شاة، فإنه "ع" كان يتأثر بشدة، فقد مر ذات يوم في سوق المدينة على جزار بيده شاه يجرها إلى الذبح، فناداه الإمام :

يا هذا هل سقيتها الماء؟

فقال الجزار: نعم نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء، فبكى الإمام "ع" وصاح:

وا لهفاه عليك أبا عبد الله ، الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله تذبح عطشاناً.

وإذا ما قدموا له طعاماً أو ماءً، تحسر وتأوه حتى يمزج ذلك بدموع عينيه.

يقول أحد مواليه: "كان الإمام السجاد "ع" صائماً، وعند الإفطار قدمت له مقداراً من الخبز والماء، ولكنه ما أن نظر إلى الماء، بكى عالياً، قلت: يا بن رسول الله، اشرب الماء.

قال "ع" : كيف أشرب الماء وقد قُتل ابن رسول الله عطشاناً.

قلت: يا بن رسول الله كل طعامك!

قال "ع" : كيف آكل طعامي وقد قتل ابن رسول الله جوعاناً " .

 

نفهم من ذلك إن البكاء مدرسة توعوية ، استخدمها الإمام زين العابدين "ع " لفضح الظلم والطغيان مضافاً إلى الأساليب الأخرى كأسلوب الدعاء وإلقاء الخطب وبيان الأحاديث وتنظيم الكوادر الواعية .

إن الله عز وجل فطر الناس على حب المظلوم ونصرته، وسلاح الظلامة أقوى وأمضى سلاح على الظالم المعتدي ، ومن هنا فإن الإمام زين العابدين "ع" بعد فاجعة كربلاء جعل من ظلامة أهل بيت "ع" شعاراً لفضح وطعن أعداء الحق وأنصار الباطل.

فكان وفي كل المناسبات يذكر مصيبة أبيه وأخوته وأصحابهم "ع" ، وكذلك مسألة الأسر وهتك حرمة بنات رسول الله "ص" وآله ، فكان يندب ويذرف الدموع ويقرأ عزاءهم.

وقد روي عن الإمام الصادق "ع" أنه قال:

" بكى علي بن الحسين عشرين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال مولى له :

أما آن لحزنك أن ينقضي؟

فقال له : ويحك أن يعقوب النبي "ع" كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه واحدودب ظهره من الغم وكان ابنه حياً في الدنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني" .

وهكذا استطاع الإمام زين العابدين "ع" من إيجاد حركة عاطفية دائمة في أوساط الناس وواقعهم الخارجي ، حتى تبقى على إثرها نهضة الإمام الحسين "ع" وأهدافه المقدسة حية وخالدة دائماً.

وقطعاً ان هذا التجلي الذي يوصفه لنا المعصوم "ع" كي تستطيع عقولنا ادراكه ولولا خوفهم علينا وشفقتهم بنا لقالوا لنا عن حقائق واسرار عاشوراء ما تطير له العقول وتفزع له القلوب وتشيب له الولدان .

الخاتمة

هل اسدل الستار على ملحمة عاشوراء وهل عاشوراء هي تلك الساعات الاربع او الست التي قدم فيها الحسين "ع" كل شيء فأصبح هو كل شيء ، وهل ممكن لاحد ان يؤطر سيد الشهداء بذلك العقار من المساحة على ذلك الاديم وهو من اطلق "هيهات منا الذلة " صرخته ورسالته عبر الزمن الى يوم ينفخ في الصور تتلقفها الاذان الواعية والقلوب المدركة من كل جيل لتلحق في ركب النصرة لله ورسوله وللإسلام العظيم .

ولأن المسافة بين نزيف الدماء وخلود الاسماء هي ذاتها التي بين يوم عاشوراء ويوم الظهور المقدس للإمام المنتظر المهدي "عج" ونحن نعيش زمن الغيبة الكبرى فيتجلى فيها الحسين "ع" لنا كل حسب قابله وحركته ودوره في المجتمع الذي نعيش والذي يسعى اعدائنا فيه فصل الدين عن السياسة وحصره في نطاق المسجد والتعبد ليفرغوه من محتواه ويبعدونا عن نظريته في تنظيم شؤون الامة وقيام دولة الحق والعدل الالهي وإن من يعتقد بما يقولوه اذناب الاستكبار العالمي بفصل اهم جزء من العقيدة وهي السياسة لهو من وجهة نظري ليس بأقل ممن سدد طعنة لسيد الشهداء او احرق خيمة او أكثر السواد على سيد الشهداء وعياله وإلا فبماذا سيفسرون قيام الامام المهدي ونشره لدين جده واقامة حكومة الله في أرضه ان كانوا يؤمنون بفصل الدين عن السياسة والم يقرأ اولئك في الزيارة الجامعة " اشهد انكم ساسة العباد واركان البلاد " أم تراها لقلقة لسان لا اكثر !؟؟.

لذا فالحسين "ع" موجود الى اليوم في كربلاء الإرادة ينتظر في كل جيل ان تتقدم صفوة طيبة وثلة طاهرة لتلحق في ركاب أنصاره والمحامين عن حرم رسول الله "ص" واله وسلم ليكون لها شرف الظهور وكل فرد منهم " مؤتزراً لكفنه وشاهراً لسيفه ومجرداً لقناته " ملبياً دعوة  المهدي المنتظر "عج" للأخذ بثأر ال رسول الله ولا نملك سوى ترديد قوله تعالى للمشككين في ذلك    " قل كل يعمل على شاكلته " نسأل الله ان يجعلنا من انصار صاحب الزمان المدافعين عنه المستشهدين بين بديه ببركة محمد وال محمد .

"آميــن "




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=26445
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 01 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28