• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : اختلاف الرؤى بين العقيدتين الدينية والسياسية .
                          • الكاتب : صالح الطائي .

اختلاف الرؤى بين العقيدتين الدينية والسياسية

حينما تبحث في اختلاف الرؤى بين العقيدتين الدينية والسياسية؛ تجد للأولى رؤية تحسب لكل أمر حسابه الاستمراري المتواصل إلى ما بعد وقوع الحدث وصولا إلى يوم الدين، تحسب مقدماته، وقائعه، نهاياته، ما بعد نهاياته، وصولا إلى ما يترتب عليه يوم الحساب، فالمؤمن يرى العلاقة مع الآخر علاقة تلبسية، وارتباطا مصيريا ومؤثرا لا ينتهي بانتهاء الحدث، ولا مكان فيه لحسابات الربح والخسارة الدنيويين.
أما السياسة فإنها فن الممكن وقراراتها بشكل عام وغالبا وليدة اللحظة؛ دون الانشغال بحساب مؤثراتها وتداعياتها على الطرف الآخر، فالسياسي يرضخ عادة إلى أحكام مقولة: (أنا ومن بعدي الطوفان) بشكل كامل، فهو يحسب الفرصة من حيث من حيث قدرتها على تحقيق المكاسب له على حساب الآخرين دون التفات إلى ما يسببه مكسبه من ألم وتعب وظلم للطرف الآخر.
وهذا الاختلاف في الرؤيتين ليس وليد التطور المعاصر بقدر كونه أحد أهم مبادئ التعامل البيني التاريخي عند البشر تحت تأثير المصلحة الذاتية والمجتمعية المحكومة بإكراهات الأيديولوجية التي يؤمن بها الإنسان، فالإنسان المؤدلج يتصرف عادة وفق ما يمليه عليه الفكر الذي يؤمن به، فإن كان يحمل فكرا دينيا صحيحا تجد سطوة قوانين الدين ونظمه ظاهرة على سلوكه، تماما كما تجدها عند من يحمل ويؤمن بفكر سياسي مهما كان نوعه. 
 
خذ مثلا على سطوة مشروع العقيدة الدينية على حسابات أعمال المؤمنين مما جاء في ترجمة سعيد بن جبير (رض) في سير أعلام النبلاء للذهبي: "عن عيسى بن يونس قال: سمعت الأعمش يقول: لما جيء بسعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما دخلت عليهم السجن، فقلت: جاء بكم شرطي أو (جُلْيويز) (1) من مكة إلى القتل؛ أفلا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟!
فقال سعيد: فمن كان يسقيه الماء إذا عطش"؟!(2) قال هذا وهو يعلم أن الفكاك من قبضة الحجاج الطاغي من المستحيلات!ّ 
 
وخذ مثلا  فيما يخص العقيدة السياسية مما جاء على لسان صدام حسين في أكثر من مناسبة عن موضوع هربه من الحارسين اللذين كانا يقتادانه إلى قاعة المحكمة، فهو مع أنه لم يكن معرضا للموت لأن جريمته التي سيق من أجلها إلى المحكمة ـ إن اشتدت عقوبتها ـ لا تتجاوز السجن بضع سنين. وكان يعرف كذلك أن هروب سجين من يد حارس أو سجان يوقع الأخير تحت طائلة القانون والعقاب الشديدين، ولكنه مع هذا وذاك استغفل حارسين بسيطين فقيرين جائعين أرسل معهما إلى المحكمة فاستغل فقرهما وفاقتهما وادخلهما مطعما، ثم غافلهما وهرب لينجو بنفسه غير ملتفت إلى ما كان ينتظرهما من عقاب.
 
ومثلا آخر على السطوة الدينية نجد هناك من كان يرى أن الوالي الفاسق الفاجر الظالم السفاح السياسي الدنيوي غير محمود حتى مع كل هذه الخصال؛ وفيه نوعا من الظلم، فالحجاج بن يوسف الثقفي الذي قال عنه سلام بن أبي مطيع: "لأنا بالحجاج أرجى مني لعمرو بن عبيد، لأن الحجاج قتل الناس على الدنيا، وعمرو بن عبيد أحدث للناس بدعة شنعاء، قتل الناس بعضا"(3) تجد في بداية ابن الأثير من يدفعه تدينه للدفاع عنه: قال الزبير: "سببت الحجاج يوما عند أبي وائل، فقال: لا تسبه لعله قال يوما: اللهم ارحمني فيرحمه"(4) 
بينما نجد أتباع الإسلام السياسي يستحلون الكذب على من يخالفهم من المسلمين ويستحلون دمه وعرضه وماله لمجرد أنه يخالفهم في الرأي غير ملتفتين إلى الألم الذي يسببونه له ولعائلته وأهله.
 
الملفت للنظر في هذه المعادلة أن السياسي متى ما تحول إلى مؤمن ينزع من قلبه مؤثرات السياسة ويبدأ بالبحث بنهم عن مؤثرات الإيمان، أما المؤمن فهو متى ما تحول إلى سياسي فإنه يستخدم بقايا رواسب الإيمان في نفسه لتطبيق صرامتها في التعامل مع الآخر فيصبح أكثر قسوة من السياسيين الأصلاء أنفسهم، وربما لهذا السبب تجد للجرائم الكبيرة التي تقع في العراق اليوم كالتفجيرات والاغتيالات وغيرها نمطا متوحشا إلى أقصى درجات الافتراس والحيوانية. 
وربما لهذا السبب لا زلت وسأبقى على يقين راسخ أن الأعم الأغلب مما نمر به اليوم إنما هو وليد ماضينا التليد؛ والتطبع والتقليد، أما القسوة المتمثلة فيه؛ فهي من تأثير ما وصلنا من مواريث أجدادنا وأهلنا القدماء بدأ من وأد الوليدة البريئة، وصولا إلى حمل رؤوس الأعداء والمعارضين والتنقل بها عبر الأمصار، ثم جلوس الخلفاء للنكث بشفاه تلك الرؤوس المقطوعة بعصي اللهو التي يحملونها، فإذا أرتفع صوت المؤذن مناديا إلى الصلاة شمروا عن أيديهم وأمروا القيان والعازفين بالانصراف؛ وتوجهوا نحو القبلة لأداء الصلاة المفروضة معطرة بأريج الخمر الذي يفوح من شفاههم، وخمار القيان التي لا زالت على أكتافهم وحول خصورهم، وهم بكامل نشوتهم.
 
 
صالح الطائي
30/5/2013
 
هوامــــش
(1) جُلْيويز: تصغير جلواز وهو الشرطي
(2) الجزء 5، ص 301
(3) البداية والنهاية،م 5،ج9،ص 164، ترجمة الحجاج
(4) المصدر نفسه، ترجمة الحجاج



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=31792
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 05 / 31
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28