• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : فألهمها فجورها وتقواها .
                          • الكاتب : عبد الله بدر اسكندر .

فألهمها فجورها وتقواها

المناظرات والمجادلات العقيمة التي تقع بين أتباع الباطل على اختلاف مللهم لا تبنى على المنافذ الراقية التي تظهر ما يكمن في حقيقة النفس البشرية ومتطلباتها الذاتية السليمة التي تحمل في جنباتها الاستعداد الفطري الناتج عن الإلهام الذي يلقيه الحق سبحانه في روع تلك النفس التي لم تكتمل بعد، أو بعبارة أخرى عندما تكون في أطوارها الأولى التي سوف تنطلق منها إلى عالم الحس بعيداً عن الآثار الفاصلة بينها وبين المقاييس المرحلية التي تستمد توجيهها من التلازم الثابت في فطرتها التي لا مناص من تبديلها، كما في قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم 30.
وبالرجوع إلى تلك المجادلات وطرحها أو أخذ ما يتوافق منها وطبيعة النفس البشرية يظهر أن الطباع التكوينية التي اوجدها الله تعالى في الإنسان لا تنفك عن المستجدات الشرعية الملقاة في روع النفس البشرية قبيل توجييها الذي أراده الله تعالى وتكفل بإيصاله عن طريق الرسل أو عن الطرق الأخرى التي يجدها الإنسان في المنهج التكويني الذي تقوم عليه الحركة الطبيعية التي تعمل على إيجاد الوسائل الموصلة إلى الطباع التي يدخل الإنسان بواسطتها في المسيرة العملية بشقيها التكويني والتشريعي. أما ما يستجد من المناهج التي كانت مصاحبة للرسل فالنظرة الفطرية خارجة عنها ولا تحتاج إلى مجاراة للأحداث الواقعية باعتبار أن متطلبات التوحيد لا يمكن ايقاظها لأن ذلك أقرب إلى تحصيل الحاصل، وإن شئت فقل إنها سالبة بانتفاء الموضوع.
 
من هنا نجد أن القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الحقيقة وبينها في أكثر من موضع، كما في قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) العنكبوت 61. وكذا في الآية 63 من نفس السورة. وقريب من ذلك قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) الزخرف 9. وقد كرر هذا المعنى في مواضع أخرى باختلاف يسير في اللفظ.
 
من هنا يظهر أن ما يستجد في الواقع من أحداث يكون كفيلاً في تغيير مسار الفطرة التي أوجدها الله تعالى في النفس البشرية والتي تكون بمنزلة السالبة الجزئية أو ما يقابل التقييد الذي يؤخذ من الإطلاق، كما في قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) العنكبوت 10. وعند تأمل الآية الكريمة تجد المتغيرات الطارئة ظاهرة في قوله "جعل فتنة الناس كعذاب الله" وإذا ما أردنا البحث أكثر في الاتجاهات الفطرية وما يطرأ عليها من تبديل نجد ذلك ملازماً للآية آنفة الذكر أو ما يتقارب معها في المعنى، كما في قوله: (ولئن اذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ) فصلت 50.
 
وقد يكتمل المعنى ههنا عند تفسير الكفر بمعناه الوضعي المأخوذ من الستر والتغطية لا بمعناه الاصطلاحي، بدليل قوله "ولئن رجعت إلى ربي" وهذه الملازمة لا تنفك عن إصرار النفس ومضيها في طريق المتغيرات وتزيينها الباطل، كما بين تعالى ذلك في قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون) التوبة 50. فإن قيل: هل هذه المجريات تلازم الإنسان قبل التشريع أم بعده؟ أقول: هذه المجريات تلازم الإنسان في جميع مراحله سواء قبل التشريع أو بعده. وقد أشار تعالى إلى هذه المجريات التي تلازم الإنسان في جميع أحواله وذلك في قوله: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) الأعراف 190. وقد نجد النتيجة اكثر بياناً في قوله: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) الحج 11.
 
من هنا نعلم أن الإلهام الذي أوجده الله تعالى في النفس ما هو إلا صنع للمشيئة الإلهية التي يتحقق من خلالها إتجاه الإنسان في جميع أفعاله الحسنة أو ما يقابلها دون الخروج عن إرادته التي يستمدها من الله تعالى بمصاحبة التطبيق العملي المشرع للنفس وما ترتقي إليه في مستجداتها وإن شئت فقل في الاختيار الذي يجعلها مكرمة دون ان يسلبها مكوناتها التي لا تقهر عليها باعتبار أن للطبيعة البشرية حيثيات لا تخرج عن كونها تسير بين التشريع أو خلافه حتى لا يترتب على تلك الأفعال ما يشابه الجبر الذي ينزه عنه الحق سبحانه وتعالى، وبناءً على هذا تكون النتيجة اقرب إلى إلقاء الإلهام الفطري الذي تترتب عليه افعال الإنسان في مسيرته الثنائية بين اتباعه للشهوات وبين اجتنابها ومعرفة ذلك في جميع مراحله التي لا تخرج عن التشريع المنظم، وقد يجد الإنسان هذا في نفسه من خلال بغضه للقبيح وحبه للحسن إلا أن المستجدات الطارئة يكون لها الأثر الأكبر في أفعاله التي أوجدها الله تعالى في تسوية نفسه وإلهامها الفجور والتقوى الذي أشار إليه في قوله: (فألهمها فجورها وتقواها) الشمس 8. وللمفسرين في الآية آراء أعرض لها:
 
