• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : تلك الأمثال: من كتاب الله .
                          • الكاتب : السيد يوسف البيومي .

تلك الأمثال: من كتاب الله

قال تعالى في كتابه العزيز:{لَوْ أَنْزلْنا هَذَا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الاَمثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يِتَفَكّرُون}.
 كانت عادة العرب استعمال الأمثال لأنها أبلغ في توصيل المطلوب إلى السامع، وقد اشتهر بينهم التمثيل بأقوال لدلالة على حوادث قد وقعت.
فالمَثَلُ في الاصطلاح: قسم من الحكم، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.
وقيل: "إنّ الشيوع والإنتشار وكثرة الدوران على الألسن هو الفارق بين الحكمة والمثل، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول، ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداؤه في المناسبات المختلفة".
وبعد أن عرفنا بماهية الأمثال نأتي إلى تلك الأمثلة التي مثل بها الله عز وجل في القرآن الكريم..
إن الأمثال الواردة في القرآن الكريم ليس لها نفس صفات التي للأمثال عند العرب، فهي أمثال قد ضربها الله عز وجل للمرة الأولى لم تمر عليهم من قبل، وإلا لماذا تحدى الله سبحانه وتعالى المشركين والكفار أن يأتوا بآية من مثله، وإن هذه الأمثال هي أحد أجزاء هذا الكتاب المعجز، وهذه الأمثال هي من آيات الله عز وجل التي تحدى بها هؤلاء. فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الأمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.
وإن دور الأمثال القرآنية هو هداية الناس ولذلك رُوعيَ فيها الغايات التي نزلت لأجلها، فنجد أن الطابع المكي يعلو هامة الأمثال المكية، والطابع المدني يعلو هامة الأمثال المدنية.
أمّا الأمثال المكية، فكانت دائرة مدار معالجة الأدواء التي ابتلي بها المجتمع المكي لا سيما وإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجادل المشركين ويسفّه أحلامهم ويدعوهم إلى الإيمان بالله وحده، وترك عبادة غيره، والإيمان باليوم الآخر، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ، وقطرات المطر، وهبوب الرياح.
يقول سبحانه:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون}.
فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.
ومن هنا نبدأ بتفسير قوله تعالى:{مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون * إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم * وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إلاّ العالِمُون}(1).
تفسير الآيات:
ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة، وبيت العنكبوت أخرى، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.
وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول: لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب، وأخرى يمثل عمله بالمثل التالي: وهو أن مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا يقدر على الدفع. 
ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها. 
إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطاً في غاية الدقة، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سمـاً يوقف حركاتها، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها.
ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت، الذي يتألف من حائط هائل، وسقف مظلٍّ، وباب ونوافذ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب، ومن جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية، فلو هبّ عليه نسيم هادئ لمزق النسيج، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق، ولو تراكم عليه الغبار لمزق تلك الشبكة.
هذا هو حال المشبه به، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع. وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ، لا تخلق ولاترزق، ولا تقدر على استجابة أي طلب.
بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.
وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله : {وَإنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون}.
ثمّ إنّ قوله: {لو كانوا يعلمون} ليس قيداً لقوله: {أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت}، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن، وانّما هو من متمّمات قوله: (اتخذوا) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً، ربما أعرضوا عنها.
ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أخرى، وقال: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم}. والظاهر انّ «ما» في قوله: (ما يدعون) موصولة، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار وما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.
ثمّ قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إلاّ العالمون}. أي نذكر تلك الأمثال، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآية 41 إلى 43 من سورة العنكبوت المباركة.
(2) كتاب الأمثال في القرآن الكريم، للشيخ جعفر السبحاني، ص219.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=34619
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 08 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19