• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الرحيل نحو الهاوية .
                          • الكاتب : اياد خضير .

الرحيل نحو الهاوية

لم يستطعْ التخلّص من عزلته ، كان وحيدا ً في هذا العالم ، عندما يهدُّه التعب من التجوال في الشوارع ، يرتاح قليلاً في مقهى ينظرُ إلى روّادها يلعبون ( الطاولي ، الدومينو ) وهو صامت ، لم يشارك أحدا ً حتّى في الكلام ، دخل مقهىً وجدها شبهَ فارغة كانتْ الساعة الواحدة ظهرا ً ، نادى لطلب الشاي ، أشعلَ سيكارته ظلّ ينفثُ بدخانها إلى الأعلى ينظرُ إليه وهو يتلاشى في سماء المقهى الواسعة ، غادر المكان إلى آخر وقلبه يعصره الألم ، جلس في كلِّ المقاهي والنوادي  ، احتسى جميع المشروبات الروحية ، لم يعدْ صنف من المشروبات لم يذقه ، كان يحرق سيكارته وهي تحرقه لا يهمّه صنف تبغها حار ، بارد ، رديء ، يتحدّثُ مع نفسه كالمجنون   متسائلاً :ـــ

كيف يمكن لامرأةٍ أن تراقص رجلاً غير زوجها ؟!

أ يعقلُ أن يحدثَ كلُّ هذا أمام مرأىً من زوجها ؟!

أيعقلُ أن يحتضنَ رجل ويراقص زوجتي وأمام عيني ؟!

حرام يا ابن الحلال حرام ! ..هكذا كان يحدّثُ نفسه .. يضحكُ ومرّة أخرى يتجهّم ، قادته قدماه إلى أحد النوادي الليلية ، انتبه إلى صوت أنثوي ينطلق أمامه ..

ــــ هل تتحدّث الانكليزية ؟!

ــــ لا .. أتحدّثُ العربية. 

ــــ ما أسمك ؟

ــــ أسمي خليل. 

ـــ من أين أنت ؟!

ــــ من العراق .

ــــ  آه .. بغداد .. لقد أثرتَ انتباهي ، إنك غريب ، تجلس وحيداً وفي عينيك حزن عميق .. أردتُ أن أسليك .. أن أزيحَ عنك بعض همومك ..

نظر إلى عينيها الزرقاوين ، كانت تبتسم حتى أغرقته ، هزّته على حين غرّه رعشة كانت قوية ، عاودته رغبة البكاء احتبستْ في حنجرته  .

ــــ ينبغي أن أسافرْ .. قالها وبحرقة وهو يكلّمُ نفسه :

─ إلى أين ؟ !

إلى الوطن .. لكن كيف وأنا هارب من بطش السلطة الظالمة ؟

 ظلَّ مرتبكاً ، حدّثها عن العالم الغريب عنه ، حين سكبَ لها الخمرة في الكأس ، ضحكتْ ..

ــــ هل تسكب هكذا لصديقاتك في بلادك ؟!

أحسّ بسكينٍ تغرس في قلبه.. ( بلادك ) .. لا بلادَ لي الآن لقد حدّثها عن حزنه الذي لازمه كالظلِّ منذ ولادته ، كان معه وهو في رحمِ أمّه ..هكذا هي الحياة ، سواءٌ ضحكتُ أم بكيتْ ، لا أنسى أنّني إنسان ..

قالتْ : أتتزوجني يا خليل ؟ 

ـــ  كيف أتزوجك ولديَ زوجة ؟

ـــ أيّ زوجه ، تلك التي تحتضن ذلك الرجل المقيت ، الذي سلبني كرامتي ، وهو الآن يضحك على زوجتك ليسلبها كما سلبني ..

ــــ زوجتي .. أتعرفينها ؟! لقد تركتها في البيت توّاً ..

ـــ  كلّ يوم تأتي إلى هنا ، وأنت لا تلاحظها ، تغيّر شكلها وملامح وجهها وتلبس الباروكة ذات الشعر الطويل وأنا أتابعها ، أخذتْ صديقي مني ، يجلسان في مكان بعيداً عن الأنظار ، وإنّها تعود إلى البيت قبلك ، لا تحسُّ بوجودها أو تأخّرها ..

أضطرب حتى أنخلعَ قلبه ، شعر بأنّه أقتلع من جذوره .. من جذوره العميقة في العراق ..

