مع أهمية التجربة الحياتية للأديب على نوعيه إنتاجه الفكري إلا أن بعض الأدباء الشباب نجحوا في تجاوز مرحلة العمر ليؤسسوا لقواعد تبدو في منتهى الروعة بعد أن أوقفوا جزءا من حياتهم على متابعة نتاج الآخرين والإفادة من تجاربهم فبدو وكأنهم ولدوا كبارا وتجاوزوا مرحلة التجريب بفعل الخزين الثر الذي أتعبوا أنفسهم بالوصول إليه والحصول عليه وتوظيفه في تجربتهم.
علي مولود الطالبي أحد أولئك الشباب الذين نجحوا في خوض غمار الكتابة شعرا دونما وجل من نقد أو خوف من فشل بعد أن وثق من مقدرته التنافسية ليثبت قدما في دنيا الكبار وأخرى في عالم الحداثة.
تجربة (شمس على ثلج الحروف) تبدو واعدة بكثير من العطاء وتحد أكثر فالشمس هي التي تذيب جليد الحروف لتتألق بعيدا عن الجمود، بعيد عن لونها الأبيض الذي كانت تبدو عليه يوم كان الثلج يغمرها، أما وقد نزعت حلة الثلج ولبست خيوط الشمس الذهبية فإنها تمكنت من عرض واستعراض ألوانها الحقيقية التي كانت مخفية. وربما لهذا السبب أطلق الشاعر على قصائده اسم (قصائد نافرة) والنُفر كما يقول الراغب الأصفهاني: "الانزعاج عن الشيء؛ وإلى الشيء، كالفزع إلى الشيء؛ وعن الشيء"
المجموعة تجربة تحكي عن طفولة وعشق وطن، تحكي عن تجربة يمر بها الشاعر الشاب الغض الغرير فيها الكثير من روح المنافسة القاسية، تجربة يراها محنة دونها كل المحن، فإذا كانت مفارقة الأوطان تؤلم الشيخ الكبير فإنها بالتأكيد أكثر إيلاما للشاب الغرير حتى وإن كان على يقين أن لقاءه بوطنه ليس عصيا.
والعشق والشباب متى ما اجتمعا يخلقان جيشانا فكريا يحدث نوعا من الاضطراب الذي يؤدي عادة إلى ما لا يحمد عقباه إذا لم يوجه الوجهة الصحيحة، والمدهش أن علي مولود الطالبي نجح في توجيه عواطفه بشكل أكثر من سليم فاستخدم خزين الكلمات ليصوغها قصائد يبث من خلالها شجن الغربة وشجي مفارقة الأوطان، وقد بدا رحلته بالتأويل والإيحاء.
أما الهدف الإيحائي للعنوان المختار (شمس على ثلج الحروف) فتجده واضحا في تنوع القصائد التي ضمها. كما لم تكن المصادفة هي التي وضعت قصيدة (سيقان الغياب) في بداية المجموعة، بل الحنين إلى الوطن هو الذي اختار لها الصدارة، حيث تتكرر مفردة (الوطن) و(الأوطان) و (موطني) في قصائده الأخرى لتدلل على عمق ارتباطه بالوطن. فالشاعر الذي عاش الغربة مجبرا وهو الذي لم يعرف الاغتراب أراد أن يعبر من خلال هذه قصيدة (سيقان الغياب) عما يدور في مخيلة شاب غريب هجر الوطن سعيا في طلب العلم، ولكن الحنين إلى الوطن أظناه وأرقه فكتب عن عشقه للعراق:
أؤولُ عشقي للبلادِ قصيدةً
ويسألني التأويلُ
من ذا سيفهمُكْ؟
هكذا أراد الطالبي تأويل عشقه للوطن الذي مثله كائنا حيا يقف قبالته.. يخاطبه .. يتحاور معه .. يكلمه عن شوقه وحنينه إليه، وحينما تصدمه الحقيقة ويستفيق على نفسه وهي تشم هواء غير هوائه وتشرب ماء ليس من مائه يحاول تعليل الخلط الذي وقع فيه، فيقول:
