• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : العبقري بين إنسانيته بالقوة وقوة إنسانيته ...!! ( 3 ) .
                          • الكاتب : كريم مرزة الاسدي .

العبقري بين إنسانيته بالقوة وقوة إنسانيته ...!! ( 3 )

ما العمل إذا وضعتْ الطبيعة العبقري أمام خيارين كما ذكرنا في الحلقة السابقة ؟ إما لذائذه وشهواته وأنانيته والخضوع لمشيئة السلطان ونزواته ومصالحه وكرسيه ،أو للخلود ، ومصلحة الأمة ، والإنسانية ، وهذه تتطلب مجابهة هذا السلطان  الأرعن ، ومكائده ، وأصابعه الرخيصة الدنيئة ، التي باعت إنسانيتها وكرامتها  بحفنة شعيرللكرش والبعير !! ، وقد وضعك الجواهري نفسه ذات   يوم ، وهو يشير للمعري الخالد  ، ويريد نفسه !  بين أمرين ، لا ثالث لهما، وقد  غادرناه في أواخر الحلقة الثانية ، ليطلّ علينا الآن قائلاً :    
وَأَنَّ لِلْعَبْقَـرِيّ الفَـذِّ وَاحِـدَةً *** إمَّـا الخُلُـودَ وَإمَّا المَـالَ والنَّشَبَـا
والخلود لا يأتي بالرغبة ، لذا يجب على أيّ إنسان شريف ، حريص على أمته ، ومستقبل أجياله - وما العبقري إلا مضرب مثل مثالي - أن لا يتقاعس ، ولا يستكين :
لا أستكينُ ورايتي لم ترفعِ ** و(رجال إبليسٍ) تدنسُ أربعي
ويجب أن لا يسكن بدائرة الخيال والأحلام والأوهام ، وإلا أي قيمة ستبقى  للإرادة إذا عجز صاحبها العجز كلّه على أن ينفذها ويجري أحكامها ، إنّما الإرادة العاجزة أقبح صور الذل ، وأبغض  ما يلقي الإنسان في حياته ، فيجب على المرء أن يستلهم روح الإيمان بالقدرة  ، وإشعال جذوة الإرادة الحرة  ، والتحرك بزخم الطاقة الملتهبة  ، وكما يقال (في الحركة بركة  ، والإيمان بالقدرة وحده ، هو الخليق بأن يحول الأشياء إلى أضدادها ، والنفوس إلى نقيضها -  والكلام موجّه للفرد العراقي والعربي ، ولعقلهما الجمعي -
1 - هذا سقراط مثال مثالي على عبقري  إنسانيته بالقوة  رغم قوة إنسانيته  ، عاش ما بين ( 470 - 399 ق . م .) ، ونشأ وترعرع في بيت متواضع ،  يحترف أهله نحت الحجارة ، وصنع التماثيل  ، وكان جاحظ العينين ، أفطس الأنف ، غليظ الشفتين ، ، وهو أبو الفلسفة ،يبحث عن الخير والفضيلة ، وعن تحرير الفكر والإيمان ،( وثار بوجه الآلهة المتعددة  ، وخرج عن تقاليد  مجتمعه الرذيلة بكل عنفوان وشموخ ، لإرادته الحرّة حتى حكم عليه قضاة أثينا بالإعدام  ، وشرب السم ) ، من الكلام الذي حصرته بين قوسين ، يتبين لنا بجلاء أن الرجل كان إنساناً بالقوة الفكرية ، من ثورته على الآلهه ، وخروجه عن التقاليد بشموخ حتى أن قضاة مجتمعه ، حكموا عليه بالموت ، وهو أقرّ على أنه إنسان بالقوة بدليل شربه السم ، بالرغم من أن تلاميذه وجدوا له طريقاً  للهرب فأبى ذلك احتراماً لشرائع مدينته ، كيف لا ؟! ويعتبر مؤسس علم الأخلاق ، وطالب بمعرفة الإنسان لنفسه ، وأصرّ على فلسفته بعناد وإصرارٍ وتحدي، وقال : " أيها الأثينيون أني أمجدكم ، وأحبكم  ، ولكني لأني أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أدع الفلسفة  ما دمت حيا ،، سأواصل إداء رسالتي من أجل الحق ،، فأنا لا أخاف الموت الذي يحتمل أن يكون جميلاً ... وإن الخير الأعظم لكم هو أن تتركوني أواصل رسالتي ، أما إذا أردتم تبرئتي على أن أترك البحث عن الخير وعن الحق  فسيكون جوابي أنا شاكركم أيها الأثينيون ، ولكني أوثر طاعة الله الذي أعتقد أنه ألقي على كاهلي ، هذا العبء الجليل ، وعند موتي أنكم ستدفنون الجسد  وحده ، أما الروح فذاهبة إلى مكان يبعث فيه السرور "  ، وكان سقراط يرفض كلّ مثوبة مادية تقدم إليه ، ولا يسأل الناس عن تعليمهم أجرًا ، فضرب مثلاً في التضحية ، والإصرار على مبدئه.