الرأي الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) المعنى المحصل فيه وجهان: الأول: أن إلهام الفجور والتقوى إفهامهما وإعقالهما وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه اختيار ما شاء منهما وهو كقوله: (وهديناه النجدين) البلد 10. وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة، قالوا ويدل عليه قوله بعد ذلك: (قد افلح من زكاها***وقد خاب من دساها) الشمس 9-10. وهذا الوجه مروي عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين، والوجه الثاني: أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره، قال سعيد ابن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك، قال الواحدي: التعليم والتعريف والتبيين غير والإلهام غير فإن الإلهام أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه، وأصل معنى الإلهام من قولهم لهم الشيء، والتهمه إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره، وأما التمسك بقوله: (قد أفلح من زكاها) فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها الله تعالى وأصلحها وطهرها والمعنى وفقها للطاعة، هذا آخر كلام الواحدي وهو تام، ثم يضيف الرازي: وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبراً للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة، فههنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره، بقي شيء واحد يختلج في القلب أنه هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية، فنبه سبحانه بقوله: (فألهمها فجورها وتقواها) على ان ذلك أيضاً منه وبه وبقضائه وقدره وحينئذ ثبت أن كل ما سوى الله فهو واقع بقضائه وقدره وداخل تحت ايجاده وتصرفه ثم الذي يدل عقلاً على أن المراد من قوله: (فألهمها فجورها وتقواها) هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مراراً أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل وفيه نفي الصانع وإن كان عن فاعل وهو العبد لزم التسلسل، وإن كان عن الله فهو المقصود، وأيضاً فليجرب العاقل نفسه فإنه ربما كان الإنسان غافلاً عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة، ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه، ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل، وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله: (فألهمها) ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة. انتهى ما ذهب إليه الفخر الرازي. أقول: ما ذكره من مطابقة العدد للمعدود في التأنيث صحيح وذلك نظراً لآراء أهل اللغة من أنه إذا كان المعدود سابقاً والعدد وصفاً له فالأمران جائزان، ولهذا قال الرازي: الآيات الثلاثة.. فتأمل.
 
الرأي الثاني: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: يطلق الإلهام إطلاقاً خاصاً على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير، فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانياً كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية والنظرية، وإيثار الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإنسان، قال الراغب: الإلهام: إيقاع الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى. انتهى كلام الراغب. ثم أضاف ابن عاشور: ولذلك فهذا اللفظ لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن، لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة قبل الإسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب وهو مشتق من اللهم وهو البلع دفعة، يقال لهم كفرح وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية، والمعنى هنا: أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية، والإدراك الضروري المدرج ابتداءً من الانسياق الجبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يكره إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام وتعدية الإلهام إلى الفجور والتقوى مراعى فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ، ومجيء فعل "الهمها" بصيغة الإسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ "ما" إن جعلها موصولة. انتهى.
 
الرأي الثالث: يقول الطباطبائي في الميزان: الإلهام الإلقاء في الروع وهو إفاضته تعالى الصور العملية من تصور أو تصديق على النفس، وتعليق الإلهام على عنواني فجور النفس وتقواها للدلالة على أن المراد تعريفه للإنسان صفة فعله من تقوى أو فجور وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الأولي المشترك بين التقوى والفجور كأكل المال مثلاً المشترك بين أكل مال اليتيم الذي هو فجور وبين أكل مال نفسه الذي هو من التقوى، والمباشرة المشتركة بين الزنا وهو فجور والنكاح وهو من التقوى وبالجملة المراد أنه تعالى عرف الإنسان كون ما يأتي به من فعل فجوراً أو تقوى وميز له ما هو تقوى مما هو فجور وتفريع الإلهام على التسوية في قوله "وما سواها فألهمها" إلخ للإشارة إلى أن إلهام الفجور والتقوى وهو الفعل العملي من تكميل تسوية النفس فهو من نعوت خلقتها، كما قال تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم 30. وإضافة الفجور والتقوى إلى ضمير النفس للإشارة إلى أن المراد بالفجور والتقوى الملهمين الفجور والتقوى المختصين بهذه النفس المذكورة وهي النفس الإنسانية ونفوس الجن على ما يظهر من الكتاب العزيز من كونهم مكلفين بالإيمان والعمل الصالح. انتهى. أقول: يظهر تكليف الجن في كثير من الآيات ويشهد لذلك مقابلتهم مع الإنس وكذا ما ورد في سورتي.. الرحمن والجن، بالإضافة إلى نعتهم للقرآن بأنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وذلك في سورة الأحقاف، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف 50.  



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=31416
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 05 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19