الشيء العراقي يبقى شيئاً عراقياً حتى لو فتّته وصاغته من جديد يد غريبة عنه ، يبقى منتمياً إلى تلك الأرض ذات التاريخ الضارب الجذور عميقاً في الإنسان ..

ـــ إنّه لواضح تماماً دون الرجوع إلى تحليل خاص ، بأنّ زوجتي سناء أحلامها ناتجة كلّها عن عقد جنسية ، وأنني أعرف السبب ، كانت تشعر بالاكتئاب عند وجودي بقربها ..

وها أنا كما ترين .. يتوغّلُ الشحوب في وجهي الذابل الذي يسلّط عليه الموت صفرة داكنة  والذبول في عيوني وقسوة الحرمان تطوي كلّ ما لديّ ..

عندما تنتهي معركة النهار ، تعقبها حرب الليل ، تبدأ بقرع طبول القلب قبل الشرف والعار ..

قالت محذّرة : إياك ،إياك أن تضربها ، فالقانون لا يسمح بذلك ..

ــــ تبّاً للقانون قالها بارتعاش ، قاذفاً بالشتائم شمالاً وجنوباً ..

عاد مسرعاً إلى البيت ، قبل موعد عودة زوجته ..عند عودتها تسمّرتْ في مكانها ، نظرت إليه بدهشة ، لم تتوقّع مجيئه بهذه السرعة .. عندما دنتْ منه أنهال عليها بالضرب المبرح أفقدها الوعي ليثبتْ شرقيته .. سجن على أثرها يومان بعدها سُفِّرَ إلى العراق ، كان طيلة سنوات الغربة يسمع أزيز سعف النخيل يئنُّ في صدره وحسرة وكوابيس مرعبة تحيلُ ساعات الليل الطويل إلى سهر مضنٍ .. اقتيد إلى مديرية الأمن .. تمزّق جلده من الضرب المبرح ، صرخ بصوت مدوٍ قائلاً : لماذا تضربونني  لأنني رفضت أن أكون قوّاداً في بلاد الغرب ؟!

 والله لو قبلت الحالة لكنت الآن في نعيم ، لكنّ عراقيتي منعتني أن أكون في تلك الحالة المزرية ، أنا الآن في موضع افتخار، شئتم أم أبيتم  ..أثناء صراخه تنهال عليه السياط .. سياط الجلادين من كلّ جهة ..

خرج مسلوب الإرادة .. يسير في شوارع المدينة تراوده أشياء غريبة ، شيء ما سوف يهجم على المدينة يأكل أهلها ، ربّما سرب من الغربان تنهش عقولهم وتخرّب بيوتهم .. أخذ يحفر خندقاً بطول امتداد قامته  لحماية مدينته من هذا الغزو المرتقب .. تجوّل في الشوارع ..

 منادياً : باسم المعذبين في الأرض ، أعلن هذا الخبر الهام وليبلغ الحاضر منكم غائبكم ، أن تتجمهروا في الحال بجوار المسجد الكبير في المدينة الذي أوشك أن ينهار، بفعل الغزو القادم  والذي سوف يشيد بسواعدكم وبما تجود أياديكم من أموال 

قــال أحدهم مستهزئاً :بما تجود أيديكم من أموال .. هه هه .. وهل خزائن ال... نهبت ؟!

قــال آخر : مسكين أنت وسيدك ؟‌!

على أثر ما جرى قامت جموع من رجال الأمن تقتاد وتخطف الرجال والنساء بلا تمييز  كالخراف من البيوت ، مرغت الحياة بالوحل ، ونكست الرؤوس وديست بالأقدام ..

صاح آخر : دعهم يختطفوننا .. دعهم يشيدون بيوتاً من أضلعنا ، نحن لم نتكلّم شيئاً في حضرته .. هذه نهاية المطاف .. الآن في هذه الظلمة تتوحّد كل الأشياء ..

مسح العرق المتدفّق من وجهه ، بصق ، كان بداخله شعور بأن حياته منتهيةٌ لا محالة   

لكنّ لشدّة خوفه من الذي سيحدث عاد إلى الحفرة التي حفرها انكبّ على وجهه داخلها  ، شعرَ بأنه خفيف وأنه يرتفع كالدخان الى سماء صافية زرقاء ..




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=36073
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 09 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28