الرجل السقراط الحكيم ، فرض نفسه بالقوة على مجتمعه بأجمعه ، وليس فقط على حاكميه ، وصل إلى الموت فعانقه ، ولم يُخذل لمهابته ، وجهل ما بعده ، نحن اليوم أحوج ما نكون إلى رجال يتحدون بإصرار وكبرياء وصدق وصراحة وجرأة غير معهودة لتحويل مسار هذا الوطن الغافي ، وهذه الأمة المتعثرة بانتكاساتها إلىى الوجه الحضارية السليمة والصحيحة ، من يعجبه ، فليعجبه ، ومن لا يعجبه ، فليعجبهاً ، الأمة والوطن ، لا يتحملان بعد من ألاعيب الصغار ، وانتهازيتهم ، وازدواجيتهم ، وعمالاتهم وجهالاتهم ، كفى ...!!
علو الهمة وطول النفس في التأليف، ومواصلة الليل بأطراف النهار للبحث والدراسة ، وبالتالي إلى إبداع الملاحم ، وكتابة مجلدات ومؤلفات عديدة قيمة بتحليلاتها ، ونقدها ، ومنهجيتها  ، تثري الفكر الإنساني بشموليتها ، ليست ليست بالأعمال العادية  كبقية المؤلفات الناقلة الناسخة حتى بدون تحليل وترتيب وتركيب متجدد !! ( ما يعرفك يا لبن إلا الذي بيده أمردك ..!!) ، ، نعم المؤلفات المبدعة فكرا وتحليلاً ونقدا، ليست بالأعمال العادية ، فلا تسنح إلا لمن آتى بإرادة جبّارة لا تكلّ ، ولا تمل ، وهذا يعني استغلال الوقت بكلّ دقائقه ، وساعاته ، ، ويلخص مالك بن نبي مقومات الحضارة بالمعادلة التالية :
إنسان + تراب + وقت = حضارة
فالتقاء هذه العوامل الثلاثة سيولد لنا الحضارة إذا كان التقاء صحيحاً ، فبالنسبة للتراب موجود،  والوقت مازال امامنا ولكن الاهم هو الانسان أي الانسان الذي يعرف كيف يستغل الوقت استغلالاً مفيداً مستخدما فكره وعبقريته في تغيير الانسان الآخر واستعمال التراب (وكل ما فوق التراب ترابُ), فيرفع شأن الانسان فكرياً ويستخدم التراب عقلانياً لدفع عجلة الحضارة الى الامام.