فيا وطني
عيني تحاولُ أنْ ترى
وشعري
على بعدِ المسافاتِ يرسمُكْ
ودونَكَ
ذابت في الكؤوسِ
قصائدي
ويحكمُني الدمعُ الشقيُّ
ويَحْكُمُك
الوطن عند علي مولود الطالبي طفلة ولا أحلى يتغزل بها بلا حدود فاضحا الحنين الذي يملأ جوانحه، وقد ترجم ذلك في قصيدته (وجه الحنين) إذ قال مخاطبا مدينته، أو وطنه الأصغر:
ماذا أقولُ لجنةٍ كمدينتي ؟
والبعدُ سارَ على مفاصل غيمتي
امشي إلى هِدبِ النجومِ بحسرةٍ
والنهرُ يرويني ويغزلُ دمعتي
ريح الصبا هبّت لتطفئ بسمة
قلقًا أبوحُ ؛ وكيفَ أوجزُ قصتي؟
إنّى سأشربُ سحرَ أرضي برهةً
وغناءَ بيتي منشدًا في لهفتي
مدني تجولُ على أزقةِ صمتها
وأناسها رسموا الجهات لشقوتي
وفي قصيدته (مدرج في وحي الجفاف) يحاول الطالبي هدهدة وطنته عسى أن يغفو بالرغم من ألم الجراح الذي يقض مضجعه، فيقول:
في مدخلِ التيهِ يخطو موطني مُهَجا
ومِن ضفافٍ لصبرٍ أنطقتْ حُجَجا
قد أظلمَ الفجرُ عشرينًا مكمَّلةً
حتى أزاهرُنا صلَّتْ لينبَلِجا
وصلَّتِ الغيمةُ الوطفاءُ دارَ بها
عهدُ الجفافِ وأضواءٌ سعتْ عوَجا
ومثلها في قصيدته (رصيف الشمس) ولكنه تحدث هنا بوضوح ومن دون مواربة ليعلن عشق العراق، ويعلن عظيم تأثره بفراقه، فقال:
بذكركَ ...
أزهو يا بلادُ
وأشمَخُ !
وأسكِبُ ذوبَ الروحِ
شعرًا وأنسَخُ
وأستلهمُ الأيامَ ...
تاريخَ موطنٍ ،
لهُ الصدرُ
في الأمجادِ
حينَ تُؤرّخُ
تعاليتِ يا دارًا ..
تموجُ تأبيًا
فلستِ
التي ترضى الهوان
وترضخُ
لعينيكَ قلبي
يا عراقُ متيمٌ
قريبًا
بعيدًا ...
في هواكَ مُدوّخُ
وكانَ الهوى
والبعدُ قيدًا
لمُهجتي
تضاريسُ حيراتي
بها الروحُ تُسلَخُ !
هو الحُبُّ ...
لو يدري المُحِبُّ بلوعتي
لأيقنَ
أنّي فوقَ نارينِ
أُطبَخُ!
أما في قصيدته (نحت الطفولة) فقد أراد الشاعر صلصلة (**) بقايا طفولته ليسمع وقعها الآخرون، وكأنه لا يريد فراقها أو انه يستجدي عطفا من الوطن والأهل، ولكنه أراد التمويه لكي يصابر في عناد فأسبغ صليل الطفولة على معشوقة في الخيال؛ وطنه العراق، فقال:
فستانُها كالخمرِ يرقصني
ويدورُ أقداحًا وينكفئُ !
يا طفل ما أبهاكَ من دَفَقٍ
لكَ في وريدِ الغيب مُتَّكأُ
يا مَن غدا إنجيلُهُ أملي
سِفْراً كما التيه الذي قرأوا
إن ديوان (شمس على ثلج الحروف) هو الإصدار الثاني للشاعر علي مولود الطالبي وقد صدر عن دار أكد البريطانية المصرية للنشر والتوزيع، لندن – القاهرة، في طبعته الأولى عام 2013 مشتملا على ثلاثين قصيدة من قصائد التفعيلة.
هوامش
(*) قراءة في بعض قصائد ديوان "شمس على ثلج الحروف" للشاعر علي مولود الطالبي ليست بعقلية ناقد أدبي وإنما بعقلية محب لشعر التفعيلة
(**) الصلصلة: بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة