• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : التكاملية في أعمال علي جبار النحتية .
                          • الكاتب : عباس باني حسن العتابي .

التكاملية في أعمال علي جبار النحتية

 الحجارة الجاهزة 
تذكرني أعمال علي جبار النحتية بجملة قرآنية حول الملك سليمان والجن، الذين يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل. كان التصور الشعبي، الذي ساهم في خلق أسطورة تسخير الملك سليمان الجن والشياطين لأمره، قد ظهر بسبب من طريقة بناء بيت الرب، التي أدت إلى سرعة زمن تحقيقه. يذكر كتاب العهد القديم حول بناء بيت الرب: ((وبنيَ البيتُ عند بناءهِ بحجارةٍ جاهزةٍ من المقلعِ، فلم تكن تُسمعُ مطرقةٌ ولا إزميلٌ ولا شيءٌ من آلاتِ الحديدِ في البيتِ عندَ بنائِه))(سفر الملوك الأول، 6/7). ويذكر العهد القديم أيضاً، إن الحجارة التي بني بها البيت كانت قد نحتت في لبنان وجلبت من هناك إلى أورشليم. والقصة أطول من هاتين المعلومتين بكل تأكيد. المهم هو طريقة البناء بالحجر الذي ابتدأه الفراعنة، فتعلمه الكنعانيون (الفينيقيون) في أزمان متقدمة قديمة، ثم أخذها منهم الاغريق الذين لم يعرفوا البناء بالحجر المنحوت إلا في منتصف القرن السابع قبل الميلاد (650 ق م)، وبعد ذلك تطور على أيد الرومان، فوجدت ورش المقالع ونحت الحجر، على وجه الخصوص حجر المرمر. فكانت القصور والمعابد تهندس ثم تنحت في هذه الورش بعيداً عن أماكن إنشاءها. فتصل الأحجار المنحوتة معلّمة، لتأخذ كل منها المكان المخصص لها في البناء، مركبة بطريقة التصفيف التكاملي، أي أن كل قطعة من هذه الأحجار تأخذ مكانها الضروري لقيام البناء وثباته. لقد استمرت طريقة البناء بالحجر هذه حتى العصور الحديثة.    
  
المفردة الطبيعية    
   
 الفنان علي جبار يصمم (يهندس)، يقطع وينحت الحجر، ثم يركِّب نصبه الفني على طريقة بنائي الحضارات القديمة، فالوحدات الشكلية التي يتضمن عليها العمل النحتي، رغم استقلاليتها، لا يمكن للواحدة منها الاستغناء عن الأخرى، مثل مفردات لغوية في جملة أدبية، وهذا هو بالذات ما يمثل ويميز الأسلوب الفني لعمله النحتي. إن التكاملية في أسلوبه الفني تقترب من هندسة الجسم البشري، وأكثر من ذلك، أنها تتمثل بكل ما هو حي، بمعنى الوجود المادي الحي، مثل الحيوان والشجر. إن أي من هذه الأشكال الحية تتضمن على الطبيعة التكاملية، التي أبدعتها الطبيعة الأم، مثل اختلاف أعضاء الجسم الإنساني؛ تغاير شكل ووظيفة الذراعين عن الساقين، والاختلاف بين الذراع اليسرى عن مكملتها الذراع اليمنى، ثم هكذا نجد التغاير بتركيب مكونات الذراع الواحدة نفسها. إن هذه التكاملية نفسها موجودة كأسلوب ولغة في واجهات الأبنية القديمة، فإن أي من مكونات تلك الأبنية، مثال أسلوب البناء الكورنثي عند الاغريق ثم الرومان، كان يمثل معنى دينياً بتمثيله إله أو أكثر. فهذه الوحدات تتمايز وتتحد حسب تمثيليتها للظاهرة الطبيعية. إن التركيب الطبيعي، الذي يعتمد على التكامل في تكوين هندسة الجسم الحي في الوجود، كان مصدراً دائماً للإلهام في التعبير الفني وابتداع لغة فنية جديدة.   
 
المسألة المعمارية   
 
 إن في حالة وضع حجر على حجر، يتبادر للذهن، دون حس مسبق، إن المتلقي أمام مسألة معمارية. فمهما كان تغاير الأشكال المتراكمة، وطريقة تصفيفها، فهي تبقى متضمنة على فكرة المعمار. وإن هذه الأشكال تنكشف للفهم متميزة في هيئة هندستها العامة، الذي ستوحي بالموضوع المقصود التعبير عنه وعن شخصيتها الأسلوبية الثقافية، مثل الاختلاف بين الأسلوبية المعمارية الكورنثية والمعمار الإسلامي. فليس من الغريب، أو الصدفة، أن نجد في أعمال علي جبار النحتية هذا الإحساس بالمعمارية. بل إن البعض من أعماله قصدت، بصورة مباشرة، ما تابعناه في الموضوع الهندسي المعماري. فهو يحاول الكشف للمتلقي عن أصول تأملاته، وعن مصادر إلهامه في البحث عن الشكل والموضوع الذي يتحكم في أسلوبه الفني. ففي معرضه الذي اقامه على قاعة (المركز الثقافي العراقي في لندن) نلتقي بأكثر من نموذج لمشروع عمل نحتي يذهب بهذا الاتجاه؛ تصميم معاصر لدار أوربية تقليدية متداخلة، حيث تضمنت هذه القطعة على قيمة (الشفافية) وعلى فكرة (صورة داخل صورة) حققها بعمل نحتي جريء. لا تتوقف إرادة التعبير عن الأصول المعمارية عند علي جبار في النموذج المشار إليه حسب، ففي عمله الذي حيّر لجنة التحكيم في إيران والذي حاز على جائزة المسابقة، نتأكد من حضور الملامح المعمارية في أسلوبه الفني.
 
الشكل الهندسي   
 
 إن الكلام عن المعمار وأساليبه الشكلية لا يمكن له الاستغناء عن ذكر عالم الهندسة وتشكيلاتها المجردة، المرتبطة بعالم العقل المثالي، كما في تأكيدات الافلاطونية الجديدة. كذلك هو، وبالضرورة، نجده قد أخذ حيزاً في تفكير وفي إنتاج الفنان علي جبار، المتسائل دوماً عن أصول طبيعة عمله النحتي، والباحث دوماً عن اشكال ومواضيع تخدم ذاته المنفتحة والتواقة إلى كل ما هو معبر. فهو يذهب مباشرة إلى الشكل المجرد المرتبط بالتصور العقلي، لكنه شكل محمل بمعانٍ اجتماعية ـ تاريخية، مثل شكل المثلث الذي طالما استخدمه الفنان عبر التاريخ الإنساني. ابتداءً من فكرة الثالوث السومري ومروراً بالهرم الفرعوني حتى التشكيلات الحديثة والمعاصرة، التي مازالت تثير الكثير من الأسئلة حول الانجذاب نحو الشكل المجرد للمثلث. إن المثلث عند علي جبار هو التشبث بالشكل الخالص القريب على شخصيته الأسلوبية، المتحررة من قيد التصور المسبق في عملية اختيار الموضوع، فهو أمين بالتعبير عن هواجسه النفسية، الهادفة إلى الاستفادة مما هو موجود حوله، من تصور فني ومن جمال طبيعي يخدم الفكرة الفنية في عمله النحتي. فهرم علي جبار المعدني هو هرم جديد، يوحي بشكل له علاقة بوجود مادي طبيعي رغم أصله المثالي المجرد، فهو مثل كائن جديد يتنفس الضوء والهواء في آن واحد، من خلال ثقوبه المنتشرة بانتظام على مساحات سطوحه، التي تذكر بطبيعة الشجرة وأوراقها، أيضاً تشير إلى إشراك الآلة الحديثة في عمل الثقوب في الصفيح المعدني. أما عمله النحتي الثاني الهندسي، الذي تضمن على عالم متجدد يتضاعف به المثلث، في حالة تكاثر تذكر بالتواصل اللانهائي للحياة والإبداع. ففي هذين العملين يؤكد الفنان علي جبار، مرة إضافية، على الأصول التاريخية لشخصيته الفنية وعلى عصرية عمله الفني.
 
التجانس المصطنع    
   
 لا يستغني على جبار عن الاستعارة والاستيحاء من الأشكال في الطبيعة، فهي تأخذ عنده لغة رمزية غير محددة الأهداف، مثل استعارته لموضوع الشجرة في البعض من نصبه الحجرية. فإن التسامي الذي له صفة مشتركة بين الموضوع الطبيعي للشجرة وبين فكرة المعمار، يتَّحِدان في موضوع لعمل واحد يتحقق فيه التوافق المصطنع الذي هو من صميم العمل الفني. إذ يفضل الفن الفوضى المتجانسة على التوافق الطبيعي. يشير على جبار إلى معنيين موجودين في الطبيعة، هما التسامي والانتشار، مثل موضوع تسامي الشجرة واتساع رقعة أرضها بالتجاور في تكاثرها. فمرة يحقق عملاً نحتي من أحجار متفرقة منتشرة على مساحة عريضة، منتصبة مثل الأشجار، أو مثل انتصاب الجسد البشري والتي قد توحي بمسلات قديمة. ومرة نرى عمله النحتي يأخذ بالعلو متسامياً كما في الشكل الطبيعي للشجرة، أو في موضوع أطلال حضارة قديمة تجاوزت التاريخ حتى الزمن الحاضر، وهما في كلا الحالتين تشكلان إضافة جمالية لموضوع تداخل الموروث الثقافي الإنساني بالوجود المادي الطبيعي المحيط بنا. إن هذا الدور المتبادل بين التصور الفني والموضوع الطبيعي، حث الفنان علي جبار على خلق هذه الإضافة، بوعي منه على تحقيق نوع من التوازن بين التفكير البشري وقراراته بالعمل مع الوجود الطبيعي الحساس.
 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=34871
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 08 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28