2 - ميخائيل يوريفيتش ليرمنتوف :
 إنّ العبقري يسير مندفعاً بغريزته والدأب المستمر أحد ظواهره ،ا وهو لا يريد ان يزرع الاشواك أمامه ، لأنه أكثر الناس تعلقاً بالحياة ، جمالها وحلاوتها ،ولكن إحساسه ، وفطنته ، وحدسه ، وشكوكه تعلمه أيضاً إن الابداع في التأليف أو الاكتشاف العلمي او العمل الفني والالهام الشعري لم يكن يوما من الايام ضماناً للحمد والثقة, وإن الجد والدأب مع  الثقة بنفسه ،وشعوره  بالمناعة،  يدعوه الى المسالمة ولا يستجيش اليه ثورة النضال مادام في أمان من قدرته على علمه ،  وإن خليقة الجد والدأب تشغله لا ريب عن صغائر الكيد ولغو الفضول من غير طائل ، و اذا ما جوبه بالصدّ ويرى أن رأيه يصبُّ في مصلحة مجتمعه ورقية،  لا يتوانى في الاصرار على مبدئه ، ويصبح عبقرياً بالقوة ،  فهذا (ليرمونتوف) الشاعر الروسي الذي سارت حياته كلها لتثبيت حقيقة كلماته (لا،  لن أتغير سأكون ثابت العقل) ،  وان عناد ليرمونتوف هذا كان وليد نقاء حب لا بناء جلدته ،  وليد  الحب الذي قام تباعاً بصيانته وحمايته, لقد اتضحت طبيعة نزاع ليرمونتوف مع المجتمع فجأة وبشكل غير متوقع من الابيات الاولى للشاعر وبإعلانه الحرب على المجتمع وأعلن بداية حياته كشاعر كبير
                                             كم مملة الحياة بدون نضال *** انني بحاجة لأن أفعل شيئاً
إنه التمرد امام العوانق... إنه الرجل الذي يدفع العاصفة
ولد  الرجل  في موسكو في عام  1814  من عائلة نبيلة ، توفيت أمه وعمره ثلاث سنوات ، كفلته جدته ، ودرس في مدرسة راقية ، وعند دخوله جامعة موسكو ، شرع بنظم الشعر  ، توفي والده 1831، ودخل المدرسة العسكرية ، وتخرج منها ، ليصبح ضابط في الحرس الأمبراطوري ، وإن كانت قصيدته الأولى التي نظمها في عام 1829 أوسمها بـ (الشيطان) !!، ولكن القصيدة التي اشتهر بها في عموم روسيا هي القصيدة التي نظمها في رثاء شاعر روسيا العظيم (ألكسندر بوشكين ) إ ثر مقتله الغامض من قبل السلطة عام 1837  ، والتي أطلق عليها (موت شاعر ) ، فأثارت موجة غضب عارم في الأوساط الأدبية والثقافية والشعبية ، مما أدى إلى اعتقاله ، وإبعاده إلى القوقاز ، وبعد عودته إلى مدينة بطرسبورغ بجهود جدته وأصدقائه ، وعاش معيشة ارستقراطية K وفي عام 1840 استطاع مناهضو ليرمنتوف أن يدفعوه إلى المشاركة في مبارزة مع ابن السفير الفرنسي بارانت من تدبيرهم فقررت السلطات نفيه مرة أخرى إلى القوقاز. ورفض القيصر نيقولاي الأول تكريم ليرمنتوف على الرغم من الشجاعة الفائقة التي أبداها في ساحة القتال. وبعد عودته من الإجازة توقف ليرمنتوف في بياتيغورسك للعلاج. وفي هذه المنطقة تشاجر الشاعر مع زميله في الدراسة مارتينوف وقتل في مبارزة معه في أواخر (يوليو 1841   ) ،  الموت لا يدفع بالقوة ، فكن قوياً بالحياة ، إذا لم ترً من الزمن الغافل بسلطته ، و الذي يسير وراءك ، ولا يراك من بعيد إلا صغيرا ً  ، فكن حقاً كبيراً ، وما بعد الموت موت ، أختم قولي هذا ، بهذه الرواية ، وستأتينا ،بإذن الله ، في حلقة قادمة ، عن ( هؤلاء بين أيدي هؤلاء ) ، وإليك إياها ، لأغريك بقرآة حلقة الـ  (هؤلاء) :
قال: اجتمع جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك، فأحضر بين يديه كيساً فيه خمسمائة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيكم غلب فله الكيس، فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى*** وفي القطران للجربى شفاء
فقال الأخطل :
فإن تك زق زاملةٍ فإني ** أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي آتى عليكم  *** فليس لهاربٍ مني نجاء
فقال عبد الملك: خذ الكيس، فلعمري إن الموت أتى على كل شيء ، والسلام عليكم ، وشكراً على صبركم .



 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=40327
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 12 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28