• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : تأملات قرآنية في أحسن القصص ( 2 ) .
                          • الكاتب : جواد الحجاج .

تأملات قرآنية في أحسن القصص ( 2 )

في رحاب قصة نبي الله إبراهيم  (عليه السلام )

                     بسم الله الرحمن الرحيم

 الآيات المباركة :
((ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا)) النساء: 125
((إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين *شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم *وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين))النحل: 120 - 122
((قولوا آمنا بالله ومآ أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون)) البقرة: 130 - 131
((ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين67/3إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين)) آل عمران: 67 - 68

        في طريق الدعوة الى الله (عز و جل ) هناك من الرسالات ما شكلت محطات هامة ومفصلية حمل أعباءها عباد لله تعالى امتازوا بميزات نفسية استثنائية لعل أهمها الصبر والحكمة.. فضلا عن  الصفات العظيمة الأخرى ..  فهاتين الصفتين تحديدا ( الصبر والحكمة )كان لهم الأثر الأكبر في حسم المعركة مع الشرك .. سنلاحظ بروز هاتين الصفتين في كثير من المواقف الصعبة التي واجهها نبي الله وخليله ابراهيم (ع)وسنرى إن جانب العظمة في شخصية هذا النبي الكريم لا يتجلى في التخلص من الموقف الصعب بل في تحويله لعنصر هام في نشر الدعوة وترسيخ المبدأ .. لقد واجه نبي الله إبراهيم (عليه السلام) بيئات مختلفة للكفر ومدارس متعددة للانحراف الفكري  وقاد كل معركة بتكتيك معين وبأسلوب مختلف الأسلوب العملي والعلمي في دحض الأفكار المنحرفة وإبطال النظريات الفاسدة وتأسيس دعائم نظرية  التوحيد وإرساء مبادئ الحنيفية الإبراهيمية فكان وحدة  أمة يعبد الله الواحد الأحد فيما كل البشرية في زمانه كانت تغوص في أعماق ضلالها وكفرها وانحرافها .
                                  


                     
                             ـ 1 ـ
الولادة المباركة

     (قيل)   كان النمرود بن كنعان ملكا ظالما ضالا.. و كان التنجيم في زمنه مصدر المعلومة الأساس ..و في يوم  ينبأ بولادة مولود ( العام الذي ولد فيه نبي الله ) سيكون زوال ملكه على يديه ..
وكأي طاغية .. ينتاب الملك الفزع ويأمر باتخاذ كل الإجراءات التي تحول دون ولادة هذا المولود المنتظر .. فيأمر بقتل كل مولود يولد في هذا العام ...و تعزل النساء عن الرجال .. ويلقى القبض على كل حبلى حتى تضع فإن كان المولود ذكرا قتل وان كان أنثى تركت ...
     تشاء الإرادة الإلهية أن تكون ولادة نبي الله في هذا العام ( الذي تنبأ به المنجمون ) فعلا , وأين ؟ في دائرة الطاغية الضيقة ..في دلالة على ان الحق يغزو الباطل في عقر داره وهو على موعد معه كي لا يبرر عجزه فيما بعد بالمفاجأة  وعدم الاستعداد  ..
     كانت أم سيدنا إبراهيم زوجة  لآزر .. وفي ذلك الوقت كان المركز الاجتماعي لزوج الأم بمثابة الأب ـ لذا فقد سمي آزر أبا لإبراهيم ـ تماشيا مع العرف السائد ( وهو ما يقول به أهل التفسير ).. وكانت أمه أختا لأم لوط .. وكان مولد إبراهيم (ع) بقرية قرب الكوفة تسمى ( كوثى ربى ) ..وكان آزر محسوبا على قصر النمرود ومن كبار موظفيه ومسؤلا عن مبيعات الآلهة وهو منصب رفيع وله صفة دينية ووظيفية في نفس الوقت .. لذا فإن بيته كان بعيدا عن دائرة الشكوك ..
     حين وضعته أمه .. دهشت من فرط بهاء طلعته وجمال ملامحه وخافت عليه بغريزة الأم بقدر فرحها به وتيقنها انه المولود الذي يقصده القوم ..تأخذه بعيدا عند مفازة جبل خارج المدينة لتتركه فيه .. تستودعه الله (تعالى) في تصرف غير مألوف لدى النساء ...ويبقى ابراهيم (ع)  في كهف هذا الجبل الموحش يحرسه ويرعاه رب رؤوف رحيم .. يأخذ الصغير يده فيمص إبهامه ليرضع حليبا مباركا يشبعه كل حين .. فإذا عادت الأم وجدت  وليدها  على أحسن حال وأتم نعمة .. فيطمئن فؤادها و تترسخ ثقتها برعاية السماء لوليدها المبارك ...
   وتمضي الأيام و يكبر ابراهيم الصبي بنصف الفترة التي يكبر بها غيره ..  وذات يوم تقرر الأم قرارا فيه مجازفة خطيرة ولكن كان لابد منه .. قررت ان تعود بوليدها الى البيت ..وبالفعل فذات يوم كان الأب- العم - (آزر)على موعد مع مفاجأة لم يقدر حجمها وان أدرك ذلك بعد فوات الأوان ... تدخل زوجته ومعها صبي كفلقة القمر .. فتأخذه الدهشة ويلقي الله تعالى محبته في قلبه لهذا الصبي الذي لم يرأحسن وجها منه .. ويدهش أكثر حين يسمع من تفاصيل ولادته وبقاءه وحيدا في الجبل ...ولكن ما إن تزول دهشته حتى يفكر بواقعية .. كيف له التعامل مع هكذا موقف خطير وهو يعلم انه ينتهك القانون .. القانون الذي يفترض أنه أحد الأمناء على تطبيقة ..؟ ماذا يكون موقف النمرود الطاغية منه وهو المعروف بقسوته وبطشه بأقرب المقربين له ؟ ويفصح عن هواجسه ومخاوفه لزوجته التي تطمئنه انها ستتولى الأمر ان أكتشف ..
    ويبدو انه اقتنع على مضض خصوصا أن لا حل آخر أمامه .. فحتى لو قام بإخبار النمرود بأمر المولود  فإنه لا يسلم من اللوم والحساب واتهامه بالتستر .. نستطيع ان نلمس من هذه اللقطة ان آزر لم يكن والدا لإبراهيم  بدليل انه لم يتفاعل عاطفيا مع ولادته  بل اعتبر الأمر مشكلة تعامل معها كرجل أجنبي  تاركا أم الوليد تتحمل المسؤلية ... 
                                                   ـ 2 ـ
في بيت آزر
    إبراهيم الذي نشأ موحدا لله تعالى بالفطرة ..ينشأ في بيت مملوء الأصنام التي يعدها زوج أمه للبيع .. إنها مفارقة سيئة جدا ولكن إبراهيم الذي يلهمه الله (عز وجل )الحكمة يتعامل معها بطريقة لا تخلو من الطرافة ..
فالأصنام توزع على الأولاد كل حسب نصيبه بما فيهم إبراهيم ليتولوا بيعها ..
     يأخذ إبراهيم نصيبه من الأصنام فيربطها الى بعضها ويجرها على الأرض .. تحقيرا لها .. فتكسر أيديها وأرجلها .. وهو يصيح : من يشتري ما لا ينفع ولا يضر؟ وسط دهشة الناس الذين لم يسمعوا عن آلهتهم غير عبارات التقديس والتبجيل .. هم يرونها تًهان  وتسحب بطريقة مذلة وعلنية  .. وينتشر أمر ازدراء  إبراهيم للآلهة .. يضطر آزر الغاضب منه أن يسحب منه العمل ويحبسه في البيت وهو ما أراده إبراهيم تماما ..
لكن الأمر كانت له تفاعلات كبيرة خصوصا بعد أن يصل الخبر الى القصر .. ويصيب النمرود ..الذعر والغضب في آن واحد  و يستدعي آزر على وجه السرعة للوقوف على حقيقة ما يجري من أمر الصبي المتمرد ...
ويقع ما كان يخشاه آزر ويشعر بالخوف من بطش الطاغية .. ولكنه يتذكر ما تعهدت به أمه من التصدي للأمر.. ليرى ما تفعل !!
    وتتصدى الأم بكل ثقة وقد استشعرت ان هناك قوة هائلة تقف معها وتساندها لذا فإن الخوف والرهبة لم يجدا طريقا لقلبها وهي تقف أمام الطاغية وأركان دولته .. وكعادة الطغاة فإنهم يتصنعون التعقل والحكمة والهدوء في بادئ الأمر.. يسألها النمرود عن السبب وراء إخفاءها أمر مولودها رغم معرفتها بالقانون الصادر من القصر ..؟ فتقول بكل هدوء : أيها الملك رأيتك تقتل أولاد رعيتك فيذهب النسل .. فلما ولدت الغلام أخفيته وفي نيتي أدفعه اليكم ان كشف الأمر وطلبتم ذلك وان لم يكن بقي لنا ..طبيعي انه جوابا ليس مقنعا وخاصة لطاغية متجبر مثل النمرود الذي يعتبر أوامره  أوامر مقدسة لا يعذر مخالفها .. ولكن هي إرادة الله تعالى التي تحول بين المرء وقلبه .. هي من جعلت النمرود يقبل تبريرها ويعفو عن أم موسى ووليدها .. ولم يكن يعرف  ان قرار العفو هذا هو من يفتح عليه كل الأبواب التي يخشاها والتي من أجلها قتل آلاف الضحايا من المواليد الأبرياء الذين لا ذنب لهم  ..
ويعيش ابراهيم في بيت آزر حياة يشوبها التوتر في بعض الأحيان  بسبب تطاوله على الآلهة التي تزعج زوج الأم  كثيرا وتسبب له الحرج مع السلطة الغاشمة وذات يوم يفاتحه آزر فيما يثير  قلقه... ولكنه يفاجأ بموقف صارم من جانب إبراهيم الذي يجد الفرصة مناسبة لتوضيح حقيقة هذه الحجارة التي يعبدها آزر أو يسترزق من عبادتها ..وان ما يقوم به مع قومه هو محض ضلال .. فتتوتر العلاقة بينهما فيما أم إبراهيم تدفع الثمن الأكبر في هذه المرحلة من عمر الرسالة مابين الخوف على إبنها ورسالته التي تؤمن بها .. وبين الخوف على ضياعها وأولادها  ـ من آزر ـ  في مجتمع  ليس للمرأة فيه مكانا الا في كنف رجل ..

.. وينتشر أمر استهزاء إبراهيم  وكفره بالآلهة مما يستدعي  وضعه  تحت المراقبة الشديدة وبأمر من الجهات الرسمية في القصر .. لكن ذلك لم يحد من نشاط نبي الله والنيل من أرادته    واستثمار كل فرصة مواتيه لتبليغ رسالته ..

وتمضي الأيام ويكبر إبراهيم (ع) شابا يتقد حماسا .. يحمل هموم أمته المتخبطة في ظلالها
كانت مسؤوليته غاية في الصعوبة خصوصا اذا عرفنا ان الفترة التي عاصرها والتي كانت من أكثر الفترات التي شهدت انحرافات في الفكر والعقيدة وتنوعت فيها بيئات الانحراف .. كان ينتقل من معركة الى أخرى محرزا انتصارات باهرة ..
ـ 3 ـ
((وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذآ أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين)) الأنعام: 75 - 79

      بعد ان سفّه عبادة الأصنام وحقّرها بطريقة وصلت أصداءها لكل مكان .. انتقل لتسفيه عبادة كانت سائدة في ذلك الزمن وهي عبادة الكواكب وشيوع التنجيم واتخاذ النجوم كمصدر لجلب الخير ودفع الشر ..
يأتي ابراهيم (ع)  لهذه الفئة الضالة .. متظاهرا ان يبحث عن الحقيقة لعله يجدها في عبادتهم .. فيتجمع الجميع حوله وكل طرف يأمل  في كسبه لصفه خصوصا بعد ان شاع أمر تسفيهه لعبادة خصومهم عبدة الأصنام ..
   ففي ليلة وفيما عبدة كوكب  (الزهرة) مجتمعون معلقين أنظارهم حول معبودهم يمارسون  طقوس عبادتهم .. نظر إبراهيم (ع) معهم وهو يتظاهر لمعرفة الحقيقة .. فقال باستهزاء يكتمه (( هذا ربي !)) فلما غاب هذا النجم قال لهم (( لا أحب الآفلين )) بمعنى كيف لحبيب أن يغيب وأين أجده إن ولهت عليه كيف أناجيه وهو غائب فأنا أريد حبيبا دائما معي أتضرع اليه وأدعوه وأذوب وجدا فيه في كل حين .. وذكر لفظة (( أحب )) دليل على العلاقة الوجدانية التي تحرك المشاعر .. ويتركهم مع الأسئلة الحائرة التي أثارها .. ليذهب الى قوم ينهمكون في عبادة كوكب (القمر) ..فيشير اليه ويقول باستخفاف بعقولهم وبصيغة سؤال استنكاري (( هذا ربي )) فلما غاب قال لهم انه كيف لرب يغيب وأين يذهب ؟ أين يذهب العباد ؟ إنه الضلال  .. الذي لا منقذ منه سوى هداية الله تعالى .. وهو كلام موجه الى هؤلاء الضالين وقد قاله (ع) وكأنه يخاطب نفسه ليكون أكثر إقناعا لهم .. و فعلا هو يخاطب نفسه باعتبار ان الله تعالى هو الهادي المطلق وهو الملهم بالهداية المتفضل بها على أولياءه وعباده الصالحين ..
    ويتركهم كذلك في حيرتهم يترددون .. ثم ينتقل الى من يعبدون كوكب الشمس وقد قاموا بالتحضير لطقوسهم التعبدية عند إشراقها .. ويرون إبراهيم مفند عبادات خصومهم الواحدة تلوى الأخرى .... يقف نبي الله في وسطهم وهو يشير الى الشمس (( هذا ربي !هذا أكبر )) في استهزاء لم تتبينه عقولهم التي حجرتها اعتقاداتهم الفاسدة فقد ظنوا أنهم أهدى من غيرهم من عبدة الكواكب وإن إبراهيم قد أوشك على الاقتناع بمعبودتهم الشمس هكذا ظنوا قبل أن يخيب ظنهم عند مغيب الشمس  بموقف نبي الله الساخر من عقولهم.. ..عندها وبعد أن يسقط هذه الاعتقادات الفاسدة يجد الفرصة مواتية لإعلان عقيدة الهدى عقيدة التوحيد والتسليم لفاطر السماوات والأرض في إشارة الى آلهتهم المزعومة جميعا من أصنام صنعت من الأرض من كواكب وقمر وشمس تحويها السماوات الكل خلق الله خاضع لمشيئته ..

وقفة :
هنا لابد أن نقف على دلالة تلك الطريقة الإبراهيمية في الحوار و الإقناع ...
•    إنه (عليه السلام) تنزل لمخاطبة الآخر وفق منهجه وما يؤمن به ثم تظاهر بأنه يتماشى مع منطقه بعد ذلك يلزمه الحجة العقلية .. وهو تصرف ذكي وحكيم للغاية فهو يتعامل مع خصومه كل بالطريقة التي تناسبه فعبدة الكواكب تقوم عقيدتهم المبتدعة الضالة على بقايا علوم مندثرة في التنجيم وتأثير الكواكب فلم يسخر منهم كما لاحظنا عند تعامله مع عبدة الأصنام وكان لابد من تفنيد فكرة تقدسيهم لهذه الكواكب  والتأكيد على أفولها وغيابها كدليل قطعي على عدم صلاحيتها لأن تكون ربا جدير بالعبادة فمن يغيب هو عاجز عن تدبير شأنه فضلا عن الاهتمام بشأن غيره ...
•    لقد سمع نبي الله حجة الآخر بكل ما تحمل من ضلالة وحاججهم بالمنطق الذي يتماشى مع الفطرة ولم يمنعه انحرافه من الاستماع الى حججهم وأدلتهم وهذا ينطوي على درس كبير في الحوار مع الآخر المختلف مهما كانت حدة معتقداته بغية إقامة الحجة عليه ..
•    لم يتركهم نبي الله دون حلول بعد ان قام  بتفنيد آراءهم وتسفيهها دون أن يبين لهم طريق الهداية طريق العودة الى الله تعالى الى من خلق هذا الكون الرحب بكل سمائه وما حوت وأرضه وما أقلت ..

لقد كانت تلك المناظرة علامة فارقة في تثبيت عقيدة التوحيد التي اجتذبت الكثيرين لدعوته .. و في يوم آخر ليس ببعيد من ذلك اليوم  جرت أحداث هامة جدا كانت بمثابة إعلان بداية انطلاق الدعوة الإبراهيمية المباركة ..
                                                     ـ 4 ـ
((فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون * قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين* قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم*قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون* قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم*قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون* فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون* ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون* قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم*أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون))الأنبياء: 58 - 67
عند اشراقة الصباح بدا الناس يتهيئون ليوم الزينة يوم احتفال سنوي يعتبر من أكبر أعيادهم وفيه يخرج الناس خارج مدنهم ليحتفلوا ويمرحوا ويقضوا اوقاتا مميزة لذا فإن في  ذلك اليوم تتحول المدن الى مدن أشباح تخلو تماما من سكانها .. فيجد نبي الله فرصة ذهبية عليه استغلالها .. ويدبر خطة لا تخلو من الطرافة ولكنها عميقة الدلالات بالغة المعنى ..تتناسب وسذاجة عقول القوم المعطلة .. لكن قبل ذلك .. كيف ينفذها وهو مرغم على الخروج من المدينة التي أصبحت فارغة من أهلها ؟..
فهو لا يستطيع الامتناع من الخروج ابتدءا وإلا لشكّوا في الأمر خصوصا وهم يعرفون من هو إبراهيم .. وموقفه من آلهتهم وتحقيره لها ..  لذا فإنه مشى لمسافة معهم ثم أدعى وجعا في رجله تمنعه من مواصلة المسير ويخرسهم الله فلا يعترضون على عودته ..
يعود الى المدينة الخالية ويدخل بيت الأصنام ..ويأخذ فأسا فيقع عليها ضربا وتكسيرا فيما يبقي على كبير الأصنام معلقا الفأس على عاتقه في مشهد ساخر كأنه يوحي أن كبيرهم  من قام بتحطيم رفاقه ..
حتى اذا شارفت  الشمس على المغيب .. وعاد أهل المدينة الى ديارهم  منتشين مسرورين  .. صدموا من هول المفاجأة .. واستولت عليهم الدهشة ..وهم يرون آلهتهم مقطعة مجزرة يعلو بعضها بعضا ..بينما انتصب كبيرهم وقد علق الفأس بعاتقه .. لقد كان منظرا مثيرا ومضحكا .. لكن أصحاب الجماجم الفارغة أصابهم الذعر وأحسوا بالخزي و الاهانة ..
وبكل شجاعة يقف نبي الله أمامهم منتصبا ترتسم على وجهه علامات النصر والأرتياح بقدر ما بدا على وجوه القوم من الخيبة والخذلان .. وتُجرى محاكمة علنية سريعة.. ولكن لمن كانت تلك المحاكمة ؟
لقد أرادوها لإبراهيم .. ولكنها وبفطنة وحكمة نبي الله أصبحت لضمائرهم المخدّرة ... َ
ويشير نبي الله باستهزاء الى كبير أصنامهم المهشمة ولا زال يحمل فأسه باعتزاز !!
ويسقط في أيدي السفهاء .. لا يدرون بماذا يجيبون ؟ ويتبادلون نظرات حائرة بينهم ..ياله من مأزق وجدوا أنفسهم فيه .. فهم يعلمون تماما أن إبراهيم هو الذي حطم أصنامهم  ولكنهم يعلمون أيضا بأن هذه الأحجار الصماء لا تفعل شيئا لا تنطق ولا تتحرك ولا تجلب لنفسها نفعا ولا تدرأ عنها خطرا .. لقد حاصرهم نبي الله بفطنته وحكمته ..  ولم يكن أمامهم  سوى خيارين كلاهما أمّر من الآخر .. إما العفو عن ابراهيم وحفظ ما تبقى من ماء وجوههم الكالحة بعدم نسبة العجز لآلهتهم .. واما الاعتراف بحقيقة هذه العقيدة البلهاء التي يعتنقوهاوهذه الأحجار التي لا تضر ولا تنفع .. وبعد مشاورات بينهم لا يجدوا مفرا من اختيار الحل الثاني
قالوا له بغباء انك تعلم ان هؤلاء لا ينطقون فكيف لنا أن نسألهم ؟ هنا يرى نبي الله الفرصة مواتية تماما لكشف زيف عبادة هذه الأحجار العاجزة .. وتعريتهم أمام عقولهم مخاطبا الفطرة في داخلهم ..
ان إبراهيم النبي لا يكتفي فقط بالدفاع عن نفسه بل ويكون في مركز الهجوم عليهم وعلى عقولهم  البائسة التي سمحت لهم بعبادة أحجار صماء جامدة.. لقد كان خطابه مع هؤلاء الحمقى حادا وعنيفا لإيقاظهم من سباتهم العميق ..
وبالفعل ينجح نبي الله في جذب عدد غير قليل من المؤمنين بدعوة التوحيد التي تعتبر هذه الحادثة بداية الانطلاق لها ..
                                  ـ 5 ـ
ويصل الخبر الذي انتشر كالنار في الهشيم ..الى القصر .. وما أن يذكر أسم إبراهيم أمامه النمرود  حتى يستبد به الخوف الذي يداريه بغضب عارم كما هو شأن الطغاة دوما ..
ويرسل في إحضاره على الفور .. ويواجه إبراهيم (ع) الموقف بكل شجاعة .. يحضر عند النمرود الطاغية الذي يأمر أيضا بحضور العامة .. وبغباء يحاول مرة أخرى الطاغية أن يهزم إبراهيم فكريا قبل تصفيته جسديا ..
بغرور القوة يسأل النمرود ابراهيم عن مبادئ دعوته
(( ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين*أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير))البقرة: 258-259
        لقد حاجّه  إبراهيم (ع) بمسألة الإحياء والإماتة كمسألة حسية تتناسب وسطحية تفكير النمرود .. ولكن الأخير  يفهم الأمر بغباء أيضا  حيث يأمر بإحضار سجينين محكوم عليهم بالإعدام  يأمر بتنفيذ الحكم به فورا فيما يفرج عن الثاني .. قائلا بزهو المنتصر أنا أيضا أحيي وأميت . أمت السجين الأول وأحييت الثاني ..وتصفق الحثالة التي تحيط به تزلفا ونفاقا لسيدها الأحمق الذي ظن أنه كسب الجولة .. لم يجادله إبراهيم (ع) في ما قام به من عمل ساذج ينم عن جهل في حقيقة الإحياء والإماتة لم يقل له ان ما قام به لا يعدو كونه تصرف خارجي طارئ على الأصل  لا يدخل في حقيقته وجوهره ..  لأن الجدل مع المبتلى بآفتي الحمق والغرور هو غير منتج وضياع للوقت.. لذا فقد ألهم الله تعالى نبيه حجة دامغة أخرست النمرود  ومعه كل الطغاة الجبابرة الحمقى على مر العصور .. قال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فإت بها من المغرب .. يا لها من حجة وبرهان دامغ .. ضربة قاضية مميتة .. أسقطت الطاغية .. فلم ينبس ببنت شفة ,, وسط ذهول الجمهور الذي ظل يتفرج على خيبة نمرودهم الذي لاذ بصمته متلفتا الى أعوانه ومنافقيه الذين لم يسعفوه بشيء .. فما عساه أن يقول .. هل يدعي بأنه هو من أتى بالشمس من المشرق وليس الله .. عندها سيكون كاذبا ومثير للسخرية ذلك ان الشمس كانت تشرق من مكانها التي قدر الله ان تشرق منها قبل ان يأتي الى هذه الدنيا .. وان تغيير جهة إشراقها بيد خالقها ..
فبهت الذي كفر خائبا ذليلا .. وخرج ابراهيم منتصرا من جديد
                                                   ـ 6 ـ
موقف عقائدي راسخ

       وهناك حيث بيت آزر يواجه نبي الله  مشكلة اجتماعية خاصة .. لابد من حسمها وان كان سبق وأثارها تتعلق بعمه آزر الذي بقي مصّرا على عبادة الأصنام ..
((واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا*إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا*يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا*يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا*يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا*قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا*قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا*وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا*فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا*ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا)) مريم: 42 - 50
     لم يكن أمر إبراهيم (ع) مع آزر هينا .. فرغم اختلافه معه في العقيدة الا انه على المستوى الشخصي (كما يبدو ) لم تكن هناك مشكلة خاصة وهذا ما يستشف من تكرار كلمة (يا أبت) للتأكيد على ودية العلاقة بينهما أو على الأقل من جانب إبراهيم ذلك إن أولياء في تعاملهم مع الآخر لا يبحثون عن نقاط الاختلاف  ولا يتوقفون طويلا عند إساءة الغير لهم و يتجاوزون عن السيئة ما لم تمس العقيدة ويحاولون قدر ما يستطيعون ألا يكونوا مصدر أذى للغير ويحفظون عهدهم وجميل صنعهم وان كان ضئيلا ..  من هنا لم يعرف آزر عن إبراهيم إلا كل خير باستثناء كفره بالآلهة ولم يعرف إبراهيم سوءا من آزر في تعامله الإنساني معه..
وهنا تبرز قاعدة الولاء لله تعالى والبراءة من أعداءه .. حين لا يكون المقياس في الحب والبغض سوى درجة القرب والبعد من الحق سبحانه بغض النظر عن العلاقة الشخصية ومدى قوتها أو ضعفها .. لذا فموقف نبي الله كان واضحا وصارما وبعيدا عن العاطفة والحسابات الأخرى ..
لكن لنلاحظ أمرا هاما عرضته الآيات المباركة ..
أن نبي الله هو الذي ابتدأ الدعوة إلى عقيدة التوحيد وهو المبادر الى إنقاذ آزر من الضلال وأنه (ع) قد برر دعوته لأبيه (عمه) بالخوف عليه ان يموت على الشرك فيمسه عذاب من الرحمن .. مما يعني ان إبراهيم (ع) هو من حسم أمره أولا مع هذا المشرك الذي خير نبي الله بين الكف عن دعوته أو هجرانه وإلا يتعرض للرجم أي تسليمه للسلطات ..
وبعد أن استيأس منه أخذ المبادرة بالهجران ولكن أي هجران ؟ انه الهجران الجميل ابتدأه بالسلام وطلب الغفران بعد توفيقه للهداية ..
لقد تركهم ..بعد ان أقام الحجة عليهم وفوض أمره لله تعالى ..
                                                  ـ 7 ـ
ويستمر نبي الله بالمضي في دعوته التوحيدية ..  مما يجعل خطره حقيقيا على عقيدة الدولة وأمنها القومي .. فيصدر القصر قرارا بالقبض على إبراهيم الذي أصبح وحيدا .. بلا سند عائلي أو عشائري يوفر له غطاءا ..كما أعتقدوا بغباء ..وبالفعل يلقى القبض على إبراهيم النبي وعلى الفور يأمر النمرود  بإعدامه ..وكعادة الطغاة و الجبابرة  فإنه يريد طريقة لإعدامه تتحدث بها الأجيال ويعبر من خلالها على عظيم غضبه على هذا النبي الذي أحرجه أمام شعبه وجعله يشعر بالخزي أمامهم في مناظرته معه .. يريد الطاغية أن يحتفل على طريقته الساديّة ويفكر ومعه بطانة السوء بهذا الأمر طويلا .. ويعينهم الشيطان الذي يرشدهم الى طريقة غاية في القسوة والخبث لم يعرف لها البشر نظيرا ..قرروا إحراق ابراهيم حيا .. أليس هو من يهددنا بنار الآخرة وسعيرها سيتذوقها في الدنيا .. هكذا صورت لهم أحلامهم المريضة وسذاجتهم ..ويعلنون النفير العام وتسّخر الدولة كل امكاناتها من أجل ذلك .. فيأمر رأس النظام بأن تنظم حملة وطنية لجمع الحطب بحيث يملأ واديا عظيما .. لقد أراده الطاغية  انتقاما مميزا يليق بجبروته  ..
     هنا لابد ان نقف عند غرابة أطوار الطغاة وحمقهم وكيف إن سكر غرورهم يفقدهم القدرة على التفكير السليم  .. فهم يعدون مسرح خيبتهم بأيديهم ويهيؤواجوا مجلجلا لهزيمتهم .. فإذا كان قصد النمرود التخلص من ابراهيم .. لماذا لم يأمر بقتله بطريقة عادية وينتهي الأمر ؟ لماذا هذه الطريقة المروعة وهذا المشهد العظيم وبحضور شعبي حاشد .. انه جنون السلطان الغاشم.. بل إرادة الله تعالى حيث يستدرجهم من حيث لا يشعرون ..
     ولعدة أيام يستمر القطيع البشري الأعمى بجمع الحطب من كل مكان .. بحيث لا تبقى شجرة قائمة عل أصولها ..في اليوم المحدد وبعد ان تنتهي التحضيرات النهاية  يفكرون في أمر آخر مهم .. كيف لهم أن يقذفوا ضحيتهم الى وسط النار الهائلة .. مرة أخرى يدلهم وليهم وسيدهم إبليس اللعين الى طريقة جهنمية من وحي أفكاره الخبيثة .. إنه المنجنيق تلك الآلة العجيبة التي لم تعرفها البشرية من قبل .. انها براءة إختراع سجلت باسم الشيطان .. وبهذا المنجنيق اللعين قتل ملايين البشر على مر التاريخ اللاحق   واستمر الاستخدام الشيطاني لتلك الآلة ..وفي يوم التنفيذ يُهيأ مسرح الجريمة بشكل احتفالي حيث ينصب عرش فخم للطاغية وتحيط به حاشيته وأركان نظامه ..عند ساعة الصفر .. تشعل النار العظيمة ويرتفع لهيبها حتى تسد الآفاق بمنظر مخيف ومرعب .. ويُحضر إبراهيم مقيدا .. لكن  المدهش انه كان هادئا مطمئنا تعلو وجهه علامات الارتياح الأمر الذي أستفز الطاغية  .. وأصدر إشارة بدء التنفيذ .. وفيما جسد نبي الله يربط على آلة القذف ( المنجنيق ) كانت روحه الكبيرة تسبح في فضاءات الشكر والعرفان لسيده ومولاه على توفيقه لحسن العاقبة .. وتزداد نفسه اطمئنانا ورضا وتسليما ..ويقذف ابراهيم (ع) .. في مشهد عظيم يرقبه أهل الأرض وأهل السماء ..
   وفي لقطة رائعه (يذكرها أهل العلم بكثير من الإجلال) يعارض جبرئيل (ع) إبراهيم وهو في طريقه الى النار الهائلة التي أوقدها الظالمون .. ويقول له .. ألك حاجة يا نبي الله ؟ ترى ما يكون رد أي إنسان بينه وبين مصيره المحتوم ثوان بل أجزاء من الثانية ثم يأتيه من يعرض مساعدته وهو قادر على ذلك  .. ما حاجته تكون غير طلب العافية والنجاة .. لكن كما قلنا ونقول ان أولياء الله وأصفياءه لهم قانونهم الخاص ..فإبراهيم (ع) لم يجعل النجاة غايتة ولا الحياة طلبته .. ان الحياة بالنسبة له وسيلة لتحقيق هدف وأداء رسالة والفوز  برضاه سبحانه وتعالى هو لا يحرص على الحياة بذاتها كما نحرص نحن .. لذا كان الجواب الخالد ليعلم ان الله يعلم حيث يجعل رسالته  .. :  أما لك يا أخي جبرئيل  فلا .. وأما لربي فعلمه بحالي يغني عن سؤالـــي ..
لـم تعرف الدنيا جوابا كهذا جمع فيه التوحيد والتوكل والتسليم وتفويض الأمر لرب كريم سميع بصير لطيف لما يشاء ..
    وينجح إبراهيم من جديد في الاختبار العظيم .. حاملا الدرس الكبير ..لبشرية عطشى .. لم يكن إبراهيم الا بشر فيه قابليات الضعف الإنساني .. يخاف ويألم وفيه غريزة حب الحياة  لم يكن ملكا مجردا ولكنه ارتقى بتلك النفس حتى وصلت أعلى درجات سموها ارتبطت بفيض نور ربها فاكتسبت ضياءا بدد ظلمة الهواجس والمشاعر الانسانية ..
و جاء أمر الله تعالى لتكون تلك النار بردا وسلاما .. صارت نار نمرود العظيمة .. جنة لجسد  إبراهيم نسيما عليلا شعر معه الخليل ببرد لذيذ ..
       لكن قبل ان تكون النار بردا وسلاما .. كان إبراهيم (ع) قد أطفأ نار خوفه وضعفه الإنساني ببرد تسليمه ورضاه وثقته وتوكله وكبير رجاءه ببارئه وسيده ومولاه ..
لازال الموقف مثيرا .. فالقوم لايعلموا ما حصل لإبراهيم (ع)  .. لا زالوا يشاهدون أعمدة   اللهب تتصاعد تسد الآفاق بمنظر مخيف ومرعب.. نمرود وأعوانه وجنوده ومنجميه يترقبون فيما الهمج الرعاع يتفرجون كما هو شأنهم دوما ...
      ويستمر الترقب المثير لساعات قبل تخمد النار مخلفة وراءها تلالا عظيمة من الرماد .. ويسرع الجلاوزة  لعلهم يجدوا بقايا رفات إبراهيم (ع) الذي مازال ينعم بتلك الجنة التي هيأها له ربه الكريم مستلق بارتياح لم يزعجه سوى الصخب والهرج والمرج الذي حدث على أثر هول المعجزة التي نزلت كالصواعق المحرقة على رؤوس الطاغية وأركان نظامه الذين أمروا الناس الذين أفزعهم هول ما رأوا أن يتفرقوا .. و الغريب ان هذا القطيع قد تفرق دون أن يعلم لماذا استدعي ولماذا تم تفريقه .. لنعلم  مدى صعوبة مهام الرسل في مجتمع يرى ويسمع الآيات الباهرة ولكنه يتعامل معها ببلادة ولا يحرك ساكنا ..  
                                              ـ 8 ـ
 بعد هذه الهزيمة المجلجلة لمعسكر الكفر .. يعقد اجتماع للدولة التي تعلن رسميا هزيمتها .. ويتشاور الخائبون فيما بينهم .. ويوصي  كبير مستشاري النمرود .. بطرد إبراهيم وأهله ومعهم لوط.. كي لا يفسدوا عقيدة الناس !!! مفارقة لا تحتاج الى تعليق ....
وينفذ القرار على الفور وبطريقة تعسفية .. حيث يحرم نبي الله وزوجته من ثروتهما  .. الأمر الذي أحتج عليه إبراهيم النبي ( يقال ) إنه رفع أمره الى القضاء الذي حكم لصالحه وسمح له بأخذ ماشيته معه .. ان صح ذلك فهو يدل على مدى تطور النظام القضائي واستقلاله عن النظام السياسي .. قد يشكل البعض على ذلك القول فيتساءل عن القضاء المستقل وأين هو من محاكمة ابراهيم والذي يبدو أن أمر محاكمة نبي الله وقضية الحكم بإحراقه لم تنظر من قبل القضاء العادي بل نظرت كونها مس بأمن الدولة وهي من اختصاصات محكمة خاصة شكلت بأمر النمرود..
ويخرج إبراهيم (ع) من القرية الظالمة .. يخرج منتصرا ..قد أقام الحجة على قومه  .. وأدى أمانته.. ولم تبق وسيلة الا واستخدمها من أجل هدايتهم ..
وهم في طريقهم الى الأرض المقدسة وجهتهم الجديدة والمحطة الثانية للدعوة الإبراهيمية .. يقع أمر مثير له تأثير على قابل الأحداث .. يذكره الرواة نورده للاستئناس و استنباط الفكرة وإن كنا وفق منهج البحث لدينا نقف فقط عند المحطات القرآنية في سير الأنبياء (عليهم السلام)..
(يقال) أنهم  مرّوا على مدينة يحكمها رجل من القبط يدعى ( عرارة )  وهم على مشارفها  وعند نقطة التفتيش يشك في أمرهم الحراس .. فيأتوا بهم الى الحاكم الذي ( قيل ) ما إن يرى (سارة ) حتى يعجب بجمالها وسارة بن لاحج هي ابنة خال نبي الله ابراهيم وكان أبوها نبيا ليس بصاحب رسالة  .. فيمد يده اليها ويستبد الغضب بنبي الله الذي لا يجد له ناصرا الا الله تعالى فيدعوه الا تصل يد الحاكم الى زوجته وعلى الفورتُشل يد الحاكم ويحمد ابراهيم ربه .. لكن الحاكم قال له اسأل ربك ان يعيد ليّ يدي ولن أتعرض لزوجتك .. ويدعو إبراهيم ربه الكريم أن يعيد للرجل يده التي شُلت .. ويعيدها الله تعالى الى حالتها الطبيعية .. لكن الحاكم تصرف كما يتصرف البشر في كل زمان ومكان ينقض وعده فيمد يده الى (سارة) محاولا الإساءة اليها .. ومن جديد تُشل يده .. هذه المرة يتملك الرعب قلب الحاكم ويدرك شأن إبراهيم النبي .. فيقول له وقد بدا عليه الصدق ان دعوت ربك بشفاء يدي فاستجاب علمت إن لك شأن عنده وصدقتك .. ويقول له إبراهيم : سأدعو لك ربي شريطة ان لا تلجئني الى الدعاء مرة أخرى في إشارة الى حياء نبي الله من ربه الكريم .. ويتعهد الحاكم بذلك .. ويستجيب الله تعالى لدعاء خليله من جديد ...ودوما .. فهو الغني القادر الذي لا يبخل بالاجابة حتى يضن العبد بالدعاء ..
ويفي الحاكم بوعده هذه المرة ويحترم إبراهيم احتراما كبيرا ويعظمه وينزله منه منزلة عظيمة ويقدم لزوجته  هدية تمنى من نبي الله أن  يقبلها وهي جارية قبطية اسمها هاجر ( التي سيكون لها دورا كبيرا في حياة الرسالة والمرسل فسبحان مسبب الأسباب )..
( يقال أيضا ) ان الحاكم حين  شيّع إبراهيم وأهله في موكب مهيب .. مشى بين يديه وجعل إبراهيم يتقدمه في المسير , وأن الله تعالى أوحى الى نبيه أن يتأخر ويجعل الحاكم أن يتقدمه طبقا للسنن وحفظا للمقامات الدنيوية لأن الرعية لا بد لها من حاكم بر أوفاجر ..
إن صحت هذه الرواية ففيها درس عظيم .. يفسر لنا طبيعة تعامل أولياء الله مع الحكام البررة منهم والفجرة ..وان نزول الولي عند بعض المراسيم (البروتوكولية ) التي تفرضها طبيعة العلاقة مع  الحاكم لا تقلل من شأنه ولا تفصح بالضرورة عن موقفه الشرعي تجاه حكمه ..
                                         

                                                 ـ 9 ـ

مشكلة في المحيط العائلي لنبي الله
    ويسير الركب نبي الله .. زوجته سارة .. لوط .. ومعهم هاجر الجارية القبطية المهداة الى سارة ..  ويستقر  حيث أمر الله .. لا يعطينا التاريخ تفاصيل كثيرة عن هذه المرحلة من عمر الرسالة الإبراهيمية .. ولكننا سنتوقف عند مسألة عائلية أو شخصية تتعلق بالعلاقة بين نبي الله وزوجته سارة .. فالحياة الاجتماعية لأولياء الله لا تختلف في شكلها العام عما يعيشه الآخرون وخصوصا في العلاقات الإنسانية ..كالعلاقة مع  الزوجة كإنسانة لها تطلعاتها البشرية  ومحدودية أفقها التي لا ترتقي  في كثير من الأحيان  الى  مستوى ما يفكر به المعصوم الذي يتفهم تلك الطبيعة بل ويتسامح معها لدرجة مدهشة ..
     فقد مرت مدة ليست بالقصيرة على زواج نبي الله من سارة دون أن يرزقا بالذرية .. ومسألة الخلف عند نبي يحمل رسالة السماء له أكثر من مجرد مدلول نسبي .. الأمر يرتبط بالإعانة على أداء الرسالة والتكليف الشرعي .. ويعرض إبراهيم النبي أن تبيعه جاريتها ليتزوجها طلبا للولد .. الزوجة التي  يداخلها ما يداخل النساء من مشاعر الغيرة وحب الذات خصوصا وأنها ترى هاجر وما هي عليه من جمال وحداثة سن ..  ولكن نزولا عند رغبة زوجها النبي توافق وفي قلبها شيء ..( و يقال) أن سارة هي التي بادرت الى ذلك رغبة منها في إدخال السرور على قلب زوجها النبي بعد أن استبطأ الولد .. أي كان الأمر فإن المهم ما حدث بعد ذلك ..
      فبعد أن زواج نبي الله من هاجر .. يرزق منها بإسماعيل فتكون أم ولد .. وتبدأ نار الغيرة بالاتقاد شيئا فشيئا وتبدأ المشاكل المعتادة بين الضرتين وان كان وجود النبي يخفف منها ولكنه لا يلغيها .. فالحياة الاجتماعية لدى الأولياء تتخللها الكثير من التفاصيل التي تحدث لبقية الناس ..
ولحكمة يريدها الله تعالى .. يقوم نبي الله بإخراج إسماعيل وأمه الى المكان وعر يقال له (الأبطح )  يتركهما في بيئة موحشة حيث لا ماء ولا شجر ولا مؤنس ..
هنا لابد أن نقف طويلا عند هذه النقطة فقد يبدو في الظاهر أن تصرف نبي الله لا يتماشى مع ما يفكر به معظم الناس فكيف يمكن أن يترك رجلا عائلته في هكذا ظروف لم  تؤمن فيها أبسط ظروف المعيشة الإنسانية ..ومقومات الحياة .. يتركهما وحدهما ويذهب ؟..إنه لأمر يثير الاستغراب لدى معظمنا ..
لكن في قانون الولاء والثقة بأمر الله العزيز الحكيم الذي يعلم ولا يُعلّم هو أمر طبيعي عند  أولياء الله هو أمر معتاد .. فحين يأتي الأمر ما على الولي الا التنفيذ وبأعلى درجا ت الإخلاص .. لم يكن إبراهيم الإنسان مرتاحا لوضع زوجته وابنه الوليد الذي أحبه كثيرا ولكن مشاعره  الإنسانية أخضعها بالكامل لرضا معبوده ومحبوبه الأوحد ..  من جديد قد يُشكل البعض.. الا يكون في تصرف نبي الله في إبقاء أم مع وليدها وسط أرض وعرة جرداء حيث لاماء ولا غذاء ولا معين منافاة للعقل ؟    
  ويبرز هذا الإشكال حين نتعامل مع الأمر بسطحية ووفق ما تفهم عقولنا القاصرة   .. بربط الأسباب المادية بالمسببات ..فنتعامل مع الأمر الإلهي وفق حساباتنا البشرية و معارفنا المحدودة  و قصر نظرنا .
     ففي حين ينظر الولي الى الآمر الحكيم الخبير .. ننظر نحن الى الأمر الإلهي  وفق ما تفهمه عقولنا القاصرة ثم نخضع هذا الأمر الى الى أنفسنا بأهوائها ورغباتها بمخاوفها وترددها .. فنحجم حيث يقتضي الإقدام ونقدم حيث يفترض الإحجام ..
     إن أولياء الله  حين يأتيهم الأمر من بارئهم  لا يصغون الى أسئلة العقل المحدود ..كيف ؟ ولماذا ؟ ولا لهواجس النفس وترددها .. لكن ! ماذا لو ؟  هذه الأسئلة والمخاوف الوهمية يخلو منها قاموس المتوكلين ونكثر منها نحن بجهل وقلة يقين .. لذا فإن   امتثال  الأمر الإلهي الصادر هو إعمال للعقل وليس تعطيلا له كما يتوهم .. و تنفيذ النبي إبراهيم (ع)  لأمر ربه كان درسا عمليا تحتاجه البشرية في الثقة والتوكل على الله .. وإرتقاء العقل البشري للتسليم للأمر الغيبي والاعتراف بعجزه ومحدوديته ..هو قمة ما يصل اليه من مستوى ورجاحة .. بالمقابل  كلما ارتبط العقل بالأسباب المادية المحسوسة كلما تضاءل وغلبت عليه البلادة والخيبة ..
                              ـ 10 ـ
((ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون))إبراهيم: 37
ويدعو ابراهيم (ع) ربه دعاءا رقيقا ينم عن عظيم رجاءه وثقته ..إنه يدرك مدى صعوبة الأمر على هاجر كإمرأة وحيدة قليلة التجربة مع وليدها الرضيع في بيئة لا تتوفر فيها أبسط سبل الحياة ولكنه يدرك ومتيقن ومطمئن انها برعاية رب كريم قادر ولنلاحظ :
o    أنه (ع) قد قام بالدعاء بعد تنفيذه الأمر.. ولايخفى الفرق بين الدعاء قبل التنفيذ وطلب الرخص والأعذار وبين التوكل عليه سبحانه وتنفيذ الأمر ومن ثم  الدعاء باللطف ..
o    إن دعاؤه لم يكن مخصوصا بحالة زوجه وصغيرها ..بل كان دعاءا عاما شمل كل الأجيال اللاحقة .
o    إن الدعاءقد أفاد المكين في ذكر الضمير (هم) دون المكان الذي خص بالبركة المادية وفي ذلك دلالة على الأرواح والأنفس الزكية من ذرية إبراهيم (عليهم السلام) .
o    ان الدعاء بالرزق المعنوي بجعل أفئدة الناس تهوي الى ذريته قد سبق الدعاء بالرزق المادي المتمثل برزق الثمرات ..
و تماشيا مع أدب الدعاء أعقب دعاؤه بالفرج دعاء لطيف يثبت عقيدة الإقرار بالعبودية والتسليم المطلق لرب عالم بالسر وأخفى ..

      هاجر تلك المرأة التي أثبتت أنها على قدر المسؤولية التي القيت على عاتقها والتي لم تكن بالهينة .. وان الفترة القليلة التي قضتها مع نبي الله قد أهلتها لأن تكون لائقة بحمل الأمانة الإلهية .. يروى إنها قالت حين وجدت نفسها في المكان المنقطع (( يانبي الله لمن تتركنا في هذا المكان .. من يكفينا ؟)) فيجيبها نبي الله ( الذي أمرني أن أضعكم بهذا المكان هو الذي يكفيكما )) فيطمئن قلبها وتتقبل تلك المرأة المؤمنة ذلك الامتحان بصبر وتسليم ورضا بأمر الله تعالى .

  هاجر مع صغيرها في صحراء مقفرة .. تتلفت حولها لاتجد غير  الطبيعة الصماء الموحشة .. وترتفع الشمس ويشتد الحر .. ومعه يشتد عطش صغيرها إسماعيل .. وبغريزة الأم تبدأ بالبحث عن الماء .. فتصعد الى أعلى جبل الذي سمي ب(الصفا)  وتنادي بأعلى صوتها .. هل هناك من أنس ؟ ويرجع اليها الصدى .. تكرر ذلك عدة مرات دون مجيب ..فتزيد وحشتها .. ثم تلمح سرابا في الوادي تظن انه ماءا فتهبط مسرعة اليه  وماان تصل حتى تكتشف خداعه .. فتصعد هذه المرة الى جبل سمي ( المروة ).. وتهبط من جديد الى الوادي لعلها تجد الماء وقلبها عند صغيرها الظامئ.. تفعل ذلك سبع مرات .. وحين أرهقت تماما واستنفذت كل قواها سلّمت أمرها الى الله تعالى .. وراحت تجر أقدامها لتعود حيث وليدها ..وعندما تصل تجد أعظم مفاجأة بانتظارها .. فالماء الذي كانت تبحث عنه سبعة أشواط أرهقتها .. الماء الذي كانت بحاجة لقطرات منه تبقي صغيرها على قيد الحياة هو الان تحت أقدامه المباركة .. نبعا صافيا زلالا .. فتسجد الأم المؤمنة التي لم تيأس من روح الله تعالى طرفة عين ..تجثو على ركبيتها وتعفر وجهها بالتراب متمتمة بعبارات الشكر والامتنان لربها الكريم الذي لا يخذل أولياءه .. تأتي لصغيرها لتسقيه الماء المبارك ومن فرط فرحها بالماء ثم تزُّمه ( تجمعه ) بيديها حوله فيسمي ذلك المكان بزمزم .. لكن عطاء الله تعالى ليس كما ظنت هاجر انه عطاء واسع على قدر المعطي الوهّاب .. فتتحول ذلك المكان المقفر الى واحة خضراء تعج بالحياة فينبت الزرع ويكثر الشجر فيأوي اليها الطير ويعيش الحيوان .. ليس ذلك وحسب .. فنعم الله تعالى تتوالى كما سنرى ..
لكن قبل ذلك لابد أن نقف عند ما فعلته هاجر لنستخلص دروس هامة :
o    ان هاجر لم تستسلم لقدرها وتجلس تندب حظها أو تنتظر الفرج ..بل قامت بفعل مادي تمثل في الحركة والسعي وقطع الأشواط المرهقة .
o    ان الفرج الإلهي لم يأتي الا حين استنفذت هاجر كل قوتها البشرية وحيث لم يبق لديها أي جهد تدخره ..وسلمت بعجزها ..
o    ان الحركة التي قامت بها (زمّها الماء) وان كان يفصح عن طبيعة بشرية عند المرأة تحديدا الا انه يعلمنا درسا في  التدبير وعدم الإسراف حتى على مستوى زم الماء ..كي تتذكر البشرية فيما بعد وهي تشرب من نبع زمزم تلك الحكمة الإلهية منه ..


هاجر وابنها .. في بيئتها الجديدة حيث  لديهم ضروريات الحياة  . لكن لا زالت الوحشة تلف المكان .. لازال الشعور بالوحدة يسيطر على هاجر غير المعتادة على ذلك .. ويأبى الله تعالى الا ان يتم نعمته عليهما ويبدد كلما ينغص صفاء عيشهما ..
فقريبا منهما كانت تسكن  قبيلة من قبائل العرب تدعى (جرهم ) يلفت نظرها انعطاف الطير والوحش نحو مكان تواجد إسماعيل وأمه .. فيتبعون الأثر .. وإذا بهم يجدون جنة أرضية فيها  كل أصناف نعم الله تعالى .. وليس فيها غير امرأة وصبي فيسألون عن شأنهما فتجيب هاجر اها زوجة نبي الله إبراهيم وهذا ابنه ..فيعظمون ذلك .. ويسألوها أن تسمح لهم بالإقامة بالقرب منهم .. فلا تسمح الزوجة الصالحة لهم الا بموافقة نبي الله ..
بعد ثلاثة أيام .. يأتي  خليل الرحمن ليطمأن على حال ولده وأمه .. وما إن يرى حالهما حتى يحمد الله تعالى على لطفه ورحمته .. وإن كان حمده لا ينقطع على كل حال وتحت أي ظرف ..
ويهنئ زوجته بنجاحها بالامتحان .. وتكبر مكانتها في قلب الخليل .. وتخبره بأمر القوم الذين استأذنوها بالنزول قربهم ..فيأذن بذلك بعد التعرف عليهم ..
وتتحول قبيلة (جرهم ) الى حضن اجتماعي صالح لإسماعيل (ع) الذي يترعرع متشبعا بقيم الإيمان الذي يستقيها من والده النبي وقيم الرجولة التي يكتسبها من مجتمعه الجديد فيصبح قرة عين لأبيه الذي أحبه كثيرا.... هذا الحب جعله يمر بأقسى وأصعب  امتحان الهي.. كما سنرى..


 بعد أن نجح ابراهيم في تثبيت مبادئ العقيدة .. نظريا من خلال الصحف السماوية المنزلة وعمليا من خلال الدروس الحياتية العملية التي قدمها نبي الله الى البشرية .. جاء الأمر الإلهي ببناء البيت الحرام ..ليكون رمزا لوحدة توجه المؤمنين ..ومكان مقدس لإقامة شعائرهم ..
وينزل الأمين جبرائيل ليحدد الموضع الذي يبنى فيه البيت .. ويمتثل الخليل لأمر ربه بكل تفان ..  إسماعيل الذي بدأ عوده يشتد  كان هو خير عون لأبيه النبي في بناء البيت .. وبالفعل وبعون الله تعالى يتم بناء البيت الحرام , ويأتي الأمر الإلهي لإبراهيم بأن يحج ومعه إسماعيل وحج معهما جبرائيل يعلمهما مناسك الحج وشعائره ..
بعد ان اكتمل بناء البيت أسكن فيه إسماعيل وأمه .. التي لم تلبث طويلا حتى لبت النداء مرتحلة في جوار ربها .. تاركة إسماعيل لرعاية أبيه الذي يهتم به اهتماما بالغا وينزله من نفسه منزلة عظيمة .. كان يرى فيه سيماء الصالحين وخصال الأولياء .. لم يكن حبا أبويا عاطفيا وحسب .. رغم ذلك يبدو ان نبي الله قد أعطى لإسماعيل مساحة للحب أكثر مما يجب .. فالله تعالى هو الغيور الذي يريد أن يكون هو الأوحد في قلوب أولياءه  ..  لا يريد لوليه ان يتعلق بغيره مهما كان هذ الغير ..
 ((فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين))الصافات: 102
في أحدى الليالي يرى إبراهيم (ع) في المنام إنه يذبح حبيبه إسماعيل .. وحيده يتيم الأم ..وهو في مقتبل صباه .. ويسترجع نبي الله كثيرا ..انه الامتحان الأصعب لكن لاسبيل أمامه سوى اجتيازه في رضا سيده ومولاه ..وتنتاب إبراهيم الإنسان الكثير من المشاعر والخلجات الوجدانية ..إن أي أب في الكون لا يتحمل رؤية ابنه يذبح أمامه فكيف الحال عندما يكون هو من يتولى ذبحه ؟ ماذا بشأن إسماعيل ماذا سيقول له .. كيف سيتقبل الأمر ؟ أسئلة كثيرة تدور في أذهاننا وربما خطرت بفكر الخليل مع فارق كبير فنحن نسألها بتردد في أصل التنفيذ وهو (عليه السلام) يسألها بتوكل في كيفية التنفيذ ولنا أن نتصور الفارق بين الحالتين ..
هنا ..تكمن عظمة أولياء الله و سر الاصطفاء  والاجتباء .. لتتجلى الملكات النفسية الهائلة لديهم (عليهم السلام) .. في دروس مثلتزادا معنويا للبشرية..  
في اليوم التالي ينادي نبي الله على إسماعيل  الذي يقبل بوجهه الملائكي.. يجلس بين يدي والده الذي يتأمله طويلا .. اسماعيل يدرك أن هناك  أمرا جللا يشغل فكر أبيه النبي .. وقبل ان يبادر إسماعيل بالسؤال .. يقول له نبي الله بصوت خفيض رقيق لا يخلو من حزن وإشفاق ولكنه مملوء رضا وتسليما .. 

وتقف عقارب الزمن .. ويذهل أهل السماوات قبل أهل الأرض لهذا المشهد العجيب .. ولا يدرون أيهما أعجب .. موقف الأب الرقيق الحاني الذي تعلق بولده ووحيده وهدية السماء اليه بعد انتظار طويل وهو يمسك السكين لذبح ذلك الولد .. أم موقف الابن المسلم لأمر الله والذي أخذ بحث والده لتنفيذ الأمر والتخفيف من وطأته النفسية عليه ؟؟ الذي يدهش أكثر إن إسماعيل ورغم حداثة سنّه لم يناقش الأمر وكأنه يقدم على أمر معتاد .. رغم أن الأب لم يقدم على تنفيذ الأمر الا بعد استشارته لأبنه وفيما يراه .. مما يدل على مدى أهلية إسماعيل لأن يكون محلا للابتلاء العظيم ..يقول إسماعيل لأبيه افعل ماتؤمرلكنه نسب صبره على الألم النفس والجسدي الى المشيئة الإلهية ولم ينسبه لنفسه ..
كان ذلك في العاشر من ذي الحجة .. وفي مشهد يستحيل وصفه إبراهيم  الخليل يصطحب ابنه لينفذ أمر الله تعالى وعند الجمرة الوسطى يضجع إسماعيل لجنبه الأيسر .. ويأخذ السكين .. بقلب امتلأ طاعة لله ومحبة له سبحانه ..ويمتثل الابن بثبات ويتهيأ الاثنان للتنفيذ ..ياله من مشهد عظيم !! الكون بما حوى يرقب الحدث بكل دهشة وإشفاق على قلب الخليل ..
((فلما أسلما وتله للجبين*وناديناه أن يا إبراهيم*قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين*إن هذا لهو البلاء المبين*وفديناه بذبح عظيم*وتركنا عليه في الآخرين*سلام على إبراهيم*كذلك نجزي المحسنين *إنه من عبادنا المؤمنين))الصافات: 103 - 111
وفي اللحظة التي يخرج فيها إبراهيم آخر ذرة لحب إسماعيل من قلبه الذي يصبح مملكة خالصة لله تعالى .. وفي اللحظة التي يصل فيها إسماعيل لقمة التسليم  يأذن الرب الرحيم بإنهاء المشهد المقدس  انتهى الامتحان بنتيجة مبهرة لخليل الرحمن وابنه وبدروس عظيمة للبشرية  .
لقد كان درسا إلهيا عظيما تجسدت فيه قيم عقائدية وعرفانية كبيرة .. منها :
•    التسليم المطلق لأمرالله تعالى والتنفيذ بأقصى درجات الإخلاص والرضا ..
•    ان الأمر لم يكن هينا بكل المقاييس الإنسانية ولكن استشعار إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام ) لرضا محبوبهما قد جعله كذلك  ..
•    إن قلب الولي مملكة الله الخالصة .. التي يجب الا يكون فيها موضع قدم لغيره( أي كان هذا الغير) .. هذا لا يعني انتفاء المشاعر الإنسانية من القلب بقدر ما يعني أن تنصهر تلك المشاعر في حبه تعالى وحده..ان يكون حب الله (عزوجل ) هو البوصلة التي تحرك اتجاه العاطفة حبا وبغضا ..رضا أو سخطا ..
•    ان الغاية من الابتلاء الذي يتعرض له أولياء الله علاوة على كونه دروسا تثقيفية لنا فإنه يبرز سرالاجتباء لهؤلاء الأولياء العظام الذي  لم يكن منحة ربانية مجانية تعطى لهم دون امتياز..  بدليل هذه الابتلاءات  ونجاحهم التام بها .. هذا النجاح الذي لم يأتي الا بتوفيق الحق سبحانه بعد مكابدات نفسية ورياضات قهروا بها ذواتهم المقدسة ليصلوا الى حقيقة العبودية لله تعالى ..
محطات في الدعوة
وتمضي الأيام وخليل الرحمن يثبت قواعد الإيمان وأساسيات العقيدة ويعلم الناس مناسك حجهم واصول عبادتهم .. لكن المهمة ليست بالسهلة في مجتمع لازال متمسك بقيم الأرض المتسافلة ففي إحدى المرات يشكل على الناس مسألة أحياء الأموات بعد فناء أجسادها بمعنى أدق هم يشككون بالآخرة كعقيدة.. كعادته في الإقناع فإنه يسأل ربه عن الموضوع كي يبينه للمشككين وهو العالم به المتيقن منه ..
((وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم)) البقرة: 260
     ان كل ما مّر به نبي الله من مراحل ابتلاءيه كانت درجات قرب يتشرف بها عند رب كريم لا يضيع أجر من أحسن .. كان إبراهيم يتألق في سماء الاجتباء .. فمن نبي كريم الى رسول الى رسول من أولي العزم الى خليل الرحمن الى أعظم درجة اصطفاء وهي الإمامة ..
((وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)) البقرة: 124
إن الإمامة موضوع عقائدي من أصول عقيدتنا وهو من أهم أعمدة الدين لذا فإننا نحيل القارئ الكريم بتقصي البحث عن هذا الموضوع من مصادره  .. ولكن لا بأس أن نشير هنا الى ما يخص ابتلاء  الخليل (ع) فمما يلاحظ :
•    من ظاهر الآية الكريمة ان الاصطفاءللإمامة لم يأتي تكريما الا بعد أن أختبر بتلك الكلمات التي أتمهن وقيل انها ذات الكلمات التي ابتلي بها آدم فسجدت له الملائكة بأمر ربها ..            
•    ان نبي الله وبنفسه الكبيرة قد سأل هذا الشرف لذريته .. بمعنى انه سأل عن خصوصية وأهلية ممن سينالهم هذا الشرف وكأنه (ع) يعلم سيأتي ممن يتطفل وينصب نفسه هذا المقام ظلما ليأتي  جوابا إلهيا قاطعا وحاسما لتسمع كل الأجيال اللاحقة الى يوم يرث الله الأرض وماعليها.. ( لا ينال عهدي الظالمين ) أيا كان هذا الظلم ظاهرا او باطنا صغيرا او كبيرا ماضيا او حاضرا بمعنى أدق وأوضح لا يشمل الا المعصوم ..
•    ان الآية الكريمة نصّبت إبراهيم إماما للناس كافة وليس للمؤمنين أو المسلمين فقط مما يبين إن الإمامة منصب الهي وحاكمية دينية ودنيوية وهو مايجسد نظرية الاستخلاف الإلهي في الأرض ..

ضيوف ابراهيم الخليل (ع)
((ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ*فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط*وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب*قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب*قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد*فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط*إن إبراهيم لحليم أواه منيب*يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود))هود: 69 - 76
     عرف عن خليل الله (ع) انه كريما شهما .. ذات يوم ينزل على إبراهيم ضيوف أدهشه حسن حالهم رغم أنهم كانوا معتمين  .. ولم تمنعه سنيّه ( المائة والعشرون ) التي بلغها  من القيام بخدمتهم ..كانوا أربعة .. فينهض مسرعا مستبشرا فيذبح لضيوفه عجلا سمينا يقدمه مشويا لهم (يعلمنا درسا في إكرام الضيف) .. ولكنه لاحظ أنهم لا يأكلون .. زادت شكوكه بشأنهم وأضمر في نفسه خوفا من خطورة مهمتهم .. وحين لاحظ الضيوف دهشة نبي الله منهم .. أفصحوا عن هويتهم ومهمتهم ..
اما هويتهم فقد كانوا .. رسل الحق سبحانه وتعالى كل من : جبرائيل وميكائيل واسرافيل وكروبيل .. وقد عرفهم نبي الله حين حسروا عمائمهم .. وسألهم عن المهمة التي جاءوا من أجلها ..فأخبروه بأنهم جاءوا من أجل إهلاك قوم لوط الذين أسرفوا وعاثوا في الأرض فسادا .. يقول بعض المفسرين أن (سارة) زوجة نبي الله التي أصبحت عجوزا تجاوزت الثمانين كانت مارة بالقرب منهم وسمعت كلامهم ففرحت بإهلاك القوم المسرفين .. فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب .. وقسم آخر من المفسرين يرى إن بشرى رسل الله كانت ابتداءا وقبل أن يخبروا نبي الله بمهمتهم .. على كل حال فإن ابراهيم النبي وإن كان قد فرح بالبشرى الا ان كل تفكيره كان عند مهمة الرسل الأصلية وتحديدا عند لوط (ع)..
    لكن ما السر في جدل إبراهيم (ع) وماهي حقيقته ودوافعه ؟
 مما قاله أهل العلم أنه  (ع) قد جادل الملائكة كثيرا ولكن جداله كان :
 *  نابع من نفس كريمة تحرص على الخير ولا يسعدها الإهلاك .. ولا يبدو ان مايقلقه كان لوط (ع) لأنه يعلم سنن الله تعالى في خلاص  عباده الصالحين ..
 * إن جدله كان للوقوف على ماهية الأمر فلما تبين له قطعيته سلّم بأمر الحكيم الخبير ..
  * إنه جدال لإظهار مدى الرحمة الإلهية حين قال للملائكة ..أتهلكون قرية فيها مائة من المؤمنين : قالوا .. لا  قال فإن كانوا خمسين  قالوا .. لا  .. وهكذا أستمر معهم في ذكر أعداد المؤمنين حتى قال : أتهلكون قرية فيها مؤمن واحد  ؟ قالوا.. لا قال إن فيها لوطا .. قالوا نحن أعلم بمن فيها  لننجينه وأهله الا امرأته كانت من الغابرين ....لقد قام بواجبه كأمام يشق عليه تهلك أمة في زمانه دون أن يستقصي أحوالها من إقامة الحجة عليها ...
لقد أظهر هذا الجدال مدى التميز والإيجابية العالية وشفافية الروح التي كان يتمتع بها هذا الرسول الكريم ..
نعود الى الزوجة العجوز المبشّرة ..
هنا لابد أن نذكر أن بعض المؤرخين قد قسوا كثيرا على سارة واتهموها بسوء الخلق بل وذهبوا الى اعتبار سوء خلقها  أحد ابتلاءات نبي الله إبراهيم (ع) ..وقيل ان نبي الله قد شكا الى ربه سوء خلق سارة ..و في الوقت الذي لا نقطع بعدم صحة تلك الروايات  .. لكن مواقفها لا يستشف منها سوء خلق خارج عن المألوف لدى غالب النساء حتى  ما نسب اليها من مضايقتها لهاجر الأمر الذي اضطر معه نبي الله أن يخرج بضرتها ووليدها خارج البلدة ليجري عليها ما جرى ..لحكمة أرادها الله تعالى ..
وإن تلك الحادثة كانت مقصودة من قبل نبي الله لتعليم الناس كيفية معالجة المشاكل الاجتماعية واتخاذ أقصر الطرق لحسمها خشية تفاقمها ..
عموما .. لا نجزم برأي بقدر ما نناقش المسألة بكل أبعادها ..
ف(سارة ) كانت تعيش مشكلة نفسية تتعرض لها كثير من النساء المتزوجات  تجرح مشاعرها وهي الحرمان من الولد .. ومما زاد معاناتها أن الجارية التي أهديت لها .. قد أصبحت هي   ضرتها وترزق ولد مبارك مثل اسماعيل .. فتعيش ( سارة )  مشاعر الغيرة كما تعيشها كل أنثى بمثل وضعها .. اضافة الى انها لم تتعود وهي المرأة العربية ذات النسب الرفيع والعز الباذخ أن تقارن بجارية قبطية تُهدى في مجتمع لم تترسخ فيه القيم الإنسانية بعد ..
ثم ان (سارة ) هي من وقفت مع زوجها نبي الله جاعلة أموالها بخدمته مهاجرة معه تاركة الأهل والديار مما يدل حسن طويتها وإخلاصها لنبي الله .. ولكن يمكن القول انها لم ترتقٍ بتهذيب نفسها بما يكفي وهي تعيش في كنف نبي مرسل .. لم تستفيد كثيرا من بناء ذاتها كما فعلت هاجر التي استلهمت الدروس العقائدية والأخلاقية التي كان يمر بها نبي الله .. ويبقى الفارق شاسعا بين توكل وثقة وإيمان هاجر بقدرة الله (عز وجل ) وبين ضعف عقيدة (سارة ) وقولها ( أألد وأنا عجوز ) باعتمادها على الأسباب المادية في الإنجاب  وتوبيخ الملائكة لها (أتعجبين من أمر الله ) هذا التوبيخ الجميل .. التوبيخ الدرس والموعظة لكل مشكك بقدرة الله تعالى ..
وكي لا يفسد هذا التوبيخ جو الفرحة التي عمت بيت الرسالة وإكراما لخليله وذريته المطهرة في صلبه ختم الباري تبارك وتعالى البشرى .. ببشرى أعظم وأغلى وأجلّ وأسمى
حين قال عز من قائل (    رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ليكون ذكرا مباركا خالدا يتلى كل حين من لحظته الى يوم الدين ..
  صحف إبراهيم(ع)
عن أبي ذر (رحمه الله ) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أنزل الله على ابراهيم (عليه السلام )عشرين صحيفة , قلت : يا رسول الله ماكانت صحف إبراهيم ؟
قال : كانت أمثال كلها ,وكان فيها ,أيها الملك المبتلى المغرور ,إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها لبعض ,ولكن بعثتك لترد دعوة المظلوم , فإني لا أردها وإن كانت من كافر .
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا ,أن يكون له أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه (عز وجل ), وساعة يحاسب فيها نفسه ,وساعة يتفكر فيما صنع الله (عز وجل )إليه ,وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال. فإن هذه الساعات عون لتلك الساعات , واستجمام للقلوب وتوريع لها .
وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه , مقبلا على شأنه ,حافظا للسانه ,فإن من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه الا فيما يعنيه .وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث : مرة لمعاش ,أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم .....
حبيب يحب لقاء حبيبه

روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام )أنه قال  : لمّا أراد الله تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم (عليه السلام) أهبط اليه ملك الموت , فقال : السلام عليك يا إبراهيم ,قال : وعليك السلام يا ملك الموت , أداع أم ناع ؟ قال : بل داع يا إبراهيم , فأجب ,قال إبراهيم ,فهل رأيت خليلا يميت خليله ؟ قال : فرجع ملك الموت حتى وقف بين يدي الله (جل جلاله) فقال : إلهي قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم , فقال الله (جل جلاله ) : ياملك الموت , اذهب اليه وقل له : هل رأيت حبيبا يكره لقاء حبيبه, إن الحبيب يحب لقاء حبيبه ))
مثلما كانت الولادة استثنائية .. كانت وفاة خليل الرحمن مميزة   .. فيها نفحة روحانية تبرز مدى علاقة العاشق بالمعشوق .. ودرس لكل الصالحين أن الحياة محطة اختبار وتأدية أمانة وجهاد وصبر ومصابرة حتى اللحظة الأخيرة ..ابتلاءات تأتي على قدر عظم النفوس بعد ما أماتوها ليحيوا ..وأفنوها  ليبقوا .. .. لا شك إن نبي الله الخليل سيد العارفين وأمير العشاق .. كان بانتظار لحظة الخلاص تلك من سجن الجسد وحياة المادة وان ماقاله لملك الموت الكريم .. (ان صحت الرواية) كان على سبيل الدرس الأخير .. موعظة الختام إن الموت لحظة  ينتظرها عشاق الحقيقة والنور وهي اللحظة التي  يعلن فيها الفائزون ..
ويلبى خليل الرحمن  النداء بنفس راضية مطمئنة مستبشرة .. وله من العمر أكثر من مائة وعشرين سنه ...كانت سلسلة متصلة من الدعوة والجهاد والابتلاء ودروس عظيمة في العقيدة وموسوعة للمعارف الألهية ..
وإذا كان الابتلاء على قدر الإيمان .. فإن الجزاء على قدر المحسن الكريم ..
فلقد أعطى الرب الوهّاب هذا العبد الصالح جملة من العطاءات المعنوية التي لا تحصى ولكن أهمها :      
•    التشريف الأكبر والأعظم ان صلب هذا النبي الكريم قد كان محلا للأنوار القدسية للنبي الأكرم وأهل بيته المعصومين المطهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام)....
•    لقد شرّفه الحق سبحانه وتعالى بالخلّة وهوشرف لم يكن لغيره .((ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا))النساء: 125
•    لقد وصفه بالأمة وهو تشريف عظيم حين كان  يدعوا الله وحده قبل أن يؤمن به لوط وقبل يأنس بإسماعيل وإسحاق ..
•    أعطاه الله تبارك وتعالى درجة الإمامة وهي أعلى رتبة في الاصطفاء الإلهي بعد أن اجتاز الامتحان الكلمات التي أتمهن .. (( ... قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً..))
•    لقد ذكر هذا النبي العظيم بإكبار وإجلال في تسع وستين آية كريمة .. في قران يتلى أناء الليل وأطراف النهار .. وصلوات المؤمنين عليه لا تنقطع الى يوم الدين .
•    ان كل أهل الديانات يقدسون ابراهيم (عليه السلام) ويستمدون شرائعهم من حنيفيته واسلامه فهو أبو الأنبياء.

في رحاب قصة نبي الله لوط (عليه السلام)

                                             بسم الله الرحمن الرحيم
:
الآيات المباركة :
((ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين*وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين))الأنبياء: 74 - 75
                                                إفساد الفطرة

المقدمة الأولى : 
 من أهم أهداف بعث الأنبياء والرسل هو إيقاظ الفطرة التي لوثتها انحرافات اعتقاديه او اجتماعية او أخلاقية او اقتصادية .. فطرة طمس معالمها  الإسراف في الشهوات المحرمة .. ودنست نقاءها نزوات شيطانية فاسدة ..
وتدنيس الفطرة تارة يكون بفعل الفرد ذاته بإتباع هوى النفس وإطلاق العنان لشهواته وغرائزه .. وتارة يكون بفعل المجتمع وما يبثه في ضمير الفرد  من عادات وأعراف بالية وتقليد الآباء والأجداد المتعارضة مع الشرع المقدس تمارس بالاعتياد دون وعي ..
فالمعركة بين معسكر الحق ومن يمثله من أنبياء وأولياء صالحين وبين أعداءهم من كافرين ومعاندين ومسرفين .. تدور في هذا النطاق ..
المقدمة الثانية    :
ان الانحراف إذا تعدى مرحلة الفردية في ممارسته الى مرحلة الممارسة الجماعية  بحيث ان المنحرف بات يمارس شذوذه دون خشية من الرقيب الاجتماعي بل وبمباركة ذلك الرقيب  ومشاركته فقد دخل هذا الانحراف مرحلة خطيرة لا يجدي معها أي علاج ..
السؤال : كيف يصل الانحراف الى المستوى الذي يكون فيه مباحا اجتماعيا بل و مرغوبا فيه ؟ كيف تدنس فطرة مجتمع بكامله بحيث تمارس العادة الشاذة علانية وبلا حياء ؟؟ سؤال مدعون للتفكر في إجابته .. فالجريمة تؤشر لحالة مرضية أصابت المجتمع .. وهي نتاج خلل في بناءه القيمي والأخلاقي ..و ليست نتاج سلوك فردي خاطئ وهذا ما سيتضح  من خلال البحث  إن شاء الله تعالى .. لكن ما نود هنا مناقشته أو تسليط الضوء عليه هو نطاق الجريمة ومساحتها في المجتمع ..
.. فكأي وباء الذي يبدأ بحالة غير صحية محدودة ثم تتفشى لعدم وجود المضاد الحيوي  للفيروس المسبب للمرض .. و الأمر ذاته ينطبق على الانحراف الذي يبدأ بحالة سلبية  متناهية في الصغر قد لا يلتفت اليها .. ممارسة شاذة تتسع رقعتها شيئا فشيئا وتتعدد صور ممارستها  ويكثر عدد المنحرفين الذين يمارسونها   ولا تجد من يحاربها فتترعرع وسط مجتمع غير محصن .. الذي يعتد وجودها ..وربما ارتضاها وشجعها  ..لتصبح ظاهرة اجتماعية .. فاذا وافقت ظاهرة الانحراف هوى نفس أمارة بالسوء أصبحت ظاهرة مستعصية من الاستحالة معالجتها الاّ بالاستئصال .. وهو الأمر الذي حصل مع قوم نبي الله لوط (ع ).
لوط النبي (ع)
  لوط (ع) هوابن هاران بن تارخ ابن أخي  نبي الله ابراهيم الخليل (ع) وسمي لوط لأن حبه لاط بقلب ابراهيم (عليه السلام ) أي التصق وعظم وكلمة اللوط تعني شدة الالتصاق بالشيء يقال لاط الحوض بالطين لوطا أي طيّنه لشدة الالتصاق به .. و المؤسف إن هذا النبي الكريم قد ارتبط أسمه بإسم الفاحشة التي كان قومه يرتكبوها ..فاشتق الناس أسم الفاحشة من أسمه
     كان لوط  من أرض كلدان في أرض بابل من أوائل من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه الى الأرض المقدسة أرض فلسطين .. وأرسل الى المؤتفكات وهي خمسة  مدائن  وهي : سدوم , وعموراء ,وأدوما , وصاعورا, وصابورا *
وأعظم هذه المدن هي : سدوم وقد سكنها لوط  في مهمتههالتبليغية ..وقد سميت هذه المدن فيما بعد بالمؤتفكات أي (المنقلبات )بعد ان قلبها الله (عز وجل) على أهلها الخاطئين ..

بداية الانحراف

  كانت قرى قوم لوط تتمتع بخير عميم  .. وكانت تقع على طريق السيارة بين الشام ومصر.. وبحكم هذا الموقع  فإن بلدتهم أصبحت محط رحال المسافرين والتجار والرحالة و القوافل الذاهبة والعائدة  ..فضاقوا  ذرعا  بكثرة النازلين بهم .. وكان أهلها ذو بخل وشح نفس  فراحوا يفكرون بطريقة تبعد عابري السبيل من المرور ببلدتهم .. فكانت دعوة للشيطان رحب بها كثيرا فقد وجد الثغرة التي فتحت له باب نفوسهم على مصراعيه .. وهذه الثغرة هي البخل وشح النفس ..لذا نجد ان الشرع المقدس يحارب هذه الخصلة في النفس ويعتبرها نقيض الإيمان فلا يدخل الجنة بخيل كما في الحديث .. لأن البخيل شحيح النفس سيء الظن برازقه غير واثق منه ولا متوكل عليه ولا يؤمن بالغيب وبالتالي هو مفتقد لضروريات الايمان ..
لقد ففكر  قوم لوط بطريقة تبعد الضيوف عنهم فأرشدهم الشيطان الى تلك الطريقة المخزية التي لم يسبقهم البها أحد من العالمين .. أبشع صور الانحراف الأخلاقي وهو اللواط تلك الممارسة التي سجلت كأقبح براءة اختراع باسمهم ..أخذوا يمارسون الفاحشة بالنازل بهم ..كطريقة لتنفير المسافرين من المرور بهم ..
وهناك روايات حول كيفية تعلمهم هذا الفعل الشاذ  تفيد ان ابليس قد تمثل بصفة شاب أمرد فعلمهم ذلك ....لا ينفعنا كثيرا الخوض فيها ..
المهم أنهم وقعوا في أبشع وأخزى وأقذر فخ في تاريخ الإنسان على هذا الكوكب ..
انتشر خبرهم بين القبائل فصارت بلدتهم كالمنطقة الموبوءة .. لا أحد يمر بها ألا ما كان جاهل بحالها .. في الوقت الذي زيّنت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء والشيطان هذا الفعل المنكر وباتوا لا يصبرون على الامتناع عنه حينها وقعوا في فعل أشنع من سابقه فقد أخذوا يمارسون اللواط مع بعضهم البعض فكسروا حاجز الحياء الاجتماعي وهو أهم حاجز نفسي رادع لانتشار الجريمة الأخلاقية ..
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحين يبدأ انحدار المجتمع فلا يقف الا عند مرحلة انحطاطه الأخيرة ..
فقد كانت نتيجة اكتفاء  الرجال بالرجال  قامت  نساءهم بممارسة فعل مشابه بعضهن مع البعض الاخر  وهو ما يعرف بالسحاق و أيضا هذا الشذوذ ماركة سجلت لقوم لوط  .. رواد الشذوذ الأخلاقي .
وينتشر الداء ويصبح وباءا يتفشى في كل مكان ..  ويتخذ هذا الانحراف والشذوذ شعارا قوميا لهم وتؤسس النوادي لتمارس هذه الفاحشة علنا وأمام بعضهم البعض .. بمناظر مقززة للغاية ..
أخلاق أخرى فاسدة

لم تقتصر نوادي المنكر لقوم لوط  على عمل الفاحشة فقط بل كانت تمارس فيها  جميع صور الانحلال الخلقي  والشذوذ .. فإضافة الى إتيانهم الفاحشة بعابري السبيل كانت لهم أخلاق وعادات بالغة السوء منها رمي عباد الله المارين ببلدتهم الجاهلين بحالهم بحجارة يصنعوها على شكل كرات صغيرة يرمون بها عابر السبيل وايهم أصابه كان أولى به ..يأخذون ماله وينكحونه ويغرموه مبلغا كبيرامن المال وكان لهم قاضي يقضي بذلك !! وكانت نواديهم مليئة بأنواع الأخلاق الفاسدة من كشف العورات وشتم وبصاق على بعضهم البعض واللعن واستخدام الألفاظ النابية وابتدعوا الصفير والتصفيق والصفع ولعب القمار و اللعب بالطيور  والضرب بالمعازف والمزامير ومضغ العلك وإرخاء الأزار خيلاء و فك الأزرار من القميص .. وأفعال كثيرة نأنف عن ذكرها .. كانوا باختصار كتل بشرية من سوء خلق ذميم ..
من آثار الانحراف الخلقي

ان فعل المنكر والإسراف فيه لا يظلم القلب والروح فقط بل يفقد الإنسان احترامه لنفسه وللآخرين على شاكلته ..فهو لا يرى أي قيمة لإنسانيته وبشريته .. فتراه خاسرا لتقدير ذاته محتقرا للآخرين أمثاله  و حاقدا كارها يظهر الاستخفاف بالصالحين والمسيئين على حد سواء فلا يحترم أحدا حتى نفسه  ..
من هنا يتبين خط ارتكاب المعاصي والآثام فهي تحوّل دنيا المرتكب لها جحيما قبل ان يراه في الآخرة ..  فللذنب آثار وضعية لا يمكن تجنبها تضع بصماتها على الحياة برمتها .. فهناك ذنوب تؤثر سلبا على الاقتصاد والمعيشة وهناك ذنوبا تؤثر عل تعكير صفو الحياة وأمنها وهناك ذنوبا تؤثر على الحياة الاجتماعية ومتانتها
وذنوب أخرى تؤثر على صحة الإنسان وتدمير البيئة وهناك ذنوبا تسلب توفيق الإنابة الى الله تعالى والتوبة ...
ماحدث مع هؤلاء المسرفين أنهم ارتكبوا كل هذه الذنوب مجتمعة .. فصاروا لا يشتركون مع البشر الا بالشكل  ولكنهم من الداخل  كائنات غريبة وسخة ومشوهة ..
لوط  والمهمة الصعبة

كون لوط (ع) لم يكن ينتسب الى  القوم ولم تكن له عشيرة فيهم فإن مهمته التبليغية  بدت صعبة للغاية في قطيع من  الهمج الرعاع الذين لا يعرفون ولا يعترفون الا بمنطق القوة .. رغم ذلك فقد بذل أقصى ما يستطيع في أداء مهمته وتبليغ رسالته .. نصح وبالغ في النصح .. ووعد وأوعد وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وجاهد في الله حق جهاده  .

وظل لوط  يرفع راية الطهر والنقاء يذكر قومه وينذرهم ويحذرهم .. ولكن القوم الذين طمسوا فطرتهم بانحرافهم .. ازدروه وكذبوه واستضعفوه  .. قالوا أخرجوا ال لوط  انهم اناس يتطهرون . انه رد عجيب يظهر مدى درك الحضيض الذي وصلوا اليه ...
فعندما تهتز القيم تقلب الموازين رأسا على عقب حين تتحكم الأهواء المنحرفة .. لقد أصبح التطهر والنقاء والاستقامة والفطرة السليمة جريمة تستحق الطرد من القرية الآثمة ..
ويحاصر لوط  (ع) وخاصته  .. كما تحاصر الحقيقة في زمن الزيف .. كما يحاصر النقاء في زمن الدنس والفجور ...
وتختنق الأجواء برائحة الخطيئة المنتنة ..
ونبيهم الكريم يبذل كل ما بوسعه ينذرهم ويحذرهم من غضب الحليم .. ولكن قومه لم تعد لهم آذان يسمعون او عقول يميزون بها لقد أعمت الخطيئة عيونهم وأصمت آذانهم وقتلت كل احساس لديهم .. لقد أضحوا كتلة من الغرائز تتحرك تفعل المجون والشذوذ بلا وعي ..
وقفة :
حين يصبح الفساد ظاهرة اجتماعية فإن المصلح يصبح محاصرا رغم انه يظل مدافعا عن قيم السماء  التي يحمل مبادئها .. ولكنه لا يعمل بالمعجزات دوما .. فالمعجزة لها قانونها الإلهي .. والنبي المرسل يعمل وفق منهج إلهي خاص ومحدد..فواجبه تبليغ الرسالة إنذارا وتبشيرا و لا يرتبط نجاحه في مهمته بإيمان وكفر المرسل اليهم بقدر ما يرتبط بتأدية المهمة على أكمل وجه وإقامة الحجة على الناس ..وهذا ما نجح به نبي الله .

الضيوف مرة أخرى
           ذات يوم..  وفيما نبيهم الكريم يزرع في حقله بذار الطبيعة التي يريد قومه المسرفون القضاء عليها بقطع النسل .. اذ أقبل عليه أربعة من الرجال معتمين لم ير أحسن وجوها منهم .. سلموا عليه فأدرك من منطقهم ان لهم شأنا  ولكنه لم يعرف حقيقتهم .. وبكرم الأنبياء عرض عليهم ان يكون بخدمتهم ويضيفهم ..قبلوا بذلك وساروا معه .. حينها أدرك انه وضع نفسه في مأزق كبير .. كيف اذا عرف قومه الكافرون  بأمر ضيوفه ؟ كيف يتصرف ؟ كيف يمنعهم منهم خصوصا وأنهم هددوه من استضافته للعالمين  ؟
وكان نبي الله كريما يقرئ الضيف ويستنقذ الناس من تعرض قومه اليهم .. فعمدوا الى تهديده ووعيده ..ولكنه لم يأبه بهم ..واستمر على عاداته وخصاله الكريمة .. ولكنه الآن يفكر بالطريقة التي يحمي بها ضيوفه ... وانتابه غم شديد ..  وشعر ضيوفه بذلك ..
سلك بهم طريقا بعيدا عن أعين القوم ...وفيما هم سائرون التفت نبي الله الى ضيوفه وقال لهم : انكم لتأتون شرار خلق الله ... فقال جبرئيل (ع) وهو يتقدم الملائكة ( ضيوف نبي الله )هذه واحدة .. ( وكان جبرئيل قد عرف ان العذاب بالقوم المسرفين لاينزل الا بعد  اكتمال ثلاث إشارات تحذير من نبي الله لوط )  ثم مشوا ساعة , وكان حقل الزرع خارج حدود المدينة الظالم أهلها  , فالتفت لوط الى ضيوفه وقال انكم لتأتون شرار خلق الله فقال جبرئيل هذه الثانية .. فلما بلغوا باب المدينة قال لهم والحرج بدا عليه أكثر انكم تأتون شرار خلق الله فقال جبرئيل هذه الثالثة .. فاكتملت ثلاث إشارات  ..
حين وصل نبي الله الى البيت برفقة ضيوفه .. كانت هناك مشكلة لم يحسب لها حسابا لوط النبي فأكثر خشيته على ضيوفه كان من الناس .. ولكنه فوجئ بعدو مستتر في بيته عدو منافق الذي لم يكن غير .. امرأته !!
انه لأمر يدعو للدهشة .. قد أشرنا اليه في مقدمة الكتاب.. ففي محيط الصالحين والمحيط الملتصق به تماما تظهر بعض النماذج الشاذة لم تتأثر بجو الايمان الذي يفيضه النبي او الولي ولم تكتسب أنفسها المظلمة أي من نوره .. يستزلها الشيطان وتغويها متع الحياة وزخرفها والتي تفتقدها  بيوت هؤلاء الصالحين غالبا.. فتبيع نفسها خاسرة لدنياها وآخرتها..
حين رأت امرأته حال ضيوفه وما هم عليه من بهاء طلعة لم تألفها  .. أرادت إعلام قومها .. ولكن كيف تفعل ذلك وهي التي  تريد ان يبقى أمر خيانتها مستترا ..
صعدت الى سطح الدار فصفقت فلم يسمعها قومها المشغولون بمجونهم .. فعمدت الى نار أشعلتها فلما رأى القوم الدخان عرفوا الإشارة والتي يبدو انها إشارة متفق عليها مسبقا ..
اقبلت الكلاب المسعورة تهرع حيث بيت نبي الله .. وحين وصلوا كان وضع لوط في غاية الحرج قالوا له بكل وقاحة وسوء أدب أ لم ننهك عن العالمين ؟؟ انه منطق القوة الغاشمة حين تتسلط فتأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف فأي عالمين أولئك الذين نهى القوم المسرفون نبيهم عنهم ؟ إنهم اولئك المسافرون وعابري السبيل ..عباد الله الذين كان قدرهم ان يمروا بتلك الديار الظالم أهلها .. قال لهم .. أليس فيكم رجل رشيد ؟؟

أليس فيكم رجل رشيد ؟

انه سؤال يستثير فيهم قيم أماتوها وعقول عطلوها وهو سؤال استنكاري أكثر منه استفهامي .. يدل على ان نبيهم قطع كل أمل فيهم بعدما وصلوا لهذا الحد ... ان الإنسان قد يفقد دينه في بعض الأحيان ولكنه يبقى متمسكا ببقايا رشد يمكنه به إدارة بعض شؤونه الدنيوية .. لكن حين يفقد الحياء فإنه يفقد كل شيء ..
يتصدى لهم لوط النبي بكل شجاعة .. و يقف بوجههم دون ضيوفه .. ويسألهم  ما يريدون وهو أعرف بنواياهم القذرة  .. قالوا له انك تعلم ما نريد .. أي درك من الحضيض وصلت هذه الكائنات الغريبة ؟؟؟
      وكنوع من أقامة الحجة على المنحطون .. لازال نبيهم الكريم يخاطبهم بلسان العقل فيقول لهم .. إن شئتم زوجتكم ببناتي فهن أطهر من المنكر الذي تريدون .. وقد قصد ببناته بنات قومه باعتباره نبي الأمة وهو أب روحي للأمة وبناتها بنات له .. وقيل غير ذلك . المهم ان القوم المنحرفون رفضوا عرضه  بكل سوء أدب ..
لقد أراد ان يقيم الحجة عليهم و كي لايتذرع الشاذون المنحرفون وهم يمارسون شذوذهم بعدم توفر البديل الشرعي .. الشذوذ حالة مرضية وهوس مجنون يستبد بالشخص يجعل  ذوقه فاسدا بحيث لا يستسيغ الا المحرمات والقاذورات والروائح المنتنة ولا يطيق الطيبات و يكون الحلال أبغض الأشياء الى قلبه المريض ..
بعد رفضهم عرض نبيهم ... وهمّهم باقتحام مكان تواجد الضيوف والذين لم يكونوا غير ملائكة الرحمن ..
تصدى لهم نبي الله لهم بكل شجاعة .. وقال لو أن لي بكم قوة أو آوي الى ركن شديد ...فيقول جبرئيل (ع) لو كان يعلم أي قوة له ..؟؟
لقد كان موقفا مؤثرا وصعبا للغاية وقاسيا .. أن يصل أمر هؤلاء المنحطون لهذه الدرجة ...وأنه لأمر شاق على أصحاب الأنفس الكبيرة أن يستضعف الحق من قبل باطل  شرس معتمد على قوة مادية لتلك الدرجة !!    
ان استضعاف الحق من قبل باطل متغطرس  هي قمة مايبتلى المؤمن الداعية الإنسان هو فتنة يزداد فيها أهل الأيمان ثباتا و إصرارا في وقت يلوذ فيه أهل النفاق ومدعي الإيمان منهزمين ناكصين على أعقابهم .. 
نلاحظ ان نبي الله لم يدعو على قومه الى هذه اللحظة لأنه يعتقد أن عليه الانتظار قليلا حتى ينقطع كل رجاء من هؤلاء الظالمين لأنفسهم .. وان مسألة التعرض لضيوفه مسألة يتوقعها .. وانه قادر على مواجهتها وقد كان يأمل ان تستثير هذه القضية عدد منهم فيتوبوا ويكونوا في صفه .. لقد أراد إقامة الحجة كاملة على قومه .. وهكذا هو الخلق النبوي الكريم إنهم لا يبالوا بما يتعرضون له من أذى او يواجهون من صعوبات على الصعيد الشخصي  يتقبلون ذلك بصدر رحب طالما ان في ذلك رضا لربهم ... ولكن ما ان تنتهك حرمة من حرم الله حتى ينتفضون بكل شجاعة يدافعون عن تلك الحرمة التي انتهكت ..
ان موقف نبي الله لوط  و الإحراج الشديد للدفاع عن ضيوفه واستضعافه والإحاطة به  واستنفاذ كل وسائل الدفاع .. موقف حياتي يتكرر هنا وهناك من عالمنا .. ان لوط لم يساوم ولم يتفاوض ولم يستسلم وهو الأهم .. وان تمنيه القوة والنصرة يعرفنا ما أهميتهما في هكذا مواقف ..
لم يدخل قلب  لوط النبي ذرة من شك في نصر الله له ولكنه تكلم بلسان الإنسان المستضعف بقواه المادية المنظورة القوي بإيمانه والثابت على مبدأه ...
ويتدافع القطيع الهائج من الهمج الرعاع على باب حجرة نبيهم حيث مكان الضيوف والمثير في هذه القصة ان نبي الله لوط (ع) لم يتعرف على حقيقة ضيوفه الى هذه لحظة (أو هكذا نفهم من ظاهر النص ) تدافع قطيع البشر الضال  .. لوط الإنسان الغيور على ضيوفه والمدافع عن كرامتهم يصد الكافرين بكل ما أوتي من قوة ..  ويقول لوط (ع) كلمة بالغة التأثير وتثير الكثير من الحزن والتعاطف مع هذا النبي الكريم وتنبأ عن درجة الحرج الذي وقع فيه  حين يصف هذه اللحظة باليوم العصيب ..حينها يصل الأمر الى نهايته .. تقرع أجراس نهاية هؤلاء المسرفين ..يأتي الفرج الالهي الذي قد يتأخر لغايات لا يعلمها الا علام الغيوب بحسابات الزمن أو استعجال الأنسان  ولكنه سيأتي حتما في الوقت المناسب تماما ومع استنفاذ آخر لحظة مقاومة ..
حقيقة الضيوف والبشرى
   من وراء نبي الله يأتي نداء جبرئيل الأمين .. يا نبي الله دعهم يدخلون .. ويلتفت اليهم لوط النبي اليهم وقد أدرك شأن الضيوف الكرام  الذين لم يكونوا غير ملائكة الرحمن جبرائيل و اسرافيل  وميكائيل  وكروبيل (عليهم جميعا سلام الله ) بفرح غامر بنصر الله لقد كانت مفاجأة سارّة أذهبت عنه كل هم وغم وحرج وموقف عصيب مر به ..  عندها يخلي نبي الله بين  قطيع الحمقى وبين ضيوفه ملائكة الرحمن وما إن يقتربوا منهم حتى يشير عليه جبرئيل (ع) عليم بإشارة طمست أعينهم فيصابوا بالذعر ويرجعون يتلمسون الطريق وهم يتوعدون نبيهم بالسوء ..

بعد ان يتنفس لوط الصعداء من الموقف الرهيب الذي مر به .. ينبأهجبرائيل (ع) بمهتهم  وهي اهلاك قومه المسرفون واستئصالهم لأنهم أرادوا السير عكس قانون الطبيعة  وأرادوا تعطيل استمرار الحياة بقطع النسل .. لوط (ع) يستفسر بنبرة الاستعجال عن موعد نزول العذاب فيجيبه جبرئيل (ع) بان موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ؟  إن لوط النبي وان كان حزينا على المصير الذي كتبه قومه لأنفسهم بإرادتهم .. بكفرهم وعنادهم وإسرافهم بالمعاصي والموبقات .. ولكنه  يستعجل إبادتهم غضبا لله( تعالى) وليس غضبا لنفسه وتشفيا بهم وانتقاما فالنفوس الكبيرة لأولياء الله لا تعرف سوى الرضا لله عز وجل والغضب له ولا تنشغل بما سوى ذلك .. ان استعجال العذاب لأعداء الله هو محض إيمان وولاء  مثلما تمني بقاء أعداء الله هو محض كفر ونفاق .. و عبارة أليس الصبح بقريب ..عبارة تحمل وعد  للمؤمن ووعيد للكافر .. فليل المؤمن الصابر سينجلي بصبح قريب .. وليل الكافر الظالم ستنقضي ساعاته بصبح آتي لامحالة ..
لوط الإنسان فكر في أمر امرأته كيف سيتعامل معها بعد ان ثبت  أمر خيانتها له بوقوفها مع القوم الكافرين ؟ انها مسألة إنسانية بالغة الأثر في نفسية النبي فهو في النهاية إنسان تؤلمه بعض خيانة رفيق الدرب ولو بمقدار الوقوف مع العدو ومساندته .. لقد كان موقفا حساسا .. ولكن كيف تعامل معه نبي الله ؟؟
     إنه درس في الأخلاق الأسرية في تعامل الزوج مع الزوجة السيئة .. في التروي والصبر في معاملتها ..وعدم الانجرار وراء الأهواء النفسية وظلم الزوجة بحجة عدم التزامها بأوامر الشرع والقسوة عليها ..
    وما أكثر الجرائم الأسرية التي ترتكب باسم الدين والحرص على تطبيقه وفي الغالب يكون ذلك التصرف ناشئ اما عن قصور في الفهم او نفاق يقصد منه الانتقام من الزوجة .. لنلاحظ ان زوجة خائنة لنبي الله ولو بحدود التواطؤ مع العدو كيف تصرف معها هذا النبي الكريم ؟.. لم يقتلها ولم يطردها لم يطلقها بل حتى لم  يحاسبها لقد  ترك أمرها الى الله تعالى فما هي الا بائسة ظلمت نفسها لتنال جزاءها العادل ..
فحين أخبره جبرئيل بأن يخرج من المدينة هو وأهله أوصاه بأن لا يلتفت منهم أحد خلفه استثنى الزوجة  الخائنة والتي قال له انها ستلتفت وسيكون مصيرها  مصير القوم المهلكين .. وبالفعل فإن لوط  لم يأمر الزوجة بعدم الخروج معهم مع ثبوت خيانتها ولكنه جعل المشيئة الإلهية هي التي تدبر الأمر .. تخرج الزوجة مع لوط وأهله ويلتزم الجميع بأمر الله تعالى بعدم الالتفات خلفهم حيث القوم الكافرين .. لكن الزوجة وبحكم علاقتها بالقوم وتعاطفها معهم تلتفت لترى ما يحل بهم فتكون معهم من المرجومين ..

هنا لا بد ان نقف عند عبارة (ولا يلتفت منكم أحد )
     .. لنستخلص أمرا هاما جدا .. ان التعاطف مع من أستحق غضب الله تعالى والالتفات اليه ولو بمقدار الالتفاتة الواحدة يخرج الإنسان من دائرة الولاء لله تعالى والوقوع في دائرة  العداء له سبحانه .. ليس هناك هامشا يبقى فيه المتردد على الحياد ..
   كذلك فإن أي مقدار يحمله قلب الإنسان من التعاطف مع أعداء الله سيجعله يلتفت اليهم كما التفتت اليهم امرأة لوط المنافقة .. فالإنسان يجب ان يتخذ موقفا صارما وحادا في هذه المسألة الخطيرة مسألة الولاء لله و ألتبري من أعداءه ..
فما أكثر ما نلتفت وراءنا حيث عدو الله إبليس وتزيينه .. حيث أهواءنا ورغباتنا .. حيث سعينا وراء ما يفنى .. ما أكثر أعداء الله الذين نلتفت اليهم متمنين بقاءهم لاستمرار مصالحنا الدنيوية الزائلة .. ما أكثر أعداء الله الذين تعاطفنا معهم حين نزول العذاب المستحق بهم .. انها فتنة ليست هينة هلك فيها من هلك وكلام الله تعالى جاء ليبقى .. وما حدث لامرأة لوط النبي يتكرر هنا وهناك .. لقد هلكت بشخصها ولكنها استمرت وستبقى بفكرة قضيتها ..يجب ان نفتش في دواخلنا في زوايا أنفسنا المظلمة عن بؤرة تعاطف او ود او تمني بقاء لعدو من أعداء الله لنستأصلها ...
وتقيم السماء عليهم القصاص العادل
لحظة الحسم .. تأتيهم الرجفة  والهدّة العظيمة  مقتلعة أفئدتهم خوفا وفزعا ورعبا قبل ان تمطر السماء حجارة غضب من سجيل مسومة كل حجارة مخصصة لمجرم من المجرمين .. هذه الحجارة التي كانوا يرمون بها عباد الله ويتلاعبون بها .. تنزل عليهم اليوم ولكنها ليست من صنف ما يعرفون انها حجارة السماء التي فيها العذاب الأليم  ..  لقد خرّ القوم صرعى ذهبوا بدنسهم وفجورهم بكفرهم وعنادهم وغرورهم وشذوذهم وانحلالهم .. حيث  العذاب السرمدي الخالد.. ليس هذا كل شيء فالفساد الذي أحدثوه والانحراف والشذوذ والمنكرات قد حول البيئة بكاملها الى بيئة موبوءة بأرضها وشجرها وحجرها وماءها وكل ما عليها.. يقتلع جبرئيل (ع) القرى الظالمة بجناحيه من سبع أرضين وكأنه يريد اقتلاع الدنس من كل جذوره .. ثم يقلبها .. ليقيم حد السماء بما يتناسب وحجم الجريمة المرتكبة .. فالحد الشرعي للواط هو القتل او الرمي من شاهق او الحرق او الرجم بالحجارة للمجرم ان كان محصنا .. وهو ما حصل مع هؤلاء المجرمين ...
رواية

((عن أبي جعفر (عيه السلام ) ان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) سأل جبرئيل (عليه السلام )كيف كان مهلك قوم لوط ؟فقال : ان قوم لوط كانوا أهل قرية لا يتنظفون من الغائط ولا يتطهرون من الجنابة بخلاء أشحاء على الطعام وان النبي لوط لبث عندهم ثلاثين سنة ولم يكن له عشيرة فيهم ولا قوم وانه دعاهم الى الله عز وجل والى الإيمان وإتباعه ونهاهم عن الفواحش وحثهم على طاعة الله فلم يجيبوه ولم يطيعوه وان الله (عزّوجل )لما أراد عذابهم بعث اليهم رسلا عذرا و نذرا – ولم يعذبهم قبل ان يرسل اليهم رسولا منذرا .
فلمّا عتوا عتواعن أمر الله ولم يتوبوابعث الله اليهم ملائكة ليخرجوا من كان في قريتهم من المؤمنين فما وجدوا منها غير بيت من المسلمين فأخرجوهم منها وقالوا للوط أسر بأهلك من هذه القرية الليلة بقطع من الليل ولايلتفت منكم أحد .. فلما انتصف الليل سار لوط ببناته ورجعت امرأته مدبرة الى قومها وأخبرت قومها بأن لوط خرج ببناته .. عند ذلك أمر الله تعالى جبرئيل (ع) ان يهبط الى قرية لوط فقلعها وما حوت من سبع أرضين فرفعها حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها على قومها حتى صار أسفلها أعلاها بأمر من الله, وأمطر الله عليهم حجارة من سجيل مســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــومة ..
فسأل النبي (صلى الله عليه واله وسلم )جبرائيل وقال : أين كانت قريتهم من البلاد ؟
فقال جبرئيل : كان موضع قريتهم في موضع بحيرة طبريّة اليوم , وهي من نواحي الشام ..
قال له رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ): أرأيتك حين قلبتها عليهم في أي موضع من الأرضين وقعت القرية وأهلها ؟ فقال : يا محمد وقعت فيما بين بحر الشام الى مصر فصارت تلولا في البحر )).. علل الشرائع ص 184     
ويبقى أمر أخير غاية في الأهمية
قبل أن تأتي ملائكة الله تعالى   نبي الله لوط (ع)  ببشرى الخلاص من القرية الظالمة المفسدة .. ( وكما رأينا ) كانوا قد مروا بإبراهيم الخليل (ع) بشروهببشارتين قد تبدوان متناقضتين ولكنها يصبان في هدف واحد .. بشروه بولادة إسحاق من زوجته ساره العجوز العقيم ولي صالح من أولياء الله تعالى قد تزامنت مع بشرى اهلاك  القوم الفاسقين وقد جادلهم نبي الله على نحو ذكرت تفاصيله  ..
   أما مغزى تزامن البشارتين بشارة الولادة وبشارة الإهلاك .. رسالة فحواها أن ولادة طاهرة لنبي وعبد صالح يمثل الفطرة التي تقوم عليها سنن الكون يمثل بذرة طيبة  تنمو وتورق تعيد بناء الحياة وفق منهج الله خير من اقوام بآلاف مؤلفة انتهكوا القانون الإلهي وبدلو الفطرة وأسرفوا في الفساد وأرادوا تعطيل سنن الوجود .. فالعبرة ليست بكثرة الخلق بقدر ما هي بمعرفة الحق والسير بمنهج الله تعالى .. ولعبد صالح أكرم على الله من أمة جاحدة .. بل ربما أمة حفظت بذلك العبد ولنلحظ ان القرى الظالمة لم تهلك حتى خرج لوط وأهله منها ..
 
في رحاب قصة سيدنا أيوب (عليه السلام )

بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات المباركة :((وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب*اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب*ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب*وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب))
ص: 41 - 44
مقدمة  :                                  
في أجواء النعم المادية .. والترف ..وإشباع الرغبات .. حين تزخر الحياة بزخرفها .. تميل النفس الى الدعة وتركن الى الدنيا .. تستلذ بمتاعها ومتعها حينها يكون الافتتان وتوضع عدالة الإنسان على المحك واستقامته تحت مجهر دقيق .. لا شك انه امتحان عسير فشل فيه الكثيرون ..
وفي أجواء مناقضة من العوز المادي والحرمان والفقر والنقص في متطلبات الحياة فإن امتحان آخر سيواجه الإنسان .. قد تجزع تلك النفس وينضب خزينها المعنوي وتشح ويضيق بها الكون على رحابته ربما تجنح وتنحرف وربما تقنط فتكفر وربما تستسلم لقدرها استسلام المضطر المرغم ...
امتحانان عسيران .. ابتلاءان شديدا الوطأة .. خذل فيهما من خذل .. ولم يجتازهما الا من وفقه الله تعالى .. والصبر على العافية أشد وأقسى من الصبر على البلية .. لأن أجواء النعم تجعل من ساحة المعركة أكثر اتساعا وتمتلك النفس أسلحة كثيرة ومتقدمة وتكثر أعوانها وجنودها فيكون من الصعب مواجهتها .. كما ان شكر النعمة وأداء حقه يكون متعذرا بتفصيل يذكره علماء الأخلاق ..
فما بين الشكر والصبر تدور معركة شرسة لا قوانين فيها ولا هدنة ولا استراحة مقاتلين و غفلة صغيرة .. إغفاءة .. او تساهل مع الخصم سيفقدك المعركة .. المعركة التي تبدو بغير المتكافئة .. ولكن ما ان  تضع التوكل على الله سبحانه وتعالى والتمسك بحبله المتين وتجعل غايتك رضا سبحانه .. عندها تكون المعاملة مختلفة وستحسمها لصالحك حتما ..
ومهمة الرسل والأنبياء (على نبينا وعليهم السلام ) هي تثبيت مبادئ العقيدة  تعليم الناس بأن لهذا الكون خالقا واحدا لا شريك له ولا ند وهو خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وحاشرهم ليوم الحساب وان لوجودهم ولخلق كل شيء حولهم غاية عظيمة ..عليهم التفكر فيها .. وان الرسول المرسل اليهم من الله تعالى تجب طاعته والالتزام بأوامره ونواهيه .. هذه كانت الخطوط العريضة لدعوة الأنبياء والمرسلين ..
لكن مع تطور البشرية وازدياد وعيها كانت الحاجة لزيادة جرعات الإيمان وأمداها بمزيد من القيم الروحية التي تقوي من صلتها بربها العظيم .. كانت بحاجة لدروس عملية تجسد ما تعلموه نظريا ..
وأيوب انبي الكريم كان له شرف تجسيد الدروس الأولى العملية في أكثر وأدق حقول الابتلاء الدنيوي ..
الشكر _ الصبر _ التوكل وتفويض الأمر لله (عزوجل ).. و قد نجح (ع) في أداء مهمته التبليغية ورسالته على أتم وجه وكان معلما بارعا ومسددا ...

أيوب النبي

(كما يذكر المؤرخون )هو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم (ع)  وأمه من ولد لوط بن هاران (ع) .. كان أيوب رجلا روميا من قرية يقال لها (( البثنة )) وهي من نواحي دمشق الشام .وزوجته  أسمها رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام ).  حباه الباري (عزّ وجل) أيوب العبد الصالح والنبي الذي اصطفى بشتى النعم ظاهرة و باطنة من جمال الشكل وحسن الهيئة فكان رجلا طويلا جميل الملامح حسن الوجه رزق من جميع أصناف المال من إبل وبقر وغنم وخيل وله مقاطعة شاسعة قيل إن عدد ما يعمل فيها هو خمسمائة عبد لكل عبد امرأة ومال وولد ..و إذا كانت هذه هي النعم الظاهرة فان النعم الباطنة كانت أعظم منها بكثير .. فأيوب كان موحدا صالحا مصلحا ورعا تقيا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر .. كهفا للمساكين وقاضيا لحاجات المحتاجين ..وكان يكرم الضيف ويتكفل الأرملة واليتيم .. منجدا لأبن السبيل ..  وهو الشكر العملي لأنعم الله عليه ..أما مظاهر شكره السلوكي الظاهري فكان لا يطلب شيئا من ربه الا وسجد متضرعا ولا يذكر نعمة الا وسجد تذللا و حمدا ..
واذا كان ظاهر حال نبي الله منعما فإن روحه كانت تسبح في فضاءات أخرى من الانقطاع لله تعالى فحين يجن عليه الليل تراه مفترشا الأرض فقيرا ذليلا منكسرا مسكينا تبكي روحه شوقا وخوفا وألما.. فكان هذا الحال مثار دهشة ملائكة السماء وحسد وحنق عدو الله إبليس (لع)

هنا لا بد من الالتفات الى :

o    ان الإسلام لا يحارب الغنى المادي لذاته كما لا يمدح الفقر لذات الفقر .. بل ان الأمر يدور مدار النفس ومدى تأثرها وانعكاس ذلك الغنى والفقر سلبا وإيجابا على نفسية المتصف به .. فالغنى المحارب ذلك الغنى الذي يستغني به صاحبه عن ذكر الله (تعالى) ...  والفقر الذي يستعاذ منه ذلك الفقر الذي يؤدي بصاحبه الى القنوط وإساءة الظن بالله واللجوء الى غيره سبحانه ..  ان أولياء الله وان عاشوا بأجسادهم جو الغنى والثراء بسبب أو آخر .. فإنهم يمتلكون من قوة التحكم بأنفسهم وسيطرتهم على أهواءها بحيث لا يسمحون لذلك الغنى التسلل الى أرواحهم القدسية فيفسد لذة افتقارهم وانقطاعهم الى مولاهم الحق ..     

o    ان قضية الشكر العملي للنعمة قضية هامة وحساسة قد لا يفهمها أو لا يريد ان يفهمها الكثيرون لما يترتب عليها من واجبات وقد ذكرها  علماء الأخلاق كثيرا لسننا بصدد بحثها .. فقط نشير الى ان البعض يفهم من الشكر هو الذكر اللساني لجملة (شكرا لله ) او ما شابهها ... ان ذلك الشكر اللفظي المجرد اذا لم يلازمه شكر عملي والمتمثل باستخدام  النعمة للغرض الذي أراده المنعم .. يبقى هذا الشكر القولي لقلقة لسان لا تعفي صاحبها من المسؤولية..

الابتلاء العظيم

قبل الخوض في تفاصيل إبتلاء نبي الله أيوب  لابد ملاحظة مايلي :

?    لقد كان نبي الله أيوب (ع) يعطي درسا عمليا لشكر النعمة التي أفاضها عليه المنعم تفضلا وتكرما ..وهو معنى أخلاقي وعرفاني كانت البشرية بحاجة لتعلمه وهي تكتب الأبجدية الأولى لعقائدها ..
?    يقال .. ان إبليس شق عليه أن يرى ابن لآدم وهو بهذا المستوى من طاعة ربه وينجح في الامتحان الذي خاب فيه خيبة مشينة ..فيبدأ اللعين بالتشكيك بشكر أيوب  ويبدأ الحسد يأخذ منه كل مأخذ .. فيقول بخبث ..إن شكر أيوب شكر نعمة أنعم الله تعالى  بها عليه فإن سلبت منه فيؤس قنوط ... لذا فإنه قد يشتبه على الأذهان ان السبب في ابتلاء هذا النبي الكريم هو رهان إبليس على نفاذ صبر أيوب النبي (ع) والتشكيك بحقيقة شكره لبارئه .. والأمر غير ذلك تماما .. فكما ذكرنا الأمر متعلق بتثبيت عقائد في أذهان البشرية التي بدأت تتعرف على دين التوحيد وتزداد معارفها الإلهية شيئا فشيئا ..
?    ان تسلط إبليس على نبي الله جاء ليؤكد حقيقة العلاقة التي تربط أولياء الله (عزّوجل ) به سبحانه وأنها لاتقوم على حسابات مادية أرضية بل انها علاقة عميقة ترتبط بصميم وجدانهم جاعلين رضا معبودهم هدفهم  النهائي مهما لاقوا من صعوبات في هذه الدنيا الفانية ...
?    مسألة الإذن لإبليس في التسلط على بن آدم بحد ذاتها تفصح عن مدى الثقة والكرامة التي منحها الحق (سبحانه وتعالى ) لهذا الإنسان أمين الله في أرضه ..
?    ان تشكيك إبليس الماكر بشكر أيوب صوت يتكرر على لسان تلامذته ... وللأسف انه ينجح في كثير من الأحيان ...  ( وخاصة في مجتمع يراقب نشاطات الأخيار ويزعجهم بتطفله في حين لا يبالي بإسراف أهل المعاصي  ) فيؤذى المؤمن نفسيا وتصبح نواياه محط شك واتهام بعدم الصدق وهو ما يريده عدو الله تماما  ..                          


بداية الابتلاء                

ويأذن الباري (عزّ و جل ) ببدء مشاهد الابتلاء الكبير .. ففيما كان النبي العظيم مستغرقا في مناجاته لربه منقطعا عن دنيا الناس .. يأتي إبليس مع أعوانه في أكبر مهمة على الأرض  حاشدا كل قوته ظنا منه انه سيسجل انتصارا آخر له بعد هبوط أبينا آدم (ع) الى الأرض ..
يقوم اللعين بالنفخ على زرعه وضيعه وحدائقه وبساتينه العامرة فتحترق جميعا .. ويأتي الخبر لنبي الله فيسلم أمره لله محتسبا  راضيا ... ثم يتسلط على ما يملك من حرث وأنعام فيهلكها عن آخرها , الموقف لم يكن هينا .. ولكن أيوب ذو النفسالكبيرة ...يتقبل الأمر محتسبا ويصاب إبليس بالخيبة منهزما في أول جولة ..
لكن اللعين يراهن على الخطوة التالية .. الخطوة التي يتزلزل عندها الرجال .. فيسلط على ولده .. فيهلكوا جميعا في مشهد مؤثر ..لكن من جديد يثبت أيوب انه على قدر الثقة التي أولته السماء .. من جديد تأكل نار الخيبة عدو الله إبليس وجنوده ..
لم يتبق لدى إبليس غير الورقة الأخيرة .. وظن إنها الرابحة .. فيسلط على جسده ويبتلى النبي الصابر بسائر جسده ( باستثناء عقله وعينيه ) فيصبح قرحة واحدة من قرن إلى قدم .. فلا يزداد أيوب غير صبرا واحتسابا وتسليما ورضا .. انه يدرك تماما حجم المسؤولية التي تشرف بحملها ..ويدرك ان كل ما جرى له ويجرى محل نظر الباري(عز و جل ) مما يعطيه دفقا معنويا هائلا يمكنه من مواجهة كل ما يلاقي بروح صابرة مطمئنة عامرة بذكر ربها ..
وتسقط آخر أوراق الرهان الخاسر  لعدو الله .. فينكص على عقبه لائذا بخيبته .. ولكنه لم ييأس ولن ييأس ..
أيوب النبي في وضع مؤلم للغاية .. إنسان خسر كل ما خوله الله تعالى  من مال وأولاد وعز وجاه لذا فقد تفرق عنه الناس .. الناس الذين يجمعهم ويفرقهم المال والجاه  ... أما الإنسان فآخر ما يبحثون عنه
وعلى كل حال فإن أيوب الذي كان يعيش في فيض من النعم المعنوية كان في عالم مختلف لا يأبه معه بمن يبقى أو يفارق ..
كانت روحه تتألق وتسبح في عالم جميل من العشق الإلهي لا يعرفه سوى خلّص أولياء الله تعالى ..

               *****************************


وقفة مع فلسفة الابتلاء
 إن مسألة ابتلاء الإنسان في هذه الدنيا :
تارة تتعلق بأصل هذه النشأة باعتبارها دار اختبار وامتحان .. الذي يعقبه إعلان النتيجة النهائية وليس من المنطق ان يكون هناك قاعة امتحانيه دون امتحان يقيم  الممتحنين والاّ اعتبر وجودهم عبث ..
و تارة اخرى يرتبط  الأمر ببعد روحي .. فوجود الابتلاءات هي الجسر الموصل للارتقاء بالنفس وبلوغ درجات كمالها وسموها وبقدر درجة التفاعل الايجابي مع تلك البلايا والمحن يحصل الإنسان على درجة من الرقي ..فطريق التكامل في الوجود يبدأ وينتهي بالابتلاء وهو يتناسب شدة وضعفا مع إيمان الإنسان ومدى تحملهم وطاقته الروحية و قابليته النفسية
عن الصادق (عليه السلام ): ((ان أشد الناس ابتلاءا هم الأنبياء ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل ))
وان قلة الابتلاء مؤشر على ضعف الإيمان وعدم القابلية الروحية وبالتالي هو لا يدل على كرامة أو ميزة الا اذا كان ابتلاء شكر نعمة كما حصل للنبي الكريم أيوب (ع)... ويمكن التفكر  ببعض الفوائد الملموسة للابتلاءات حيث أنها :
•    تشعرالإنسان حجمه الحقيقي ككائن ضعيف لا حول له ولا قوة لايملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ولا سبيل أمامه سوى اللجوء الى حول الله وقوته  مغيثه والقادر الوحيد على إعانته وتفريج همه .. وبالتالي فالابتلاء يقوي الصلة الروحية للعبد بربه ..وينشأ علاقة مستمرة ومتجددة قوامها الاحتياج والتسليم والرضا ...
•    تفجر المحنة طاقة روحية  لدى الإنسان كامنة تحت رماد الدعة والسكون والاطمئنان للدنيا .. فيتأرجح العبد المبتلى بين الرجاء والأمل والخوف والتضرع وانتظار الفرج والفرح بنصر الله وتوفيقه مما يخرج الانسان من روتين الحياة الثقيل ويعطي لها دفقا من الأمل بالغد ويكسبه المزيد من خبرة التعامل مع طرق الحياة الوعرة  وهو أمر يفتقده غير المبتلى والذي يعيش على هامش حياة لا يفقه منها غير لذة عابرة وسعادة مؤقتة ..
•    يشعر الإنسان بحقيقة الدار الدنيا وإنها دار امتحان وان الآخرة هي دار القرار وعليه فالتفكر بكثرة ابتلاءاتها تجعل من الإنسان (او يفترض كذلك ) عبدا زاهدا بدار الفناء موطن نفسه على الرحيل عنها مفكرا في أمر آخرته دار مقره .

أخيرا ...ان الابتلاءات ـ خصوصا تلك التي نبتلى بها نحن الغافلون ـ هي إنذار يوجب الانتباه مما يعني ملاحظة المسار دوما وعدم الانحراف  وتتناسب درجة هذا الإنذار مع شدة الميل أو الزيغ مما يوجب توخي الحذر دوما وعدم الاطمئنان .


وتبقى قضية :
كيف نفهم تسلط عدو الله إبليس على جسد أيوب النبي ؟
كقاعدتنا في البحث فإننا لا ندعي الإجابة ( الدينية والفقهية ) ولكننا نثير في الأذهان  أسئلة للتفكر والتأمل ...ونحاول ان نحفز على قراءة واعية للتفسير .. هنا يمكن طرح نقطتين يمكن تساعدانا في تأمل تلك المسألة :
•    إن ما حصل لنبي الله أيوب كان على سبيل الاستثناء وبالتالي ما تعرض له من تسلط إبليس كان امتحانا استثنائيا كان الغرض منه كما نوهنا تعليم البشر لمفاهيم روحية و عبادية و الارتقاء بمستوى العقائد ليها والارتباط بالمولى (عز وجل ) وإزالة مفهوم التطير من الابتلاء باعتباره غضب الهي بالنظر الى حال ولي من أولياء الله وتقوية الصلة بالله (عز وجل ) وحصر التوكل عليه سبحانه بكونه الضار النافع ..
•    ان الباري (عز وجل) أراد ان يظهر حجم طاقة الإنسان الكامل وطاقته الروحية عندما يتصل بالحق سبحانه مستمدا طاقته في الصبر من فيض توفيقه ولطفه وحجم تأثير إبليس وجنوده على هذا الإنسان وان روح  الإنسان ساحة محرمة على الشيطان إن جعلها ساحة لله تعالى .. والإنسان هو صاحب القرار في ذلك وهي حجة لمن يحتج بقهر الشيطان له .. وبذلك يندفع إشكال تحميل النفس بما لا تطيق ..

قبل أن نعود لنبي  الله أيوب لابد أن نقول (ان بعض من كتب عن قصة هذا النبي الكريم قد أسرف كثيرا في الحالة التي كان عليه جسده من جروح وقروح وصور حاله (ع) بشكل لا يناسب كرامة نبي مرسل وفي الوقت الذي نسلّم بعظم ابتلاء هذا النبي الكريم لكننا يجب أن لا نسرف في الوصف الذي تشمئز منه النفس  ونكتفي بالوصف الذي أجمله الباري (عز وجل ) في كتابه العزيز ....
نبي الله وحجته على عباده في كوخ صغير منعزل خلا من مستلزمات الحياة .. وفيما جسده يعاني آلامهفإن روحه الكبيرة تتألق  في عالم السمو والكمال ..
غادره الجميع فرّوا منه.. كما هو شأن الناس دوما في مثل هذه الأحوال .. لم يبق معه سوى زوجته ورفيقة دربه .. عانت كثيرا ولم تكن معاناتها بالهينة .. فما عسى امرأة بظرفها ان تفعل ..؟ كيف تتصرف ؟ وقد فقدت كل شيء .. الولد والمال والعز والمكانة بين نساء قومها اللواتي ابتعدن عنها هي الأخرى ؟
لكنها كانت صابرة محتسبة على قدر ما تستطيع .. كان قلبها يتمزق حزنا وألما على أيوب  الزوج و رفيق الدرب.. وأصعب ما واجهته هو فقدان مصدر الرزق .. كانت تواجه مع زوجها المسجى خطر الموت جوعا .. لذا تحتم عليها ان تأخذ قرارا  قاسيا .. ففي أحد الأيام توجهت لأحد البيوت المترفة لتعمل خادمة لتستطيع تأمين أدنى متطلبات المعيشة لها ولزوجها ولا تضطر لمد يدها للآخرين التي لم تتحرك ضمائرهم لنجدة نبيهم الكريم .... انه أمر بالغ القسوة والإحراج .. فمن بيت النبوة والعز والغنى والعيش الرغيد سيدة كريمة من سلالة الأنبياء .. الى خادمة تخدم البيوت تُعامل بقلة احترام في مجتمع مترف  لم يتعود على احترام الفقراء وان أشفق عليهم أحيانا .. لكن هذه المرأة العظيمة تتحمل ذلك بصبر وتعمل كخادمة .. كانت روحها  المرهقة تئن تحت وطأة ظروفها القاسية تعتصر ألما من إذلال قومها وجحودهم لنبيهم ... تخلى الجميع عنهم حتى أولئك الذين كانوا يعيشون في ضلال خيرهم وعطاءهم ..

استمر هذا الحال الصعب سنين طوال وذات يوم .. يضيق صدر الزوجة  وبغريزة المرأة الثكلى المحطمة وبعاطفة الزوجة المحبة المشفقة تطلب من زوجها النبي بأدب ان يسأل ربه الكريم ان يفرج عنه ما يعاني ..
يتفهم نبي الله طلب زوجته .. لكنه يسألها .. سؤال على كل مبتلى  ان يتذكره ..
أرأيت ما متعنا الباري (عز وجل ) من مال وولد ونعم لا تحصى ..كم دام ذلك ؟؟
فتجيبه بحياء وكأنها عرفت ما يقصد .. ثمانون عاما .. فيقول نبي الله .. اذن ما عدلت ولا أنصفك ربك ..إنك لم تصبري على ثلث هذه المدة على البلاء كما متعت في الرخاء  ..
مع ذلك فإن أيوب النبي  يلمح  في عيني الزوجة الصابرة نظرات من الضيق ونفاذ الصبر   .. فيرصد خللا في بناءها الروحي قد ينفذ منه الشيطان ..
وقفة :

ان حالة انهيار المعنويات أمام المصائب خصوصا طول المدة واستبطاء الفرج .. تبدأ بتساؤل قد يبدو صغيرا ولكنه مرور الوقت يشكل بؤرة خطر تتوسع شيئا فشيئا .. ليتحول التساؤل الخجول الى احتجاج معلن ثم الى مقارنة حال بحال قبل وبعد الابتلاء ..ثم اعتبار الابتلاء بلاءا وعقوبة بنظر المبتلى لا يستحقه وأن غيره – الأكثر منه ذنوبا -  أولى بما ابتلي به .. ثم يتحول الاحتجاج تذمرا فسخطا فيأسا من روح الله ـ والعياذ بالله ـ ليجد المبتلى نفسه في قلب دائرة الكفر..
لذا ينبغي لنا ان نراقب تلك التساؤلات الصغيرة التي نتسامح فيها والتي تشكل نافذة يدخل منها الشيطان الى دنيا صبرنا فيفسدها ..وان أكثر الذين فشلوا في امتحان الفتن كانوا لا يراقبون تلك الخواطر الصغيرة الحائرة والتي في الغالب يلقيها الشيطان في النفس بعد ان توجه الدعوة اليه .. فالشيطان وإن كان زائرا خبيثا الا إنه لا يأتي الا بدعوة رسمية .. وبمناسبة ذلك فإن كثير من الدعوات التي نوجهها للشيطان تأتي بحسن نية وبلا قصد ولكن اللعين يلتقطها ليأتي ضيفا ثقيلا يفسد على أرواحنا الأجواء النقية التي تعيشها ..

ان تساؤل زوجة النبي أيوب وان كان مشروعا ..صغيرا وبريئا وبحسن نية ولكنه أنبا عن خطأ ما كان ينبغي لزوجة نبي ـ يعرف تكليفه الشرعي وعلى بينة من ربه ـ أن تقع فيه ..

         *******************************
وحدث ما كان نبي الله يتوجس منه .. ففي يوم آخر من المعاناة شديدة الوطأة على الزوجة  وفيما هي جالسة على باب دارها تسترجع ذاكرتها المتعبة تلك الأيام الخوالي أيام بعزها ورخاءها..وكيف انقلبت الى أيام بؤس وشقاء  شاردة الفكر مهمومة الفؤاد .. وجد اللعين إبليس الفرصة سانحة لدخول المحيط الوحيد الملتصق بأيوب النبي .. يروى أنه تمثل بصفة طبيب يدور في الأحياء مدعيا معالجة المرضى كما كانت طريقة طب شأن  ذاك الزمان .. فوقف بالقرب منها .. وبدافع غريزي ودون تفكر تكلمت عاطفة المرأة فيها لتطلب من الطبيب ـــ الذي لم يكن غير عدو الله (إبليس ) ويبدو انها حتى لحظة طلبها لم تكن عالمة بحقيقته ـــ ان يعالج زوجها .. ويشترط الخبيث شرطا لذلك وهو إذا شفي المريض فعليهم ان  ينسبوا ذلك الشفاء له ..   
وتقع الزوجة في الفخ  بلا وعي منها من هول فرحتها بقدرة الطبيب على شفاء حالة زوجها المستعصية .. تأتي نبي الله الذي بلغت  آلامه  حدا لا يطيقه (سوى أيوب )  ..لكن تصرف الزوجة تسبب في ألم نفسي له استوعب كل آلامه فتملكه غضبا شديدا  .. لم تعهده منه الزوجة التي لاذت بصمتها وندمها ولم تشفع لها نواياها الحسنة .. وتنبهت لعظيم جرمها وأحست أنها أخرجت من جنة الرضا ولذة الصبر مع نبي الله .. ويقسم أيوب النبي بأن يضربها مائة جلدة ان عافاه الله تعالى ..
الأمر الآخر الذي أثار ألم ودهشة أيوب (ع) هو كيف يمكن لامرأة تعيش في محيط الرسالة .. ومن سلالة الأنبياء ان تفكر بالشرك والظلم العظيم ؟؟ ولم تشفع لها كل المبررات التي ذكرتها وكلها مؤطرة  بحسن النية ... و يطلب منها أن تهجره وتفعل ذلك على مضض وبناء على رغبته وكان يعز عليها تركه وهو على هذه الحال .. كانت لحظات عصيبة تلك التي مرت بها هذه المرأة الصابرة وهي ترى كل صبرها ومعاناتها وآلامها تذهب في لحظة ضعف ..أو تعجل أو عدم استشارة ولي أمرها ..
رحلت عن نبي الله احتراما لغضبه .. رحلت وقلبها يتقطع ألما عليه .. ولكنها ما كانت لتتركه فقد كانت تطل عليه بين الفينة والأخرى للاطمئنان عليه من دون ان يحس بها ..
أيوب النبي يخسر آخر معين له في محنته .. ويبقى وحيدا في ساحة المعركة التي لازال سكان السماوات يرصدوها بتعجب وإعجاب فيما عدو الله يتجرع كأس هزيمته المر ويلقنه أيوب الصابر المحتسب درسا قاسيا ومخزيا .. هو وحيدا لا مأكل ولا مشرب فقط روح طاهرة تسبح في بحر نقاءها مستشعرة رضا ربها الرحيم .. وهو خزين معنوي يكفيه لمواجهة كل ما يمر به ..
هنا .........
إنصافا لأنفسنا المبتلاة بآفاتها وعوامل ضعفها و عزاءا لزوجة هذا النبي الكريم لابد ان نقول :
ان ما تعرضت له زوجة نبي الله أيوب من اختبار فشلت فيه .. قد نتعرض له جميعا كبشر غير معصومين نصبر ونحتاط كثيرا ولكن عند نقطة معينة تخدعنا الذات التي يتكلم الشيطان على لسانها ..قد يتمثل لنا عدو الله بصفة طبيب يدور بطبه أو حبيب يعرض مساعدة.. دون مقابل مادي فقط كلمات تتمتم به الشفاه تنسب هذا الفضل لغير الله قد يكون هذا الغير شيطانا او إنسانا او نفسا أمارة بالسوء .. وكم من نعمة من ّ الله تعالى بها علينا ونسبناها الى غيره ..
لقد انهارت الزوجة الصابرة في آخر اللحظات .. لم تكن زوجة سيدنا أيوب بغير الصالحة سوى امرأة استنفذت قواها واستسلمت لضعفها البشري في لحظة ما .. ليس أكثر من ذلك .. إنها امرأة صالحة ووفية وصادقة في حبها لزوجها بدليل العفو الإلهي عنها وعودتها الى كنف بيت النبوة ..
                        .................................................

ويلملم إبليس أشلائه معلنا هزيمته .. في معركة وان كان قد عرف سلفا انه سيخسرها .. لأنه يعلم ان وعد الله حق وان أيوب ولى صالح من أولياءه الذين لا سلطان عليهم .. ولكنه يحوم حول محيطهم  والمحيطين بهم .. لا ييأس .... يظل يواصل معركته بذات الهمة حتى نهايتها بلا فتور أو هدنة .. وان أي هفوة يرتكبها بني آدم - فضلا عن الغفلة - قد يكسب بها اللعين معركته ولو  في اللحظات الأخيرة ..
وبعد استنفاذ آخر طاقة بشرية و بأسلوب هو القمة بأدب الدعاء ينادي أيوب ربه الرحيم ملاذه الأول والأخير بعد أن أوشك على فقدان كل قدرة بشرية على الصمود إقرارا بالعبودية ولنا أن نتأمل في عبارة (نادى ربه) لنستشف درجة الأذى النفسي التي وصل اليها نبي الله  ولنتلفت الى نسبته النصب والعذاب الى الشيطان في حين أن الله (عزوجل ) هو الضار وهو النافع لكن أولياء الله ومن فرط أدبهم مع مولاهم الحق فإنهم لا ينسبون له (عز وجل ) الا الخير والبركات ويرجعون الشر والسوء الى النفس والشيطان باعتبار السببية المباشرة ..لكن ماهي تلك اللحظة الحرجة التي جعلت من هذا النبي الصابر أن يستنجد بربه ؟
           إبليس يعقد اجتماعا موسعا مع كل أعوانه والرهبان معسكر الضلال الذي يتربص بني الله ..ويجمعون على القيام بمهمة أخيرة مستخدمين آخر أسلحتهم القذرة .. يأتوا نبي الله .. في كوخه المنعزل وحيدا... محراب تعبده وآلامه .. يمنون النفس بالنيل منه .. يأتوه شامتين يجلسون بالقرب منه يقصدون النيل منه.. ويبدأ أقسى فصل في محنة النبي الكريم .. تسمعه الكلام الجارح والبذيء متضمنا إشارات الغمز واللمز .. ومن أهم  ما قالوه وتأثر به نبي الله  ... ان الله لا يبتلي العبد الاّ بذنب .. فلو  لم يكن بينك وبين الله ذنب لما عوقبت بمثل هذا العقاب .. ذنب خفي علينا وعلمه الله .. وهو ماقصده بالنصب والعذاب الذي مسه الشيطان به ...كلام يردده أتباع الشيطان في كل زمان ليحزنوا به المؤمنين المبتلين ..
وتأخذ هذه الكلمات مأخذها من النبي الصابر .. وللمرة الثانية بعد موقف الزوجة التي استزلها الشيطان ينجح الشيطان جزئيا في إدخال الحزن على قلبه .. ويقول بألم : وعزة ربي انه ليعلم أني ماأكلت طعاما قط الا ومعي يتيم أو ضعيف وما عرض علي ّأمران كلاهما طاعة لربي  أخذت بأشدهما على بدني ..
لقد اضطر نبي الله  أن يظهر ما كان يستره ..
وبتأمل  تلك الرواية التي - لو صحّت - نتساءل لكن ما الذي أحزن أيوب النبي بالضبط ؟ ماقيمة كلام الأبالسة ان كان واثق من موقفه تجاه ربه وهو كذلك ؟
يمكن أن يكون  تألم نبي الله من الاتهام المبطن .. وليس من ذات السؤال الذي صيغ بخبث .. فالفكرة صحيحة المبدأ هناك من الابتلاءات ما تأتي كعقوبة  ومنها ما يأتي لرفع الدرجة وهناك نصوص شرعية  تؤكد ذلك بمعنى أدق  هناك فرق بين ابتلاء أولياء الله تعالى وما يبتلى به سائر الناس ..
ففي حين إن ابتلاءاتناعلى ذنوب نرتكبها او لتقصير في عباده فإن ابتلاءات الأولياء هي لإيضاح حقيقة بشرية الأنبياء والأولياء كي لا يفتتن الناس بدرجة كمالهم الإنساني فيتخذوهم آلهة تعبد من دون الله تعالى ..تزكية ورفع درجة أو للاقتداء بهم من قبل الناس في أحوال مشابهة ..أو رفعا لدرجاتهم أو  لغايات أخرى نجهلها .. المهم انها ليست عقوبات في الأعم الأغلب ..
كذلك .. قد يأتي ابتلاء الأولياء كدروس عملية في كيفية التعامل مع ظروف مماثلة محل ابتلاء – كما نوهنا في المقدمة –
من لطيف ما ذكره بعض المفسرين أن  تألم نبي الله كان  من شماتة الأعداء به وقد سُئل  بعد ان عافاه الله عن أكثر الأشياء إيلاما في محنته  : أجاب . شماتة الأعداء .. ففي النهاية ان أولياء الله بشر يمتلكون المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية وبشكل مرهف .. يفرحون ويحزنون ويغضبون ويألمون كسائر الناس ولكن الفارق ان مشاعرهم وأحاسيسهم وعواطفهم قد صهروها في بوتقة رضا الله سبحانه  ..

نستشف من ذلك  :
.. مجرد التهمة في الاستقامة تسبب ألما للصالحين بغض النظر عن صحتها  ..وعلى المؤمن ان يوضح حقيقة ما قيل فيه وإن كان افتراءا وكذبا والاّ يستخف بما يقال  اعتمادا على  ثقته بنفسه وأن  يرد على الشائعات الكاذبة مالم تتأكد لديه القناعة أن المصلحة في عدم الرد ..

حين وصل الامتحان نهايته  محققا فيه نبي الله نجاحا باهرا وتحقيق كامل غاياته الإلهية ..معلنا انتصار الإنسان .. ونجاح آخر وهزيمة أخرى لعدو الله  .. فتح الله تعالى أبواب رحمته على عبده الصابر المحتسب الذي حين طلب تلك الرحمة طلبها بشكل يفصح عن عظيم أدب الأولياء هو ذكر حاله وما مسه من ضر مفوضا الأمر لبارئه وربه الكريم .. الذي فتح عليه رحمة تناسب جلال كرمه .. لم يخذله ولم يتأخر عليه الرد..
لكن الباري (عز وجل ) أراد من مشهد غوثه لعبده ان يحمل الدروس والمعاني لبشرية تخطو خطوات تكاملها الأولى ..
يقول تعالى ((    اركض برجــــــــــلك   هذا مغتـــــــــسل بارد وشـــــــــــــــراب))
كان يمكن للرحمة ان تنزل بأمر كن فيكون بإذن القادر الحكيم .. ولكن جاءت بأمر يوجه لنبي الله ( اركض برجلك ) وفي ذلك دلالة لا تخفى على لبيب .... كان يمكن لأيوب (ع) ان يعافى بأمر كن فيكون وليس ذلك على الله تعالى بعزيز.. لكنه درس  الهي في التأكيد على الايجابية والتفاعل مع الحدث وان كان بمستوى السعي لتلقي الرحمة .. وإن يصدر من العبد فعلا جوارحيا ولو كان رمزيا ...
يقوم أيوب (ع) بكل همة امتثالا لأمر ربه وإذا به يجد عينان  يغتسل بالأولى فيعود معافى سالما من كل بأس وقد زالت كل آلامه وأوجاعه وجروحه  ويشرب من  العين الثانية ليعود شبابه النظر وبهاء طلعته وجمال هيئته .. ويسجد لله شاكرا حامدا.. ممتنا لعظيم توفيق الباري وكرمه ..
   ولا يخلو الأمر من إثارة ومفاجأة عظيمة لتلك المرأة الصابرة النادمة على تصرفها الذي أغضب نبي الله ..كانت طيلة فترة هجرها له لم تتركه .. مترددة عليه متفقدة أحواله دون ان يلحظها او هكذا كانت تعتقد .. وحين جاءت آخر مرة .. لم تجد زوجها في مكانه ..بل وجدت  رجلا وسيما بهي الطلعة على أحسن حال واقفا في المكان ، الأمر الذي أشعرها بالخجل والحياء .. وسألته بأدب ان كان يعرف أين ذهب هذا الشيخ المسجى .. لم يجبها نبي الله وظل ينظر اليها مبتسما .. حينذاك تفطنت اليه فتملكتها دهشة اختلطت بفرحة عارمة اجتاحت كل كيانها .. وفيما هما كذلك .. حتى عاد لهما أولادهما والمال والغنم والزرع ..أكثر مما كان يملك نبي الله ..
لكن وسط هذه الفرحة العظيمة بنصر الله تعالى .. هناك أمرا يكدر خاطر النبي العظيم .. كان عليه وقد عافاه ربه الكريم أن يبر بيمينه الذي قطعه بشأن زوجته فعليه أن يضربها ثمانين جلدة .. وهو أمر لايطيق تحمله الرجال فكيف بامرأة ضعيفة  .. ثم ان ذلك سيفسد أجواء الفرحة السائدة وسيثير من البلبلة في المدينة التي عادت تلتف حول نبيها من جديد بعد أن عافاه الباري ورد علية أضعاف ما كان يملك ..
..كيف لهؤلاء المحتفين بنبيهم أن يفهموا الموقف و منهم  المنافقين من الأحبار وأتباعهم ؟؟والأمر الأكبر والأكثر تأثيرا في نفسه هو كيف سيكون شكل العلاقة مع زوجته بعد تنفيذ العقوبة بحقها ؟
أسئلة حائرة ومقلقة تركت أثرها في نفس أيوب الإنسان  ... ولكنها لم تثنيه ولم تقلل من إصراره على تنفيذ العقوبة والبر بيمينه ...
لكن الرب الرؤوف الودود الأعلم بما في نفس عبده يأبى إلا أن يتم نعمته على نبيه ولا يفسد عليه الفرحة ..
لقد فرّج الله تعالى همه بطريقة ربانية رائعة .. لقد أوحى سبحانه اليه ان يأخذ حزمة من حشيش او ما شابه
فيه مائة عود ويضرب به زوجته مرة واحدة في اشارة رمزية لضرب السياط ..

ان لهذا الأمر دلالات عظيمة منها :
•    ان الله تبارك وتعالى لم يوحيلنبيه بهذا الحل الا عندما عرف من عبده تصميمه ونيته القاطعة في البر بيمينه .
•    ان النبي الكريم أيوب لم يستعظم القسم الا حين أراد البر به وفي هذا درس عميق الدلالة لنا في ضرورة التريث والتفكير الطويل قبل القسم واليمين .فهناك فرق شاسع في الوضع النفسي بين اللحظة الحرجة حين القسم وبين الوضع النفسي حين الفرج وزوال الحرج ..
•    ان الباري عز وجل لم يعف عبده من البر باليمين الذي قطعه بل أوحى اليه طريقة تنقذه من إشكال عدم الوفاء به وفي ذلك تأكيد على الوفاء بالنذر أو البر باليمين وأنهما لا يسقطان الا بقوة قاهرة أو بطريقة يحددها حصرا الشارع المقدس لا ان يختار الإنسان أسهل الطرق التي يتنصل فيها من عهوده ..

   قبل نغادر قصة هذا النبي الشاكر الصابر.. لابد من إثارة السؤالين التاليين  كخاتمة  :
السؤال الأول  : هل نستطيع تلمس الحكمة من جعل رسالة أيوب رسالة عملية وليست  بشكل دروس وعظية وحكم ووصايا في الصبر والشكر والتحمل وانتظار الفرج  ؟؟
ان هذا السؤال يقودنا الى ما ذكرناه في المقدمة من ان الأنبياء جميعا يؤدون رسالة واحدة بمضمون واحد و لكن أدوارهم تختلف باختلاف الأزمنة وتغير أحوال وثقافات المجتمعات المبعوثين رحمة لها
.. ان البشرية في زمن النبي إبراهيم الخليل (ع) وبعده خطت خطوات مهمة على صعيد تثبيت عقائدها التوحيدية .. كانت بحاجة الى دروس عملية تطبيقية لتلك المبادئ التي تعلمتها .. مع ملاحظة  أن  الأمة كلما تدنت ثقافتها العقائدية كلما كانت بحاجة الى أمثلة مادية حسية تحرّك مشاعرها المتبلدة ..ونستطيع تأمل ذلك في تاريخنا الإسلامي وسنجد له شواهد كثيرة ..
السؤال الثاني : ماهي العوامل التي ساعدت أيوب (ع) على اجتياز أعظم ابتلاءين  في حياة البشر ابتلاء النعمة وابتلاء المحنة ..وبذلك النجاح الباهر ؟؟
ان صعوبة الابتلاء تأتي عندما يتمكن حب الدنيا من القلب و يكون الارتباط بعالم المادة شديدا .. وبقدر الإحساس باللذة المادية يكون الشعور بالألم أعمق .. بعكس ذلك لو كان ارتباط الأنسان بعالم المادة ضعيفا.. عندها يشعر بانتمائه  الى عالم أرحـب .. مع ملاحظة  أن ذات الألم الجسدي  قد يتحول عند الولي الى فيض من السعادة وهو يستشعر رضا المحبوب ..
من هنا فإن أيوب النبي (ع) لم يتعلق لحظة بدار الفناء ... فعندما كان يعيش في الرخاء لم يدع الدنيا تتسلل الى روحه التي كانت حرما خالصا لمولاه الحق .. وحين سلبت منه وابتلي لم تتأثر تلك الروح الكبيرة وبقيت تحافظ على نقاءها .. وحين عاد حاله الى أفضل مما كان عليه ..  كان فرحه (ع) برضا ربه ونجاحه بالاختبار هو الأكبر والأعظم .. ولو لم يفرّج عنه في الدنيا ومات بآلامه لما تغير من حاله شيء .. ودوما علينا تذكر ان أولياء الله لهم قوانينهم الخاصة في التعامل مع الحالات التي تطرأ على مشاعر :  الغضب والرضا والألم والسعادة والفرح والحزن والخوف والطمأنينة .. ومعيارهم في ذلك هو رضا محبوبهم (الحق سبحانه ) و سخطه ..

في رحاب قصة ني الله يعقوب (عليه السلام)
                  بسم الله الرحمن الرحيم
((فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا* ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا))مريم: 49 - 50
مقدمة
في رحلة التكامل الروحي فإن النبي المرسل وقبل أن يشرع بدعوته يقوم ببناء نفسه بناءا رصينا يكون معه أهلا لتحمل شرف ومسؤولية الرسالة  جاعلا  روحه الشريفة ونفسه القدسية نقطة انطلاق لتبليغ رسالته الخالدة ..
ومع بدء الدعوة الى الله فإن هذا البناء الروحي لا يتوقف بل تزداد وتيرته وعلى قدر التشريف تكون المسؤولية وعلى النبي المرسل القيام بمهمتين مزدوجتين ومتزامنتين ..ففي الوقت الذي ينحتون مبادئ دعوتهم في صخور الضلال واختراق العقول المقفلة وتبديد ظلام الناس بنور رسالتهم .. تزامنا مع ذلك عليهم استكمال الحركة المعنوية للعروج وارتقاء درجات التكامل وهي حركة تستمر مع النبي المرسل حتى اللحظات الأخيرة من عمره الشريف ..
والنبي الكريم يعقوب خاض تلك المعركة المزدوجة بكل بسالة  كما خاضها غيره من الأنبياء (عليهم السلام ) .. وعلى أكثر من صعيد .. عانى من مجتمع لم يستوعب الرسالة .. ومن محيطه الملتصق به وأبنائه الذين لم يرتقوا بأنفسهم كما يجب وكما يحب .. وعانى من آلام نفسية قاسية بفراقه ليوسفالحبيب  .. وعلى صعيد المعاناة الجسدية فقد ترك حزنه العميق المتواصل أثره على الجسد الذي أنهك وضعف ...
والحق ان هذا النبي العظيم لم ينصف من قبل أهل السير والرواة ..وتم التركيز على مسألة حزنه على يوسف (ع) حتى صار ذلك الحزن مضربا للمثل بين العوام .. حتى أشكل من قبل البعض : كيف لنبي مرسل بمكانة يعقوب أن يحزن بهذا الشكل الذي تذهب به عيناه على فقد ولد ه؟ في حين أننا نرى في حياتنا من فقد أكثر من ولد ولم يصدر منه من الحزن ماصدر من نبي الله .!!..
ويجب الا نلوم من يتساءل عن ذلك بحسن نية .. بالقدرالذي  نلوم فيه من صوّر ذلك الحزن بسطحية فهمت منها الأذهان ذلك الفهم الخاطئ ..
أحزان يعقوب (ع)
كان ليعقوب النبي أحزان متعددة .. وأوجاع كثيرة المشهور منها حزنه على يوسف (ع)..
•    حزنه (ع) على يوسف النبي ولي الله..
•    حزنه (ع) وبكائه على نفسه و خشيته من التقصير بمايجب القيام به لحفظ ولي الله وحجته في أرضه يوسف النبي .
•    حزنه (ع)  على المستوى الذي وصل اليه أولاده وعدم استلهامهم للدروس التي حاول غرسها في نفوسهم ..
•    كان حزنا وبكاءاعرفانيا..وهو من سادة أهل العرفان والبصيرة ..وقد كان هذا الحزن والبكاء معراجا ليعقوب (ع) في تكامله الروحي ..


الصبر الجميل
الصبر في قاموس الصالحين سياحة روحانية في فضاءات لامتناهية في مراتب النور .. حركة معنوية تكتسب من خلالها النفس طاقة هائلة تستطيع بها مواجهة كل ما يواجهها من مشاق .. الصبر لدى أولياء الله ليس وضع اضطراري لا يجدون مفرا من تجرع مرارته كما هو شأننا ..الصبر لديهم إختيار ومنحة وليس اضطرار ومحنة ..إنهم يتلذذون بمرارته  أكبر بكثير مما يتلذذ أصحاب الغفلة بدنياهم ..
  وكما ذكرنا ..ان صبر يعقوب (ع)  لم يكن صبرا على مصيبة فراق بقدر ماكان مرارة التعامل مع نفاق .. ففراق يوسف (ع) وان كان مؤثرا على نفس يعقوب الإنسان . ولكنه ليس هو السبب الوحيد لحزن نبي الله ..فهو صاحب رسالة شعارها التوحيد ومبدأها الولاء لله تعالى .. كيف يعقل لقلب نبي مرسل وعارف كامل أن يسكنه حب غير الله .. الا اذا كان الحب يسير طوليا في حبه تعالى أو يقود اليه كحب النبي الأكرم وأهل بيته وأنبياءه ورسله وملائكته   (عليهم جميعا صلوات الله وسلامه ) فمنشأ هذا الحب والولاء من حبه تعالى وهو الذي أمرنا به ..عدا ذلك فالحب لا يتعلق بالشخص .. هذه مفاهيم أولية للأسلام فكيف تخفى على نبي بمكانة يعقوب عند الله تعالى ..للأسف ان هذه الشبهة قد انطلت على الكثيرين حتى ممن حسبوا على أهل العلم من مؤرخين وأرباب سير وأرسلوها إرسال المسلمات دون التدبر في تداعياتها على مستوى الضمير الجمعي للمجتمع الذي بات يسئ الى هذا النبي الكريم بلا وعى وصار حزنه على يوسف مضربا للأمثال الشعبية الساذجة ..
    إذن ما هو المبعث الأساس لحزن يعقوب ؟ .. سؤال يدعو الى تأمل كبير.. قد يكون   (كما ذكرنا) حزن على  الأبناء وكيف مكنّوا الشيطان من النفاذ الى نفوسهم فأفسدها بأفكاره الخبيثة .. ألم صعب وقاس ان يرى نبي الله محيطه العائلي وقد انحرف بهذا الشكل الخطير ..وهو الذي بعث لمحاربة الانحرافات بكل أشكالها ..وإن مما زاد في ألم يعقوب الأب والنبي هو إن جريمة أولاده كانت مستمرة فطيلة فترة غياب يوسف (ع) لم يتحرك ضمير إخوته  ولم يراجعوا أنفسهم ..وأكثر من ذلك .. إن نبي الله كان يعلم بعلمه الكشفي الغيبي أو على الأقل كان يظن ظنا مؤكدا بأنهم يخفون عنه حقيقة ما جرى ليوسف رغم كل ذلك .. كان عليه أن يتعامل مع أولاده ما يقتضيه التعامل البشري بل وبخلقه النبوي الظاهر .. ويقوم بكل التزاماته الأبوية تجاههم دون ان يوجه الاتهام المباشر لهم يوما ..إنه أمر بالغ الصعوبة ..

ونفتح ملف الأٍسئلة الحائرة .. أسئلة تتعلق بالنبي يعقوب وأخرى تتعلق بأبنائه وأخرى تتعلق بالجريمة ذاتها ...
ففيما يتعلق بيعقوب النبي و الأب :
•    هل كانت العلاقة الخاصة لنبي الله يعقوب مع يوسف توحى لأولاده الآخرين أنه يفضله عليهم ولو دون قصد ؟
•    هل لاحظ نبي الله يعقوب هذا توتر العلاقة بين أبناءه قبل أن يصل الأمر الى ما وصل اليه ؟
•    لماذا لم يبين الأب النبي حقيقة محبته لأخيهم كونه ولي لله ومحل اجتباءه؟
•    عندما قص يوسف الرؤيا على أبيه حذره الأب من أن يعلم إخوته بذلك فيكيدوا له  ومع ذلك فقد  سمح لهم  بأن يأخذوا يوسف معهم .. كيف نفهم ذلك ؟
•    لماذا ذكر نبي الله الذئب تحديدا كمصدر للخوف على يوسف ولم يذكر أسبابا أخرى وهي كثيرة..ثم .. لماذا قال ( وأنتم غافلون) لماذا ذكر غفلتهم وكأنهم يلقنهم العذر ..؟

أما الأسئلة المتعلقة بالأبناء فمنها :
•    هل  كان شعورهم بالغيرة من يوسف وأخيه مبررا .. كيف تولد الشعور بالغبن العاطفي لدى جميع الأخوة ؟ ألا يمكن أن نلتمس العذر لأخوة يوسف في غيرتهم على أبيهم ؟ بمعنى أدق ..أليس من حق الأبناء أن يشعروا بعدم التمييز في عاطفة الأب ؟
•    لقد نسبوا الى أبيهم الضلال حين فضل يوسف وأخيه عليه وهم عصبة وهو تشنيع فضيع بنبي كريم .. فما الذي أرادوا قوله ؟
•    هل كان الأخوة فعلا لا يعلموا بمكانة يوسف الروحية عند أبيهم ؟
•    كيف نتعامل مع  إخوة يوسف .. ماهي تركيبتهم النفسية هل نعتبرهم  أشرار استفادوا من طيبة وتسامح النبيين الكريمين يعقوب و يوسف  أم أناس  طبيعيين تعرضوا لوضع نفسي خاص وأرادوا حقهم الطبيعي العاطفي من أبيهم ولكنهم أساءوا السبيل  ؟ 

•    لماذا لم يدخل الحسد قلوبهم على حب بنيامين رغم انهم أشركوه مع يوسف في المكانة من قلب الاب لماذا لم يفكروا بإبعاده هو الآخر .. لماذا يوسف تحديدا ؟
•    نلاحظ ان الأخوة قد تدرجوا في وسائل التخلص من أخيهم يوسف .. فمن فكرة القتل الى فكرة التغييب أو الإبعاد .. فهل لذلك من دلالة .؟
•    بعد فشلهم في تحقيق النتيجة التي توخوها ..وهي خلو وجه أبيهم لهم الذي تحول عنهم بالكامل وفشلهم في تحقيق أي من أهدافهم هل ندم الإخوة  على فعلتهم ؟ وهل كانوا سيقدمون على جريمتهم لو كانوا يعلمون بفشلهم ؟  ...
•    ما الذي منعهم من الاعتراف بخطيئتهم وتقديم الاعتذار وطلب المغفرة خصوصا وهم يعرفون مدى الرحمة في قلب أبيهم النبي  ؟
•    هل كان ندمهم المتأخر على ما فعلوه بحق أخيهم حقيقيا صادقا أم تسليما بأمر واقع لا يملكون الا الإقرار به ؟

بعد هذه الأسئلة وماتولدت من أسئلة أخرى في ذهن القارئ الكريم .. سنذكر بعض النقاط التي تساعدنا في الإجابة :
                                                  - 1ـ
العدالة الاجتماعية لدى أولياء الله  هي منهج حياتي وسلوكي طبيعي وليس مفتعلا ولا انفعاليا ..إن يعقوب النبي لم يكن يُفرق بين الإخوة وهو يتعامل معهم بكل ود رغم سوء طباع بعضهم ..ولكن شأن يوسف لديه مختلف إنه ولي الله الذي سيكلف بطاعته .. انه أمانة إلهية مهمته الحفاظ عليها ..ان حبه ليوسف حب وولاء لله وفي الله تعالى.. لم يكن حبا أبويا عاطفيا .. ان هذه المعاني العقائدية العميقة.. لم يكن ليؤذن له بالإفصاح عنها كونها من المشيئة الإلهية المستقبلية التي يجب التكتم عليها ..ولإن أبناءه لم تكن لديهم الاستعدادات الذهنية لتقبلها والتعامل معها ..هم لا يعرفون من يوسف الا أخ مميز عليهم ..
                                            ـ 2ـ
 إن تفكير الإخوة  كان ساذجا وسطحيا فهم قد نسبوا الضلال لأبيهم النبي لأنه فضّل عليهم يوسف وأخيه وهم عصبة لقد تكلموا بمنطق المجتمع الذي يقدس القوة والجماعة ويعتبرهما معيارا وحيدا للاحترام .


                                              3  ـ
كان نبي الله يتحسس العلاقة غير الودية  بين يوسف وأخيه من جهة وبقية الأبناء من جهة أخرى  ولكن الأبناء لم يكونوا يظهروا ما يبطنون تجاه يوسف وأخيه فلم يكن بوسع نبي الله بمحاسبتهم على مشاعرهم مالم تتخذ مظهرا خارجيا طبقا لقواعد العدالة ..
                                          ـ  4   ـ
عندما قص يوسف (عليه السلام )الرؤيا على أبيه تيقن الأب النبي من اجتباء واصطفاء يوسف لتحمل الرسالة الإلهية ..وقد نصحه بكتمان الأمر عن أخوته على وجه الاحتياط ..أما سماحه لهم باصطحاب أخيهم  فمسألة تتعلق بعلم الولي الباطني المكلف بعدم إظهاره والسير وفق الظاهر وإن وقع فعلا كل ما يعلمه إجمالا أو تفصيلا ..كما إن علم الأولياء بالغيب مما أطلعهم الله عليه وليس علما بالغيب القطعي النهائي والذي لا يعلمه سوى الله (عز وجل )..أضافه الى أن الأب وبحكم معرفته بأبنائه فإن رفضه لطلبهم سيعقد من الأمور وسيعمق الشعور لدى الأخوة بتفضيل يوسف عليهم..
                                       ـ 5 ـ
 لقد ذكر يعقوب (ع) الذئب تحديدا بالخوف على يوسف (ع) لأن وجود الذئب  الخطرالأكثر احتمالا في الصحراء وفيه نقطتين  غاية في اللطافة يذكرها أهل التفكر في كتاب الله فمن جهة أراد (ع) أن يحسس الأخوة إنه لا يشك بهم وإنه يفترض فيهم حسن النية حين نسب الفتك للذئب بأخيهم.. وهو نوع من الحكمة التي تفترض حسن النية و تقلل من النوايا الإجرامية لدى الآخر .. وقد تنجح أحيانا في إيقاظ الفطرة فأكثر مايزيد في بشاعة الجريمة هو شعور المجرم ان المجتمع لا يثق به ويفترض فيه سوء النية  مسبقا مما يولد في نفسه شعورا بالكراهية الشديدة .. وسنرى أن ذلك قد نجح فعلا من تقليل نوازع الشر في نفوس الأبناء..
اللطيفة الأخرى في ذكر الذئب هي رمزية الذئب للمكر والغدر والفتك بغير شرف .. لقد كان يشير للأخوة ونفوسهم التي سولت لهم الكيد لأخيهم بلا ذنب ارتكبه معهم ..
                                           
                                             ـ 6ـ
مسالة الشعور بالغبن العاطفي غالبا ما يتركز لا شعوريا في أذهان الأخوة لأب ويعمقه تميز الأبن الآخر في بعض الصفات الظاهرية كجمال الهيئة ولطف الشمائل او الذكاء والفطنة أو صفات باطنية ككرم النفس أو الشجاعة أو الصدق أوغيرها من الصفات الجاذبة للاهتمام وما يؤكد ذلك هو توجيه كل حسدهم ليوسف المتألق صورة وسريرة .. فشعور الأخوة بحد ذاته وإن كان ينطوي على سوء أدب مع نبي زمانهم وولي أمرهم باعتباره اتهام مبطن بعدم العدالة . ولكنه كان من الممكن قبوله.. ولكن من غير المقبول والمعقول أن يتم التخطيط لهكذا جريمة بسبب شعور داخلي لاأساس له .. وحتى حجتهم بإبعاد يوسف ليخلو لهم وجه أبيهم فهي تدل على ضيق أفق خصوصا وهم لا يعلمون تحديدا ما كان يحبه أبيهم  في يوسف (ع) ..فكان الأولى بهم أن يتقربوا الى أبيهم بما يحب .. لقد أحب يعقوب يوسف في الله وأحبوا هم يعقوب لأنفسهم .. بمعنى أن حب الأخوة لأبيهم كان حبا بشريا فيما كان حب يعقوب ليوسف (عليهما السلام) حبا إلهيا خالصا ..
وفي هذا لفتة عرفانية بالغة الدلالة فمن يحسد أولياء الله على ما آ تاهم من فضله عليهم وبدلا من إشعال نار الغيرة الذميمة والحسد في قلوبهم ..عليهم التقرب اليه سبحانه بما يريد وحسب جهدهم حيث لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد من عبادة ولا فضل لأحد على آخر الا بتقوى الله والإخلاص في العمل ..لقد قُتل الكثير من أولياء الله وطوردوا وسجنوا واضطهدوا لا لذنب ارتكبوه سوى حسد سرت ناره في النفوس المريضة المتدنية .. فبسبب ذلك الحسد الشيطاني غير المشروع ارتكبت الجرائم الكبرى بحق أهل بيت النبوة (عليهم السلام) بالإقصاء والقتل والتشريد وخنق الحريات تحت لافتات كتب عباراتها الشيطان والأنفس الأمّارة بالسوء تحاول أن تعترض على تقييم السماء السامية وتقيم موازين الأرض الهابطة  .
                                                    ـ  7 ـ
 بعد أن استزلهم الشيطان وأطاعوا أنفسهم ونفذ الأخوة مخطط التخلص من أخيهم ...رجعوا الى  أنفسهم.. إحساس بتأنيب الضمير حاد .. وشعور بعدم الانتماء للمجتمعالإيماني ..واستشعار  بالخروج من دائرة الرضا ولو بدرجات متفاوتة كما يذكر المؤرخون فليس كل الأخوة على نفس القدر من الجرأة على حرمات الله ...
                                                   ـ  8  ـ
ان مسالة تدرجهم من الحد الأعلى في أسلوب تنفيذ الجريمة الى الأدنى يدل كما تفيد دراسات علم نفس الإجراميدل على عدم تأصل الجريمة في نفس الجاني وقلة النزعة الإجرامية لديه بعكس المجرم الذي يكون تفكيره الاجرامي  بصورة تصاعدية من الأدنى الى الأعلى ..وهذه نقطة تحسب لصالح الأخوة الذين تدرجوا من القتل لأخيهم الى التعذيب والتغييب ..
                                                   ـ  9 ـ
 ما النتيجة التي حصل عليها أخوة يوسف من جريمتهم ..؟
سؤال لطالما سألوه لبعضهم ولأنفسهم وبدءوا يتلاومون ويتهمون بعضهم بعضا ..بالتأكيد أنهم ندموا ولكنه يبقى ندما سلبيا .. ندما على خيبتهم ولم يقدموا على أي خطوة ايجابية تترجم ندمهم الحقيقي ..فلم يعترفوا خوفا من الفضيحة ونظرة الناس لهم وهذا الإحساس دليل آخر على تيقظ ضمائرهم ولكنه إحساس يدينهم أكثر مما يفيدهم فيفترض بهم أن يراعوا ويفكروا بالحفاظ على سمعتهم كأولاد أنبياء قبل ذلك ..ولو اعترفوا بالذنب وأعلنوا توبتهم وطلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم لفعل ولخففوا عنه حزنه الأكبر وعن أنفسهم إحساسهم بالذنب ..لكنهم لم يفعلوا فأحزنوا القلب المفجوع لأبيهم ..فأصبح جرمهم تراكميا متجددا مع كل لحظة تمر عليهم وهم مصرّين على عدم توبتهم ..
إن الاعتراف بالخطيئة شجاعة نفسية ممدوحة في ذاتها بغض النظر عما يترتب عليها من قبول أو عدمه .. وهو دليل على استيقاظ الضمير بعد غفوته ..لأن الاعتراف بالذنب يكسر حواجز نفسية يضخمها الشيطان ويعمقها في النفس بحيث يقنع صاحبها بعدم قبول التوبة لضخامة الجرم فيطيعه الإنسان الظالم لنفسه بسذاجة ليقعد محروما مخذولا وهو لا يدري أن بيأسه من رحمة الله التي وسعت كل شيء والتي لا يتعاظمها ذنب مهما عظم لا يدري أن بيأسه من روح الله قد ارتكب جرما أكبرمن جرمه بل وارتكب أعظم الجرائم وأشدها على الإطلاق ..

                                            أخيرا :
إن من شأن تحليل جريمة إخوة يوسف وهي بهذا الحجم وبتلك النوعية من التخطيط  تحليلا جنائيا موضوعيا آخذا بنظر الاعتبار الجوانب النفسية والاجتماعية .. أن يفسر لنا الكثير من الجرائم الاجتماعية , الأسرية منها تحديدا .ان إخوة يوسف كانوا نماذج بشرية بسذاجة تفكيرهم .. وبكل انفعالاتهم وأحاسيسهم وحدّتها ....علينا أن نفتش في دواخلنا عنهم وفي مجتمعنا ..نساعدهم كي يعلموا من هو يوسف ؟ ولماذا أحبه يعقوب النبي ؟كي لا يقتل يوسف جديد وفي كل حين حسدا وحقدا عمدا أم جهلا ..
مع ملاحظة هامة : يجب الا نسرف كثيرا في ذم أخوة يوسف فهم أبناء نبي مرسل و ثبتت توبتهم وقبلها الباري (عز وجل ) بشفاعة نبي كريم وسامحهم يوسف الصدّيق فلا يجب أن نتمادى في القسوة عليهم وأن نركز على الدروس العظيمة المستفادة من فعلهم البشري ولانزيد على قول أخيهم النبي (( لا تثريب عليكم ...)

في رحاب قصة نبي الله  يوسف (عليه السلام )
                         بسم الله الرحمن الرحيم
((ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب))غافر 34

مقدمة
       قد يتساءل البعض بعد أن تعددت صور الابتلاء...ما هو الابتلاءالرئيسيفي قصة سيدنا يوسف (ع)؟ .. وهل هناك ربط بين ما اشتهر به من جمال صورة وما تعرض له من  ابتلاءات ؟ بمعنى أدق : ماهو القاسم المشترك بين كل ما ابتلي به ؟ وبالتالي ما هو محور رسالة هذا النبي الكريم ؟
أسئلة  قد تخطر ببال المتفكر بهذه القصة .. قبل أن نحاول بحثها .. لا بد من ملاحظة ربما تكررت  .. وهي إن ابتلاءات الأنبياء (ع) لم تكن الا لرفع منزلة النبي المرسل أو  لتعليم درسا عمليا للمرسل اليهم  أو تأكيد مبدأ أو ترسيخ عقيدة ..وإن هذه الابتلاءات تتنوع وتعدد صورها ليكون تصرف النبي المرسل هاديا في محن ومواقف حياتية مشابهة قد نواجهها..كي لا يدع أحد بمجهولية  التكليف وقهرية الابتلاء.. خصوصا إن المحن التي واجهها الرسل باعتبار بشريتهم ولم تتدخل إرادة السماء تدخلا مباشرا وإعجازيا الا في حدود ضيقة ..ولأهداف إلهية  لحماية الرسالة أو المبدأ  .. و في حالات خاصة تحمي المرسل باعتبار وجوده جوهريا في إتمام الرسالة ..
نعود للأسئلة التي أثرناها : ..
•    إن جوهر ابتلاء يوسف النبي كانت في كشف خبايا النفس البشرية وخفاياها .. بين جمالها وقبحها بين  طهرها ودنسها بين خيرها وشرّها بين براءتها وجنايتها بين وفاءها وخيانتها بين رقتها وشفافيتها وبين قسوتها وغلظتها ..
في هذه الدائرة الخطرة .. في ساحة معركة لا يوجد فيها قانون للصراع ولا هدنة ولا أنصاف حلول .. من ينتصر فيها يحصل على كل شيء ومن يخسر يفقد كل شيء .. في معركة مصيرية شرسة كهذه كان ابتلاء يوسف الصديّق الذي جاء برسالة جوهرها توحيد الله (عز وجل ) ومحاربة النفس الأمارة بالسوء والشيطان  وإشاعة قيم الاستقامة والعفة التسامح والعفو عند المقدرة  والتأكيد على الثقة بنصر الله تعالى ..
حياة النبي الكريم كما وردت في الذكر الحكيم :

لقد ذكرت قصة سيدنا يوسف في كتاب الله العزيز بصورة مفصلة تسحر الألباب وتدهش العقول وتعجز الأدباء والمفكرين ويكفي أنها وصفت في الكتاب العزيز أحسن القصص فهي تجمع بين الإثارة والتشويق والسرد شديد المتعة وتداخل الأحداث والجمع بين الغيب والواقع بشكل مذهل وقد تضمنت دروس عقائدية وأخرى معرفية وعرفانية عظيمة ..بشكل يجعلنا عاجزين تماما عن إدراك رموزها الإلهية فضلا عن بحثها ولكن من باب مالا يدرك كله لا يترك جله سنقوم باستعراض بعض المحطات الرئيسية في حياة هذا النبي الكريم ومن ثم التأمل فيها بالقدر الذي يوفقنا الله (عز وجل ) اليه   ..

•    ذات ليلة يرى يوسف في منامه أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له، فيعرف يعقوب أنها تتضمن إجتباءا ليوسف ومجدا يجعل إخوته وأبويه يخضعون لسلطانه فقال له أبوه: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5]
•    وتتأكد مخاوف الأب حين تبدأ نار الحسد تأكل نفوس الأخوة يذكيها الشيطان فدبروا له مكيدة إلقائه في الجب،على تفصيل ذكرناه في قصة النبي يعقوب .. فتمر قافلة فأرسلت واردها إلى البئر فأدلى دلوه، فتعلق يوسف به، فأخذوه عبداً رقيقاً وانتهى أمره إلى مصر فاشتراه عزيزها ، وأنزله من نفسه منزلة خاصة لحسن خلقه وصدقه، وأمانته .
•    زوجة العزيز تعجب به  ، وتراوده عن نفسه فيستعصم، فيدفع ثمن ذلك سجن يدوم سنوات ، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33 في السجن يمنّ الله عليه بعلم تعبير الرؤى، وكشف بعض المغيبات، فاستخدم ذلك في دعوة السجناء معه إلى توحيد الله(عز وجل )، وإلى دينه الحق.
•    كان معه في السجن فتيان: رئيسُ سُقاةِ الملك، وكبير الطهاة  ، فرأى كل منهما في منامه رؤيا وعرضها على يوسف الصديق الذي نال ثقتهم . أما رئيس سقاة الملك: فقد رأى أنه يعصر خمراً، فقال يوسف: ستخرج من السجن وتعود إلى عملك فتسقي الملك خمراً. وأما كبير الطهاة : فقد رأى أنه يحمل فوق رأسه طبقاً من الخبز، والطير تأكل من ذلك الخبر، فأخبره يوسف: أنه سيصلب وتأكل الطير من رأسه.
•    وفي لحظة غفلة كلفته سنين أضافية من السجن يوصى يوسف (ع) رئيس السقاة أن يذكره عند الملك.
•    و فعلا يتحقق ما عبر به يوسف لكل من الرجلين ، إلا أن ساقي الملك ينسي وصية يوسف الصديّق. يلبث يوسف في السجن بضع سنين، حتى يرأى الملك رؤيا البقرات السمان والبقرات العجاف، والسنابل الخضر والأخر اليابسات، فيعرض رؤياه على السحرة والكهنة فلم يجد عندهم جواباً، وفي لحظة  يتذكر ساقي الملك ما أوصاه به يوسف (ع) في السجن فيخبر الملك بأمره، وفورا يرسله إلى يوسف يستفتيه في الرؤيا، فكان جواب يوسف بأن البلاد سيأتيها سبع سنوات مخصبات ثم يأتي بعدها سبع سنوات قحط وجدب. ثم يأتي بعد ذلك عام يغاث فيه الناس وتعم فيه البركة. يعجب الملك بتعبير  يوسف، فيأمر بإخراجه  من السجن، ولكن يوسف يرفض الخروج حتى  يعاد التحقيق في تهمته التي غتهم بها ظلما يريد بذلك أن يخرج ببراءته وكرامته وليس بأمر عفو من الملك ، حتى إذا خرج خرج ببراءة تامة، ، وتعترف المرأة  التي راودته عن نفسه بجرمها وتبرئته . عند ذلك يخرج يوسف ( الصديق )من السجن، ويقربه الملك ويستخلصه لنفسه، ويجعله نائبا له وعزيز مصر ويسند اليه مهمة إدارة الدولة الفرعونية  على خزائن الأرض. ينظّم يوسف أمر البلاد، ويدير دفة المنصب الذي وُكل إليه إدارة رائعة، فقد ادَّخر في سنوات الخصب الحب في سنابله، لمواجهة الشدة في سنوات القحط، وجاءت سنوات القحط التي عمت مصر وبلاد الشام، فقام بتوزيع القوت ضمن تنظيم حكيم عادل. وتعم المجاعة جميع البلاد بما فيها كنعان حيث أسرته.. فلم يجدوا بدا من البحث عن ممصدرإغاثه لهم فلا يجدوه الا في مصر ، فيأتي  إخوته إلاّ شقيقه بنيامين إلى مصر طالبين الميرة، لأن أباه – يعقوب (ع)- صار حريصاً عليه بعد أن فقد ولده يوسف، فلما رآهم يوسف عليه السلام عرفهم، وأخذ يحقق معهم عن أسرتهم وعن أبيهم، واستجرَّ منهم الحديث فأخبروه عن بنيامين، فأعطاهم ميرتهم ورد لهم فضتهم في أوعيتهم، وكلفهم أن يأتوا بأخيهم بنيامين في المرة الأخرى، وإلا فليس لهم عنده ميرة، فوعدوه بذلك. بعد رجوعهم الى ديارهم يذكر الأخوة  لأبيهم ما جرى لهم في مصر، والشرط الذي شرطه عليهم العزيز، وبعد إلحاح شديد ومواثيق أعطوها من الله على أنفسهم، أذن لهم يعقوب (عليه السلام ) بأن يأخذوا معهم أخاهم بنيامين.
•    ولما وفدوا على يوسف (عليه السلام ) دبَّر لهم أمراً يستبقي فيه أخاه بنيامين عنده، فكلف غلمانه أن يدسوا الإِناء الفضيّ الذي يشرب به في رحل أخيه بنيامين. ولما حملوا ميرتهم عائدين إلى بلادهم أرسل الجنود للبحث عن سقاية الملك، فوجدوها في رحل بنيامين فأخذوه، وكان أمراً شديد الوقع على قلوبهم، وعادوا إلى يوسف يرجونه ويتوسلون إليه أن يخلي سبيل أخيهم، وعرضوا عليه أن يأخذ واحدا منهم مكانه، إلا أنه رفض. فرجعوا إلى أبيهم إلا كبيرهم رأوبين، وأخبروه الخبر فظن بهم سوءاً، وحزن حزناً أفقده بصره. ثم أمرهم بالعودة إلى مصر والتحسس عن يوسف وأخيه، فعادوا إلى مصر وألحّوا بالرجاء أن يمنَّ العزيز عليهم بالإِفراج عن أخيهم، وخلال محادثتهم معه بدرت منها بادرة أسرها يوسف في نفسه، إذ قالوا: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل}، يشيرون إلى الحادثة التي اصطنعتها عمته حينما كان صغيراً لتستبقيه عندها.
•    وفي مشهد مثير ومباغت يعرّفهم يوسف (ع) بنفسه، فقالوا: {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ؟!} قال: {أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا!} [يوسف: 90] قالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا!} [يوسف: 91] والتمسوا منه العفو والصفح عما كان منهم، فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92]. وطلب منهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين، وبذلك انتقل بنو إسرائيل إلى مصر، وأقاموا فيها وتوالدوا حتى زمن خروجهم مع موسى (عليه السلام).
•    ويكتمل المشهد العظيم .. حيث يحضر النبي الأب يعقوب (ع) الذي ارتد اليه بصره بريح يوسف الحبيب ..مع زوجته وجميع أولاده .. وفي حضرة يوسف النبي والولي وحجة الله في أرضه يسجد الجميع لله تعالى على عظيم فضله ومنّه عليهم لتحقق الرؤيا وتختم أحسن القصص ..

                       وقفات التأمل في حياة يوسف النبي ...
                                        1

الحسد الآفة النفسية الدنيئة الأولى التي عرفتها النفس البشرية بل وكان السبب بارتكاب أول جريمة جنائية  في تاريخ الإنسان على هذه المعمورة ..حين حسد (قابيل) أخيه (هابيل) فقتله ظلما وعدوانا ..
ان الحاسد ذو نفس أمارة بالسوء يعتقد أنه الأولى بالتفضيل ولأنه لا يرى الا فضائل الآخرين ناسيا  مزاياه ..فإنه يرى كل ميزة عند غيره هو إجحاف بحقه ..وهو يعتبر المحسود خصما دون سبب مشروع يتمنى زوال نعمته بأي صورة حتى وإن كانت تصفيته جسديا بالقتل أو معنويا بهدر كرامته في المجتمع .. فيسعى للكيد به بكل الطرق ..
والحاسد يعيش وضعا نفسيا بائسا .. وهو  في دوامة من الهموم التي لا علاج لها سوى القناعة بما قدّر له والتفكر بما فضّل به على المحسود أو قصّر به لبلوغ الفضائل النفسية ..وهنا تحديدا تكمن مشكلة الحاسد فهو ومن فرط ما يشغله التفكير بمزايا غيره لا يلتفت الى مزاياه .. والحسد ينطوي على كفر باطن فالحاسد يتهم ربه ضمنا بمحاباة المحسود على حسابه وهو عين جرم إبليس (لع) في  حسده لآدم (ع) ..في حين إن الباري  (تعالى ) قد وهب  العطايا ووزع الهبات بحسابات اللطيف الخبير .. لكن الإنسان يريد أن يرى كل الأشياء من منظاره القاصر وبحسابات بشرية  دنيوية ظاهرية ..
 .. لذا فإن نبي الله يعقوب حين لاحظ من الأخوة الحاسدين لأخيهم تلك المشاعر غير الودية زاد قلقه عندما أخبره عزيزه يوسف برؤياه نصحه الا يقص تلك الرؤية على أخوته فيؤجج الشيطان نار الحسد في نفوسهم .. وبالفعل فلو لم يعلم الأخوة بالرؤيا والتي يبدو أن أحدا كان يسترق السمع حين قص يوسف الرؤيا على أبيه .. لما فكر الأخوة بالتخلص من أخيهم لأن كل الأحداث المريرة التالية  قد ترتبت على تلك الرؤية المباركة ..
                                                        2
إن المصاعب والمشاق التي تواجه أولياء الله تعالى على صعوبتها وقسوتها تمثل مرحلة إعداد نفسي وتهيئة روحية للولي وذخيرة إيمانية يستعين بها لقابل الأيام المليئة بالأحداث .. لذا كان البئر أولى الظلمات التي واجهها يوسف الصديق وقد أفادته تلك التجربة على مرارتها ووحشتها وهو ينتقل وبلا مقدمات من حضن أبيه الدافئ متنعما بفيض حنانه ورعايته الى قعر بئر موحش مظلم جسده غض ملقى أشبع ضربا مبرحا لكن روح يوسف هي من كانت تتألم أكثر وهو يرى إخوته أصبحوا أعدائه دون أن يرى مبررا لذلك ..
                                    3  
((وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين))يوسف: 20
العبودية في قاموس أولياء الله تعالى هي في إطاعة الهوى والنفس الأمارة بالسوء وامتثال أمر الشيطان ..العبودية والحرية تنطلقان وتعودان الى الروح أما الجسد وما يتعرض له من أسباب خارجية طارئة ..فما هي الا ابتلاءات لتزكية النفس ودرجات سمو للروح التي تعيش حرة في عالم عبوديتها لله (عز وجل ) وكلما أرتقت في درجات تلك العبودية المقدسة كلما حصلت على درجات أسمى وأعلى .. في الحسابات الأرضية المقلوبة ..أصبح يوسف (عبدا) في سوق النخاسة .. و  زليخا ( التي صارت مالكة ليوسف وفق الأحكام الجائرة ) كانت حرة وسيدة القصر .. ومن قبلها (إخوته ) كانوا أحرارا .. ولكن في الحقيقة : من كان السيد ومن كان العبد ؟ فيوسف فيأغلاله وعبوديته الظاهرية كان حرا بينما كانت زليخا تتمرغ في وحل طاعتها للنفس ورغباتها غير المشروعة كانت مع الأخوة هم العبيد بدرجة وأخرى ..
                                 ـ4 ـ
((وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون*ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين*واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم))يوسف: 23 - 25
في بيت العزيز يواجه نبي الله إبتلاءا من نوع صعب للغاية .. فرغم أجواء الترف والبذخ والسلطان كانت سيدة القصر تعيش فراغا عاطفيا هائلا وحرمانا كان سببه زوجها العاجز ..وقد كانت تعوض تلك المعاناة النفسية بسطوة وتحكّم وفرض مزاجها على كل ما في القصر .. مع هكذا امرأة تتيه في دنيا الثراء وسكرته .. والملك وسطوته .. والنفس وجموحها .. يعيش يوسف (ع) بكل شبابه وجماله ووسامته .. ولكن في النهاية (عبد ) لزليخا وفق القانون الاجتماعي السائد ..إذن فكل شيء مهيأ أمامها لنيل مآربها ..لقد ظنت أنها حين أصبح جسده عبدا لها تمكنت من روحه ..وتكيد بيوسف الذي رفض عرضها المشين .. وفي ليلة.. تهيأ فيها كل أسباب الإغراء وترتفع فيها كل الموانع (كما كانت تظن )..تراود يوسف (ع) عن نفسه ..كان الابتلاء مخيفا.. ووضع الصديّق بين مطرقة اقتراف الخطيئة والوقوع في خطأ التصرف في التخلص من الموقف ..إن الأمر لم تتدخل فيه إرادة السماء لقد كان موقفا بشريا خالصا .. صراعا عاشه يوسف الإنسان ..الذي لم يكن خياره بين إجابة طلبها وبين رفضه كما هو شائع خطأ .. بل كان همّ الصديق في طريقة التخلص من مأزق حياتي بالغ الحساسية ..فموقفه صعب للغاية .. فقد تفتري عليه سيدة القصر بأنه من تسلل لمخدع سيدته وسيصدقها الجميع في مجتمع اعتاد أن ينافق السيد ويحتقر العبد هنا تكمن صعوبة الموقف وكيفية التعامل معه بأقصى درجات الحكمة لذا فإنه فكر في أسوأ الاحتمالات ..لقد فكر في قتلها إن تمادت في إصرارها على الفاحشة..
وفعلا كاد أن يقع في خطأ التعامل مع الموقف لولا تدخل العناية الإلهية ..التي تتدخل لتعين الإنسان ـ الذي أتخذ قراره بنفسه بتوفيق من الله (تعالى ) ـ تعينه بعد ان استنفذ كل طاقته البشرية وفوض أمره الى بارئه .. لقد تدخلت إرادة السماء في يعدل عن فكرة قتلها وتدخلت في فتح الأبواب المغلقة وتدخلت في شهادة الشاهد من أهلها ( الطفل الذي أنطقه الله ببراءة يوسف ) ..      

                                 ـ 5 ـ                          
ويدخل يوسف (ع) السجن والغريب أنه دخل السجن بعد ثبوت براءته من تهمة زليخا ! إنه منطق القوة والطغيان الذي يدفع ثمنه المستضعف مذنبا أو بريئا .. لكن يوسف المنتصر يفرح بذلك السجن الذي كان سبيله في التحرر من أجواء القصر المدنسة .. السجن الذي أرسل اليه يوسف البريء ظلما كان الظلمة المادية الثانية بعد البئر.. ولكنه كان الانطلاقة الروحية الثانية في العروج الى عالم النور .. إن السجن في مصطلح أولياء الله (عز وجل) ليس بجدران وقضبان وشرطي وسجّان ..إن السجن الحقيقي هو ظلمات النفس .. السجن الذي يصنعه الإنسان لنفسه من طاعته لشهواته وأهواءه الضالة .. السجن الحقيقي كان قصر زليخا
ولم يكن السجن الذي دخله يوسف (ع)والذي كان على قساوة ظروفه جنة صغيرة لهذا النبي الكريم .. مستغرقا في عبادة مولاه الحق .. داعيا الى الله تعالى ..
                                                 ـ 6ـ

ان مسألة استعصام يوسف (ع) ومقاومته لأغراء زليخا وصموده في وجه تهديداتها لم تكن بالمسألة الهينة بملاحظة الظروف المحيطة بالصديّق (عليه السلام).. فقد كانت معركة حامية الوطيس بين المثل والقيم الذي كان يمثلها (ع) وبين الشهوة والدنس التي كان يقودها الشيطان بصورة زليخا.. الشيطان يدرك تماما أن مسألة إغواء ولي من أولياء الله المخلصين مستحيلة الوقوع ولكن اللعين كان يؤمل نفسه في وقوع يوسف في خطأ التصرف كما أسلفنا ..
لقد كان يوسف الإنسان كان  يجسد درسا عمليا لموقف حياتي قد يواجهه الكثيرون  ملخص الدرس أن من يرى الله تعالى سينتصر وسيجعل له من أمره فرجا ومخرجا مهما كانت صعوبة المعركة التي يخوضها ومهما حاصرته قيم الأرض المنحطة وأن من يتوكل عليه سبحانه سيعينه على الخروج منتصرا وستفتح الأبواب المغلقة بوجهه شريطة أن يتخذ قرار الاستعصام  البشري بنفسه طالبا معونة الباري (عزوجل) التي لا توفيق ولا سداد من دونها .
                                                   ـ 7 ـ
    العصمة التي منعت يوسف من مقاربة الخطيئة والخطأ..وان كانت من فيض توفيق الله تعالى لوليه ولكنها ليست منحة بلا أسباب .. بمعنى أن المعصوم ليس الا بشرا جاهد نفسه صبرا و مصابرة وفناء في حب سيده ومولاه حتى وصل الى مرحلة قهر معها كل مسببات الخطأ والزلل عبدا أفنى نفسه في رضا سيده ومولاه فاستحق كرمه وتكريمه ..




                                  ـ 8 ـ

  في السجن يبدأ نبي الله رحلة جديدة من الدعوة الى الله تعالى فيقوم ببناء اللبنة الأساس لدعوته الى التوحيد دين آباءه وأجداده .. حاضنة الدعوة هؤلاء  البؤساء الفئة التي انتهكت قانون الأرض الذين ربما كانوا أكثر استقامة وشرفا من كثيرين انتهكوا قانون السماء .... وما أكثر الشرفاء والصالحين الذين راحوا ضحية الخروج على قانون الأرض الذي يطبق وفق الهوى ومصلحة القائمين عليه قانون زليخا والقصر ..قانون يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك من الخاطئين .. ورغم أنها من الخاطئين باعتراف الزوج الغيور .. من يدخل السجن هو يوسف !! مثلما كان يوسف في البئر تحت طائلة قانون القوة والعصبة والحسد غير المبرر..
 يوسف الصديّق في سجنه الجديد يتعامل مع الأجواء بإيجابيته المعهودة يمسح على الرؤوس المتعبة المثقلة بهموم غربتها يمسح الدمعة ويرسم ابتسامة الأمل بالغد ويحس السجناءإن الوجود المبارك لنبي الله بينهم قد  أوقد شمعة في دنياهم القاتمة .. وأعاد الثقة في أنفسهم كبشر أحياء ..ليتحول السجن الى مسجد تشع منه أنوار الهداية..  ويعلمهم نبي الله أبجديات دين التوحيد و أساسيات العقيدة ..ليتحوّل سجنهم الموحش الى جنة صغيرة ومسجد يذكر فيه اسم الله تعالى ... 

                                              ـ 9  ـ          
جمال الظاهر والباطن :
 كوننا بشر فإننا ننشّد لظواهر الأشياء .. يأسرنا جمال منظرها .. وهذا من ضمن طبيعة النفوس وفطرتها ... وقد يتحول حب ذلك الجمال لطقس عبادي حين ننسب  ذلك الجمال لخالقه ومبدعه وبارئه وشوقنا الى العالم الآخر الأبدي ..لكن حب الجمال لذات الجمال وجعله شهوة للنفس ..والانبهار به  على وجه الأستقلال ذلك هو الضلال .. إن الجمال الظاهري لعالم التكوين يجب أن يشدنا ويقودنا لعبادة مبدع الجمال ويقودنا الى التفكر بالجمال الباطني والجمال الوجداني .. وان الجمال الظاهري النسبي في الطبيعة والإنسان  ما هو الا مظهر من مظاهر الجمال الإلهي المطلق   .. من هنا كان الخطأ الذي وقع كل من دهش بجمال يوسف الظاهري فوقع ضحية النفس الأمارة بالسوء التي عشقت الظل والخيال .. بدلا عن معدن النور والجمال ..

                                       ـ 10 ـ

     إن درب الصالحين ليس معبّدا أو مليئا بالورود بل دربا شاقا جدا في مصاعبه المادية ومرهقا.. أن عذاباتهم كبيرة وهمومهم على عظم نفوسهم .. لقد مرّ أولياء الله في أوقات عصيبة وغلبتهم طبيعتهم  البشرية في بعض الأحيان ليتركوا الأولى فكانت سيئات المقربين حسنات للأبرار .. والنبي يوسف ليس بالمستثنى .. ففي لحظة خاطفة وفيما هو يودع رفيقه الذي خرج من السجن يقول له ( أذكرني عند ربك ) هي عبارة لطالما تتداول دون أن يتفكر بها .. لكن يوسف النبي سرعان ما يدرك حجم ما ارتكب   .. ليأخذ منه الندم كل مأخذ ..ويحاسب نفسه حسابا عسيرا ..فيترك المأكل ويهجره النوم..ويغرق في بحر من الأسىوالحزن ..كيف خرجت من لسانه تلك العبارة ؟ كيف نسي ملك الملوك ورب الأرباب ليوصي بأن يذكره رفيقه عند ربه؟؟ ياله من درس عظيم .. في شدة المراقبة للنفس .. في حصر التوكل عليه سبحانه وحده .. في أن الله وحده هو مسبب الأسباب وبيده قلوب العباد .. ويدفع الصديّق ثمن ذلك بمكوثه في السجن بضع سنين ..ويفرح يوسف لذلك اللطف الإلهي به هكذا يؤدب الله (جل شأنه) أولياءه و أدب الأولياء مع مولاهم الحق .. ولكن لماذا نسي رفيق السجن ذكر يوسف ؟ وهل مثل يوسف ينسى وهو الذي نبأه ببشرى نجاته ؟ كيف نسى ؟ من الذي أنساه ؟ كيف بقي طيلة هذه المدة لا يتذكر ؟ أسئلة حين نجيب عليها ندرك أن يد الغيب هي من تحرك سكناتنا وتسكن حركاتنا حين تشاء فسبحان الذي لا يفعل مايشاء غيره .

                                                ـ   11ـ
من الصعب تفهم مشاعر وأحاسيس السجين خصوصا من ظلم  .. الشعور بالظلم أقسى بكثير من الظلم ذاته .. فالمظلوم في سجنه يشعر بمرارة وخيبة لا نظير لهما يحس بكرامته قد هدرت ويبحث عن الثأر لها ممن يظن أنه أهدرها فإن لم يعرف من ظلمه  أتخذ من القانون الذي طبق عليه ظلما أو المجتمع الذي ساعد في ظلمه خصما يقتص منهم بانتهاك القانون أو الخروج على قيم المجتمع ..
أما أولياء الله أولئك الذين تعلقت أرواحهم بالسماء وقيمها وعدالتها فإنهم يتسامون بأنفسهم الكبيرة على ظلم الآخر مهما كان .. إنسانا عدوا أو صديقا .. قريبا أو بعيدا .. أسرة .. عشيرة .. مجتمعا ..أو  قانونا جائرا لا يطبق الا على الضعفاء.. نبي الله وعبده الصالح يوسف الصديّق (ع)لا يزيد القانون الظالم روحه الا ألقا وسموا .
لكن بواقعية ماذا تكون ردة فعل هذا السجين ظلما لوصدر أمر بالعفو عنه .. ما هو شعوره ؟ الى ماذا ينصرف تفكيره .. في خلاصه من السجن ؟ أم التفكير في الفترة  التي قضاها ظلما ؟ أم في الثأر ممن ظلمه ؟ أم في  رد اعتباره في المجتمع ؟ إنها اللحظات التي تكشف عظمة النفوس .. وتفصح عن رفعتها وإباءها .. يوسف يرفض الخروج من ظلمات زنزانته حتى يعاد التحقيق في القضية التي أتهم فيها ظلما وبهتانا مع نسوة مصر ولم يذكر ( زليخا ) تحديدا في بادرة أخرى لعظم نفسه وترفعا عن النزول الى الثأر الشخصي وحفظا لمكانتها كصاحبة فضل في رعايته صغيرا قبل أن يحدث منها ماحدث فأولياء الله يحفظون الجميل ولو كان ضئيلا ويتناسون الجرم بحقهم وإن كان عظيما ..
لقد أراد نبي الله   أن يخرج  وهو بريئا من السجن وليس مفرجا عنه بقرار ملكي ..وهذه القضية الملفتة جعلت من الملك شديد الإعجاب بتلك الشخصية النادرة .. وبالفعل يعاد التحقيق العلني ..عندها يستيقظ ضمير امرأة العزيز  فتعترف بالحقيقة التي لم تخف على أحد و لتعلن براءة يوسف رسميا وعلى الملأ ..  يوسف ذو النفس الكبيرة وبعد يأمر الملك بسجن النسوة بمن فيهن زليخا يتنازل عن حقه الشخصي في موقف كريم..ليصبح  درسا أخلاقيا عظيما  من معلم عظيم ..

                                          

                                                ـ 12 ـ
((قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل)) يوسف 66
 بحسابات العقلاء فإن الخائن لا يؤتمن خصوصا إذا جرّب .. وتلك قاعدة صيحة ومنسجمة مع العقل والنقل طبقا للحديث الشريف (( المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)) فكيف وثق نبي الله يعقوب بأبنائه ؟..
(هنا نقف قليلا عند مبدأ افتراض حسن النية وعدم الحكم بالقياس على التجارب السابقة ومنح الآخر فرصة لإثبات حسن نيته كي لا يحتج بعدم إعطاءه الفرصة للتوبة وهو خلق إلهي جسدّه يعقوب (عليه السلام ) ..مع ملاحظة هامة جدا أن يعقوب كان واثقا من المقسم به وليس بمن أقسم )
  نبي الله يقبل من الأخوة قسمهم - ومجرد قبول قسمهم هو أمر يحسب لهم وأن نبي الله لم يفقد الثقة بهم تماما- ولكنه يأخذ منهم القسم بواقعية حيث ذكر (( إلا أن يحاط بكم )).. ففي هذه حالة (أن يحاط بهم ) يكون الأمر قد خرج من استطاعتهم ..قال بعض العارفين كأنه (عليه السلام ) يلقنهم العذر..مثلما قال لهم في المرة الأولى حين أخذهم ليوسف ((أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون))  ...  ويصدق هاجسه ويحاط بهم فعلا .. ويعودوا لأبيهم يعتذرون من جديد ولكنهم صادقين هذه المرة .. فهل صدقّّهم أبيهم النبي ؟.. يبدو ذلك من سير الأحداث  والله تعالى أعلم ..
                                                ـ 13ـ
((وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون)) يوسف67
في لفتة يتجلى بها الهاجس البشري الأبوي يعقوب (ع) ينصح أولاده بأن لا يدخلوا من باب واحدة بل من أبواب متفرقة .. قيل خاف عليهم من الحسد لقد أراد أن يبعث لهم برسالة ودية  .. هي كذلك نفوس الأولياء تفيض محبة وشفقة .. بالتأكيد كانت لفتة إنسانية رائعة تركت لدى الأبناء أثرا بالغا..وأعطت درسا لكل أب باغتنام أي مناسبة لإرسال هذه الرسائل الودية للأبناء مهما بلغوا من العمر .. لقد خاف عليهم بعاطفة الأب رغم يقينه إن ذلك لا يغني شيئا من نزول أمر الله تعالى .. ولكن حاجة في نفسه قضاها .. كثير من هواجسنا ومخاوفنا البشرية مع علمنا أنها لا تغني من أمر الله (عزوجل ) شيئا .. الاّ إننا نمارسها غريزيا ..لاشعوريا قد تحقق لنا راحة نفسية مؤقتة  وتخفف كثيرا من قلقنا وخوفنا.. إن خوف يعقوب (ع) لم يكن يخالف يقينه وهو من سادة الموقنين .. بدليل وصيته لأبناءه للتوكل على الله (جل شأنه) ..لكن لحاجة في نفسه قضاها كانت نصيحته... وبالتأكيد درسا بالغا لنا .
                                            



                                                  ـ 14ـ
((قال اجعلني على خزآئن الأرض إني حفيظ عليم*وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)) يوسف 55-56
الحكومة والمنصب الرسمي والوظيفي في منهج أولياء الله هي وسيلة لتحقيق غاية وليست غاية في حد ذاتها لذا نجدهم حين تتهيأ الظروف يتقدم الولي لقيادة الأمة وتبوء المنصب السيادي .. وهو يفعل ذلك من باب التكليف الشرعي .. ويوسف (ع) حين طلب أن يكون المسؤول عن خزائن الدولة قد وجد التكليف الشرعي منحصر به في ظروف صعبة وحرجة للغاية فهناك مجاعة قادمة تهلك البلاد وتفني العباد تعين عليه أن يقود دفة الأمور .. ويكون بذلك قد مهّد لرسالته .. هنا لابد أن نذكر واحدة من خدع الذات التي وقع فيه البعض من حسني النية .. حين حصلوا على  المنصب الدنيوي معتقدين لياقتهم للمنصب فلم يفيدوا البلاد ولا العباد ولا أنفسهم الا في حصولهم على مزايا دنيوية زائلة . مهم جدا أن نعرف إن يوسف (ع) لم يختر المنصب بل كان ذلك بتزكية من ربه الخبير بعباده .. ولمشيئة الهية ..

                               ـ 15ـ
((قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين*قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين))يوسف: 90 - 92
في موقف مؤثر للغاية تتجلى فيه عظم النفوس .. يقف الأخوة موقف ذل الاعتراف بالجريمة والتسليم بالهزيمة أمام إرادة السماء المنتصرة دوما..لقد جاءت اللحظة التي هربوا منها عشرات سنين التقوا أخيرا بضحيتهم .. ولكن ليس أي لقاء .. فالضحية في الغالب تثير الشفقة وتأنيب الضمير ..لقد بدا يوسف ببهاء طلعته وجلال ملكه وهيبة حكومته..مدهشا وعظيما ..بينما بدوا بحال يستحق الرثاء .. مقهورين بائسين .. عيونهم المنكسرة لا تستطيع النظر بوجه أخيهم .. هنا تلتقط كاميرا الزمن صورة من أبهى وأجمل وأروع صور النفس الكبيرة المتألقة في سماء المعالي .. لقد شق هوانهم عليه وآلمه انكسارهم وذلهم فيقول لهم بود (( لا تثريب عليكم اليوم ....)) لا عتب عليكم اليوم ولا لوم.. أراد أن يخفف من وطأة شعورهم بالندم
.. إن تصرف يوسف مع أخوته بهذا النبل والتسامح هو الذي هيأ جو الاعتراف بالذنب من قبل إخوته .. مرة أخرى يكشف لنا الاعتراف المتأخر للأخوة وقبول يوسف بها دون تذكيرهم بما فعلوا عن عظم المزايا في نفس الصديّق وكرم نفسه..
لقد تسامى يوسف النبي حتى على تذكير أخوته بذنبهم علاوة على التشفي والانتقام وإقامة الحد الشرعي وإن فعل فلن يكون ظالما ..هذا هو جانب من الجمال الروحي ليوسف الإنسان الذي انسجم مع جمال صورته ..
                                           


                                                ـ 16 ـ                            
       بعد أن يجتمع الشمل يلقي يوسف خطابا مؤثرا فيه الكثير من الإشارات العرفانية وأدب النفس و لطف الأسلوب .. فبعد أن يذكر منن الله تعالى عليه وآلاءه ونعمه ..يذكر إخراجه من السجن ولم يذكر محنة دخوله ..ولم يذكر أمر الجب ومعاناة الرق التي عاشها ..كي لا يحرج أخوته الذين أبدو ندمهم ..كذلك فإنه لم ينسب ماقاموا به إليهم بل نسبه الى الشيطان الذي نزغ بينه وبين أخوته ..والأخوة يعلمون إن أنفسهم الأمّارة بالسوء هي من سمحت للشيطان بالدخول لإفساد علاقتهم بأخيهم .. الشيطان لص محترف يتصيد الثغرات فإذا غفل أو تغافل الحارس ولو لطرفة عين دخل فعاث فسادا في  كل شيء..
وبتعريض لطيف ورائع يلفت نظر الجميع الى بعض ما أنعم الله عليه من ملك دنيوي شامخ وعطاء معنوي  من تأويل الأحاديث في أشارة الى جزاء الصبر وانتصار الله تعالى للمظلوم ..
كلمة لابد منها :
رغم أن خطتنا في الكتابة تبتعد عن الروايات قدر الإمكان الا إن قصص بعض الأنبياء الكرام وردت فيها الكثير من الروايات من الصعب القبول بها حين عرضها على ثوابت عقيدتنا في عصمتهم (عليهم السلام) ومن ذلك ماورد بشأن النبيين الكريمين يعقوب ويوسف وأغلبها منقولة من مصادر أهل الكتاب لا نعرف مدى صدقها .. لكننا وجدنا بعض الروايات فيها لفتات إيمانية بالغة الحكمة أختزلنا فكرتها من باب الأستئناس تاركين لفكر القارئ اللبيب التمعن فيها ..

•    يوسف (ع) بعدما أصبح عزيز مصر والرجل الثاني فيها استوقفت موكبه يوما أحدى المسنات الضريرات البائسات وهتفت بأعلى صوتها .. سبحان الذي أعز عبدا بطاعته وأذل سيدا بمعصيته  رّد يوسف بما عبّر عنه القرآن الكريم (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين يوسف: 90 ).. فلمّا سأل عنها قيل له إنها زليخا !! فأشفق عليها ودعا لها ربه الكريم أن يعود اليها شبابها .. فعادت شابة أكثر نظارة مما كانت عليه وصلح حالها وقيل إن يوسف قد تزوجها  .. و يقال أيضا أنها وبعد اسلامها انقطعت للعبادة مشغولة عن يوسف الصديق (ع)   وحين سألها عن السبب قالت له .. لقد شغلني جمال الخالق عن جمال المخلوق  ..
•    ان يعقوب (عليه السلام ) قد عاتبه ربه في عدم توكله عليه حين ذكر الذئب ونسي حفظ الله تعالى . لذا فإنه تنبه لهذا الأمر في أمر (بنيامين ) شقيق يوسف فقال ((الله خيرحافظا)) .
بقي أمر آخر:
لقد تعرضت قصة هذا النبي الكريم لكثير من المتاجرة الرخيصة وأقحمت فيها تفصيلات وأحداث لم ترد في القرآن الكريم رغم إنها القصة الوحيدة التي نزلت بصورة كاملة ومفصلة وتوغلت الى عوالم الشخصيات الداخلية بأسلوب يستحيل وصفه .. رغم ذلك  فلم تسلم من إضافات القصاصين الذين ذكروا أمورا كثيرة استقوها إما من أحاديث غير ثابتة السند وإما من كتب اليهود والنصارى خصوصا إنها قد ذكرت في الأنجيل والتوراة واللتين  لا يمكن الاطمئنان اليهما لوقوع التحريف فيهما ..
لقد شوه الأعلام الذي يجاري أذواق المشاهدين أكثر مما يرفع تفكيرهم وتفكرهم  الكثير من الأحداث ..  ورسم شخصيات وهمية في دورها في القصة  وهمش أدوار لشخصيات أخرى ..  وتم التركيز على بعض المشاهد من القصة بينما تم إغفال أحداث أخرى غاية في الأهمية بلا سند أو دليل معتبر ..كل ذلك بداع خلق الإثارة والتشويق وربما .. التسويق .
إن التعامل مع  القصة القرآنية إعلاميا مسألة خطيرة وهي مسؤولية شرعية وأخلاقية ..وأكثر ما تتجلى تلك الخطورة .. انها تصنع الحدث في ذهن المتلقي كما يراها المخرج أو المعد .. بينما هدف القرآن الكريم هو التفكر والتأمل ورسم الأحداث في الذاكرة وفق المنهج القرآني .. فالغاية من إيراد القصة العبرة والاعتبار من أحداثها وليس البحث عن جماليتها فحسب .



























في رحاب قصية نبي الله  شعيب (عليه السلام)





                            بسم الله الرحمن الرحيم
 ((وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط*ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين*بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ*قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد*قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب*ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد*واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود*قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز*قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط*ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب*ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين*كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود))هود: 84 - 95

مقدمة

  تتعدد صور الفساد والإفساد والنتيجة واحدة .. إخلال في النظام العام الذي يسير به الكون الى غاياته التي رسمها خالقه ومنشأه (تبارك وتعالى ).. تارة يكون فسادا عقائديا .. وتارة يكون اجتماعيا .. وأخرى يكون أخلاقيا .. أو اقتصاديا  أو سياسيا
.. وقد تجتمع هذه الصور مجتمعة .. وغالبا ما تكون تلك الصور للفساد متداخلة ومترابطة لدرجة يصعب فرزها ..
وحين نصف مجتمعا ما بأنه مجتمعا فاسدا بإحدى صور الفساد المذكورة فهذا لا يعني خلوه وسلامته من صور الفساد الأخرى  .. غاية الأمر ان الظاهرة الموصوف بها هي الظاهرة السائدة والطاغية على الحياة العامة لذلك المجتمع بحيث تصبح علامة فارقة له .. وعنوانا لأخلاقياته يطغى على كل ما سواها من عناوين الانحراف ...
فعلى سبيل المثال .. حين نذكر قوم نوح ..وانحرافهم العقائدي وعنادهم و إصرارهم على الكفر.. أو حين نذكر ثمود وانحراف الزهو بالقوة وتحدي السماء  .. أو قوم صالح وطغيانهم وخيانتهم وقسوتهم .. أو قوم لوط  وانحرافهم الأخلاقي وتلويث الفطرة .. فلا ينبغي أن نتصور خلو تلك المجتمعات المنحرفة من صور الفساد الأخرى من فساد في العقيدة والأخلاق وشيوع الرذيلة وانهيار القيم وانتشارالظلم الاجتماعي والاستبداد وغيرها من صور الانحراف .. ذلك إن كل انحراف يترتب عليه انحراف آخر  يستتبعه بالضرورة .
لكن المقصود من ذكر عنوان بارز للفساد لكل مجتمع من هذه المجتمعات هو ان ذلك المجتمع قد إحترف تلك الصورة الفاسدة وأتسم بها وصارت تشكل علامة مميزة لأخلاقياته بحيث طغت على كل ما سواها من صور فاسدة ..
في قصة سيدنا شعيب (ع) تبرز الجريمة الاقتصادية كعنوان للانحراف .. جريمة التلاعب بمقدرات الناس والغش في المعاملات التجارية ونقص المكيال والميزان .
     قد يسود في المجتمع ضرب من ضروب الغش التجاري في فترة زمنية ما .. يقوم به بعض ضعاف النفوس استغلالا لظرف اقتصادي طارئ او أزمة حرجة في وقت حرب او كوارث طبيعية أو غيرها من الأسباب التي تؤدي احتكار المواد الأولية والتحم بها من قبل فئة ضالة مترفة .. قد يحدث ذلك هنا وهناك وفي كل زمان .. ولكنها تبقى حالات شاذة ومحدودة وقد تمارس بالخفاء بعيدا عن الرقيب .. في النهاية تبقى حالات يرفضها الضمير الاجتماعي ويحاصر من يمارسها بالمقت و الازدراء ..
 أما ان تمارس حالة الغش بلا مبرر ولا مسوغ وبصورة علنية سافرة ولا يرفضها المجتمع بل ويتخذها جزءا من أخلاقياته ونظامه الاقتصادي فهذا ما يشكل ظاهرة  تحارب الفطرة وتعطل قانون الحياة الذي رسمها خالقها( عز وجل ) ....

شعيب النبي (ع)
شعيب واحد من خمسة أنبياء عرب.. هم : هود , صالح  ,  شعيب , إسماعيل , و محمد ( عليهم جميعا صلوات الله وسلامه )... كان شعيب كشأن رسل الله وأنبياءه الذين يشتركون في صفات العلم والصدق والحكمة والأمانة والفصاحة والشجاعة والإخلاص في أداء الرسالة ... ولكن هناك أمرين كانا علامة فارقة لشعيب النبي  الأول متعلق بشخصه والثاني متعلق برسالته  :
•    فما كان متعلق به هي تلك الحالة المعنوية العالية التي كان يعيشها مع الحق سبحانه .. حالة من العشق والوجد ندر مثيلها .. يروى انه فقد بصره مرتين من فرط بكاءه محبة لله تعالى .. و قد رد الباري (عز وجل ) بصره اليه في الحالتين وحين فقد بصره في المرة الثالثة أوحى الله تعالى اليه  : ياشعيب ان كان ما يبكيك خوفا فقد آمنتك من عذابي وان كان ما يبكيك طمعا في ثوابي فقد أسكنتك جنتي فأجاب شعيب بل محبة وشوقا يارب ..فأوحى الله سأخدمك كليمي .. وقد خدمه موسى عشر حجج على تفصيل سيأتي ان شاء الله تعالى في قصة سيدنا موسى (ع).
•    انه النبي المرسل الوحيد الذي أرسل في مهمتين رساليتين مرة الى قومه أهل مدين وهي قرية في طريق الشام وسميت على أسم رئيسها هو مدين بن إبراهيم  الخليل (ع)وكانت أرضهم أرض خصب ونماء وخير ولكنهم وتمتع أهلها برفاهية ورخاء والثانية الى أصحاب الأيكة وهو أجنبي عنهم وهي بلدة تكثر أنهارها وأشجارها المثمرة الملتفة حول بعضها وحدائقها الغناء وأجواءها الساحرة وقد سكنها كبار التجار والمترفين ويبدو أنها أكثر ترفا ورخاءا من مدين ...
انحراف مدين
مدين قوم شعيب النبي كانوا يعيشون في أجواء من الترف الباذخ والثراء والخير العميم .. حيث تغدق عليهم الطبيعة نعمها ويأتيها رزقها من كل مكان  .. رغم هذا الوضع الاقتصادي المريح .. يحترف أهل مدين الفساد والغش التجاري بأبشع صوره ..
لقد كان ذلك البيان الأول لرسالة نبيهم  .. عبادة الله تعالى مصدر كل فلاح وخير وسعادة .. والامتناع عن الغش بكل أشكاله وذكر لهم نقص المكيال والميزان كأبرز صور الفساد السائدة .. وكلمهم بمنطق العقل فقال  أنه لا يرى مبرر لذلك لأنه يراهم  بخير وليس هناك حاجة تلجئهم او تبرر  سلوكهم فغالبا ما تكون الحاجة الإقتصادية ذريعة يتذرع بها المنحرفون ..
لكن القوم الذين اعتادوا على الممارسات الخاطئة وجشعهم الذي استبد بالنفوس وحولهم الى كائنات جامدة تتعامل بأرقام الربح والمال الحرام .. ولو على حساب المستضعفين ومص دماءهم وتحويلهم الى بقايا آدمية منهكة فيما تملأ كروشهم المتخمة بنتاج عرقهم وكفاحهم المرير .. كان فقراء الناس يعملون كالعبيد آلات بشرية تجمع المال لهؤلاء المترفين .. المال الذي يشترون به السلع بثمن ليحتكروه ومن ثم يبيعونه بثمن أغلى .. تلك كانت سياسة القوم ومنهجهم ..مما أدى الى :
•    خلق طبقة متخمة مترفة تتحكم بالمقدرات وتستبد وتطغى وتحاول فرض افكارها المنحرفة التي تدعمها بالمال الحرام بالمقابل وكنتيجة لهذا الجشع تخلق طبقة معدمة مسحوقة من الفقراء والمستضعفين الذين لا يمتلكون وسائل الإنتاج وتحويلهم الى مستهلكين مقهورين وعاملين مسحوقين .. وتكاد تختفي الطبقة المتوسطة التي شكل النواة الطبيعية للمجتمعات ..
•    تحول الغش ونقص الميزان الى ظاهرة اجتماعية وقانون عام ومن الأسباب الطبيعية للربح وكان إذا اشترى أحدهم يصر على استيفاء أكثر من حقه وإذا باع خسر الميزان وفي الحالتين ارتكب حراما غصبا في الأولى وغشا في الثانية .. .
•    ظهور بعض القيم كأعراض مصاحبة للفساد مثل العبث بمقدرات الطبيعة واستغلال مواردها وتوجيها بغير الوجهة التي أرادها خالقها العظيم .. باعتبار ان السيطرة على تلك الموارد والمقدرات من المقومات الأساسية للاقتصاد مما يستلزم انتهاج الطرق المشروعة وغير المشروعة ..
اني أراكم بخير
  لقد ظهرت سياسة تبريرية لظاهرة الفساد تعاطف معها الكثير إما بحكم الجهل أو القصد السيئ وهي تربط الجريمة وبالأخص الاقتصادية  و الأخلاقية منها بالحاجة أو الظروف القاهرة لارتكاب الفعل الإجرامي أو المحرم وظهرت مدارس فكرية تروج بشدة لذلك ... ولكن الدراسات الحديثة أثبتت نسبة الجرائم المرتكبة تحت وطأة الظرف أو الحاجة هي نسبة ضئيلة بالمقارنة مع تلك المرتكبة لدواعي أخرى مختلفة.. وفي أغلب الأحيان يكون أكثر مرتكبي هذه الجرائم من المترفين والمسرفين ويرتكبوها بداعي الجشع ليس الا ّ ..بطريقة احترافية  .. فالمسألة تتعلق بفطرة دنست وشح مطاع ونفس أمّارة بالسوء وغياب الوازع والرقيب أكثر مما ترتبط بظروف ملجئة ..

أهم مبادئ رسالة شعيب
التزاما بواجب الرسالة والزاما لقومه بالحجة  فقدد كرر نبي الله مبادئ رسالته :
•    أن  يعبدوا الله وحده لا يشركون به شيئا .
•    ألا ينقصوا المكيال والميزان كمثال لصور الفساد ..
•    انه لايرى مبررا لفسادهم بعد ان منّ الله عليهم بنعمه .
•    أن ما يقسمه الله من ربح حلال يسير خير مما يجمعون من مال حرام وفير .
•    حذرهم من عذاب محيط ينتظرهم ان خالفوا ذلك ..
•    لو اختاروا طريق الهلاك ومخالفة أوامر الحق فإنه لا يملك مساعدتهم ولا يرجع لقدرته شيء فالأمر بيد الله تعالى وحده تأكيدا على بشرية النبي المرسل ..

كان خطاب شعيب النبي لقومه خطابا جديدا عليهم ويتحدث بلغة لم يألفوها .. بالأحرى  لم يعرفوها …وان ألفوا وعرفوا أبجديتها ….خطابا عقلانيا ومملوء بالود  فحين يخاطبهم (واني أخاف عليكم ) ان خوفه عليهم يمثل أعلى درجات النصح لهم وإبراز حسن النية و لكن القوم الذي حولهم أكل السحت والمال الحرام إلى بشر متحجر العاطفة فاقد الإحساس و أورثهم قسوة في قلوبهم وغطاءا على عقولهم باتوا معها لا يفرقوا بين  الخوف عليهم والخوف منهم ..
جواب قومه
بمقابل هذا المنطق الرائع والبيان الساحر.. يرد القوم بمنطق غريب جدا  ينم عن مدى الحضيض الذي انحدر اليه القوم ..
((قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد)) هود: 87
تساءلوا بحمق ..كما يتساءل المنافقون باستنكار .. هل صلاتك تأمرك بترك دين آباءنا .. او لا نتصرف بأموالنا كما نشاء ؟؟
ان هذا منطق لايليق بك يا شعيب واصفين اياه تزلفا  بالحليم الرشيد ربما أرادو  مداهنته او التعريض به  باعتبار ان  صفة الحلم والرشد (من وجهة نظرهم ) لا تنسجم مع ما ينادي من مبادئ..
هنا لابد ان نقف قليلا عند عبارة ( أصلاتك تأمرك  ) فالصلاة الآمرة هي هدف الأديان .. والصلاة التي لا تأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي طقوس قد يفعل أهل الفسق والضلال أكثر من حركاته الظاهرية بكثير .. فالمطلوب من الصلاة ليس الصفة الشكلية والحركية من قيام وركوع وسجود فقط بل الالتزام بقيمها الروحية وأوامرها ونواهيها الشرعية ..
إن من بين أهم وأخطر التحديات التي واجهت رسالات السماء هي إفراغ تلك الرسالات من قيمها ومثلها وأوامرها ونواهيها وتحويلها الى طقوس تمارس بالعادة والاعتياد  فيما تنتهك تعاليمها التي تتعارض مع الهوى والمصلحة قولا وفعلا .. كفرا ونفاقا ..
قد نستغرب من منطق قوم شعيب (ع).. ولكن علينا ان لا نتمادى في استغرابنا فالصلاة التي رفضها قوم شعيب والتي تأمرهم بما لا يرغبون هي ذاتها التي يرفضها بعض المسلمين إن تعارضت مع أهواءهم مخالفين  لأوامرها ونواهيها .. بل إن إتباع الشهوات والرغبات غير المشروعة والتي تتقاطع مع ما تأمرنا بها صلاتنا هو اعتراض عملي على الصلاة التي نؤديها إسقاطا للفرض …
وأكثر ما يبدوا هذا الأمر واضحا في كسب الأموال والتصرف بها .. ان النظرة الى الملكية والأموال مبنية لدى غالبية الناس على ثقافة خاطئة تقوم على أساس الأصالة وحرية المالك في التصرف بما تحت يده .. في حين إن النظرية الإلهية تقول بالتخويل والوكالة  فصاحب المال ليس حرا فيما ملكّه الله (تعالى) وهو المالك الحقيقي  وان صاحب المال مجرد   مخول ووكيل وهذه الوكالة ليست مطلقة بل مخصوصة ومحددة بأوامر ونواهي الموكل المالك الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى و ما يطلق من لفظ الملكية  على البشر هو مجرد لفظ مجازي ..
هذه الثقافة وان عرفها الجميع نظريا لكنها على صعيد التطبيق والعمل غائبة .. بل إن الغالبية العظمى من أصحاب المال يدافعون بكل قوة ويتمسكون بالثقافة القارونية والتي تقول (إنما أوتيته على علم ) معتبرين تلك الأموال التي خولوا بالتصرف بها أموالهم التي جنوها بشقائهم أو شقاوتهم وذكاءهم واحتيالهم ( لا يهم كثيرا لديهم ) فكيف يعطون ( من لو يشاء الله أطعمه ) ؟؟
كيف يخرجون منها الحقوق الشرعية وسائر الحقوق التي أوجبها الشارع المقدس ؟ ولماذا ؟ ولمن ؟
يضعون الف علامة استفهام والهدف الهروب والتهرب من التزامات يدركون بالفطرة والعلم وجوبها عليهم ..  
امام هكذا جواب خبيث ماذا كان رد شعيب النبي ؟
((قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)) هود: 88 – 89
لقد رد ببلاغ حكيم وأسلوب لم يغادر الواقعية والصدق  أوضح  لهم :
?    انه  نبي أختصه ربه بالرسالة وشرفه بالنبوة  وهو على ثقة من  ربه ومن الأمر الذي جاء به وليس سفيها كي يحدثهم بأمور لا يفقهها ..
?    اني قدوتكم الحسنة ولا ينبغي لمن يتصدى للقدوة أن يفعل ما يطلب من الآخرين تركه .. أو إن يترك ما يطلب من الآخرين فعله ..
?    إن هدف دعوتي إليكم هو الإصلاح ...هو خيركم في الدنيا والآخرة ...حسب الاستطاعة مع بذل أقصى جهد ممكن
?    وحتى هذه الاستطاعة إن حصلت فهي من توفيق الله تعالى ..
?    ثم قال لهم بلغة الناصح المشفق لا تخالفوني كما خالفت الأقوام السابقة رسل ربها فأصابها  الهلاك والفناء وذكر لهم قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط أقرب الأقوام لهم زمنا .
?    ولم يتركهم في حيرتهم بل رسم لهم طريق العودة ان رغبوا في ذلك .. عودتهم الى الله ربهم الرحيم الودود .. حين يعلنوا توبتهم الصادقة والتي من مقدماتها التي لا بد منها الاستغفار وطلب العفو ..


هناك لابد لنا من وقفة مع الآية الكريمة وتحديدا عند قوله تعالى على لسان نبيه :
((وما أريد أن أخالفكم الى ما أنهاكم عنه )) ونفهم منه :
•    ان من يتصدى للقدوة الصالحة والسير في مقدمة الركب يجب ان  يلزم نفسه بما ألزم غيره به .. ولا تكفي الأوامر والتعليمات التي يصدرها من مسجده او قصره او مكتبه.. يجب ان تلمس القاعدة تطبيقا عمليا وواقعيا من قبل القمة بما أصدرته من قرارات وقوانين ..
نلاحظ إن شعيب النبي (ع) لم يقل لقومه ما أريد أن أمركم بل قال ما أريد أن أخالفكم ولا تخفى دلالة ذلك.. لأنهم في سؤالهم له قالوا أصلاتك تأمرك أن نترك .... كان قومه دقيقين في طرحهم وان كانوا على باطل .. أرادوا أن يعرفوا مدى مصداقية شعيب (ع) في طرحه .. إذ لا عهد لهم بالصلاة التي تأمر بترك الهوى والرغبات .. فطمأن مخاوفهم  بشكل قاطع لا لبس فيه أنه لا يريد مخالفتهم لما ينهاهم عنه ..
إن التزام القدوة الصالحة هو التزام طوعي و أخلاقي وشرعي  قبل ان يكون قانوني ووضعي ..  في حين
ان كثير من الحركات التي رفعت لواء الدعوة قد فشلت فشلا مخزيا لأن من سار في المقدمة حاملا  لواءها قد أثقلت خطواته أهواءه وعدم التزامه بشعاراته فتعثر مسير من مشى خلفه .. لقد فقدت القاعدة الثقة بهرمها وهذا هو السبب المباشر والحقيقي والرئيسي في تعثر مسير هذه الأمة المنكوبة .. والتي كان لها مقدرا أن تسير بغير هذه الوجهة التي جعلتها ذليلة مهانة تترنح في خطاها ترنح الثمل الضال ..
فبعد وفاة  الخاتم (صلى الله عليه واله وسلم ) القدوة الصالحة  تصدى للمقدمة من هو ليس بأهل لها متعثر الخطى فأرتبك الركب خلفه وتفككت الصفوف حتى اذا ما وصلت الى أمير المؤمنين (عليه السلام ) والذي مثل قمة القدوة الصالحة .. التي تبدأ بنفسها تنهاها وتأمرها قبل أن تنهى الناس وتأمرهم .. كان الأوان قد فات  ..و القوم قد أشربوا في قلوبهم حب الدنيا والانحراف فتركوا قدوتهم الصالحة تسير وحدها مع ثلة من المؤمنين الصادقين ..).
•    عند قوله تعالى ((إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب))
 هناك عاملان  في نجاح أي دعوة :
الأول - رئيسي وأساسي وهو توفيق الله تعالى ورعايته
الثاني  : هو بذل أقصى الجهد وإخلاص النية وحشد الإمكانات من جهد ومادة  ....
وهذان العاملان مترابطان لدرجة يستحيل فصلها .. فالاعتماد على الجانب الغيبي والاتكال على توفيق الله دون إخلاص النية وبذل الجهد وتهيئة الأسباب المادية لا يحقق الهدف ..مثلما الاعتماد على الجهود الذاتية والإمكانات المادية دون التوكل عليه ( سبحانه ) لا يحقق الهدف المرجو وحتى إن تحقق فهو سراب خادع يحسبه الظمآن ماءا.
ويمكن تصور ذلك في الدعوات البشرية حتى تلك التي ترفع شعارات دينية … أما في الرسالات الإلهية فلا يمكن تصور الرسول الا داعية مخلصا متفانيا باذلا كل جهده ومتوكلا محتسبا مفوضا أمره الى بارئه ومولاه ..
    كذلك .. ان واقعية شعيب (ع) في قوله (ما استطعت ) مطلوب أن نتذكرها وان لا نحمّل أنفسنا فوق ما تستطيع  ولا نذهب أنفسنا حسرات على عدم تحقق الأهداف المرجوة وأن نفهم ان تكليفنا هو بذل أقصى جهد  مع نية صادقة تسبقه وترافقه وتسير معه حتى اللمسة الأخيرة وترك تحقيق النتيجة للعليم الخبير ..

    إزاء هذه المعارف والعبر والحجج العقلية والأسلوب الراقي في الحوار الذي لم يعتد عليه قوم شعيب (ع)  اللغة الجديدة عليهم بمفاهيمها وأسلوبها .. البعيدة عن لغة السخرية والاستعلاء التي يتقنها القوم كان طبيعيا أن لا يفقهوا ما يقول   .. فهم لا يدركون غير لغة الاستغلال ومص دماء البسطاء والبائسين والمحرومين وغش الغافلين وملئ جيوبهم التي أصبحت هي عقولهم التي بها يفكرون وقلوبهم التي بها يفقهون ..لذا كان ردّهم :
 (( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ))هود: 91
وهم صادقين من أين لهم أن يفقهوا وقد أماتوا قلوبهم ودنسوا أرواحهم بالخطايا  وعطلوا عقولهم بعبادة الأصنام والأهواء والرغبات الشاذة والتي أصبحت حجبا تحجب عنهم كل معرفة وفهم ؟؟؟ ..
من أين لهم أن يفقهوا ما يقول نبيهم وهم أصلا  لا يريدوا ذلك .. ان الكثير الذي لم يفقهه القوم السكارى بغيّهم هو الذي لم يرغبوا بسماعه  من هجر عبادة الوثن والامتناع عن أكل السحت والالتزام بأمر الله تعالى ونهيه ..
ان نداء القوم هذا .. نكرره أحيانا بلا وعي حين لا نريد ان نفهم ما يطلبه منا الشرع حين نتهرب من الحكم رغم أن نداء داخليا يصرخ بأعماقنا للدلالة عليه .. الإنسان لا يفقه ما لا يريد ان يلتزم به  .. هو لا يريد ان يفقه الواجبات والمستحبات وقاعدة الأولى  … ولكنه يفقه تماما مسائل كثيرة تتعلق بالمكروهات و المباحات والرخص … وهو  لا يجد عناءا في العثور على  الأعذار المناسبة وهذا شأننا جميعا الا من اصطفى ربنا (عز وجل )و اجتبى .

بعد ذلك أفصحوا عن عقيدة الاستحقار التي يعتنقوها وموازين القوى  وفق منهجهم .. فمن يكون شعيب بنظرهم .. هو ذلك الخارج عن قانونهم .. وهو ليس مترفا ولا يمتلك (موهبة ) الاحتيال ومص دماء الفقراء ولا يغش في الميزان ولا يحتقر الناس إذن وفق هذه المقاييس والقيم المنحطة من الطبيعي ان ينظر لشعيب النبي الكريم العالم الورع والسخي الكريم وكهف المساكين والضعفاء بمنظار مختلف :
((و إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز))
لقد استضعف شعيب بمقاييس القيم المادية المنظورة وقالوا لولا عصبتك عشيرتك لرجمناك وأنت ليس علينا بعزيز.. وقد تناسوا انهم نعتوه من قبل بالحليم الرشيد .. أصبح اليوم عليهم ليس بعزيز بمجرد انه صدع بالحق وخالف أهواءهم ورغباتهم غير المشروعة ..
وفي مجتمع لا يعرف غير المال والجاه الدنيوي المتمثل بالعشيرة مصدرا وحيدا للعزة والكرامة شعيب (ع) الذي لا يملك الثروة تصبح العشيرة ضمانته الوحيدة المتبقية  التي تنقذه من عقوبة قومه الظالمة ..
لم يهتم نبي الله  لتهديدهم الأجوف ولم يلتفت لأستخفافهم به ومحاولة الحط من قدره .. مثلما لم يهتم لتزلفهم ومدحهم فهو يعرف ان أهواءهم هي التي تحركهم وتتحكم بهم .. ولكن الذي  آلمه هو قولهم ( ولولا رهطك لرجمناك )
((قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط))هود: 92
لقد أحزنه ذلك كثيرا ..  ثقل عليه ان يكرم لغير الله تعالى .. ان يكون رهطه أعز عليهم من الله  .. انه منطق من لم يعرف الله .. فما هو الرهط ما هي العشيرة او حتى  الوطن او الأمة في جنب الله (عز وجل ) .. إن أولئك الذين يبدلون قيم الله بقيم عبيده أولئك الذي يتمسكون بما أراده الله (عز وجل ) ان يمحى .. أولئك الذين وضعوا أنسابا مقابل أنساب وضعها الحق ( جل شأنه ) الذين يقولون قولا مقابل   قو له تعالى (( ان أكرمكم عند الله أتقاكم )) فيحيون نعرات قبلية او وطنية او قومية وأغلبها بعصبية جاهلية ويميتون مبدأ الولاء لله أولا وأخيرا ودوما .. وإذا أحيوه لم يكتفوا به .. فيرفعون معه شعار الولاء لله والوطن ..والأهواء أيضا ..
لقد غضب شعيب (ع)  على قومه الجهلة الكافرين لأنهم لم يكتفوا بجعل رهطه مقابل ربهم وخالقهم ورازقهم وبارئهم ومحييهم ومميتهم  ... بل انهم تمادوا في غيهم فجعلوه أعز عليهم من الله الذي جعلوه وراء أظهرهم كفرا وعنادا وجهلا وتجاهلا ..ثم قال لهم نبيهم (( ان ربي بما تعملون محيط ))
وكأنه يقول لهم إياكم والاغترار بحلم الله عليكم فهو السميع البصير ... تعصونه ولستم خارجين عن قدرته ...

في هذه الفترة  ازداد عدد المؤمنين بدعوة شعيب التوحيدية ..و كان أغلبهم من المستضعفين وضحايا جشع القوم واستبدادهم .. ولكنهم وبفضل التفافهم حول نبيهم المنقذ فقد شكلوا جبهة لا يمكن تجاهلها ..
ور اح الطغاة يعملون على تفكيك جبهة الحق تلك .. تارة بالترغيب و الإغراءات المادية وتارة بالسخرية والاستهزاء والعصا الاجتماعية وثالثة  بتهديدهم بالطرد والأبعاد من قريتهم ..
((قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين)) الأعراف: 88
لقد كانت المطالب واضحة اما العودة في ملة الفساد والانحراف وإمّا الإقصاء والإبعاد من ديارهم .. فيرد عليهم نبيهم      ((قال أولو كنا كارهيين ))
وجواب شعيب (ع) استفهام إنكار ذو مغزى عميق اراد ان يقول ان الدخول في العقيدة  بالإكراه والجبر مسألة غير جائزة أنتم ترفضونها وتستنكرون تغيير سنة اباءكم فكيف تفرضون علينا ما تستنكرون ؟وأكثر من ذلك هو يوضح لهم:
((قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين)) الأعراف: 89
من جديد يخاطب هؤلاء بالمنطق الذي يفهومه تنزلا  فيقول لهم ان دخولنا في ملة الضلال بعد ان نجانا الله منها وعرفنا الحق  هو كفر و ردّة بعد هداية لا ينبغي ان نفكر فيها .. إلا أن يشاء الله غير ذلك حين تخذلنا أنفسنا وتنهار إرادتنا  ولا نستطيع الصمود .. كأن نبي الله  يخاطب أتباعه وأصحابه يحثهم على المقاومة ويلهمهم دروس في الثبات على العقيدة أكثر ما يخاطب قومه الكافرين الذين زادوا من مضايقتهم للمؤمنين بشكل كبير وسافر ..
الرجم جزاء الهداية 
ويرفع المجرمون الحجر ملوّحين بالرجم  .. تلك الأيدي الآثمة والأنفس السوداء المظلمة  ..ترفع الحجر لترجم من؟؟   شعيب النبي الهادي والبشير .. المرسل رحمة لهم .. منقذهم من دنيا ضلالهم .. الراجم من ؟ كائنات بشرية ترتع في الدنس .. وتشرب من كأس فجورها وفسقها ..تعبد الأهواء الفاسدة والحجارة التي ترفعها ..انه فقه الانحراف حين  ينصب نفسه  قاضيا ...
لكن ماهي جريمة شعيب التي توجب الرجم ؟؟..إنها  طلب الإصلاح  !
يالها من تهمة خطيرة !! في أمة تختار الانحراف عن كامل وعيها .. أمة يقف فسقتها و مترفيها على رأس هرمها القيمي  .. في مجتمع أدمن  الفساد فصار يستنشقه صباحا ومساءا وفي كل حين ..
المحطة الأخيرة لقطار البغي
ويفوض نبيهم الكريم الأمر لله تعالى ليحكم بينهم وهو خير الحاكمين ... هي المحطة الأخيرة التي لا يلجأ اليها النبي المرسل إلاّ بعد ان يستيأس من هداية قومه  مستنفذا كل الوسائل .. فعلى  مدى سنين بأيامها ولياليها العجاف المليئة بالصبر وتحمل الصعاب .. يفوض نبي الله  الأمر لربه ..
ولكنه يوجه  تحذير أخير وانذار نهائي لقوم غرقوا وغاصوا حتى الأعماق في بحر عنادهم وضلالهم ..ليقيم حجة نهائية ..

                     **************************      
الورقة الأخيرة
ويرجع القوم الى أنفسهم ولبعضهم البعض ..وقد خارت عزائمهم أمام الإرادة الصلبة لمعسكر الإيمان ورفضهم الرضوخ لهم وصمودهم أمام كل أساليب التهديد والوعيد .. و بدأ الضعف يدب في جبهتهم فراحوا يشدّون من أزرهم .. ويوصي بعضهم البعض بالثبات على منهجه وعدم إتباع شعيب (ع) ووصفوا أتباعه بالخاسرين .. والخسران الذي يقصدونه كان الخسران الدنيوي والمادي لأن مقتضى الأيمان بدين شعيب هو امتناعهم عن المال الحرام بكل صوره مما يعني حرمانهم من معظم مصدر ثروتهم _ هكذا يظنون _ وربما قصدوا  خسران المعركة المعنوية مع الحق ..
وهناك رأي لبعض المفسرين يقول ان الخطاب كان موجه من المستكبرين الى المؤمنين والخسران الذي قصدوه هو ضمن تهديدهم لهم بالطرد والإبعاد...
أي كان الخسران الذي حذروا  منه فهو يعني بداية الانهيارا في صف الكفر والعناد.
تجار  بأخلاق  اللصوص
إن أسوأ ما في قوم مدين هي تلك الدناءة في الطباع وتلك الخساسة في الأنفس فهم وعلى الرغم من ثراءهم الفاحش فإنهم يتصرفون كلصوص يسرقون الضعفاء وأصحاب الحاجة في وضح النهار ودون حياء بل ويعتبرون تلك السرقة من أخلاقيات مهنتهم  .. كانوا لا يترفعون عن عن منافسة الفقير في رغيفه والاقتطاع منه رغم عدم حاجتهم اليه .. لقد حولهم جشعهم وحرصهم الى أذلاء بائسين رغم الغنى الظاهر و انتفت مروءتهم وصار فقر النفس علامة فارقة لهم ....وأصبحوا قدوة سيئة لكل منحرف منعدم الضمير جشع يتلذذ بعذابات المسحوقين ..
  صفحة لابد إن تطوى

بعد أن احترف قوم شعيب  الجريمة الاقتصادية ووضعوا  أصولها وبعد ان اسودت صحيفة مدين بالكامل بحيث لم يتبق هامشا لكتابة كلمة واحدة للحق فيها ..وبعد ان اسودت قلوب مجرميها حتى تعذر ان يتسلل اليها  أي خيط من نور.. و اقيمت الحجة كاملة عليهم وشهدوا على أنفسهم بالكفر وحين فهموا من إمهال السماء لهم عجز عن عقابهم :
((ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب)) هود: 93
هو  إنذار جديد تحذير آخر ولكنه نهائي وشعيب النبي لم يعطهم توقيت لنزول العذاب ولكنه وصفه بالمخزي عذاب يتناسب وعجرفتهم وغرورهم واستكبارهم على عباد الله وقال لهم ارتقبوا والارتقاب فيه  والمرتقب يعيش لحظات من الألم النفسي بالغة القسوة  فيها قلق .. وخوف وانتظار مر وهو ألم متصاعد .
والترقب قد يكون فرصة أخيرة للتوبة .. وقد يتمادى في المعاند فيكون له مقدمة قاسية لعذاب أمّرّ وأقسى ..
ولم يستفد القطيع الأحمق من هذه الفرصة الرحيمة بل انهم راحوا يستهزئون ساخرين من هذا الوعيد مستخدمين كل وسائل الإيذاء ضد معسكر الإيمان ..
ويصل الأمر الى نهايته .. كان لابد لهذه الصفحة السوداء أن تقلب لتلحق بالصفحات القاتمة المطوية من تاريخ الأنسان الجاحد الخائن لأمانته على هذه المعمورة ..
((ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين*كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود))هود: 94 - 95
      لقد  لحقت مدين بمن سبقها من الأمم المنحرفة الجاحدة ..  أسم جديد  أضيف لقائمة المستأصلين المجتثين ..
ففيما هم يرتقبون .. العذاب الموعود يسخرون منه بأفواههم وتكاد قلوبهم  تنفجر منه خوفا وفرقا .. في لحظة خيم الصمت الرهيب الموحش على كل شيء .. فقط الأعين الفزعة تترصد كل مكان .. ينظر بعضهم الى البعض الآخر برعب ... ماتت تلك الضحكات المستهترة في الأفواه  .. وبات القوم المترفون الممتلئون  جبروتا وزهوا بالقوة لا يحركون ساكنا ..  فكّروا بالهرب فلم يستطيعوا وكأنهم تسمروا في الأرض .. لجئوا الى آلهتهم التي طالما سجدوا لها ..هي الان صامتة كحالهم تنتظر ما ينتظرون .....       فكروا في كل شيء ينقذهم ولكنهم لم يفكروا مرة واحدة في اللجوء الى نبيهم ومرشدهم ومنقذهم من الضلال .. فكروا في كل ما لا ينفعهم ولم يفكروا ما ينتشلهم من الهلاك ..
وتمر لحظات الترقب الأخيرة على القوم الظالمين كدهور  من القلق والرعب .. قبل ان تأتيهم الرجفة .. حيث تضطرب الأرض من تحتهم اضطرابا شديدا  الأرض التي ضاقت ذرعا بهؤلاء العصاة الكفرة .. الأرض التي أخرجت لهم كل خيراتها وأنواع النعم ولكنهم فضلوا مص دماء الفقراء والمساكين ...
الأرض التي راحوا يأخذون حجارتها تارة ليصنعوا منها أصناما يعبدونها وأحيانا حجارة لرجم نبيهم ..
جاءتهم الرجفة لتنتزع أفئدتهم وليجثموا على ركبهم في وضع مخزي ومهين بحيث لم يستطع المجرم منهم أن يتحول من مكانه جثموا على  ركبهم داخل بيوتهم الفارهة  ..  هذا حال من كان داخل بيته ينتظر المصير الذي أختاره لنفسه .. أما أولئك الذين  كانوا خارج بيوتهم الذين   استبطئوا نزول العذاب .... وراحوا  يمارسون جرائمهم وجشعهم ومص المزيد من دماء عباد الله ... أخذتهم الصيحة صيحة عظيمة ( يقال إن جبرئيل (ع) صاح فيهم ) فانخلعت أفئدتهم وهم في حقولهم ومتاجرهم وعلى قمم الجبال متلبسين بجرمهم ..

انكم لخاسرون

  لقد أدركت مدين بعد فوات الأوان من كان الخاسر وأيقنت من يأتيه عذاب يخزيه .. لقد أنزل الستار على  رواد الجشع والاستغلال  وأصبحت قصورهم الفخمة بحدائقها الغنّاء وجنانهم الساحرة كأنهم لم يتمتعوا فيها .. كأن شيء لم يكن لقد رحلوا بطريقة مخزية خاسرين الدنيا والآخرة ..
أما معسكر الحق والإيمان فطبقا للقانون الإلهي الذي لا يغير ولا يبدل فقد نجوا  فائزين برضا ربهم الكريم قاطفين لثمار صبرهم وتمسكهم بدينهم ..
هناك عبارة قالها شعيب النبي تدل عل معنى   ـ تعرضنا له من قبل ـ  يتعلق  بقضية الولاء لله تعالى والتبري من أعداءه ...
هو مبدأ يمثل روح الأيمان وجوهره .. فالنبي لا يكره قومه وهذه المفردة ليس لها وجود في قاموس  الأولياء .. ولكن لما كان ولاءه  لله (تعالى) فإن كل علاقاته وعواطفه ومشاعره  تدور مدار هذا الولاء ... حين يركب قومه سفينة الضلال والكفر رغم تحذيرهم وإنذارهم وترغيبهم وترهيبهم وبذل أقصى جهد لهدايتهم .. ويتأكد النبي المرسل من شمولهم بالغضب الإلهي الذي لا يأتي الا لمستحق له حينذاك  لا يبالي النبي المرسل  بهم بأي وادي هلكوا باعتبارهم صاروا أعداء لله تعالى ولا تتدخل العاطفة الشخصية بأي شكل لأن الأمر صار خيارعقائدي بين إيمان وكفر  ..
من هنا فشعيب (ع) خاطب قومه بتلك المعاني وليس من هوانهم عليه كأشخاص بل باعتبارهم كفرة منحرفين أقام عليهم الحجة ..

هلكت مدين و بقي سؤال ودرس :

ما الذي كانت تريده مدين ..؟؟ ما لذي كان ينقصها ؟ لماذا كانت تحترف اللصوصية والغش والاحتيال ومص دماء المحتاجين ؟  ما الذي يدفع قوم منعمين مترفين ميسورين لاعتناق مذهب الجشع ؟
أسئلة حائرة قد لانجد لها إجابة لدى الأسوياء ممن ساروا مع فطرتهم السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها  ولكننا حتما نجد لها إجابة وتبرير وخلق مسببات وهمية وأعذار لدى فقه الانحراف والمنظرين له ..
  أما الدرس الكبير الذي نستخلصه من مدين الآثمة فهو : ..
ان محاربة الناس بأرزاقهم ومص دماءهم وممارسة اللصوصية العلنية في التعامل معهم هو حرب لله ورسوله وهو طمس للفطرة وهو سبب لخرق القانون الطبيعي المسير لهذه الحياة .. هذا فيما يخص الأثر الاجتماعي لجريمة الجشع
أما ما يخص الأثر الشخصي للجشع فإنه يقتل مروءة  محترفه ويحوله إلى آلة بشرية مخيفة  لا تكتفي تلك الآلة بقتل الآخر في مصدر قوته وكرامته  بل بقتل الإنسان في نفس صاحبها .. فالجشع يتحول الى وحش آدمي يلتهم كل ما يجده في طريقه .. لا مشاعر لديه ولا إحساس بالأخر ولا تعاطف أنساني الربح هو هدفه النهائي وجني مزيدا من المال .. المال الذي غالبا لا يتمتع به .. لأن جمع المال هي صارت متعته .. فتحول الى معتوه مولع .. مريض مهووس .. ثم مجرم قاسي  .. وأخطر ما بالأمر عندما يتحول حب المال الى عقيدة يعتنقها ويدافع عنها .. اما علنا فيكون كافرا أو تسترا فيكون منافقا ...
          بقي أن نشير الى أن شعيب النبي ما ان انتهت مهمته مع قومه وأدى رسالته على أكمل وجه حتى تشرف بمهمة رسالية أخرى مع أصحاب الأيكة وهم قوم أكثر ثراءا  وأشد طغيانا من مدين ومما زاد في مشقة شعيب (ع) انه غريب عن هؤلاء المرسل اليه وليسوا كقومه مدين .. وسميت الأيكة لكثرة خيراتها والأنهار فيها .. لدرجة ان أشجارها كانت ملتفة  مع بعضها ..وقد سكنها كبار المترفين والأثرياء والتجار .. وقد سار نبي الله فيهم سيرته مع قومه مدين ابتدأ رسالته بالموعظة الحسنة والتذكير بنعم الله عليهم .. ولكنهم قابلوه بالسخرية و الاستهزاء والتهديد .. وكانوا شديدو الانحراف العقائدي يعبدون الأوثان ويعملون المنكرات والخبائث كشأن الأقوام السابقة  .. وبعد إقامة الحجة عليهم واستنفاذ كل سبل الإصلاح نزل بهم العذاب الإلهي فالتحقوا بمدين لينضموا الى قافلة الاجتثاث من الأشقياء المنحرفين ...
      بإهلاك مدين قوم شعيب وأصحاب الأيكة يكون نصاب الأمم المستأصلة والمجتثة قد اكتمل .. الأمم التي أرادت ليس فقط السير خلاف الفطرة وقانونها العام الذي وضعه الله تعالى كأساس تبني عليه الرسل قواعد رسالاتها لتحقيق الهدف المنشود لهذا الوجود .. بل إن هذه الأمم المجرمة حاولت طمس تلك الفطرة واستبدالها بممارسات شاذة ومبتدعة .. لقد حاولوا تعطيل القانون العام والوقوف بوجه سنن الكون محاولين ايقاف عجلتها وتحدي خط سيرها ..
   لكن تلك الأمم قبل أن تباد استطاعت وبكل أسف أن تترك بصمات الانحراف والشذوذ في ضمير الإنسانية الذي يفيق يوما و ينام  قرون .. فمثلما  كان قوم نوح أول من خطى خطوات الانحراف العقائدي وعبادة الأصنام .. زرعت  عاد  بذور تحدي السماء و الافتتان بالإمكانات المادية وثقافة من أشد منا قوة .. فيما ضربت ثمود المثل الأول في انتهاك حرمات الله ومقدساته وقسوة التعامل مع آيات الله تعالى .. وجاء دور قوم لوط لتضع أبجدية الشذوذ الأخلاقي وتلويث  الفطرة وقطع النسل .. وختمت تلك الحلقة المشينة والقذرة مدين وأصحاب الأيكة التي أرادت طمس فطرة الرزق الحلال وحاربت الناس بلقمة عيشهم و وضع قاعدة شاذة لاقتصاد يتخم المترفين والمسرفين ويمص دماء المحرومين ...
لقد استأصلت  تلك الأمم كوجود  لأنها وقفت بوجه سنن الكون الطبيعية .. ولكن الشذوذ بقي .. والانحراف الذي زرعته  نمت جذوره من جديد ..فعبدت أصنام قوم نوح وعاد استعرضت عضلاتها  من جديد .. و ورأينا بطش ثمود واستخفافها بآيات الله  وظهرت لافتات أنحراف قوم لوط  و مورس جشع مدين  بأبشع صوره ...
ويبرز سؤال يلح علينا سنحاول ان نبحثه دون ان ندعي الإجابة عليه .. نثيره في الأذهان للتفكر والتدبر :
 لماذا كان نصيب تلك الأمم الغابرة الإستئصال .. فيما لم تستأصل أمم أخرى  لا تقل عنها انحرافا ان لم تكن تفوقها في بعض الحالات  ؟
وهناك  سؤال آخرمرتبط بالسؤال السابق ويساعدنا في البحث :
  هل أن  الأستصال والاجتثاث الذي حدث لهذه الأمم الكافرة هو محض انتقام  وعقوبة الهية  أم له غايات أخرى ..؟؟؟
ان تلك الأمم كانت أقوام مؤسسة للانحراف أرادت تعطيل القانون العام لسنن الوجود وإبداله بممارسات منحرفة .. أمم جاءت في فترات مفصلية من التاريخ الإنساني .. وجودها كان  مؤسس لنظام الحياة  .. و حجر الأساس الذي تبنى عليه حضارة الأنسان .. ومثلما يكون انحراف أساس البناء سببا في سقوط كامل المبنى مستقبلا فإن السماح ببقاء واستمرار تلك الأقوام المنحرفة يعني عدم قيام حضارة مستقبلية للأجيال البشرية اللاحقة ...
عليه فالاستئصال ضرورة لتثبيت الأسس الصحيحة  للنظام العام و قواعد البناء القيمي للإنسان ....فهو إذن  ليس انتقام السماء من أقوام فاسدة ومنحرفة فحسب وانمّا هو ـ ايضا ـ تطهيرا للأرض من من قيم شاذة يصبح من المتعذر استمرار الحياة التي أرادها الباري (عز وجل ) ان تقوم على هذه المعمورة ولو بحدها الأدنى ..
بهذا يكون  الإستئصال الرحمة الباطنة وظاهرها العذاب .. وهو الاستثناء وليس الأصل في علاقة الله الرحيم الودود والحليم الذي لا يعجل ولا يخاف الفوت مع عباده وعبيده ..
وهناك أمر آخر  .. إن ظواهر الانحراف التي جاءت فيما بعد ..كانت  استثناءا  لقاعدة عامة  مهما شكل هذا الاستثناء من كثرة ولكنه يبقى يمارس كحالات شاذة بدليل انه ظل منافقا يدعي الصلاح    .. فيما ظل معسكر الحق الذي يمثله أهل الأيمان يشكل  الخط العام و الأصل  ولم يصبح الانحراف يمثل القانون العام كما تريد الأمم المهلكة ...

في رحاب قصة نبي الله موسى (عليه السلام)

                                بسم الله الرحمن الرحيم


((وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون))

تلعب الصفات الذاتية للنبي المرسل دورا كبيرا في الاجتباء والاصطفاء الإلهيين .. الصفات المميزة لشخصيته إضافة للصفات المشتركة بين الرسل من الصدق والأمانة والإخلاص في أداء الرسالة ..نتحدث عن تلك المزايا الخاصة .. تلك التي جعلت من إبراهيم (ع) خليلا للرحمن ومن موسى (ع) كليما ومن عيسى (ع) روحا ومن محمد (صلى الله عليه وآله) حبيبا.. في رحاب كليم الله يقف الكلام إجلالا .. ويعجز القلم .. وتختلط الصور المشرقة في حياة هذا النبي الكريم فلا نعرف على أي منها نسلط الضوء ..حياة مباركة من أولاللحظات حتى ختامها المسك..  حياة تجسدت فيها قيم  الشجاعة في أقصى حد لها ..والإخلاص حد الفناء في تنفيذ المهمة الرسالية التي تشرف بحمل أمانتها ..
كانت طريق رسالة  موسى (ع) طريقا وعرا وشاقا مليئا بعقبات قاسية وانعطافات حادة وكان مهمته مزدوجة فهو يحارب على جبهتين وفي آن واحد حرب مع الأعداء لنشر عقيدة التوحيد وحرب مع قومه المشاكسين المتعبين الذين أوجعوا قلبة بكثرة زيغهم وانحرافهم واعتراضاتهم وسوء أدبهم مع ربهم ( عز وجل )ونبيه (ع)  ..
تعددت محطات الجهاد في حياة هذا النبي العظيم .. وفي كل محطة جهادية ينكشف جانب من جوانب العظمة والرفعة في شخصية موسى العبد الصالح والنبي والإنسان .. في كل محطة حياتية كانت روحه الكبيرة تتألق في سماء العروج لتطوي مراتب النور ..
لمحات سريعة من حياة موسى (ع)
•    موسى: من أولي العزم من الرسل،وهارون أخاه ووزيره ووصيه وهما إبنا  عمران (عمرام بالعبري) بن قاهت "قاهات" بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
-    ولد موسى بعد (64) سنة من وفاة يوسف، أي: بعد (425) سنة من ميلاد إبراهيم وبعد (250) سنة من وفاته، وعاش نحو (120) سنة، والله أعلم.
-    أصدر فرعون أمره بقتل كل مولود ذكر للعبرانيين "بني إسرائيل"، أثر نبوءة تنبأت بزوال ملكه في السنة التي ولد فيها موسى، فأوحى الله إلى أمه: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
•    وساق الماء الصندوق الذي وضعته أمه فيه حتى دنا قصر فرعون المشرف على النيل، ومريم أخت موسى تراقبه عن بعد وتتبع أثره
•    ، حتى هيأ الله لهذا الصندوق من يلتقطه من نساء القصر الفرعوني.
•    قالوا: وقد التقطته ابنة فرعون وأحبته، وأدخلته البلاط الفرعوني، وقد علموا أنه عبراني، وأنه محكوم عليه بالقتل بموجب الأمر الفرعوني العام.
•    ولما رأته امرأة فرعون قذف الله محبته في فؤادها، واسمها (آسية)، ثم كانت امرأة مؤمنة ضرب الله بها المثل في كتابه: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].
•    فطلبت آسية من فرعون - بما لها من مكانة في قلبه  - أن يبقيه على قيد الحياة ليكون قرة عين لها وله حيث لم يرزقوا الولد .
•    وأسموه في القصر (موسى) أي: المنتشل من الماء.
•    قالوا: وأصل ذلك في اللغة المصرية القديمة: (موريس)، أخذاً من (مو) بمعنى ماء و (أوريس) بمعنى منتشل.
•    لقد حرم الله عليه المراضع، ، وذلك ليعيده إلى أمه ويُقرَّ به عينها، ولما رأت أخته مريم أنهم أحبوه واستَحيوه، وهم يبحثون عن مرضع له -ولعلَّها كانت معتادة دخول القصر الفرعوني- قالت لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]؟ فوافقوا، فدعت أمها، فعرضت عليه ثديها فامتصه بنَهمٍ وشوق، فاستأجروها لإِرضاعه وكفالته.
•    وبذلك ردّ الله موسى إلى أمه كي تقرّ عينها به، ولا تحزن على فراقه، ولتعلم أن وعد الله حق، فقد رده الله إليها كما أوحى إليها.
•    تمت مدّة رضاع موسى وكفالته على يدي أمه في الحقيقة، وأعيد إلى قصر الملك فنشأ وتربى فيه، حتى بلغ أشُدَّه واستوى، وآتاه الله صحة وعقلاً، وقوة وبأساً.
•    وبالنظر لوجوده في  القصر الفرعوني، فقد جعل يعمل على تخفيف الاضطهاد عن بني إسرائيل، ويدفع عنهم الظلم بقدر استطاعته، فصار الإِسرائيليون في مصر يستنصرون به في كل مناسبة.
•    وذات يوم وفيما كان موسى يجتاز أحد الأزقة في المدينة، في وقت خلت فيه الطرقات من الناس -ولعل الأمر كان ليلاً أو في الظهيرة - فوجد رجلين يقتتلان، أحدهما إسرائيلي والآخر قبطي .
•    قالوا: وكان السبب أن المصري الفرعوني أراد أن يسخِّر الإِسرائيلي في عمل، فأبى عليه الإِسرائيلي. ولما رأى الإِسرائيلي موسى استغاث به، فجاء موسى -وكان قوياً شديد البأس- فأخذ بجمع يده فوكز المصري فقضى عليه، فلما رآه قتيلاً بين يديه- ولم يكن يريد قتله- قال: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} ورجع يستغفر الله مما فعل.
•    وأصبح موسى في المدينة خائفاً يترقب، يمرّ في طرقاتها على حذر، وبينما هو في طريقه إذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه مرة ثانية، فأقبل عليه موسى وقال له: {إنك لَغَوي مبين}، أي: صاحب فتن ورجل مخاصمات، ومع ذلك أخذته حماسة الانتصار للإِسرائيلي، فأراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما، لكنّ الإِسرائيلي ظن أنه يريد أن يبطش به فقال له: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِين} [القصص: 19].
•    ومن كلمة الإِسرائيلي عرف الناس  أن موسى هو الذي قتل المصري بالأمس، وشاع الخبر ووصل إلى قصر فرعون، فتذاكر آل فرعون في أمر موسى والقصاص منه،
•    فجاء رجلاً ناصحاً مخلصاً ممن له صلة بالقصر،  من أقصى المدينة - وربما كان ذلك من القصر نفسه، لأن العادة في القصور الملكية أن تكون في أماكن بعيدة عن المساكن العامة وحركة المدينة - وقال له: {يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين}.
•    موسى (ع) يقبل  نصيحة الرجل، فيخرج من المدينة خائفاً يترقب، وهو يقول: {ربّ نجني من القوم الظالمين}.
•    اتجه إلى جهة بلاد الشام تلقاء مدين، وسار بلا ماء ولا زاد، قالوا: وكان يقتات بورق الأشجار، حتى وصل إلى مدين، وفي مدين سلالة من الأسرة الإِبراهيمية منحدرة من مدين "مديان" بن إبراهيم - أحد أعمام بني إسرائيل -، ولعله قصدها عامداً لعلمه بصلة القربى مع أهلها.
•    وصل موسى بعد رحلة شاقة إلى مدين، فلما ورد ماءها وجد عليه أُمَّة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان أغنامهما عن الماء، منتظرتين حتى يتم الرعاة الأقوياء سقيهم.
•    أخذت موسى غيرة الانتصار للضعيف فقال لهما: ما خطبكما؟ قالتا: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ}، واعتذرتا عن عملهما في السقي دون الرجال من أسرتهما فقالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23].
•    فنهض موسى وسقى لهما، وانصرفتا شاكرتين له، مبكرتين عن عادتهما، وتولّى موسى إلى الظل، وأخذ يناجي الله ويقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
•    عجب أبوهما الشيخ الكبير من عودة ابنتيه مبكرتين على غير العادة ، فقصتا عليه قصة الرجل الغريب الذي سقى لهما، فأمر إحداهما أن تعود إليه، وتبلغه دعوة أبيها ليجزيه على عمله.
•    فجاءته تمشي على استحياء، قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 25].
•    موسى يقبل الدعوة، وسار مع ابنة الشيخ، قالوا: وقد طلب منها أن تسير خلفه وتدله على الطريق، لئلا يقع بصره على حركات جسمها، وذلك عفة منه.
•    دخل موسى على الشيخ الكبير، فرحب به، وقدم له القِرى، وسأله عن خطبه، فقص عليه القصص، ووصف له حاله وحال بني إسرائيل في مصر، قال: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25] .
•    قالت إحداهما: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، فأُعجب الشيخ برأي ابنته، وعرض على موسى الزواج من إحدى ابنتيه اللَّتين سقى لهما موسى.
•    قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27].
•    وبذلك شرط عليه أن يكون مهر ابنته أن يخدمه ثماني سنين، فإن زادها إلى عشر سنين فهي زيادة غير مفروضة.
•    فوافق موسى، ونجز العقد مع الشيخ، فقال: "ذلك بيني وبينك أيَّما الأجلين قضيتُ فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل".
•    لبث موسى عند صهره الشيخ في مدين يخدمه حسب الشرط، وقضى في خدمته أوفى الأجلين وهو عشر سنين.
•    ولدت له امرأته واسمها "صفورة" في مدين ولداً سماه "جرشوم" ومعناه: غريب المولد.
•    موسى قرر أن يعود بأهله إلى مصر، وكان ذلك في فصل الشتاء، واستاق معه  الغنم التي أهداها لهما شعيب ، ولما بلغ إلى قرب الطور ضلَّ الطريق في ليلة باردة. قالوا: وكانت امرأته حاملاً، وأراد موسى أن يوري ناراً ، وبينما هو كذلك إذ رأى جانب الطور ناراً، فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10]، أي: من يدله على الطريق إلى مصر.
•    فلما أتى موسى النار من جانب الشجرة المباركة، سمع نداء: {يا موسى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 12-13].
•    فأوحى الله له ما أوحى، وشرّفه بحمل الرسالة إلى الطاغي فرعون، وأعطاه الله الآيات، وطلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، ليكون له ردءاً، وأثنى موسى على أخيه بين يدي ربه بأنه أفصح منه لساناً، وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِي * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِي} [القصص: 33-34].
•    قال الله تعالى له: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35].
•    وحمل موسى الرسالة، ومعه المعجزات، ودخل مصر وقابل فرعون مع أخيه هارون، و أقام عليه الحجج وجاء بالمعجزات الباهرات التي أفحمت فرعون وملأه ..
•    وخرج موسى ببني إسرائيل من مصر، وأنجاه الله من فرعون وقومه.
•    ثم ذهب (ع) لمناجاة ربه وتلقى الألواح وفيها الوصايا الإِلهية، وعاد إلى قومه فوجدهم قد عبدوا العجل الذي اتخذه لهم السامريّ،
•    ثم طلب من بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة -وهي أريحا- مجاهدين في سبيل الله بعدما أراهم المعجزات الباهرات، فقالوا له: "إن فيها قوماً جبارين" .. و"إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها"، وقالوا له أيضاً: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون"!!
•    فغضب موسى ودعا عليهم فقال: "ربِّ إني لا أملك إلاَّ نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين".
فقال تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26].
•    وهكذا لبثوا في التيه أربعين سنة، يتردَّدُون في برية سيناء وبرية فاران "صحراء الحجاز"، ويترددون أيضاً حوالي جبال السَّرَاة وأرض ساعير وبلاد الكرك والشوبك. والله أعلم.
•    من الأحداث الهامة التي جرت لموسى عليه السلام لقاؤه بالعبد الصالح -الذي ورد في الروايات  أنه الخضر-، وقصة لقائه به ذكرت بنحو غني عن البيان في القرآن الكريم في سورة الكهف.
•    ومن الأحداث التي جرت له إيذاء قارون له وطعنه افتراءً في شرفه، فدعا موسى عليه فخسف الله به وبداره الأرض، وكان قارون رجلاً غنياً، قد بلغ من غناه أنه كان عنده من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فلم تغنِ عنه من الله شيئاً.
•    أوحى الله إلى موسى أني متوفٍ هارون، فأتِ به إلى جبل كذا وكذا فانطلقا نحوه، فإذا هما بسرير فناما عليه، وأخذ هارونَ الموتُ ورُفع إلى السماء. ورجع موسى إلى بني إسرائيل، فقالوا له: أنت قتلت هارون لحبِّنا إياه، قال موسى: ويحكم أفترونني أقتل أخي؟! فلما أكثروا عليه سأل الله، فأنزل السرير وعليه هارون، وقال لهم: إني مت ولم يقتلني موسى، وكان ذلك في التيه، وكان عمر هارون حين توفي (122) سنة.
•    توفي موسى عليه السلام بعد أخيه هارون بأحد عشر شهراً في التيه. قالوا: وقد بلغ عمره (120) سنة، في الأرض المقدسة ودفن هناك.
وقفات التأمل في  حياة النبي الكريم  :
                                              ـ 1ـ

    ان ترعرع الأولياء في بيئة ملتصقة بالطغاة برغم امتلاكهم  المعلومات الدقيقة بشأن أولياء الله مصدر الخطر عليهم وعجزهم عن النيل منهم معجزة عظيمة تثبت المبدأ الإلهي في المشيئة وإن الله يفعل مايريد ولا يفعل ما يريد غيره .. رأينا ذلك مع النمرود في قصة سيدنا إبراهيم (ع) ونراه هنا في قصة سيدنا موسى (ع) فرغم تحسب فرعون وترصده واتخاذه كل الاحتياطات للقضاء على عدوه المتوقع الذي سيقضي عليه وعلى ملكه بحسب النبؤة ( التي صدقت فعلا) برغم خوفه وهلعه الذي ذهب ضحيته الأبرياء من المواليد في كل عام ..يولد موسى ويذهب الى قصر فرعون في التابوت الى قصر الطاغية وفي ذلك أكثر من دلالة عميقة المغزى ..
  فذهاب موسى (ع) الى فرعون في عقر داره يعني أمرا هاما يتعلق بطبيعة المعركة بين الباطل الذي يمثله الطغاة والحق الذي يمثله المرسلون.. فنجد إن المبادرة دائما تكون للحق فهو الذي يذهب الى الباطل ليدك معاقله ويهدم حصونه .. مما يعكس المعادلة المترسخة خطأ.. من أن الباطل هو الذي يطارد الحق ويلاحقه .. فالرسل والأنبياء والصالحين يمثلون الأصل والقاعدة فيما يمثل أعداءهم من طغاة وجبابرة  الاستثناء الطارئ .. إن مهمة المرسلين إزالة هذه الأجسام الغريبة الطارئة في جسم البشرية المضللة .. فذهاب موسى (ع) بتابوته رضيعا الى فرعون تبدأ المعركة التي لا يكون توقيتها ابتداءوانتهاءا الا بيد الكليم (ع)..أما  رمزية التابوت لدى الفراعنة فتعني الموت والغروب الى العالم الآخر ..
  ولعل السؤال الذي يحمل في ثناياه الإجابة  : ما الذي جعل فرعون لا يقتل موسى مع تيقنه من إنه الخطر الموعود ؟  قيل في ذلك أكثر من تبرير .. توسل آسيا زوجة فرعون تلك المرأة الطيبة التي سيكون لنا وقفة معها .. وقيل لأن فرعون لم يرزق بولد وكان متشوقا لذلك .. وقيل إن لفرعون بنت أصيبت بعلة في جسدها ذكر وذكر المنجمون وهم أطباء ذلك الزمن ان لا علاج لها سوى ريق وليد ينتشل من البحر ولم يكن غير موسى المبارك .. قد يكون كل ذلك صحيح .. ولكن تبقى هذه الأمور أسباب ظاهرية للحدث .. وقد تكون أسبابا غير كافية خصوصا إذا عرفنا الطريقة التي يفكر بها الخصم .. فالطغاة لا تثنيهم كل هذه الأمور إن أحسوا بخطر يهدد عروشهم فلا عواطف ولا مشاعر ولا خواطر ولا عهود ولا مواثيق فالملك عندهم عقيم .. لكن السبب الرئيس والمباشر والحقيقي هو أمر الله (تعالى ) الذي لا مرد له وأن الله بالغ أمره وإنه يحول بين المرء وقلبه وهذا يقودنا لمسألة هامة وهي أن الطغاة ليسوا أحرارا فيما يفعلون وإن يد القدرة تشلهم أحيانا من حيث لا يشعرون.. وهذا ما يفسر قرارات العفو التي يصدرها الحكام  الظلمة بحق المؤمنين وهم يفعلون ذلك بلا وعي وقد يندمون فيما بعد حين ينفذ أمر الله تعالى ..    
                                   
                                       ـ2ـ
((وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين*فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين))القصص: 7
او
نقف هنا وقفة إنسانية مؤثرة جدا وعاطفية .. أم موسى تحضن وليدها   ذوالملامح المحببة المباركة .. تحتضنه بود وخوف وقد سمعت بالأمر الملكي الفرعوني بقتل مواليد العام الذي ولد به نبي الله ..تتمنى لو تخفيه تحت جوانحها تمر عليها الليالي والأيام ثقيلة مرعبة  قلق وخوف يحبس النفاس .. حتى إذا استنفذت كل قدرة لديها على التحمل يأتيها الأمر الألهي بوحي يوحيه الجليل بإلهامها أن تلقيه باليم .. هي دعوة للتأمل بهذه الصورة التي التقطتها كاميرا الزمن بدهشة وخصوصا تلك العبارة المباركة ..(( فإذا خفت عليه فألقيه في اليم)) كيف يمكن تصور ذلك ؟ كيف يمكن الهروب من مورد الخوف الظني الى مورد  الخوف الحتمي ؟.. كيف لأم أن تلقي صغيرها الرضيع في البحر خوفا عليه ؟؟ طبعا لأمثالنا الأمر مفزع لا تتحمله عقولنا القاصرة ولكن عند الأولياء ووفق قانونهم الأمر في غاية المنطقية فتسليم الأمر للمولى تسليم المؤتمن لصاحب الأمانة .. لا مشكلة لديهم على الإطلاق طالما هم ممتثلون لأمر بارئهم الحكيم القادر الحافظ من بيده ملكوت كل شيء ..لقد أثبتت أم سيدنا موسى (ع) أنها على قدر المسؤولية الإلهية وأنها أهلا للتشريف الالهي حين قدّر أن تكون وعاءا طاهرا لكليم الله تعالى .. ولا يعني هذا ولا يقلل من منزلتها أن تشعر بالحزن البشري المعتاد بمثل هذه المواقف .. فنحن نتحدث عن عاطفة وأحاسيس أم بكل ماتحمل كلمة أم من معان إنسانية ..وتمتثل الأم لوحي الله بكل توكل وثقة وحسن ظن ببارئها وتلقي وليدها في اليم .

                                           – 3 -

((وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين)) القصص 10
ولنقف وقفة أخرى أطول من سابقتها عند قوله تعالى ((وأصبح فؤاد أم موسى فارغا))  فوصف حال قلب الأم بعد إلقاء وليدها في اليم إنه (قد أصبح فارغا ).. تعبير وقف عليه طويلا أهل العلم و أدهش أولى الألباب ولا نجد لهذا الوصف نظير مع كل الإبداعات الأدبية للبشر ورقي مستوى التعبير .. كيف يصبح القلب فارغا ؟ ومن أي شيء يفرغ ؟ لقد ذهب المفسرون  مذاهب شتى  ونرى أن النص يحتاج للتأمل والتفكير أكثر منه للتفسير..ان العبارة تكشف عن المكانة التي كان موسى (ع) يشغلها في قلب الأم حيث إن أحاسيس كثيرة اختلطت ببعضها ملأت كل هذا القلب  من حب و ود وحنان وخوف وقلق وترقب   وفجأة وبلا مقدمات كثيرة  تقذف بحبيبها وصغيرها في اليم !! لتنتزع كل تلك المشاعر دفعة واحدة  .. لتسبح روحها في فراغ لا حدود له ..  شعور مدمر بالضياع تحت وطأته  تكاد أن تبدي ما يدل على كشف سر وليدها فيربط الله تعالى على قلبها ويمدها بعونه ويثبت فؤادها ويملأ فراغه بفيض من الصبر والرجاء والثقة بوعد الله فتطمئن الأم ويهدأ بالها وأخيرا يعود اليها وليدها لترضعه ولتعلم ونعلم نحن أيضا أن وعد الله حق ..
                                        ـ  4 ـ

وجود موسى (ع) في قصر فرعون .. مركز الدولة الفرعونية ومعقل رئيس النظام .. له أكثر من دلالة ..فهي مرحلة تهيئة نفسية لموسى (ع)  ليتعرف على مسرح معاركه المنتظرة مع السلطة يدرس عن كثب جغرافية المكان ويكسر حاجزا نفسيا هاما لأنه سيدخل ذات يوم الى هذا القصر فاتحا ونذيرا وداعيا الى الله تعالى  ..وبالنسبة لفرعون فإن في وجود موسى (ع) إدخال للرهبة في نفسه وأخذ للمبادرة وإشعاره بضآلة حجمه وهوانه .. ولاسيما تلك المؤمنة الصابرة خير عزاء ..و كان وجوده في القصر سندا لنصرة الإسرائيليين من الاضطهاد والتخفيف من معاناتهم ..
                                          ـ 5 ـ
((ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين *قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم*قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين))القصص: 15 - 17
حادثة قتل موسى للفرعوني الذي كان يسخّر الإسرائيليويضطهده .. تثير أكثر من سوال ..أما كان بإمكان موسى (ع) تفاديها ؟.. كيف يمكن لنبي مرسل بل ومن أولي العزم من الرسل أن يرتكب جريمة قتل ؟ كيف لضربة واحدة أن تقتل رجلا ؟  .. هل انتصر موسى (ع) للإسرائيلي تعصبا لكونه من شيعته .. لماذا لم يتعامل موسى مع المسالة قضائيا ويمثل أمام القضاء ؟ وإذا كان القتل خطأ ( وهو كذلك) فلماذا نسب نبي الله الظلم لنفسه واستغفر ربه وعاهد الله الا يكون ظهيرا للظالمين ؟ ومن يقصدبالظالمين ؟.. هل كان يقصد الإسرائيلي الذي نصره ..أو هو دعاء مطلق عام تعليمي ؟ قبل أن نحاول تدبر ما تم طرحه .. لا بد أن نتعرف على الأجواء التي كانت سائدة و خصوصا علاقة موسى (ع) بفرعون .. فقد توترت العلاقة كثيرا بين موسى والقصر بعد قيام موسى (ع) باستفزاز مباشر ومشروع لفرعون ولأكثر من مناسبة ..كان (ع) يبدي سخريته من معتقداتهم الباطلة ولا يحترم طقوسهم ولقد هم ّ فرعون أن يبطش به أكثر من مرة لولا تدخل آسيا زوجة فرعون.. لذا كان خروج موسى من القصر ليدخل المدينة على غفلة من أهلها .. والآن لنناقش حادثة القتل بواقعية :
موسى ومن خلال وجوده في القصر الفرعوني أخذ صورة كاملة عن المجتمع وصراعه الطبقي وثقافة الاستعبادوالاحتقار التي يحملها الفراعنة والأقباط للإسرائيليينيضطهدوهم بقسوة يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم للخدمة في بيوتهم ويحرمونهم من ابسط حقوق المواطنة ..
إزاء هذه الممارسات التعسفية والظالمة كان قلب موسى الإنسان يمتلأ ألما على الإسرائيليين ليس لأنهم قومه وأبناء جلدته بل لأنهم مستضعفون مقهورون ..في خضم هذا الهم الكبير الذي كان يحمله موسى (ع)  .. فجاة وفي أحد الأزقة تتجسد أمامه صورة من صورالظلمالاجتماعي   .. قبطي متغطرس يسخّر اسرائيلي لحمل الحطب للقصر الفرعوني .. من غير الممكن أن يتجاهل موسى (ع)الأمر أو يكون سلبيا فيترك الاثنان يستضعف القوي منهما الضعيف ..قد يحدث هذا مع الكثيرين ولكن عند الولي القضية مختلفة .. فهناك ظالم متسلط ومظلوم يستغيث و موسى قادر على التدخل فجميع عناصر الإلزام الشرعي والأخلاقيللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متوفرة..بدءا يتدخل موسى بالتي هي أحسن ولكن هذا الأسلوب لا يفهمه أهل البغي الا حين يفقدون وسائل بطشهم ..ويبدو أن القبطي قد تمادى في تجبره الأمر الذي جعل موسى (ع) يضربه ضربة تقضي عليه .. ربما جاءت الضربة في موضع حساس من جسده أو أن القوة الهائلة لقبضة موسى (ع) هي التي قضت عليه .. على كل حال الحادث تم خطأ وبلا قصد جنائي  وقد شاءت الإرادة الإلهية أن يحدث ذلك لما يترتب عليه كل الأحداث القادمة ..هكذا اقتضت حكمة الله تعالى..
موسى (ع) بعد حادثة القتل نسب الظلم لنفسه واستغفر الله (عز وجل ) وهو من أدب الدعاء لدى الأولياء مع مولاهم الحق ..لكن قبل ذلك بماذا حدث نفسه موسى (ع) .. لقد نسب العمل للشيطان واصفا إياه بالعدو المضل المبينفما دلالة ذلك ؟ أقوال المفسرين كثيرة في ذلك .. لسنا بصدد استعراضها .. لكن إجمالا : قيل ان موسى كان يقصد بعمل الشيطان هو أصل النزاع الذي حصل بين القبطي والإسرائيلي لا حادثة القتل الخطأ ذاتها  .. وقيل في الظلم الذي نسبه موسى لنفسه أنه لم يحتط للأمر كما يجب في دخوله المدينة .. ولأنه ترك الأولى وأوقع نفسه في مأزق سيدخله في إشكالات قانونية مع فرعون الذي سيجد ذريعة للنيل منه وبالتالي سيؤثر على سير رسالته .. وقيل في استغفار موسى (ع) إنه استغفار بمعنى الستر والحفظ من الأعداء وليس استغفارا من ذنب .
  الذي نريد أن نتدبره من هذا الموقف هو:
•    الإشكال الذي نقع فيه كثيرا وهو إننا في بعض الأحيان ننسب كثير من أفعالنا الى الشيطان العدو المضل المبين وننسى أو نتناسى ظلمنا لأنفسنا ونصيبها من الأثم .. ربما المقدمات يساهم بها الشيطان ولكن ماذا بشأن التفصيلات ..؟
•    نصرة الظالمين من أهم الأمور التي شدد عليها الشارع الحكيم معتبرها عمل محرم ومن أسوأ الآثام .. إن موسى (ع) بالتأكيد لم يتحدث عن نفسه بقدر ما كان الحديث موجه لنا  فالنعمة التي أنعم بها الباري (عزوجل ) علينا من قوة بدنية أو مادية أو موهبة فكرية أو سلطة دنيوية يجب الا تكون بخدمة الظالمين وبأي شكل كانت إبتداء من النظر اليهم بوجوه مكفهرة وقلوب رافضة لظلمهم وانتهاء بعدم الوقوف معهم وعدم ابداء أي قدر من المساعدة .. إن الطغاة لم يولدوا طغاة إنما صاروا كذلك لأن المجتمع قد هيأ لهم القاعدة وتحديدا أولئك المنافقون وأصحاب الشخصيات المتسلقة المتزلفة والهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق ويرفعون الرايات الولاء الزائف   ..
                                            ـ 6 ـ
((فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين*فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين))القصص: 18 - 19

     يبدو أن حادثة القتل قد  أثارت الرأي العام غير المتعود على مثل هذه الأحداث الجنائية بحق الأقباط الذين كانوا محسوبين على السلطة ..وما كان لأحد أن يجرؤ على النيل منهم ..
لعل سؤال يطرح هنا : كيف نفسر نصر موسى (ع) هذا الإسرائيلي الذي وصفه بالغوي المبين .. فإذا بان له غيّه كيف ينصره ثانية ؟.. ماذا يعني وقوع موسى (ع) في الإشكال ثانية ؟وكيف لخائف يترقب هو أول المشتبه بهم أن يدخل في نزاع آخر وبطريقة مشابهة ؟..
بدءا لا يمكننا أن نفهم ما يقوم به الولي الا بعد معرفة المزايا النفسية التي يتمتع بها كما أشرنا في المقدمة .. فموسى (ع) يمتاز بنقاء سريرة ونجدة وحمية وايثار ويتمتع بحماسة وروح متوثبة نشطة لا تعبأ بحسابات بشرية مترددة ..
       فأي إنسان بموقف موسى (ع) ( خصوصا بعد انتشار خبر حادثة القتل ) أن يفكر بإنقاذ نفسه وربما الهرب لكن موسى(ع) يواجه الأمر بكل هدوء ثقة بالنفس فهو لم يرتكب ذنبا بنصرته للمظلوم وإن القتل كان عرضيا غير مقصود وحين دخل المدينة للمرة الثانية وجد ذات الشخص الذي نصره بالأمس يستصرخه اليوم وكلمة ( يستصرخه ) تدل على حراجة موقفه واستضعافه الشديد ولا يعني لوم موسى(ع)  له على افتعال المشاكل انه على باطل دائما فلكل موقف ظروفه الخاصة  بدليل قيام موسى بنصرته ثانية وهو الذي دعا الله (عز وجل) من قبل الا يجعله ظهيرا للمجرمين .. ان تصرف المعصوم دليل الصواب..و لا يفترض أن نناقش شرعيتهأو مشروعيته طالما اعتقدنا بعصمة النبي غاية ما نناقش أننا نحاول أو نفهم ملابسات الحادثة فنقول : إن رعونة التصرف الذي قام به (الذي استنصر به ثانية) لا يعني الحكم عليه مسبقا..فالمعيار هو الحق وليس مدعّيه..
هو درس كبير في عقلانية اتخاذ المواقف وان لا نبني حكما مسبقا على شخص مشاغب ربما تركنا نصرته ويكون الحق معه أيضاعبارة (( عدو لهما)) تدل على أن القضية عقائدية تتعلق بنبوة موسى وانقسام المجتمع المصري الى إسرائيلي منتظر للنبي المخلص وعدو لهذا النبي الذي يعتبره زوال لملكه وسطوته .. .
بقي  أمر آخر جاء على لسان القبطي الذي هم ّموسى (ع) بضربه لتماديه وعدم سماعه للنصح ..((أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين))  من أين علم هذا القبطي بإن موسى (ع) هو من قتل مواطنه ؟ ربما استشف ذلك من الحوار الذي دار بين موسى (ع) والأسرائيليالغوي هذا لا يهمنا كثيرا ما يهمنا الوقوف عنده ((إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)) يبدو إن هذا القبطي ذو شأن وهو مرتبط بالقصر ويعلم بدعوة موسى للإصلاح ويعلم بالفطرة أن دعوة الإصلاح هذه لا تكون بالقتل وسفك الدماء مما يدل أن القوم يعلمون أن الجبار لا يمكن ان يكون مصلحا .. ومع ذلك يؤمنون بفرعون .. ويقتلون الإسرائيليين !!!

                                        ـ 7  ـ
((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد))غافر: 26
تتنوع أساليب الطغاة  والهدف واحد .. وتتلون صورهم  المستنسخة والأصل واحد .. بشر مهووسون  بكرسي التسلط  المصنوع من جماجم المعارضين ودماء المظلومين معجون بعرق المحرومين ..فها هو يعقد جلسة استثنائية لمناقشة قضية موسى بعد أن أحس الطاغية أن الخطر يقترب منه فيقول فرعون مظهرا نفسه بمظهر الديمقراطي الذي يستشير فيقول لملأه ((ذروني أقتل موسى )) وكأنه يستأذنهم !!.. منذ متى والطغاة يعرفون مصطلح أخذ الإذن بتصفية المعارضين ؟ منذ متى يسمع الطغاة  رأيا غير رأيهم ؟ وإذا كان هذا غريبا فأغرب منه الحجة التي ساقها تبريرا لقتل موسى ((أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)) يالها من سخرية مرّة . أصبح فرعون يخشى من موسى ان يفسد في الأرض .. هكذا تنقلب الموازين هكذا يُستحمر الشعب .. و تزيف الحقيقة .. لكن السؤال ..
 ما الذي جعل فرعون يستأذن ملأه وحتى شعبه إذا كان هناك رأي عام معبأ ومهيأ مسبقا ضد موسى (ع) ؟ إنه الخوف والرعب الداخلي  الشعور بالهزيمة التي لا يريد أن يتحملها وحده .. يريد من الجميع مشاركته الهزيمة   .. إنها الروح الانهزامية لدى الطغاة يلجئون لشعوبهم أيام محنتهم فقط .. فإذا تبدد خوفهم عادوا لغطرستهم وتجبرهم ودكتاتوريتهم .. و المثير للسخرية أن فرعون قد نسي أنه رب والرب لا يخش ولايخاف ولا يستشير .. فإذا كان حال الرب كذلك فما حال المربوبين !!!
                                                      

                                         ـ 8 ـ
((وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين*فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين))القصص: 20 - 21
  استغل القصر حادثة قتل القبطي ليعبأ الرأي العام على بني إسرائيل عامة وموسى (ع) خاصة ..وانطلقت الأبواق الفرعونية تطلق شعارتها الانتقامية فيرددها الناس كعادتهم بلا وعي أو تفكير ..و عقد اجتماع طارئ آخر في القصر ويتخذ قرار بتصفية موسى جسديا .. و يطبل الجمع المنافق لهذا القرار الظالم ولم تجدي نفعا اعتراضات مؤمن آل فرعون الرجل الذي يكتم إيمانه (الذي سنأتي على ذكر شأنه لاحقا ) الذي ما إن يتيقن من أمر المؤامرة على حياة موسى (ع) حتى يحث الخطى على تنبيه نبي الله لما يخطط له فرعون وجنوده ..ويتقبل موسى (ع) تلك النصيحة شاكرا سعي مؤمن آل فرعون ...
هنا علينا أن نقف عند  نقطة هامة وهي ضرورة وجود حس استخباري تجسسي على الأعداء لإفشال مخططاتهم وهو أمر مشروع ومطلوب .. فلابد أن تكون للأيمان عين على معسكر الكفر ..إن الخدمة التي قام بها مؤمن آل فرعون كان لها دور كبير في إنقاذ الرسالة والرسول ولنا تصور حراجة موقف نبي الله وهو يؤخذ على حين غرة من عدو الله وعدوه ..

                                            ـ9 ـ
((ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير*فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير*فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين*قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين *قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين*قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل))القصص: 23 - 28
   توجه موسى (ع) تجاه مدين مما يدعو للتساؤل : هل هو هداية من الله تعالى استجابة لدعاء موسى (ع) ؟أم إن موسى (ع) كان يعلم بوجود قوم مؤمنين هناك وتحديدا شعيب (ع) ؟ هناك آراء مختلفة لكن ظاهر الآيات الكريمة توضح ان يد الغيب  ترسم لموسى (ع) الطريق بعناية فائقة وغاية في الحكمة ..
   كانت رحلة شاقة ومتعبة وموحشه تلك التي قام بها نبي الله شاب لم يتعود على هكذا ظروف قاسية وهي التجربة الحياتية الأولى له خارج وطنه .. لكن إحساسه بأنه في رعاية الله كان يبدد كل الأحاسيس الأخرى رغم قسوتها .. على مشارف المدينة .. وجد جماعة من الرجال يتزاحمون على بئر يسقون .. أمر طبيعي لا يثير الفضول في صحراء يعتبر الماء فيها ثروة قومية ..
   وفيما موسى (ع) يرقب هذا المنظر وقد استراح من تعب طريق مرهق ..لمح فتاتين بدت عليهما إمارات الحياء والنبل وقد ابتعدتا عن مزاحمة الرجال تريدان السقاء .. وبطبعه الإنساني وشدة غيرته ونخوته بشخصيته الايجابية المبادرة يسألهما موسى (ع) عن شأنهما فتجيبان بجواب ذكي للغاية عبارة عن درس لكل فتاة تضطرها ظروف الحياة القاسية أن تخرج لقضاء شأن ما خارج المنزل ((لا نسقي حتى يصدر الرعاء)) أي ينفضّ الناس وخشية مزاحمة الرجال ثم يبرران خروجهما وكأنه أمر اضطراري غير معتاد ((وأبونا شيخ كبير)) فيتقدم موسى (ع) فيسقي لهما ويحملوعاءا لا يستطيع عشر رجال حمله بقوة بدنية من نعم الله تعالى عليه .. ثم يتوارى الى الظل وقد وجد كسرة خبز وكان قد قضى أياما يتغذى على نبات الأرض وهو يتمتم بحمد ربه الكريم  ((رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)) هنا : ما هو الخير الذي قصده موسى (ع)  وهو الذي أنزله الله تعالى اليه وسأل الباري زيادته ؟ ..قيل إنه دعاء بأدب لإنزال الخير اليه لأنه مرهق وجائع وغريب وهو تفويض بالأمر لربه الرحيم ..
وقيل الخير الذي قصده موسى هو توفيقه لفعل الخير ومساعدة البنتين على السقاء .. وهو الأقرب خاصة إن الكلام جاء عقب انتهاءه من السقي وتواريه الى الظل ..وقيل كسرة خبز وجدها وربما كان كل ذلك .
وبالفعل لم يطل انتظار موسى (ع) لفرج ربه الذي يرعاه دوما ..ففيما هو يفكر بما هو قادم ..
(فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا  )
 إن موسى لم يكن لينتظر أجرا على فعل الخير وليس ذلك من شيم الكرام وموسى سيدهم ولكنه ومن خلال حديث البنت فهم منها أن أبوها رجل كريم وجليل القدر فرآها مناسبة لأن يقابله ويبدو أنه قد عرف أنه شعيب النبي ( علما ان القرآن الكريم لم يذكر صراحة اسم ذلك الشيخ لكن أغلب المفسرين قالوا بأن المقصود هو شعيب النبي ) فنهض ملبيا الدعوة ولكنه وبحركة لطيفة للغاية يطلب من البنت أن تمشي خلفه وتشير الى أتجاه الطريق ..
ويلتقي موسى (ع)  بشعيب النبي والعبد الصالح الذي يستمع الى ما جرى عليه ويطمئنه شعيب بنجاته وبعد تأدية واجب الضيافة ..وحلا لمشكلة إجتماعية عند الطرفين شعيب (ع)  وقلة الناصر والمعين لشيخ فاقد لبصره ( البصر الذي فقده مرتين من فرط حبه لمولاه الحق كما عرفنا ) وموسى (ع) المحتاج لجو اجتماعي عائلي يعينه على غربته .. يأتي الأقتراح من البنت الكبرى التي أصبحت فيما بعد زوجة لموسى ((يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين )) وحين سألها أباها عن كيفية معرفتها بقوته وأمانته ذكرت له حمله الدلو الذي لا يستطيع عشرة رجال حمله وهو دليل قوته وطلبه منها أن تمشي خلفه وتدله على الطريق وهو دليل أمانته وعفته .. ويقتنع الأب بل ويفرح بهذا الأقتراح الذي سيبقي موسى (ع) بجواره فهو يعلم تماما من هو موسى (ع) وما  شأنه .. ولكن شعيب يريد أمرا آخر  .. يريد نمطا من العلاقة بينه وبين موسى أوثق وأرقى من الاستئجار الذي لا يليق بولي الله فيقترح على موسى (ع) :                
((قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين))
هناك كلام كثير فصّله المفسرون ووضعوا أسئلة عديدة و خرجوا باستدلالات مهمة منها :
هل في عرض البنت باستئجار موسى (ع)  حط من مكانة هذا الولي الكريم ؟
•    هل يجوز شرعا أن يقع العقد على زوجة غير محددة بالذات ؟
•    هل يجوز شرعا وعرفا أن يكون مهر البنت ( عمل أو خدمة ) ؟
•    هل يجوز أن يكون المهر غير محدد ( خدمة ثمان سنين أو عشرا) ؟
•    كيف قبل موسى بهكذا مهر مغالى فيه ؟
•    سنحيل القارئ الكريم بحث هذه الأسئلة في مصادرهما المعتبرة ونكرر منهج بحثنا الذي يعتمد إثارة الأسئلة التحفيزية والتنشيطية في الذهن أكثر منه تفسيرا للنص القرآني .. ولكن لا بأس من ذكر ما قاله العلماء:
•    إن البنت حيين تقدمت بعرضها استئجار موسى (ع) كانت تجهل شأنه .. كما إن النظام الاجتماعي الذي كان سائدا كان يقوم على تبادل المنافع وسنرى من خلال سير الأحداث   أن العرض الذي تقدمت به البنت لم يكن فيه أي حط من كرامة موسى (ع).
•    إن العقد الشرعي تم على أحدى البنتين بعد تحديدها وإحراز موافقتها وهي البنت الكبرى  التي جاءته تمشي عل استحياء والتي اقترحت استئجاره ..
•    يجوز أن يكون المهر على المنفعة المشروعة ومنها إجارة الزوج .
•    إن المهر قد حدد بثمان سنين وهو المهر المسمى أما السنتان فزيادة لموسى الخيار بالوفاء بهما  تفضلا وليس الزاما .
أما كيف ولماذا قبل موسى (ع) فهذا مانريد أن نقف عليه لأهميته :
النبي المرسل قبل أن يتشرف بحمل الرسالة من قبل المولى (عز وجل ) يمر بكثير من التجارب الحياتية التي تكسبه خبرة عملية  في مواجهة ما يستجد من أحداث قادمة .. إن موسى (ع) أدرك وبيقين أن تعرفه على نبي كريم بمكانة وقدر شعيب (ع) هي رسالة إلهية عليه قراءتها بتمعن .. ويستفيد من كل لحظة يقضيها مع هذا النبي الكريم  وان مسألة ارتباطهما بمصاهرة كان الإطار الخارجي الشكلي لعلاقة روحية ورسالية أقدس وأقوى وأكثر عمقا جمعتهما.. كان موسى بحاجة ماسة جدا لتلك السنوات العشر أفادت موسى في تهيئته نفسيا لتحمل رسالة شاقة تنتظره في قابل الأيام .. في السنوات العشر قدم شعيب (ع) لموسى خلاصة تجربته الحياتية والرسالية فكما مر بنا إن شعيب هو النبي الوحيد الذي أرسل في مهمتين رساليتين لأمتين  مختلفتين الأمر الذي أفاد موسى (ع) كثيرا في هذه المرحلة الحياتية ..ومن الناحية الروحانية العرفانية فإن شعيب الذي فقد بصره مرتين من فرط بكائه و وجده وذوبانه في حب مولاه الحق سبحانه .. قد هيأ لموسى جوا عرفانيا وروحيا ساعده على طي الكثير من المراحل في رحلة تكامله المعنوي ..

                                         ـ 10  ـ                           
((قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل))
كان في نية موسى الوفاء بعشر سنين وهي عادة الكرام ولكن موسى كعادته يهدينا درسا في الواقعية وعدم تكليف النفس ما لا تطيق والوفاء بما متعلق بالذمة ومسألة التفضل بالزيادة لا يؤاخذ المرء على عدم الإيفاء بها إن هو أدى ماعليه.. إن موسى (ع) الزم نفسه بما لا يلزمه شرعا..وإن كان ألزم نفسه ابتداءا لوجب عليه ..وهذا يقودنا الى التفكر فيما نفعله نحن ..نفعل العكس تماما نتعهد بعمل الكثير ولانفي الا باليسير .. والسر في ذلك أن أولياء الله تعالى يعرفون أنفسهم معرفة دقيقة بالقدر الذي يدركون قيمة العهد والوفاء به .. وهذا يلفت نظرنا الى قضية النذر ومشقة تكليف النفس وحجم الاستطاعة ..فلنتأمل ..
                                     ـ 11 ـ
((فلما قضى موسىالأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ))القصص: 29
    بعد انقضاء الأجل وبقاء موسى (عليه السلام) مدة عشر سنوات ..سار بأهله بعد أن ودعه شعيب (ع)  و أعطاه عصا الأنبياء المودعة لديه عصا نوح وإبراهيم (عليهم السلام )
وأهدى اليه عدد من الماشيةاصطحبها معهم .. متوجها وأهله الى مصر كان ذلك في فصل الشتاء وقيل إن زوجته كانت حاملا  .. صحراء موحشة وبرد قارص وليل شديد الظلمة ..من بعيد لاحت له نار استأنس بها وذهب يتقصى خبرها ويأتي منها بقطعة يتدفئون بها ..وحين أتاها موسى (ع) كانت المفاجأة والدهشة التي أخذت منه كل مأخذ .. لقد وجد نورا يتلألأ صفاءا  (قيل ) أن النار كانت تخرج من غصن أخضر تضيء وتزداد ألقا ونورا يبهر الأبصار .. فأخذ غصنا يابسا ليشعله فلما اقترب جاءته النار فرجع موسى (ع) فزعا ولكنه عاد ثانية فأتجهت اليه النار ثانية فرجع خائفا كرر ذلك ثلاث مرات .. فازدادت دهشته قبل تأتي أعظم لحظة في تاريخ الوجود البشري وفي حياة الكليم  تحديدا .. حين سمع النداء يأتي من كل أرجاء المكان ((فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين)) القصص30هنا كيف لنا أن نتصور ماحصل لموسى الإنسان بهواجسه البشرية وأحاسيسه برهبة الموقف وعظمته؟ كيف لنا أن نتخيل درجة التكامل المعنوي التي وصلت اليها روح الكليم حتى صارت محلا لأعظم تشريف ألهي ؟ كيف لنا ولموسى نفسه أن يصف تلك اللذة الروحية التي غمرت كل خلية في كيانه وهو يسمع النداء الإلهي ؟  موسى (ع) يستجمع كل قواه الذهنية والروحية لتلك اللحظات البالغة الرهبة والجلال ..
((إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى)) طه 12
لابد أن نقف عند العبارة المباركة (( فأخلع نعليك )) لما فيها من دلالات روحية ومعان عرفانية عميقة استنبطها أولي الألباب .. فكما أن وجود النعلين الماديين غير مناسب وغير لائق لوطء الأرض المقدسة كذلك النعلين المعنويين وهي المتعلقات الخارجية حتى المباحة منها فكان على الكليم أن يخلع مع النعلين في قدميه كل مافي قلبه سوى الله تعالى حتى وإن كان هذا الحب مباحا كحب الزوجة والولد عليه وهو يطأ الحرم الإلهي المقدس أن يأتي مجردا من همومه وهواجسه وميوله البشرية مهيأ روحيا وفكريا لتحمل أعباء الرسالة .. ولأن المهمة عظيمة و المسؤولية ثقيلة على كاهل موسى (ع) كان لابد له من إعداد نفسي إلهي فيقول له رب العزة والجلال لإزالة شيء من الرهبة اللذيذة  التي استولت على
موسى (ع) : ((وما تلك بيمينك يا موسى*قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى*قال ألقها يا موسى*فألقاها فإذا هي حية تسعى*قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى*واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى*لنريك من آياتنا الكبرى))طه: 17 – 23
    موسى بشخصيته الإيجابية المستثمر كل اللحظات المهمة فكيف بأعظم وأجل اللحظات التي يمكن أن يتصورها بشر .. وبعد أن زال عنه شيء من رهبة الموقف واستشعر حلاوته لم يكتفي بالرد على السؤال الإلهي غير الاستفهامي (بالطبع)  فيرد موسى بتفصيل يعلم يقينا أن لا داعي له ولكنه يغتنم الفرصة لأكبر قدر من الإطالة  للحظات الجلال والعظمة وهو بحضرة رب العزة فلا يكتفي بالإجابة على السؤال المحدد بل يعدد فوائد العصا التي لم يُسأل عنها ولكن السؤال الذي أدهش موسى (ع) كان مقدمة لحدث يأتي سيكون لتلك العصا دور كبير في حسم الصراع مع أعداءه .. فأمام طاغية كفرعون لا بد من أسباب مادية لهزيمته وسلاحا بيد الكليم المرسل ولكن ما علاقة تلك العصا البسيطة ذات الاستعمالات الحياتية المعتادة من التوكأ عليها .. والهش على الغنم وبقية الاستخدامات بهزيمة أكبر قوة على وجه الأرض ؟ هذا هو حجم الطغاة الحقيقي مهما تفرعنوا وطغوا وتجبروا.. عصا بسيطة يهش بها موسى (ع) على غنمه ويتوكأ عليها وله فيها مآرب أخرى ..بمشيئة الله تعالى و سّر يودع فيها تتحول الى آية كبرى تنخر عرش الظالمين .. ويصاب موسى الأنسان ذو الطبع البشري بالهلعيهرب من هول ما رأى فقد كانت مفاجأة ضخمة وهو خوف طبيعي لا يخل بشجاعة موسى المعروفة وهو خوف المفاجئة وعدم تخيل ما يحصل وسرعان ما زال هذا الخوف بمجرد إعطاءه الأمان وتكرار التجربة  ..
بعد هذه الآية كانت هناك آية كبرى أخرى هذه المرة تتعلق بيد موسى نفسه التي بمجرد أن يدخلها تحت أبطه تخرج بحالة نورانية تشع ضياءا من غير علة فيها ولا تؤذي الناظرين اليها ..

 بعد تلك الآيات الباهرات وتلك التجربة العملية  لسلاح موسى (ع) يأتي التكليف بالمهمة الصعبة  .... حقا هو يمتثل للأمر الإلهي بكل شرف وامتنان ولكنه يعرب عن مخاوف على الرسالة لا تتعلق به كشخص..
فموسى (ع)  طبقا للقوانين الوضعية يعتبر مرتكب لجريمتين  جريمةجنائية بقتله القبطي خطأّ  وسياسية بمعارضته النظام وتسفيه عبادته .. وهو المطلوب رقم واحد لدى السلطات فدخوله أرض مصر بهذه الصفة لا تمكنه من القيام بأداء رسالته لأنه سيقبض عليه بعذر قانوني ..
لذا وبفطنته  المعهودة  موسى  (ع) يلتمس أن يكون معه  هارون لأن موقفه سليما ولأنه يمتاز بصفة الحلم وحكمة التعامل مع القوم وفصيحا وأمينا ناصحا كلها صفات أهلّته ان يكون رفيقا في درب الرسالة الشاق والوصي وصاحب السر ..ولنلاحظ أمرا مهما ..
إن موسى (ع) قد طلب ذلك وهو لم يلتق بعد بهارون ولم يأخذ رأيه ،  لنعرف مدى العلاقة الروحية بين موسى وأخيه ومدى تفهم كلاهما للآخر وكأن الكليم حين يتحدث عن أخيه كأنه  يتحدث عن نفسه .. لقد احتاج موسى أخيه كقوة معنوية لتصديقه كما احتاجه عمليا في مهمة التبليغ .. وتبارك السماء هذا الرجاء والاختيار ويدخل موسى (ع) ارض مصر ليستقبله هارون الأخ والوصي بعد أن أعلمه الله تعالى بمهمته الرسالية القادمة ..
                                        ـ12 ـ
((اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري*اذهبا إلى فرعون إنه طغى*فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى*قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى*قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ))طه: 42 - 46
 مما يدعو للتفكر في الوصية الإلهية لموسى وهارون (عليهما السلام ) بشأن تعاملهما مع الرسالة والمرسل اليه :
•    عدم التهاون والحزم في تنفيذ الأمر وبذل أقصى جهد في تنفيذ المهام الرسالية .
•    ان الحزم  لا يتعارض مع قول الحق بطريقة مهذبة غير مستفزة للخصم وهناك فارق بين قول الحق ب(لين) واللين في قول الحق ..  بينهما فارق كبير كالفارق بين بين مهادنة المؤمن ومداهنة المنافق..
•    عن الطريقة المهذبة اللينة تحرج الأعداء وتغيضهم أكثر و تجعل موقفهم ضعيفا في رفض الحق .
•    إن الكلام العقلاني  المتزن والواضح يكون أكثر إقناعا وأقل أخطاءا من الأسلوب الحاد الانفعالي الذي قد يولد ردة فعل مماثلة في الحدة .
•    إن العدو وبحكم تملكه لوسائل البطش القانونية والمادية قد يجد مبررا لتصفية الداعية بحجة تطاوله ومساسه بالنظام العام فتقتل الدعوة بمهدها ..

                                    ـ   13  ـ    
فرعون الذي نسي أو تناسى – مؤقتا- أمر موسى .. بتظليل من أجهزته الأمنية التي توافيه بالمستجدات واستتباب الأمن بالسيطرة على الإسرائيليين وقمعهم .. وفي مفاجأة من العيار الثقيل  .. موسى (ع) يضرب بقدمه باب القصر بقوة قاهرة بعد أن يتجاوز الحرس الذي حاول منعه دون جدوى  .. وبحركة مباغتة يكون وجها لوجه أمام فرعون الطاغية .. هل يمكننا تصور ذلك ؟ مواطن من قومية مضطهدة متهم مطادر (خارج عن القانون ) يقتحم القصر ليدخل على رأس النظام والقائد العام بكل رمزيته الدينية كأله مزعوم ورمزيته السياسية كرئيس لأكبر إمبراطورية في العالم حينذاك ..ومعه أخيه ورفيقه أعزلين الا من ثقتهما ببارئهما وبوعده لهم بالنصر ..
ويصعق فرعون من هول الصدمة فهي المرة الأولى التي يدخل فيها أحد عليه دون إذنه ومما زاد من صدمته هو الطريقة المهينة التي دخل فيها موسى (ع) عليه ..لكنه تمالك نفسه .
((قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين*وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين*قال فعلتها إذا وأنا من الضالين*ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين*وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل))الشعراء: 18 - 22
موسى وهارون (عليهما السلام )يقفان بكل شموخ في موقف مهيب ..
فرعون ينظر باستعلاء أجوف لموسى ويقول له في محاولة للنيل من كرامته والمن عليه بتربيته صغيرا في قصره وذكرّه بقتل القبطي وفرار موسى معتبرا ذلك كفرا من موسى وخروجا على شريعة فرعون
.. لذا فإن موسى رد برد منطقي هادىء أخرس فرعون الذي أراد أن يستفز موسى ويخرجه من هدوءه..
يعترف موسى (ع) بكل شجاعة بحادثة القتل ويعلن مسؤوليته عنها ولكنه يقول أيضا انه فعلها غير قاصد للقتل بل لردع الظالم عن ظلمه .. ثم يجيب بنفس الثقة والهدوء على تخرص فرعون والمنّ على موسى بوجوده في قصره .. فيقول له وهل تعتبر اضطهادك لبني اسرائيل وقتل أولادهم واضطرار والدتي لإلقائي في البحر خوفا من بطشك ومن ثم وصولي الى قصرك تعتبر ذلك منّة عليّ أن عبّدت بني اسرائيل .. أمام هذا المنطق لم يجد الطاغية ما يقوله سوى الأمر بقتلهما .. وهو سلاح الطغاة بعد أن يعجزوا عن الرد .. ولكنه يفشل عن النيل منهما لأن الله معهما يسمع ويرى .
فلا يجد أمامه سوى السبيل الآخر الذي يخشاه ويعلم مسبقا بهزيمته فيه .. المنطق والبراهين والإستدلالات العقلية بحر لايجيد فرعون وملأه السباحة فيه لأن الباطل لا دليل ولا منطق له ..
لكن قبل ذلك فرعون يلجأ الى سلاح آخر .. سلاح يستخدمه الطغاة كثيرا وبفعالية أيضا بمساعدة شياطين الأنس من أعوانهم ..   
وقفة :
إنه سلاح السخرية والاستهزاء الذي لا يمكن الاستهانة به كسلاح وكثقافة اجتماعية منحطة .. وأخطر ما في السخرية علاوة على تدمير وتسفيه شخصية الآخر أنها تخلق جيل متمرد يريد أن يثبت ذاته وينجو من سخرية المجتمع المنحرف بالسير خلافا لما يؤمن به ليرضي مجتمعه الذي لن يرضى أبدا!! وتزداد خطورة هذا السلاح الدنيء حين يدعم بقوة مادية أو معنوية ..عندها تصبح تجارة رائجة بضاعتها كرامة الناس والبحث عن عيوبهم أو صناعة هذه العيوب عند عدم وجودها .. وبالأمس كانوا فراعنة الدهور وشعراء البلاط و دواوين الهجاء واليوم الإعلام والصحافة الساقطة التي تصنع الرأي العام وفق أهدافها فتتنوع الطبول الساخرة والهدف واحد هو النيل ممن فشلوا من النيل منه بالمواجهة .. ولكن رغم فعالية هذا السلاح يبقى سلاحا للتافهين السفهاء .
لكن أولياء الله تعالى الواثقين من خطاهم الناظرين الى هدفهم أولئك الذين جعلوا من رضا الباري (عزوجل) هدفا نهائيا لسيرهم يسيرون بخطى ثابتة غير عابئين بما يقوله الآخرون الذين أدمنوا السخرية حتى إذا لم يجدوا من يسخرون منه سخروا من أنفسهم !
  يلتفت فرعون بكل غطرسة وغرور لمن حوله من بطانة السوء ويقول بسخرية هل تسمعون ؟  وهي عبارة تقال استهزاءا وتحقيرا للقائل .. ويجعل من دعوة موسى لعبادة الواحد الأحد ضربا من الجنون وعبارة تدل على مدى الوقاحة والغرور الذي انطوت عليه شخصية فرعون
   اذ انه يأنف من ذكر (أرسل إلينا ) فيقول الذي ( أرسل اليكم ) ويتهم موسى بالجنون طبقا لقياسات العقل عند الطغاة والمنحرفين .. تلك التهمة التي لم يسلممنها أحد من الأنبياء والمصلحين .. موسى ومعه هارون يواجهون سخرية فرعون بكثير من الحلم والحكمة ..  ويعرض موسى (ع) مطلبه الأساس بعد أن وضح فحوى وجوهر رسالته .
((فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى))طه: 47
هنا  حري بنا أن نسأل: هل إن دعوة موسى (ع) لم تكن تشمل فرعون وحزبه حتى يطالب بإخراج بني اسرائيل فقط ؟ بديهي إن الجواب بالنفي ذلك إن موسى (ع) نبي مرسل  صاحب شريعة ومنهج ولا تحقق الدعوة أهدافها الا بالقضاء على أركان دولة الكفر التي ترهب الناس وتفتنهم ترغيبا وترهيبا ..إذن .. ماهوقصد نبي الله من وراء طلبه ن يرسل معه بني إسرائيل ..؟  ربما كان القصد هو الهدف القريب والقضية الملّحة والتي لا تحتمل التأجيل .. فهناك آلاف المضطهدين في سجون الطاغية الذين يعانون من أشد أنواع التنكيل والعذاب وهناك الأسر المحاصرة ..كان هذا يمثل هاجس موسى (ع) الأكثر والأقرب  في هذه المرحلة وهو هدف مشروع ومبرر.. وربما كان موسى (ع) يهدف لإنشاء القاعدة الشعبية لانطلاق دعوته باتجاه فرعون وقومه  ..
أي كان الهدف فإن فرعون يستمر بالإستخفاف بموسى كعادة الطغاة..
((قال فمن ربكما يا موسى*قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى*قال فما بال القرون الأولى*قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى))طه: 49 - 52
لقد أثار فرعون نقطة هامة تتردد في أذهان البسطاء ويستغلها المشككون بخبث وهي ماهو مصير أجيال البشر التي ماتت قبل ظهور النبي ؟ فطن موسى (ع) الى خطة فرعون في  إثارة مسائل تلتبس في الأذهان الهدف منها التشويش على جوهر دعوة موسى (ع).. لذا فإن نبي الله ذكرإجابة عامة تؤكد على حقيقة إيمانية وتوحيدية وعقائدية تتعلق بصفات الهية لرب حكيم عليم لا تشتبه عليه أعمال العباد وهو حافظ لتلك الأعمال لا يخفى عليه شيء منها ولا ينسى فهو خالق كل شيء وربه وبارئه وقد وجد (ع) الفرصة مواتية أن يذكر ما يدلل على تلك الخالقية والإحاطة والقدرة والرحمة ذاكرا أمثلة لأكثر الأشياء وجودا في حياتهم الأرض التي يستقرون فيها يسيرون عليها و ما ينبت على تلك الأرض من نبات وشجر وعشب .. في اشارة الى أن من يحط علما وقدرة ورحمة بكل ذرة في هذا الوجود كيف يضل وينسى سيد هذا الكون وهو الإنسان ..
   بعد هذه المناظرة التي أراد فرعون بغباءه أن يحرج موسى (عليه السلام) فانتهت بخزيه .. يكشف الطاغية عن وجهه الحقيقي الذي أراد إخفاءه.. لقد هدد نبي الله بالسجن مع بني إسرائيل .. ويظهر الكليم بينته الكبرى التي لم تكن في ظاهرها سوى عصا بسيطة من نبات الأرض .. بيد الكليم .. لا تلفت نظر الجميع ولكنها بعد لحظات قليلة ستتحول الى آية كبرى تدهش العقول .. انه السر الإلهي حين يودعه في الأشياء ..ليعلم كل ذي لب أن لا خصوصية لشيء في ذاته عظم أو صغر ولا شأن ولا حجم ولا أهمية لإنسان الا بالسر المودع فيه من قادر حكيم لطيف لما يشاء .. لقد رأى  فرعون العصا وهي تتحول الى ثعبان عظيم انخلعت له القلوب فزعا وهاج مجلس الطاغية ..وحسبوا ان هذا كل شيء وقبل ان يتكلم فرعون الذي لازال يرتجف من هول ما رأى يحاول أن يستعيد هيبته الفارغة وبعد أن عادت العصا قطعة خشبية بيد موسى (ع) .. يخرج نبي الله يده من جيبه ليرى الجميع ذلك المنظر المبهر العجيب لقد كانت اليد تشع بريقا وضياءا  نورا يأخذ بالقلوب قبل الأبصار ..
ويذهل الناس وتهتز أركان الدولة الحديدية .. ويحس فرعون إنه أهين على الملأ .. و خاف أن يفلت زمام الأمور من يده .. ولأن الفن السائد في ذلك الوقت هو السحر .. لذا فقد وجد فرعون التهمة جاهزة إنه لساحر .. لقد أراد فرعون أن يستفز حمية القوم ويستثير نعراتهم القومية .. أراد أن يخلط الأوراق ويخرج دعوة موسى (ع) من إطارها الشرعي الإنساني الى دعوة قومية ضيقة وهذه هي إحدى وسائل الطغاة لتظليل الرأي العام وتوجيهه بالاتجاه الذي يرغبون .. وهم يلجئون الى ذلك حين يجدوا أنفسهم محاصرين ..


   أصوات للحق في معسكر الباطل

1. السحرة ( التوبة الصادقة):

      تشير بطانة السوء على فرعون  بأن يستعينبالسحرةخصوصا أن بلاد مصر كانت  تزخر بأفضل السحرة في عالم ذلك الزمان ..فجمع السحرة و (يقال ) أن عددهم قد قارب مائة ألف ساحر الذين وجدوا الفرصة ذهبية لأظهار مهاراتهم والفوز برضا طاغيتهم .. كان فرعون يدرك خطورة الموقف لذا فإنه وعد السحرة بأكبر الهدايا المعنوية وهي القرب منه وما يتبع ذلك من مزايا كبيرة ..
هيأ  فرعون مسرحا احتفاليا كما كان يتمنى  ..فوجه دعوة عامة للشعب .. الذي كان على استعداد دائما لتلبية الدعوة طوعا أو كرها ..
((فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى))طه: 58
وبفطنة وذكاء يختار موسى أحد الأعياد القومية حيث يجتمع فيه الناس من كل مكان في المملكة ويختار الوقت ضحى وهو الوقت الأنسب لتجمع الناس حيث يستطيع  القادم من مكان بعيد  أن يلتحق بالجمع الجماهيري و العودة بعد ذلك  ..((قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى )) طه: 59وحين حان الموعد وبدت الحشود تتوافد ..
((فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى))طه: 60
   بدأ موسى (ع) المعركة بسلاح معنوي كان له الوقع الأكبر في نفوس السحرة
((قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى)) طه 61 وأوقعت هذه الكلمات تأثيرا في تخلخلجبهة السحرة وكانت البداية لتوبة بعضهم كما سنرى ..
((فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى))طه 62كان كلاما لم يسمعوه من قبل فالدعاية الفرعونية أظهرت موسى ساحر كغيره من السحرة  لكن بعد سماع كلامه وتحذيره لهم بدا لهم الأمر مختلف فتنازع البعض ممن لازالوا محتفظين ببقايا عقولهم مع السائرين في ركب الطاغية عما يقوله موسى الذي لا يشبه كلام السحرة في شيء  .. ( من تلك المنازعة ابتدأت دعوة الحق تتسرب الى نفوس السحرة دون أن يشعروا ) إن مجرد وقوع التنازع يعني أن تخلخلا في جدار العدو قد حصل وهو ما سعىإليهموسى (ع) بحكمته  .. لكن أبواق النظام والذين ربطوا مصيرهم به بقاءا وزوالا أخذت تردد ذات الشعارات الخائبة للتشويش على ما جاء على لسان الكليم ..
((قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى*فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى)) طه: 63 - 64
لقد أشار فرعون وملأه الى مغالطة والىحقيقة  أما المغالطة فهي في جعل الانحراف والشذوذ طريقة مثلى وقانون أصلح وإن تغييره هو جريمة كبرى .. لقد أصبحت عبادة البشر والحجر واستعباد الناس وإرهابهم ونهب خيراتهم والحط من كرامتهم طريقة مثلى والدعوة الى الله وتحرير الإنسان و الحفاظ على عزته وكرامته دعوة تجب محاربتها لأنها غير مثلى !! أما الحقيقة التي ذكروها فهي ((وقد أفلح اليوم من استعلى)) حقا كان ذلك .. لقد استعلى موسى وهارون وكانوا هم المفلحين..

      بعد انتصار موسى وهارون في موقعة يوم الزينة وانقلاب السحر على الساحر ..حدث انهيار مفاجئ ومؤثر في أركان الدولة الفرعونية .. لقد كانت كارثة حقيقية وفضيحة رسمية للنظام ..  وانعطافةهامة للغاية في مسيرة الدعوة الموسوية المباركة ومما زاد فداحة الهزيمة  إعلان السحرة توبتهم   فالسحرة في ذلك الوقت كانوا يشكلون طبقة اجتماعية مرموقة .. مصدر العلم والمعلومة والطب أيضا ..وكان فرعون يعول عليهم كثيرا في حسم المعركة مع موسى (ع) لذا كان غضب الطاغية عليهم عنيفا يتناسب وحجم ذلك التعويل  .
لكن  :
•    ما الذي جعل فئة تحترف السحر والشعبذة أن تتوب وبتلك السرعة المذهلة ؟
•    كيف وصلوا لتلك الدرجة من التوحيد والتسليم والثقة بالله تعالى ؟
•    ما هو التفسير الذي تتقبله عقولنا لتحول الأنسان في لحظة من قاع الخطيئة الى قمة الفضيلة ؟ كيف تتم تلك النقلة النوعية المميزة والخاطفة ؟
•    *   كيف انتقل السحرة من انحطاط درجة الاستعانة بعزة فرعون ((افألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون))لشعراء: 44 الى سمو درجة اللجوء المطلق الى الله تعالى  ((قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون))الشعراء: 50 ؟؟
•    هل كانت هناك مقدمات لتلك التوبة النموذجية والتي لا نجدها الا نادرا في التاريخ  ؟  ماذا قصد السحرة ((إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين))الشعراء: 51 فهم ليسوا بأول من آمن بموسى ؟ ثم لماذا قالوا ((قالوا آمنا برب العالمين*رب موسى وهارون))الأعراف: 121 – 122لماذا لم يكتفوا بذكر (رب العالمين) ما هو المغزى من ذكر (رب موسى وهارون) ؟
•    ما  يقصدون بإكراههم على السحر ((إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى))طه: 73ماهو وجه إكراه  فرعون لهم وهم من اشترطوا الأجر إن كانوا الغالبين ؟
لماذا أتهمهم فرعون بالتخطيط لانقلابهم العقائدي المباغت والتواطؤ مع موسى (ع) ؟


تلك الأسئلة التي أثارها أهل التفكر و أسئلة أخرى تنقدح في الذهن من موقف السحرة المثير .. سنحاول أن  نقف عليها :
•    إن السحرة هم أهل احتراف وصنعة ويعلمون دقائق حرفتهم يميزون بين السحر والمعجزة لذا فإنهم جاءهم  موسى (ع) بمعجزته وجدوا ما لا يتفق مع فنون السحر إن آية موسى (ع) لا تقوم على خدع بصرية وإيهام للعقول كما هو شأن سحرهم.
•    بالنسبة لتوبة السحرة فقد ذكرنا أنها بدأت لحظة وقوع التنازع بينهم (كما أشرنا) فنجواهم كانت نجوى أهل علم ودراية .. والله أعلم بما دار بينهم .
•    إن لحظة الانقلاب والتحول من معسكر الضلال الى الهدى و إن بدا مفاجأ وآنيا .. لكنه في الحقيقة ينطوي على مقدمات نفسية كثيرة وتراكمات يقينية تدرجية هواجس ـ شكوك ـ ظنون ـ ومن ثم قناعات فيقين .. قد تحصل النتيجة بلحظة زمنية إلا إن مقدماتها تسبقها بمدة تطول أو تقصر .. لقد عاش السحرة صراعات نفسية حادة سبقت إعلان توبتهم ..
•    لقد ذكروا إيمانهم برب العالمين وخصصوا رب موسى وهارون كي لا يلبس فرعون على الناس من جديد إذ إنه كان يسمي نفسه بغرور رب العالمين !!..
•    ربما الإكراه الذي كانوا يقصدونه هو الإكراه المعنوي لا المادي  وعدم تمكنهم من الرفض 
فربما جاءوا بإرادتهم ولكنهم بعد النجوى وتنازع الأمر بينهم أرادوا التراجع ولكن فرعون وملأه أكرهوهم على عدم التراجع .. ولا يتعارض طلب الأجر مع الإكراه ..
•    *إن موقفا كهذا أمام شعبه لابد للطاغية أن يبرره .. لا بد أن يقول إن تلك مؤامرة أعدت مسبقا وان الأمر ليس تلقائيا .. انها خيانة وغدر ..هكذا هم الطغاة في كل زمان .. لا شيء عندهم يسمى إرادة إنسانية وطريق مغاير لطريقهم الذي رسموه للناس فهو ربهم الأعلى ..وصاحب نظرية (ما أريكم الا ما أرى ) ..( طريقتكم المثلى) ..  فكيف لهؤلاء المواطنين العبيد أن يروا غير ما يرى ؟ كيف يؤمنوا قبل أن يأذن لهم .. وهو أمر يثير السخرية .. وكيف يأذن رب بعبادة غيره ؟

بقي أن نذكر أن العبارة المباركة (( وألقي السحرة ساجدين )) هو تصوير لكيفية السجود فتعبير ألقي المبني للمجهول يوحي بأن قوة خفية عظيمة قد جذبت السحرة دون إرادة منهم أو اختيار .. لا ندري بالضبط مالذي تبين للسحرة ربما انكشف لهم غطاء الحقيقة فرأوا ما لا يراه غيرهم ربما تدخلت العناية الإلهية لتقام الحجة على فرعون وملأه.. وتعلن انتصار موسى وهارون في معركة مفصلية هامة في تاريخ الدعوة الى الله تعالى ..
    الشهادة وحسن العاقبة :                                          
فرعون الذي استبد به الغضب ..وبعد أن يأمربقتل السحرة التائبين بطريقة بشعة تتناسب مع ظلمه وتجبره .. يعود الى قصره مخزيا مهانا منكسرا.. لقد أّذل بطريقة علنية وتبددت تلك الهالة التي أحاط نفسه بها من العزة والمنعة الفارغة .. فهو اليوم مجرد طاغية مهزوم عاجز عن مواجهة موسى وهارون الأعزلين الا من إيمانهما بالقوي المقتدر ومعها عصا... عصا الهداية والنجاة  لمن آمن وعصا الخزي والمهانة لمن طغى وتجبر .. العصا التي شلّت الإمبراطورية الحديدية بكل كيانها ومؤسساتها القمعية ..
2. ماشطة بنت فرعون :
ماحدث من أمر السحرة ليس كل شيء لما كان ينتظر فرعون ....ففي قصره هناك حدث هام ينتظره .. فذات يوم وفيما كانت ماشطة ابنته تقوم بعملها اذ سقط المشط من يدها فذكرت الله تعالى فنقلت البنت الخبر لأبيها الذي تعامل مع الأمر بغباء كعادة الطغاة فيقدم على عمل ينبأ عن موجة الغضب والإحساس بالهزيمة التي يعيشها فينتقم من تلك المرأة المؤمنة الصابرة أشد وأبشع انتقام بنحو يذكره المؤرخون ليس منها فحسب بل من أولادها جميعا حتى رضيعها الصغير لتكون أول شهيدة في معسكر الإيمان معلنة هزيمة أخرى لفرعون الذي بات يشعر بموسى يقترب منه شيئا فشيئا ..
3. آسية المؤمنة الشهيدة :
((وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين))التحريم: 11
       لم تنته المفاجآت غير السارة لفرعون بعد في قصره .. هذه المرة في اقرب الناس اليه أو يفترض كذلك  .. ولكن الجبابرة لايعرفون قريبا غير عروشهم الصامتة كمشاعرهم ..انها آسية تلك المرأة الصالحة التي كان قدرها أن تكون زوجا لمجرم مثل فرعون ..آسية صاحبة القلب الكبير الذي رق لموسى صغيرا وغمره بفيض حنانه يافعا وآمن به رسولا .. آسية التي وضعت حياتها على كف الموت أكثر من مرة وهي تفتدي موسى (ع) ..كان شيئا عميقا يشدها اليه ليس عطفا او محبة أوسلوى كان شعورا بالإجلال يجتاحها كلما نظرت لهذا الفتى الإسرائيلي المبارك .. حين خرج من القصر ظل قلبها يخفق  خوفا عليه ..ودعاءا له .. وظلت تنتظر عودته وحين سمعت بدخوله على فرعون وما جرى له مع الطاغية غمرتها الفرحة وآمنت من أعماقها بدعوته ولكنها كتمت ذلك الإيمان خوفا من بطش فرعون .. لكن عندما سمعت بأمر الماشطة وصغارها  والطريقة الوحشية التي قتلت بها وبأمر وإشراف مباشر من زوجها .. ثارت بوجهه متوعدة بانتقام العزيز الجبار الذي يمهل الظالمين ولا يخرجون عن قدرته ..فعرف الطاغية بإيمانها هي الأخرى بدعوة موسى وهارون .. فجن جنونه .. و عذبها عذابا مؤلما وفضيعا ..
فتوجهت بقلب ملأ إيمانا بدعاء عظيم ضمنته ثلاثة أشياء لها دلالات عقائدية عميقة الأثر ((رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)) فهي طلبت أن يبني لها ربها الكريم عنده بيتا في الجنة فقدمت الجار على الدار ..وطلبت أن ينجيها ربها الرحيم من فرعون شخصا بكل انحرافه وكفره وطغيانه ومن عمله الظالم وفعله السيء وحربه لله ورسوله ومن القوم الظالمين من مجتمع فاسق أعان الظالم ورضي بظلمه ..
أما فرعون فإنه وبكل وحشية وجبروت يأمر بالاستمرار بتعذيبها حتى الموت .. ناسيا ومتناسيا  من تكون ؟ نسي أنها زوجته ورفيقة دربه.. نسي كل شيء وتذكر أمر واحد .. أن خطر موسى (ع)  قد أقترب منه أكثر .. وأن عرشه بدأ يهتز .. وأن عدد الكافرين به بدأ يزداد ..وإن مبادىء : أنا ربكم الأعلى ..وما أريكم الا ماأرى..وطريقتكم المثلى .. قد ذهبت أدراج الريح وأن الجدار الحديدي قد بدأ بالانهيار وأن رب السذج والهمج الرعاع بدأ يخاف ولا يستطيع مسك زمام أهل بيته وخاصته .. لقد أنتقم من آسية المؤمنة الطاهرة سيدة نساء عالمها أبشع انتقام عندما ربطها لأوتاد ثم دق مسامير ضخمة في جسدها ولم يكتف بذلك بل أمر أن تلقى عليها صخرة كبيرة تحيلها الى بقايا .. إنها شهوة الانتقام المجنون ..شهوة الشذوذ والعجز وعقدة الخيبة والخسران والرجولة المفقودة عند الطغاة .. وفيما كان الطاغية يمني نفسه بصرخات الألم والاستغاثة من آسية يفاجأ الجميع هو و زمرته والجماهير البلهاء ..بتلك الابتسامة ترتسم على محيا الشهيدة السعيدة .. لقد رأت ذلك البيت التي سألته في الجنة بجوار مليك مقتدر  .. ابتسامة لا يدرك معناها الا من ذاق شهد العذاب في سبيل الله سعادة لا يعرفها الا من سبحت روحه في فضاءات العشق مقتربة من عالم النور ..لقد كانت تلك الابتسامة تقتل فرعون ألف قتلة ممرغة أنفه وتكبره في الحضيض ..لتنتصر الصرخة على الجلاد .. وتدق مسمارا آخر في نعش الاستكبار والكفر ..

4. رجل مؤمن يكتم إيمانه : ـ
   يجتمع فرعون بأركان دولته .. الذين لم يكونواسوى أحجار ودمى وصدى يردد صوته وأبواق للتمجيد المنافق .. وفي كل زمان يجد الطغاة تلك النكرات التي تصنعهم ويصنعوها .. تلك الطبقة الطفيلية التي تعتاش على النتانة والخفافيش التي تعيش في الضلام ..لكن حين يقترب الخطر و علامات الهزيمة تلوح في الأفق .. يبدأ الهمس لإسماع الطاغية أصواتا غير صوته والطاغية بدوره يتذكر الديمقراطية فجأة و ربما تهربا من المسؤولية.. يسمح بسماع الصوت الآخر ولو كان خافتا ولو كان خجولا أو منافقا .. فإن انجلى ذلك الخطر عاد طاغية مستبدا لا يريد سماع الا صوته وعاد الأذناب يلوذون بنفاقهم وتزلفهم ..بهذه الملامح للرأس والذنب وتبادل الأدوار وأمام خطر موسى الذي يدنوا منهم ..
((وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد))غافر: 26
    من خلال التغير الكبير في الخطاب الفرعوني يتضح تماما مدى الأنهيار المعنوي الذي وصل اليه من نصّب نفسه ربا يعبد .. النزول من موقع أنا ربكم الأعلى الى (ذروني أقتل موسى )..إنه الاستخفاف بالعقل حين يصل قمة مستوياته .. فكيف لرب أن يستأذن عبيده في ما يشاء أو يفعل ؟ولماذا يخاف فرعون ؟ وعلى من يخاف ؟ وما هو تعريف الفساد عند فرعون ؟ وحين يسمع الملأ ذلك يشجعهم الموقف أن يرددوا بطريقة ببغاوية خطاب سيدهم ولكنهم يذكروا أمرا ماكانوا يجرؤن على قوله سابقا..واقترحواعليه أن يشن حملة تصفية على بني إسرائيل بقتل أبناءهم وسبي نساءهم متباهين بقوتهم المادية ..
لقد قالوا ذلك بطريقة انفعالية بعيدة عن النصح ومشكلة الطغاة انهم نادرا ما يستعملون بطانة من العقلاء الناصحين لإن هؤلاء لا يوافقوا رغباتهم ونزواتهم ويحتكموا الى العقل الذي يريد تغييبه المستبدون ..لكن الباري (عز وجل) يريد إقامة الحجة على الطغاة ..
((وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يكصادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)) غافر: 28
إنه مؤمن آل فرعون يقال إنه كان قريبا لفرعون وأحد المسؤلين الكبار في القصر وقد آمن بدعوة موسى (ع) سرا وظل يكتم إيمانه حتى وصل لحظة توجب عليه الإفصاح عن معتقده .. وقد كان من الناصحين لفرعون وقد لمس فرعون ذلك منه لذا لم يتخذ إجراء ضده.. لقد قال لهم بعقلانية ماهي الجريمة التي يرتكبها رجل يدعو الى الله   ويسود الصمت لبرهة ..  إن الذي يتحدث هو خازن القصر المقرب من فرعون بأمانته وحسن إدارته واستقامته .. وتستولي الدهشة على الوجوه إنه خطاب لم يألفوه .. منطق يخاطب العقول المعطلة فيقول لهم بأي جرم تقتلون الرجل ..بإيمانه بالله وهو أمر لا يجرمه القانون أم بدعوته الى الله وهي دعوة إن يكن صادقا فيها يصيبكم الخير منها بقدر إيمانكم وان يكن كاذبا فإنه سيخسر فالله تعالى سيخزي المدعي الكاذب ..فرعون الذي يخرسه الحق يتمعن في وجوه القوم التي ارتسمت عليها علامات القبول بمنطق الخازن المؤمن .. لكنه سرعان ما يغلبه طبعه المتجبر وغطرسته فيرفض هذا المنطق الذي يعتبره إهانة له ونيلا من هيبته الفارغة ....وسط تعالي الصيحات البلهاء المنافقة للقضاء على موسى (ع)  ..
ان وجود المؤمن في وسط كافر حجة على كل من يقول بقاهرية الظرف وجبريته.. لقد كان مؤمن آل فرعون من وسط السلطة والقصر .. حيث الوجاهة والامتيازات والعز والعيش الرغيد و ماكان كل هذا ليمنعه من قبول الحق والإيمان به ..والدفاع عنه ..
                                      ـ   14   ـ

شخصيات منحرفة في معسكر الحق
((إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين *وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين*قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون*فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم*وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون*فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين*وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون*تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين))القصص: 76 -83

مثلما ظهرت شخصيات مؤمنة في وسط اجواء الكفر .. تظهر حالة مناقضة تماما في أجواء الإيمان .. فهناك ثلاث نماذج ظهرت بوضوح على مسرح الأحداث لقصة سيدنا موسى(ع) المليء بالإثارة ..
1. قارون .. وفتنة المال
قارون كان أحد المحسوبين على معسكر الإيمان بل من أقرباء موسى (ع) ويقال أنه كان يقرأ لموسى (ع) وكان صاحب علم في الكيمياء والسحر وإنه استعمل ذلك العلم في تكوين ثروة هائلة طغى فيها وتجبر على بني إسرائيل وشرب حد الثمالة من كأس غروره وغيّه ..
يرى بعض المفسرين  إن قارون لم يكن يؤمن بدعوة موسى حقيقة وكان كغيره من المنافقين تظاهر بالإيمان حتى إذا حصل على الدنيا وزخرفها أو شيء من فتاتها الزائل رغب بما سواها .. وربما كان فعلا على دين موسى وانحرف بعدما غرته الدنيا مهما كان شأنه في النهاية فقد هوى في مستنقع الضلال  ما يهمنا النموذج البشري الذي يمثله فشخصية قارون شخصية حاضرة بكل زمان ومكان وهي شخصية مثلت الحد الأعلى لغرور وتيه وغباء الإنسان حين يجعل الهوى متحكما فيه ويسلّمه مقود شخصيته ..
      لكن السؤال هنا ..ما الذي كان قارون تابعا لفرعون وقد امتلك ثروته الخرافية تلك ؟ وهذا السؤال يقودنا لسؤال آخر .. ربما يصلح لأن يكون جوابا للسؤال الذي تقدم : هل الامتيازات المادية  وحدها ما تغري النفوس المريضة للتزلف للسلطان وخدمته ؟ الظاهر أن حب الجاه والأضواء حب لايقل شدة وعنفوانا عن حب المال إن لم يكن يزيد عليه وكثيرا ما سمعنا بأناس يلمعون أحذية السلاطين مجانا أو بأجر حقير ..و يبدو أن المسألة تتعلق بعقدة نقص وإحساس بالدونية لدى بعض النفوس ترى في وجودها تحت مظلة السلطان كفيلة بسد تلك العقدة المستحكمة .. مما يشجع  الفئة المتسلطة مخدوعة بولائها الكاذب  فغالبا مايكون ولاء تلك الفئة الطفيلية  لنفسها وحبا  بالوجاهة الكاذبة المنافقة التي يضفيها المجتمع الذي يصفق لكل من صعد على خشبة المسرح وإن كان بداخله يحتقره ويشتمه ...
لقد فتن القوم بقارون وأمواله  ..والأخطر من ذلك أنهم فتنوا بمنهجه ومنطقة .. وإفساد عقيدة الإسرائيليين التي لم تثبت بعد في القلوب ..ويتمادى قارون بغيّه .. وتظهر قبائح نفسه شيئا فشيئا فلا يكتفي بفسقه وضلاله وانحرافه بل يقدم على خطوة دنيئة مع موسى النبي الذي أغلظ عليه القول وحذره من انتقام الجبار فحاول اغتيال نبي الله  معنويا بتشويه سمعته وإلصاق تهمة الزنا به مع بغي بعد أن أغراها بالمال لكن الخطة فشلت وكانت المرأة أكثر شرفا من قارون حين فضحت المؤامرة الدنيئة وأنها كانت مكيدة للنيل من سمعة موسى (عليه السلام) ..

ويمكن ذكر النقاط التالية في قضية قارون  :
•    إن الإسلام لا يحارب الثروة التي تكون جسرا للآخرة بأعمال الخير وإشباع الحاجات المشروعة للفرد والمجتمع وإنشاء القوة الاقتصادية للبلد .. لا يحارب الثروة التي يبتغي بها الإنسان الدار الآخرة بل يحارب عبادة الثروة وتنميتها بطرق غير مشروعة على حساب القيم والعلاقات الإنسانية يحارب الثروة التي تجمع من عرق المستضعفين وكرامة الفقراء لتمتلئ بها جيوب المترفين والمسرفين .. يحارب الثروة التي يفتتن بها عباد الله وتحاصر البسطاء .
•    إن الانبهار  بزخرف الدنيا ومظاهرها هو شعور يصاحب النفوس التي تريد الحياة الدنيا وتطمئن لها وتجعلها الغاية وتجعل الحظ مرهون بقدر الحصول على أكبرقدر من زينتها ..
•    إن أهل العلم وحدهم من يعلم حقيقة هذه الدنيا والحكمة من الابتلاء بزينتها وزخرفها لأنهم أدركوا بعين البصيرة أن ثواب الله تعالى خير وأعظم وأجل وأسمى وأزكى وأنمى وأوفى لكن ذلك الجزاء لا يناله الذين خدعوا والذين تمنوا بل أولئك الصابرون الموقنون الذين عرفوا الدنيا وحقيقتها ..
•    الإنسان ليس مستقلا ولا قادرا على إنشاء ثروته بجهود ذاتية ومسألة توفيقه في ذلك لا يعني أي خصوصية له أو قيمة استثنائية تميزه عن غيره من البشر ففي النهاية هو وكيل غير أصيل وهو مؤتمن وليس صاحب الأمانة ..
•    إن الذين يتأرجحون بين حب الدنيا وزخرفها وبين الدين وظاهره والبحث عن رخصه ومستحباته أولئك الأكثر تعاطفا مع أهل الدنيا وعبيدها ولكن هذا التعاطف سرعان ما ينقلب لشماتة بهم حين يتعرضون لغضب الجبار ..ويخافون على أنفسهم وإن كان حب الدنيا لم يخرج من قلوبهم ..
•    إن إرادة العلو في الأرض فضلا عن العلو والاستكبار من أحد الأسباب الموجبة للحرمان من القرب الإلهي  وعلى من يريد  الدار الآخرة عليه أن يتخلى عن التكبر والعلو ولو على مستوى الإرادة والتمني ..
..
2. بلعم بن باعوراء و فتنة العلم
((واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين*ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون))الأعراف: 175 - 176

يروى أن بلعم بن باعوراء كان محسوبا على صف العلماء من بني إسرائيل .. و قد علمه نبي الله الكثير من العلوم وكان واسع الاستيعاب والفهم وكان الكثير من البسطاء يفتنون بالدرجة العلمية التي وصل اليها ..  (يقال) أن دعاءه كان مستجابا لقد كان ساقطا في فتنة العلم وخدعته نفسه وشيطانه هنا نفتح قوسا لأهل العرفان والسلوك نقول فيه (ان معرفة النفس من أصعب وأنبل وأعز أنواع المعارف فهي التي تقود لمعرفة الحق (سبحانه وتعالى) .. في مرحلة ما فإن تلك النفس تخادع صاحبها تطول تلك المخادعة أو تقصر حتى يصل النقطة يظن أنه عرف نفسه فتعرض له فتنة تزله عن الطريق وينتكس وربما ينحرف إلى الطريق المعاكس تماما وأغلب الذين ضلوا هم بالحقيقة قد  فشلوا في امتحان معرفة أنفسهم  ..وإذا كان سوء الظن منهي عنه فإنه ليس كذلك مع النفس بل ومطلوبا أن تسيء الظن بها..ويبقى الإنسان في جهد وجهاد ومجاهدة مع نفسه حتى آخر لحظات حياته لا يثق بها ولا يطمئن )..
لقد كان بلعم بن باعوراء لا يعرف نفسه ..لقد أغراه فرعون بالمال وأتبع المال شهوات ومتع زائلة ثم غرق في الدنيا التي طالما ذمها وحذر منها الإسرائيليين وهو يلقي المواعظ الموسوية عليهم ..انغمس في هواه حتى أذنيه ..و كان ضلاله وانحرافه فتنة كبيرة ولكنها درس عظيم للمؤمنين ..لقد اتبع هواه وانحرف وباع دينه بثمن بخس وكان فيه من الزاهدين .. ولقد استخدمه فرعون كورقة ضغط معنوية على بني إسرائيل ..
وفي يوم ما وبحركة غبية تثير السخرية يطلب فرعون من بلعم المرتد أن يدعو على موسى (ع)  ومن معه كونه مجاب الدعوة ..ويرفض في البداية فهو وان صار ضالا ولكنه يبقى عالما .. يعلم بان موسى مرسل مصدق فكيف يدعو عليه وهو الضال الظالم لنفسه ؟ ويصر على رفضه ليس إيمانا وتقوى بل عجز واعتراف .. ولكنه في النهاية يقدم على المهمة الانتحارية بعد أن تنجح زوجته ذات الهوى الفرعوني في اقناعه بذلك !! ويأتي جبلا ليدعوا وكلما أراد أن يدعو على موسى أصبح دعاءا له وكلما أراد أن يدعو لفرعون كان عليه في آية كبرى لإرادة الله تعالى ..  فيقول هذا المنحرف للقوم لقد أردت وأراد الله ومايكون الا ماأراد الله فيدلع لسانه حتى يتدلى على صدره خاسرا دنياه وآخرته ..
يمكننا تدبر بعض الدروس المستفادة في فتنة بلعم بن باعورا :
•    إن النفس البشرية لا يمكن استقصاء أسرارها والوقوف على مكنوناتها حتى من قبل صاحبها فأحيانا يفشل الإنسان على التعرف على نفسه طيلة حياته وأحيانا يبحث عنها بتخبط وأحيانا تخادعه من حيث لا يشعر ..فيطمئن لها وفي ذلك هلاكه ..
•    إن العلم ليس غاية بحد ذاته .. بل هو وسيلة لإستحصال المعارف لبناء الأنسان روحيا وعقائديا.. والعلم الذي لا يهذب النفس ويؤدبها ولا يردع أهواءها هو حجة على صاحبه وليس ميزة له وامتياز ..
•    إن ظهور بعض الكرامات في أثناء طريق بناء الذات وتزكيتها لا يعني وصول الإنسان لبر الأمان وظهور هذه  الكرامة أوتلك قد تكون مؤشرا ودلاله أن الإنسان يسير في الاتجاه الصحيح ولكن العبرة بنهاية الطريق والثبات عليه ..
•    إن المشيئة الإلهية قادرة على سلب الاختيار من الإنسان وإكراهه على السير في طريق الحق ولكن ذلك يعني عبثية  الثواب والعقاب فالباري عز وجل يريد من الإنسان باختياره وحريته ان يسلك ذلك الطريق الموصل اليه (سبحانه)وهنا تكمن فلسفة الوجود الإنساني على هذه الارض .
•    إن عدم سمو الإنسان بنفسه نحو المعالي وتخليه عن القيم المعنوية سيؤدي الى الإخلاد الى الأرض بكل ما تمثله من قيم هابطة .. منحطّة.. و متسافلة.. والعلم بحد ذاته لا يكون عاصما للإنسان مالم يترجم الى عمل ومراقبة للنفس وتزكية ..
•    إن السعي وراء الدنيا وزخرفها وسرابها المغري لا يؤدي الا لمزيد من الشقاء لذلك الساعي المغرور فهو في عناء دائم مثله كمثل الكلب المسعور الذي يخرج لسانه لاهثا لا يعرف ظمأه من إرتوائه..كذلك طالب الدنيا لا تعرف شبعه منها من حاجته اليها ..
                                
                                         ـ 15ـ
نعود الى فرعون الذي يقرر إعلان الحرب على بني إسرائيل .. يأمر بتنفيذ مقررات مؤتمر الحرب الذي عقده مع أركان دولته ..فيزج الإسرائيليين في سجونه التي اكتضت بهم .. وكالمعتاد فإنه يقوم بخطوة غبية.. وإن كانت مقصوده هذه المرة حيث أراد أن يقوم بعملية إلهاء للرأي العام الذي شغل بدعوة موسى (ع) وتعاظمها وإيمان السحرة فأراد تشغيل اليد العاملة وإحداث حركة اقتصادية ينشغل بها الناس ولو مؤقتا هذا من جهة ومن جهة أخرى أراد استعراض قوته التي شك الشعب بفاعليتها..
((وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين))القصص: 38
فرعون الجاهل المستبد يقول  لهامان  وزيره  وأحد أبرز الشخصيات المؤثرة  في معسكره .. و أحد أضلاع مثلث الطغيان .. ( ففي حين كان قارون يمثل امبراطورية المال وبلعم يمثل العلم المسخر للسلطة الغاشمة كان هامان يمثل القوة وحسن قيادة العمليات العسكرية ) ..وبهذا المثلث ـ القوة والعلم والمال ـ تجمعت لدى فرعون  كل عوامل النصر المادية وأضفى صفة القدسية وإدعاء الربوبية كعامل معنوي مهيمن على النفوس .. يأمر  هامان أن يبني له صرحا شاهقا لينظر إلى اله موسى و الحق اننا لا يمكننا تخيل ما عليه الطغاة من  السذاجة و التيه والغرور الذي أعمى عقولهم فهل كان فرعون يعني أو يعي ما يقول  أم كان يسخر من إدعاء موسى (عليه السلام )
وبالفعل يقوم هامان ببناء برج عملاق شاهق هو قمة ما وصل اليه العمران في ذلك الوقت يقوم ببناءه عشرات الآلاف من العمال لتحقيق نزوة وفكرة بلهاء لفرعون !!
لكن السؤال هنا : كيف خطرت هذه الفكرةلفرعون ؟ لماذا ظن  بوجود اله موسى في السماء .. مع إن موسى (ع) في كل خطاباته لفرعون كان يوضح حقائق توحيدية وخلق الوجود وأن الله لا يحده مكان وهو في الأرض إله وفي السماء إله فمن أين استوحى فرعون هذه الفكرة والتي لم يدعها الطرف المقابل ؟ ان خطوة فرعون رغم سذاجتها وسخافتها الا إن ذكرها في القرآن الكريم يستدعي التأمل في دلالتها ..مما يقودنا الى فكرتين :
•    ارتباط ذكر الحق سبحانه وتعالى بالسماء وهو أمر يغلب على الوجدان الإنساني الفطري ربما لرمزية السماء للعلو والسمو والرفعة والكمال المطلق .. في حين تمثل الأرض في ذلك الوجدان .. ماهو هابط ومتدني .. لا يليق بالذات المقدسة.. فحين يدعو الإنسان يرفع يديه الى السماء وحين تضيق عليه السبل ينظر الى السماء طالبا الفرج وحين يتعرض للظلم يرمق السماء بطرفه مستنجدا وهو شعور فطري الذي لايستطيع أحد تجاهله حتى أولئك الملحدين والمنكرين لوجود الله سبحانه ..
•    إن النظرة المادية والحسية ورؤية المعبود بالبصر.. فكرة راودت البشر منذ القدم ومنها نشأت عبادة الأصنام التي تقرب الى المعبود غير القابل للرؤية..وسنرى أن  الإسرائيليين أنفسهم  قد وقعوا في فخ هذه الفكرة .. والى اليوم بقيت المذاهب المادية لا تؤمن برب غير محسوس رغم إيمانها بكثير من الأشياء التي لا تستطيع رؤيتها .. إنها سذاجة العقل البشري حين يضيق أفقه ..

تدرج نزول العذاب :
((ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون*فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون*وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين*فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين*ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرآئيل*فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون*فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين))الأعراف: 130 - 136

  بعد أن زج فرعون بنبي الله والذين آمنوا معه في السجن ..ظن أن الأمر قد استتب له ..لكنه غفل عن رب موسى الذي يسمع ويرى والذي يمهل الظالم دون أن يهمله ..فترسل عليهم السماء بعض عذابها لعلهم يرجعون عن ضلالهم وعنادهم ..ابتدأ العذاب بنقص في الثمرات ومنعت عليهم بركاتها .. ثم أرسل الله ( سبحانه وتعالى )عليهم الطوفان حتى غرقت مصر واضطر أهلها الى الفرار خارج المدن وسكنوا الخيام والأكواخ ..ثم أرسل عليهم الجراد الذي أكل كل شيء عندهم حتى شعورهم ولحاهم .. ثم سلط عليهم (القمل)حتى أمتلأ وجه الأرض به ولم يطيقوا العيش معه ثم سلطت عليهم الضفادع فكانوا يرونها في طعامهم وشرابهم وقدورهم .. ثم ابتلوا بالدم فقد تحول النيل دما في فم الفرعوني .. ثم نزل عليهم الرجس (الثلج )والبرد وأخيرا .. ابتلاهم الله (سبحانه وتعالى )بالطاعون الذي تفشى فيهم حتى أفنى منهم خلقا كثيرا.. وكان كلما نزل بهم بلاء عاهد فرعون موسى أن يدعو ربه أن يكشف عنهم البلاء حتى يطلق بني اسرائيل من السجن .. ولكن ماإن يرفع العذاب حتى ينكث وعده فيأتيهم عذاب آخر .. حتى كان الطاعون الذي فتك بالكثير من الأقباط فاضطر فرعون مرغما على إطلاق سراحهم ..

بناء المجتمع الإسرائيلي :

       يأتي الأمر الإلهي بأن يخرج موسى (ع) ببني اسرائيل خارج مصر ..ليؤسس هناك مجتمع التوحيد و قاعدة الإيمان  حيث يأمر الباري (عز و جل ) موسى (ع) بأن ينظم سكن بني اسرائيل وفق طريقة هندسية معينة بحيث يكونوا متجاورين ..في دلالة على خلق التماسك الاجتماعي وتقوية أواصر العلاقة بين أفراد المجتمع المؤمن ..
((وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين)) يونس: 87
لقد استفاد المجتمع اليهودي الى اليوم من تلك النصيحة الإلهية بالغة القيمة حيث يعيشون متجاورين في محلاهم ومساكنهم ومتاجرهم في مجتمعات مغلقة متماسكة ويتحركون ككتلة اجتماعية واحدة مما يشكل أحد أسباب قوتهم ..وبعد أن ينظم موسى مجتمعه وفق ما علّمه ربه يبدأ بتعليم قومه مبادىء العقيدة .. فيبدأ بالصلاة عمود الدين ومرتكزه ..ثم الأصول الأخرى لدين التوحيد ..ولكن مهمة موسى (ع) ليست سهلة بل انها شاقة للغاية .. فلم يكن معظمهم يتبعونه عن عقيدة وإيمان بل كان إسلامهم بحكم التخلص من الاضطهاد وعذاب فرعون وهذا ما يفسر لنا انحرافاتهم المتكررة.. لقد قالوا لنبيهم ذات يوم ((قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون))الأعراف: 129بالفعل إنهم أوذوا من قبل وبعد ولكن أدب الخطاب مع الرسول ينبغي ان يكون ارفع من هذا الأسلوب الجارح بكثير .. موسى (ع) الذي يتفهم معاناة قومه وبعد أن يدعوا لهم بالنصر والغلبة على عدوهم وبفطنته وبحدس النبوة الذي لايخطئيلمس أولى خيوط التذمر وقلة الصبر الذي قد يقود الى انحراف خطير خصوصا وإنهم في بداية طريق الرسالة الطويل .

مشكلة أخرى :
(( وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم))يونس: 88
وجود وسائل الإغراء المادية بيد أهل الفسق والضلال علاوة على كونه وسيلة الفساد والإفساد في الأرض فإنه يشكل عامل ضغط نفسي يحاصر المؤمنين سيما ضعيفي الإيمان منهم ويؤثر على روحهم المعنوية ويحس موسى (ع) بالخطر على الرسالة فيدعو ربه الذي لايخفى عليه شيء .. ان يطمس على ذلك المال لأن وجود المال بيد العدو لا يشكل نقطة حاسمة في الصراع فقط بل هو فتنة وإضلال وتظليل .. فهم لا يكتفون بضلالهم واستخدام تلك الأموال لإشباع شهواتهم فقط بل يقومون بنشر الثقافات المنحرفة والشذوذ بكل أنواعه ليفسدوا في الأرض .. لذا فموضوع دعوة موسى ليس المال بحد ذاته بقدر ما هو  استخدام ذلك المال الحرام لحرب الله ورسوله ..

ويستجيب الباري (عزوجل ) دعوة رسوله ولكن بعد أربعين عاما بالتمام والكمال .. ليعطينا درس في عدم استبطاء الدعاء وفي حلم القادر الذي لا يخاف الفوت ..
 موازين جديدة للقوى :
    لقد أصبح للإسرائيليين كيان خاص بهم لا مناص للفراعنة من الاعتراف به .. فصار في مصر قوتين ومعسكرين مضادين وعقيدتين متضادتين .. لم يبق سوى حسم الصراع من أجل البقاء ولكن ليس للأقوى وفق نظرية المستكبرين بل للأحق بالبقاء وفق منهج الحق (سبحانه وتعالى ) .
يحشد فرعون جيوشه الجرارة بكل معداتها الحربية.. يقال ان قواته بلغ تعدادها ألف ألف جندي ..وحين علم نبي الله بذلك أمر بني إسرائيل بالخروج من ديارهم هربا من فرعون وجنوده .. كان موقفا مرعبا وخطيرا .. فكل الحسابات المادية كانت تشير الى تفوق العدو ..وتبدأ المطاردة ..حيث فرعون وجنوده يلاحقون الإسرائيليين .. ويفرح فرعون حين يلوح له البحر حيث لا خيار للإسرائيليين  غير الهلاك غرقا أو الموت بسيوفهم وطبقا قد يبدو هذا منطقيا للحسابات المادية لفرعون لولا وجود حسابات أخرى لا يفقهها الطغاة .. سيكون فرعون أمام مفاجأة غير سارة و قاضية إن رب موسى الذي صعد فرعون على صرح هامان ليراه (استهزاءا بموسى ) اليوم سيعرفه جيدا ....
    يقف موسى (ع) على ساحل البحر حائرا وهوينظر الى وجوه قومه وقد انتابهم الفزع وهم ينظرون بدورهم الى جيش فرعون الرهيب وهو مقبل عليهم لقد كان موقفا عصيبا جدا ..قبل أن يأتي نصر الله تعالى ((فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم*وأضل فرعون قومه وما هدى))طه: 77 - 78
   يضرب موسى (ع) بعصاه المباركة البحر فإذا به ينفلق وتظهر اليابسة طريقا معبدا يعبر من خلاله الأسرائيليون ويتبعهم بغباء وبلا تدبر فرعون وجنوده حتى إذا عبر آخر إسرائيلي ووصل الى الساحل ودخل آخر جندي لفرعون أتي أمر الله فالتقى عليهم الموج العظيم الذي زادته الريح العاصف عنفا ليلتهم جيوش الكفر ..
يونس: 90 - 92

     حين تيقن فرعون من الهلاك يستسلم بغير تسليم فيتلاعب بالألفاظ كعادة الطغاة والمتجبرين فإن لهم نفوس سوداء قاتمة لا يمكن تخيلها وإنهم يحتفظون بقتامتها حتى لحظاتهم الأخيرة ..ففرعون الطاغية وحتى وهو ينظر للموت يتعامل بخبث مع أمر إقراره بالحق فهو لم يقل آمنت بالله صراحة بل نجده يقول آمنت بالذي آمنت به بنوا اسرائيل ولو قال كلمة الإيمان صراحة ربما كان له مع ربه الرحيم شأن آخر.. ولو علم الله فيه خيرا لهداه ..

بهلاك فرعون وهامان وجنودهما طويت صفحة هامة في سفر الرسالة الموسوية العظيمة .. صفحة مليئة بالأحداث المثيرة والمواقف الصعبة .. زاخرة بالكثير من الدروس والعبر ولكن ما ينتظر موسى النبي ووصيه هارون (عليهما السلام ) من مواجهات نوعية و أحداث لا تقل اثارة وصعوبة إن لم تزيد على ما سبقها كما سنرى بعونه تعالى ...
    بني اسرائيل ينظرون لمراحل إهلاك عدوهم .. في معجزة كبرى من معجزات التاريخ .. ففرعون موسى كان أعتى الفراعنة الذين تسلطوا على الرقاب  عاث في الأرض فسادا وصيّر نفسه ربا لعباد الله وحيكت حوله الأساطير وكيف أن بعروقه تجري دماء الإلهة الزرقاء وضرب المثل ببطشه وشديد تعذيبه لمعارضيه  .. لقد رأى عالم ذلك الزمان كيف يذل ذلك الطاغية وتكسر هيبته بعصا يتوكأ عليها موسى ويهش بها على غنمه .. بتلك العصا المباركة يقضى على طغيان فرعون وتزال أركان دولته ويُحرر الإسرائيليون .. ويُكتب فجر جديد لحياة جديدة ..تلك النعم الإلهية العظيمة كان جديرا بالإسرائيليين أن يشكروها أو على الأقل أن يتذكروها بعرفان ..لكن القوم كما نوهنا لم يأخذوا الدين كقناعة ذاتية وقبول نفسي حقيقي بل بسطحية وأمر واقع لا بد التعايش معه .. لذا فقد عانى نبي الله موسى (عليه السلام ) كثيرا منهم وبذل جهودا مضنية وشاقة معهم وكأنه ينحت بصخر  من أجل ترسيخ قيم عقيدة التوحيد التي لم تترسخ في نفوسهم كما يجب في حياة نبيهم وحتى بعد مماته .. كان نبيهم يعدهم لمهمة عظيمة وتلك المهمة تتطلب استعدادا نفسيا كبيرا.. حين أمرهم دخول الأرض المقدسة لتبدأ كتابة التاريخ الأنساني على يديهم ..

 خذلوا نبيهم عند أول منعطف للدعوة .فكان التيه كعقوبة أولى على عصيانهم لله ورسوله و دورة تأهيلية عاشوا فيها أوقاتا عصيبة ومرّوا بتجارب بالغة الصعوبة وكانوا سفهاء معاندين كلما هيأ لهم ربهم الرحيم وسيلة للخروج والحياة الكريمة عصوا واستكبروا ليبقوا في تيهم يترددون أربعين سنة ولم يستفيدوا من الوجود المبارك للولي والنبي الكريم الذي عانى منهم أكثر مما عانى من فرعون وجنده .. وفي سني ذلك التية وقعت أحداث جمة .. وصدرت من بني اسرائيل انحرافات كثيرة وخطيرة سنتعرض لأهمها بعد أن نحاول أن نتدبر الأسباب التي أدت الى هذه الانحرافات مع وجود النبي الكليم ووصيه الأمين بينهم ..

    إن  الانحراف وإن اتخذ مظهرا خارجيا لكن صورتة الأصلية مودعة في النفس ..فالتصرف الشاذ هو نتاج نفس أمّارة بالسوء صنعته.. ان تصرفات بني اسرائيل في أغلبها ترجع الى رذيلة مهلكة هي أسوأ وأخطر ما يصيب النفس .. وهي الكبر وحب الأنا وقد نشأ هذا الشعور الشاذ من خلال نعم الله تعالى التي اغدقها بكرمه عليهم  :
  لقد اعتبروا تلك النعم والهبات العظيمة ميزة لهم وامتيازا على غيرهم فتاهوا غرورا وعجبا وراحوا يتباهون بأن الله تعالى لم يكرمهم الا لفضائل في أنفسهم بهذه الروح المستكبرة التي حُمّلت المكارم ولم تحملها  ..راحوا يسجلون اعتراضاتهم على نبيهم..كانوا يروا في أنفسهم أكبر من أن يكلفوا ..فهم شعب الله المختار المفضل وهم سادة الخلق ولأجلهم خلق بقية الناس وبدمائهم تجري دماء مميزة .. ولقد زين لهم الشيطان ذلك ..فنمت تلك الشجرة الخبيثة وامتدت جذورها حتى أنتجت عقيدة منحرفة مشوهة الى يومنا هذا .. إنها ثقافة نحن أبناء الله وأحباؤه ..

صور الإنحراف :

1.    إنحراف الهبوط و استبدال الأدنى بالذي هو خير..
بني اسرائيل في الأرض الجديدة.. ارض التيه حيث العقوبة والتأديب والتأهيل  ..كان أول اعتراض سجلوه على نبيهم هو  طبيعة بيئتهم الصحراوية  الجديدة وقد يعذرون في ذلك كونهم سكان مدن ولم يتعودوا على جو الصحراء حيث لا شجر ولا ماء ولا عمران ..فيبعث الله تعالى غمام يظلهم من حرارة الشمس فتتحول الأجواء اللاهبة الى أجواء ربيعية معتدلة ويرزقون بماء عذب زلالا ويطعمون من مائدة السماء من المن والسلوى ..طائر مشوي وحلوى يأكلوا منها حتى يشبعوا ..لكنهم يعترضوا من جديد .. فماذا يريدون هذه المرة من نبيهم ؟ قالوا لقد سئمنا هذا الروتين والنمط المتكرر من الحياة .. نريد أن نأكل كما كنا ناكل وكما يأكل الناس من أنواع البقوليات والخضروات ؟ قد يكونوا ساذجين أو بسطاء أو معاندين أو بطرين .. قد نستغرب كثيرا منهم .. لكن يجب الا نسرف كثيرا في استغرابنا لأن كثيرا منّا يعيش في داخله ثقافة (لن نصبر على طعام واحد )....إن بني اسرائيل كانوا نماذج بشرية ..و كان اعتراضهم يمثل الرأي العام المزاجي ..  لكن السؤال الذي الذي يجب الا نغادره دون التأمل في إجابته هو : ماذا يريد الإنسان في هذه الأرض .. ما هي حاجته الفعلية ؟ وإذا كانت الإجابة كما يصورها الماديون والدنيويون الماديون هي إشباع الحاجات المادية والرغبات فبماذا يبرر أصحاب المدرسة المادية ذلك الشعور بالملل والكآبة والضياع  الذي يشعر به الإنسان الذي على تمتع بكل ألوان الرغبات المادية في أكثر البلدان رفاهية وازدهارا ؟؟..
                 إن هناك هناك حقيقة لامفر من الاعتراف بها والتعامل معها وهي إن الإسراف في إشباع الرغبات المادية دون الالتفات للحاجات الروحية والمعنوية هو السبب الذي يكمن وراء الإحساس بالفراغ الداخلي والشعور بضياع الهدف ..هو الذي يشعر الإنسان بذلك الخواء الروحي ..لتتضح حقيقة أخرى وهي  أن الإنسان لم يخلق لهذه الحياة الدنيا وإنه غريزيا في بحث دائم عن الجانب الروحي الذي يحاول أن يسده بالقيام بنشاطات اجتماعية وتكوين علاقات إنسانية يسد بها الفراغ الذي تسبح فيه روحه .. نشاطات  تكون عبثية في بعض الأحيان.. فيتجه الى البحث عن متنفس عاطفي قد يكون جنسا آخر يهيم به عشقا وينظم في حبه القصائد العصماء وإن لم يجد يحاول يملأ ذلك الفراغ العاطفي بتعصب لوطن أو رياضة أو فن أو لأعراف بالية فإن لم يجد فيتجه لحب نفسه وحين يحبط تماما يتجه لتوهم العاطفة مع الحيوان أو الآلة كما هو سائد الآن في الغرب .
  ولا مخرج ولا ملجأ الا بالعودة الى الله (سبحانه وتعالى )حيث ينعم الإنسان بذلك الفيض الوجداني الذي يجده متى شاء ودون عناء ..وليس مطلوبا منه سوى إزالة الحجب التي اصطنعها بأهواءه وعلائقه الدنيوية .....
     لقد أحس بنوا اسرائيل بهذا الفراغ الروحي حيث لا عمل يمارسونه ولا بحث مضني عن الطعام ولم يلتفتوا الى مهمتهم العظيمة التي يفترض أن يتحملوها وتكوين النواة الخيرة التي تنقذ العالم من الضلال .. لم يشبعوا أرواحهم بتعاليم موسى ووصاياه .. لم يلتفتوا الى الجانب المعنوي لحياتهم فأحسوا بذلك الفراغ الذي قادهم الى طلبتاهم الساذجة تلك ..و من ثم لانحرافات أخرى خطيرة كما سنرى (إنشاء الله تعالى )    .
2.    إنحراف العقيدة وعبادة الهوى :
(( وجاوزنا ببني إسرآئيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون))الأعراف: 138
   الفترة الطويلة التي قضاها الإسرائيليون تحت هيمنة فرعون  ورغم حالة العداء بين الطرفين الا ان ذلك لم يمنع تأثرهم ببعض ثقافاتهم والتعبدية على وجه الخصوص بحكم ألفتهم  رؤية الأصنام بأشكالها المختلفة وطقوس العبادة الفرعونية إضافة إلى حداثة عهدهم بعبادة التوحيد وعدم الارتقاء بأنفسهم كما يجب لتعاليم نبيهم ووصاياه  لذا فإنهم استبدلوا من جديد الذي هو ادني بالذي هو خير  ..  فقد سألوا نبيهم ذات يوم سؤالا وقحا ينم عن جهل عميق وشذوذ تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة ..سألوه أن يجعل لهم إله كما لغيرهم آلهة  ..إنه انحراف خطير بل انه ينسف قواعد الإيمان الذي يحاول نبيهم تثبيتها ويغضب نبيهم غضبا شديدا على عظيم كفرهم وجهلهم ٍ ويعدل القوم عن فكرتهم الشاذة خوفا من نبيهم .. ولكن أصل الفكرة بقيت دفينة في نفوسهم يتحينون الفرصة لإظهارها ..
    وبالفعل تأتي تلك الفرصة التي استغلها السامري تلك الشخصية المنحرفة ..ففيما كان نبيهم (ع) بميقات ربه مع مجموعة اختارها ليأتي بالتوراة هدى ورحمة تخرجهم من ظلمات الجهالة الى نور المعرفة تاركا هارون وصيا على قومه المشاكسين ..وفيما كان الموعد ثلاثين يوما لرجعة موسى(ع) .. يشاء الله (عز وجل )أن يستعجل موسى بالقدوم على ربه يدفعه الشوق وفرحة اللقاء والوجد الذي استبد به والذي جعله يهجر الأكل والمنام .. فيقدم قبل الموعد المحدد فيمدد الحق الموعد عشرة أيام أخرى ..
    القوم النزقون سيئو النوايا شكّوا في تأخر نبيهم عن موعده وتناقلوا الأقاويل والإشاعات التي ألقاها الشيطان فقالوا إن موسى لم يكن نبيا وقد هرب ولن يرجع ..وقد حاول هارون وبكل ما لديه من حكمة وسعة صدر ومنطق أن ينفي تلك الإشاعات الكاذبة دون جدوى بل حاولوا قتله ..فبرز السامري على مسرح الانحراف .. ليصنع لهم الإله الذي صنعته الأهواء .. فجمعوا حلي وذهب كانوا قد غنموه من قوم فرعون فصهره السامري وصاغه على شكل عجل ورمى فيه قبضة من أثر فرس جبرئيل في يوم عبور البحر..لقد كان أثرا مقدسا يتحرك على أي شيء يلقى عليه ..( مما يعني أن السامري قد خطط لجريمة انحرافه منذ زمن بعيد لكنه كان ينتظر الفرصة ) فصار للعجل خوار .. فانطلقت أبواق الانحراف وزغاريد الشذوذ محتفلة بمولد ألههم وسجدوا لهم .. بل تمنوا لو كان موسى (ع) معهم ليسجد كما يسجدون ..وقد أشربت القلوب القاسية بحب ذلك العجل .. وكان هارون في موقف حرج وصعب للغاية ..فكان بين نارين بين وصية أخيه وإمامه بأن يخلفه في قومه ويسير فيهم بالحسنى حتى يعود وبين الوقوف بوجه الانحراف وحشد من بقي من المؤمنين لمحاربة من انحرف وكفر فتكون الفتنة والحرب الداخلية ..لذا فإنه بالغ في نهيهم وتحذيرهم من غضب الله ورسوله وانتظار عودة أخيه وأمر السماء له ..ويعود موسى غضبانا أسفا وترسم الآيات المباركة التالية صورا رائعة للانتكاسة الخطيرة التي حدثت في معسكر الإيمان والحالة الصعبة لموسى النبي ولهارون الوصي والحرص على الرسالة والجهد في تثبيتها ..
((ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين*قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين)) الأعراف 150-151
ليتأمل القارئ الكريم موقف موسى الذي لم يتعرض له مرسل قط .. موقف لا يمكن وصفه والعبارة المباركة ((وألقى الألواح)) تصور حركة من الصعب تخيلها فتلك الألواح التي ألقاها الكليم تمثل خلاصة الرسالة وأمل موسى وثمرة لجهده وجهاده صبره ومصابرته لكن هول المفاجأة التي صعق بها موسى كان أكبر جعله يذهل عن الألواح لقد أراد الكليم بتلك الحركة التلقائية أن يقول لنا إن الإنسان هو هدف الأديان فإذا ما انهارت قيم الإنسان لا معنى للألواح سواء بقيت بيد في يد موسى (ع) أو ألقاها ..
((ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون)) الأعراف: 154
بعد أن هدأ غضب نبي الله وبعد أن سمع دفاع أخيه ووصيه وتفهم حراجة موقفه في أمة منحرفة متمردة و حسن تصرفه في عدم إثارة الفتنة الداخلية خصوصا وإن عدد الذين ثبتوا على دينهم لا يتناسب مع عدد المرتدين جمع (ع) الألواح جاعلا من أحكامها دستورا لأمة لا اله الا الله عسى أن يكونوا جديرين بحمل الأمانة لكن هل قبل اليهود تلك الألواح ؟...

إنحرافات اليهود القومية :
    يعتبر اليهود من أكثر الأمم مشاكسة وعنادا لأنبيائهم الذين عانوا كثيرا منهم وقد تنوعت وتعددت انحرافاتهم بتعدد أهواءهم ورفعت أكثر من راية ضلال بل يمكن القول  إنهم تزعموا كل حركات الزيغ والفساد في الأرض و هم دائما في حرب معلنة وصريحة مع قيم السماء في كل عصر ومصر  (باستثناء نفر منهم صدقوا في إيمانهم وأخلصوا لدينهم ) ويمكننا رصد بعض صور الانحرافات لديهم من خلال:

1.    العلو والاستكبار ورفض سنة العدل الاجتماعي ورفع لا فتة نحن أبناء الله وأحباؤه .
2.    الشذوذ العقائدي وعبادة العجل بعدما تبين لهم الهدى..
3.    العناد ومخالفة الرسول وعدم تنفيذ الأوامر الإلهية من قبيل رفضهم دخول الأرض المقدسة .
4.    لم يكتفوا بانحراف عاد ( من أشد منا قوه )بل تمادوا ليرفعوا شعار ( يد الله مغلولة ).
5.    قتل الأنبياء بغير حق وأصبحوا قتلة اختصاصيين لأولياء الله .
6.    عبادة الأهواء وإتباع الهوى في العبادة..
7.    اتخاذ الشذوذ شعارا قوميا لدولتهم وتطوير فقه الانحراف وفي كل المجالات وإشاعة ثقافة اللهو المحرم والفساد بكل أشكاله الجنسي والربوي وإشعال الفتن والحروب ..
باختصار لقد أخذ بنو إسرائيل من كل أمة سبقهم ماعرفوا به من شذوذ وعكفوا على تطويره وإضفاء الزينة عليه ليكون لائقا بشعب الله المختار كما يسمون أنفسهم أنفسهم زورا و بهتانا !!..ولنا بعد كل هذا أن نتصور حجم العظمة لشخصية موسى النبي الكليم وهو المرسل الى أكثر أهل الأرض شغبا وعنادا وجحودا .. كان كلما عبّد طريقا للحق سلكوا ممرا منحرفا خلافه ..
سوء أدبهم مع نبيهم :

بعد ذكرنا نبذة مقتضبة جدا عن انحرافات اليهود القومية سنذكر بعض المواقف التي  تكشف بوضوح عن مدى الانحطاط  الخلقي لشعوب لم تحسن التعامل بأدب مع رسل الحق اليهم ,.

1. مطالبتهم الوقحة والشاذة بأن يروا الله جهرة في تأكيد آخر على النزعة المادية الأرضية التي لم يغادروها ((يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا))النساء: 153..
2. عدم السمع والطاعة:لقد رفضوا أخذ الألواح من نبيهم ولم يلتزموا بما فيها وطالبوه بتبديلها , ولم يقبلوها حتى وضع الجبل فوق رؤسهم وصل بهم أمر مخادعتهم أنهم كانوا يسجدون على شق وجوههم ليروا فيما اذا كان الجبل على لازال على رؤسهم فيقرون مرغمين أم رجع الى مكانه فيعودوا الى عنادهم ..
((وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين))البقرة: 93
3. لم يكتفي بنو اسرائيل بإنحرافاتهم العقائدية والفكرية وعنادهم وجحودهم .. بل كانوا سيئي الأدب مع نبيهم الكريم فاتهموه باتهامات وقحة وشنيعة .. منها:
•    اتهامه بالزنا (والعياذ بالله ) وهي تهمة أشاعها قارون وسرت في مجتمع الانحراف وقد برأته الغانية  التي اتهم بها زورا والتي أكثر شرفا منهم   .. اتهامه بالقتل .. وقتل من ؟ هارون أخيه ووصيه.. واتهامه بعيب في جسده وقد برأه الله تعالى ((الأحزاب: 69 ))
•    بلغ بهم الإنحطاط حدا اتهموا نبيهم الصابر بعيب في جسده فبرأه الله تعالى منها وأخزاهم ..


حادثة البقرة:
 (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنآ إن شاء الله لمهتدون* قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون* وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون* فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون))البقرة: 67 - 73
  وفي حادثة أخرى تظهر نمط الشخصية اليهودية المعوجة واللجوجة والمخادعة ..وقعت جريمة قتل أُتهم فيها شخص بريء وانشغل الرأي العام كثيرا بها ..و لم يجد بني إسرائيل غير نبيهم يلجئون اليه في مثل هذه الحالات ..ونبيهم الكريم يرجع الى الباري (عزوجل) الذي يأمرهم أن يذبحوا بقرة ..أي بقرة ..  ولكنهم وبسوء نواياهم يفهموا الأمر على أنه سخرية منهم  لذا فقد طلبوا من نبيهم أن يسأل ربه عن ماهيتها وعن لونها وعن أوصافها .. وكانوا كلّما شدّدوا شدّد الله عليهم ..حتى كانت البقرة ويقال أنهم وجدوها عند شاب بار بوالديه في قصة معروفة وقد اشتروها منه بوزن جلدها ذهبا ..وبعد أن أحضروها أمرهم نبيهم أن يضربوا القتيل ببعضها فإذا هو حي ينطق بالحق ويشهد على من قتله وهو غير من اتهموه ظلما ..وهكذا حلت هذه القضية الجنائية ولكن بقيت القضية الكبرى وهو في دلالتها وكيف أن القوم قد شاكسوا وخادعوا ولم يمتثلوا للأمر الألهي الصادر اليهم وأرادوا أن يحكّموا عقولهم في الموضع الذي يفترض أن يقرّوا بمحدوديتها  ..
..هنا  لابد من وقفة ..
    فقضية بقرة بني اسرائيل ..كثيرا ما تتكرر في حياتنا دون أن نلتفت اليها فكثيرا من  الأحكام والوصايا الشرعية ما نجهد أنفسنا في محاولة فهم فلسفتها وفحواها بدلا من الالتزام بها ....إننا نريد تحكيم عقولنا في كل أمر شرعي في حين أن بعض الأحكام من أهم متطلباتها هو السمع والطاعة الفورية والإقرار بقصور عقولنا عن فهم علّتها .. ولايعد هذا انتقاص من قيمة العقل بل تعزيزا لتلك القيمة طالما فالإقرار بحكمة وحاكمية الشارع المقدس هو قمة ما يصل اليه العقل البشري من درجة .. لذا نجد أن أولياء الله تعالى وانطلاقا من ثقتهم بالآمر الحكيم لا يضيعون الوقت بالبحث عن التفاصيل والحيثيات الصغيرة والتي ينشغل بها إما شاك أو معاند أوجاهل يريد التهرب من التكليف .. فالولي هو من ينظر الى الآمر وليس للأمر وما يشغله حقا هو دقة التنفيذ والإخلاص حتى إتمام العمل من هنا نفهم كيف إن موسى الكليم عندما جاءه أمر الذهاب الى فرعون وما أدراك ما فرعون في ذلك الوقت أعتى طاغية عرفه التاريخ البشري لم يقل كيف؟ ولماذا؟ ولكن ؟ وماذا لو؟ أسئلة لا وجود لها في ذهن الأولياء .. لكن قومه وبكل أسف لم يرتقوا حتى لمستوى أن يذبحوا بقرة !تلك البقرة التي كشفت زيف ادعاءهم بالولاء لله تعالى   )

  في المنعطف الأخير :

  في حياة الرسل والأولياء .. ليس هناك  محطات للاستراحة .. بل وقفات لالتقاط الأنفاس ومواصلة الطريق الوعر والشاق ..فها هو نبي الله تدنو شمس عمره الشريف من الغروب .. ونفسه الكبيرة تتألم لحال قومه المعاندين الذين أتعبوه كثيرا ..ولكن ما كان يخفف عليه وطأة ذلك الشعور هو أنه نفذ مهمته بأقصى درجات الإخلاص وإداء الأمانة في أصعب مهمة رسالية لنبي مرسل ..(بإستثناء مهمة الحبيب المصطفى الذي لم يؤذ نبي مثل ما أوذي (صلى الله عليه وآله ) ) كان موسى الكليم .. ينحت في صخر عنادهم تعاليم دينه ..ويؤسس مبادىء الإيمان على أرض قبولهم الهشة ..عاش حياة مليئة بالأحداث المثيرة والمواقف الصعبة وكلّف بمهام جسام وكان على قدر مهمة وثقة السماء ..رحلة كفاح حتى النفس الأخير ..
((وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا*فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا*فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا*قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا*قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا*فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما*قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا*قال إنك لن تستطيع معي صبرا*وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا*قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا*قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا *فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا*قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا*قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا*فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا* قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا* قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا *فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا*قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا*أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا*وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا *فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما *وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا)) الكهف: 60 - 82
    كليم الله وصفيه يتسلم الأمر الألهي بأن يذهب حيث مجمع البحرين وهو ملتقى بحر فارس مع بحر الروم .. هناك سيلتقي بعبد من عباد الله الصالحين حيث سيتلقى دروس الهية بالغة الأهمية والخصوصية دروسا سيكون فيها موسى وهو الكليم وصاحب الدرجة الرفيعة بين الرسل سيكون تلميذا في المنعطف الأخير من عمره الشريف ( مع تكرار التأكيد على إن ذلك لا يعني أن الخضر (ع) كان أعلم من موسى الكليم مطلقا بل كانت دروس اختصاصية حملها الخضر (ع) لموسى لحكمة ستتضح ان شاء الله تعالى )  وبالفعل يشد الرحال الى هناك مع تلميذه يوشع بن نون .. قاطعا الصحاري والقفار في رحلة شاقة على شيخ جاوز المئة عام من العمر ..وبعد جهد ومشقة بالغين ..يلتقي بالعبد الصالح الذي يكون  بانتظاره أيضا ..ليؤدي رسالته المكلف بها ..ويبادر موسى (ع) كعادته بقوله للعبد الصالح ((هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا   )) لقد بدأ موسى بالشرط مع إنه التلميذ هنا وكما يقتضي الحال ..العبد الصالح غير الجاهل بمكانة الكليم عند رب العزة والجلال يشترط على موسى (ع) الا يسأله عن أمر حتى يخبره عن الحكمة منه .. ويقبل موسى بالشرط ويربط ذلك بمشيئة الله تعالى ولكن العبد الصالح يتوقع بل يجزم بعدم استطاعته الصبر ويعني موسى الأنسان الذي يتصرف بظاهر الحال .. وتبدأ الرحلة المثيرة والتي لم تستمر الا ثلاث مراحل مثلت قمم ابتلاءات البشر ..
•    الدرس الأول :
•    تقلهما سفينة الى الجانب الآخر من البحر لأناس طيبين يرفضون بكرم أخذ الأجرة منهم ..موقف شهم وكريم ..يفترض أن يقابل بالمثل على الأقل ..لكن العبد الصالح بدلا من ذلك يقوم بخرق السفينة..موسى (ع) يدهش للأمر بل ويحتج على هذا التصرف الذي رآه بظاهر حاله غير غير مناسب  ..فيتلقى الأنذار الأول من العبد الصالح
•    الدرس الثاني :
•     في طريقهما يجدوا أولاد يلعبون وفيهم غلاما جميلا فيقوم العبد الصالح وبلا مقدمات بقتله .. أمام هذا التصرف وتلك الجريمة الجنائية التي تنسيه شرطه .. موسى (ع) يحتج بشدة تتناسب وعظمة وحرمة إزهاق روح بغير ذنب (حسب الظاهر ) بالمقابل يرفع العبد الصالح شدة انذاره لموسى  لقد أضاف ( لك ) على قوله في الأنذار الأول (ألم أقل إنك ) في إشارة لشدة الإنذار أو لشدة إحتجاج موسى (ع).
•    الدرس الأخير :
•    نزلا بأهل قرية وقد استبد بهم التعب والجوع ..فسألا أهلها الطعام فأبوا أن يضيفوهما فأنكر موسى سوء خلق أهل هذه القرية ..وفيما هم كذلك إذ يقوم العبد الصالح بإقامة جدار مشرف على الإنهيار ..فيعجب موسى (ع) من هذا الفعل المجاني في غير مكانه المناسب فأهل هذه القرية الذين لم يقوما بواجب ضيافتها غير جديرين بهذا المعروف فإن كان ولابد من ذلك فالمناسب أن يتخذ عليه أجرا وهو ما قاله (ع)  للعبد الصالح ..الذي ينهي تلك الرحلة المثيرة والشيقة رغم مشقتها ..ولكن ليس قبل أن يوضح الجانب الغيبي المستتر الذي كان السبب وراء احتجاجات موسى (ع) ..
قبل الخوض في ذلك لابد لنا من الالتفات إلى :
1.    ان موسى (ع) لم يخطئ باعتراضاته على ماقام به العبد الصالح .. بل كان من واجبه الشرعي هو استشعار المخالفة للقانون الظاهري والإنكار على من يقوم بها كائنا من كان ..  و باعتباره أمام الزمان والمسؤل عن حفظ النظام العام فقد وجد في تلك التصرفات مخالفة لذلك النظام وخرق للقوانين الشرعية ومن هنا كانت اعتراضاته المشروعة .
2.    لقد كان في التكليف الإلهي لموسى (ع) بأن يذهب طالبا للعلم  الى تلك النقطة القصية من العالم وفي نهاية عمره الشريف دلالة على شرف طلب العلم وإنه يستحق كل جهد وتضحية  ..
3.     إن اشتراط العبد الصالح على موسى بعدم السؤال عما لا يجد له تفسيرا ظاهريا لديه فيه بيان لصعوبة فهم  الجانب الغيبي والتعامل معه على المكلف ..
4.    نؤكد مرة أخرى إن الخضر العبد الصالح وإن اقتضى أن يكون معلما للكليم في هذه الدروس الغيبية الخاصة ولكنه ليس بأعلم من موسى (ع)..ومن هنا نفهم أهمية التخصص في تحصيل المعارف والعلوم ..
5.    إن العنصر الغيبي في  المواقف الثلاث مثل أساسا يقوم عليه البناء الفكري والعقائدي للمؤمن شرط أن يصطحب التطبيق العملي لتلك المواقف الثلاث  في حياته اليومية .. فكم من سفينة خرقت لنا وفي خرقها مصلحتنا ولم نصبر .. وكم من ولد غير صالح لم نرزق به وفيه شقاءنا ..ولم نصبر! واستعجلنا قدومه بكل ثمن وكم من ولد فقدناه وفي فقده نجاتنا ..ولم نصبر !.. وكم من وظيفة أو عمل لم نحصل عليها فلم نصبر ! وتساءلنا عن السبب وكم من رزق مخبأ لنا يبنى له جدار حفاظا عليه من قريتنا الظالمة  حتى الوقت المناسب فاستبطأناه ..بقنوط وحزن واعتراض ..
6.     ان الإيمان بالغيب من أهم مرتكزات العقيدة بل إنه يؤسس لكل العبادات ..ففي المواقف الثلاث اتضح أن قضية التعامل مع الجانب الغيبي أمر صعب للغاية وأن الإنسان يحتاج الكثير من الجهاد والمجاهدة والصبر والثبات والثقة بالله مدبر حكيم لطيف لما يشاء ..
7.    قدمت الرحمة على العلم في ذكر النعم التي منّ الباري (عزوجل )بها على العبد الصالح في دلالة عظيمة على أن العلم وحده لايحقق الغاية الألهية مالم تكتنفه رحمة من الله وهي الولاية ..
بتلك الرحلة العظيمة والتجربة الغنية على قصرها والتي كانت تحوي دروسا بالغة الأهمية لأمة لم تعرف التعامل مع الغيب وغاصت حد أذنيها في الماديات والمظاهر ..بهذه الرحلة المثيرة يكتب خاتمة المطاف .
ويرحل موسى النبي والكليم والصفي وصاحب الآيات الباهرات والمعجزات العظمى .. صاحب العصا التي أطاحت بأكبر طغاة الدهور .. ذو النفس الكبيرة والصبر الذي لاحدود له على أكثر شعوب الأرض تمردا واستكبارا ومكرا وخداعا ..رحل موسى (عليه السلام) تاركا قومه في تيهم يترددون بعد أن أقام الحجة عليهم وأبلغهم رسالة ربه بكل شجاعة وإخلاص وثبات وأسس نواة لمجتمع صالح وان كانت كنقطة ضوء في دنيا الانحراف .. رحل موسى باختياره من دنيا الفناء ليكون استثنائيا في الولادة والرسالة والحياة والاجتباء والممات ..
إن الكتابة عن حياة هذا النبي الكريم مرهقة جدا وتثير في نفس المتأمل  الكثير من الانفعالات والشجون .. فكيف لمن عاش هذه الحياة بتفاصيلها ومحطاتها الزاخرة بالأحداث والحوادث الجسام ومواقف الخوف على الرسالة .. وخذلان المرسل اليهم..
يرحل الكليم إلى الرفيق الأعلى  ويهتف هاتف مات موسى وأي حي لا يموت ...ومن قبله رحل  أخيه ورفيق دربه ووصيه وحامل سره وناصره هارون (ع)الذي ظلمه قومه بعنادهم ومشاكستهم وعصيان أوامره وظلمه أهل السير والرواة حين لم يسلطوا الأضواء على شخصيته والمزايا النفسية لهذا الوصي العظيم ، أما  نحن ـ أهل القرآن كما يفترض ـ  فقد ظلمنا أنفسنا حين بخسنا حق هذا الولي فخسرنا الكثير من الدروس والعبر خصوصا تلك المتعلقة بالخلافة والوصاية والتي كانت الفتنة الكبرى التي دفعت وتدفع الأجيال ثمنها إلى اليوم فقد وقعت هذه الأمة بأحداث مشابهة لتلك التي وقعت بها الأمة الإسرائيلية حين لم تقدر واستهانت بأمر خطير كأمر الاستخلاف وتنصيب الوصي ولم تلتزم بوصية نبيها ...
هارون في التراث الإسرائيلي ـ وحتى موسى النبي ـ لا يتناول بكثير من الاحترام ... لكن هارون الوصي والمزكى من قبل السماء ليس بحاجة  لشهادة أمة جاحدة ظالمة لنفسها بقدر احتياج هذه الأمة لاحترام وتوقير عظمائها و استلهام وصاياهم ودروسهم
ويكفي هارون (عليه السلام ) تشريف الحق (سبحانه وتعالى) له في أدق مراحل الدعوة الموسوية واكثرها حرجا .

                            في رحاب قصة نبي الله داود (عليه السلام)

                                بسم الله الرحمن الرحيم
          ((يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ))ص 26
((اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب*إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق*والطير محشورة كل له أواب*وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب))ص: 17 – 21
مقدمة :
تتعدد صور التفكر في أحداث قصة هذا النبي الكريم سنحاول إيجاز بعض جوانبها بما يلي :
•     ((يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض))إن منصب الاستخلاف في الأرض منصب إلهي لا دخل لمزاج البشر في تحديده  من قريب أوبعيد  وبالتالي هو لا يخضع لمعايير الاختيار البشري  بل لمعايير السماء ولكن البعض الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله يحاولون أن يجعلوا هذه الخلافة بشرية الاختيار و من هنا نشأ أكبر الأنحرافات على هذه المعمورة فأقصي من أختاره الله ونصب من أختارته الأهواء فعاشت البشرية في ظلمات بعضها فوق بعض وستبقى كذلك حتى يأذن الله تعالى .
•    إن هذا الاختيار لمنصب الخليفة هو إختيار مشروط بالحكم بالحق بين الناس وعدم اتباع الهوى الذي هو سبب كل ضلال فساد وإفساد في الأرض ولو لاحظنا فساد كل الحكومات البشرية ناشئ من عدم الحكم بالحق وإتباع الهوى ..  لأن الصفات الذاتية البشرية لمن يتصدى للمسؤولية ومهما بلغت عظمتها إن لم يسندها تسديد إلهي وإلهام حكمة التعامل مع المواقف تبقى عاجزة عن ادراك الحق متخذة  قراراتها  وفق الهوى والمصلحة والانفعالات البشرية .
•    إن وصف الباري (عز وجل ) لداود بالعبد وهي أجل وأسمى مرتبة يصلها الولي وإنه أواب ينبآنا عن عظم شخصية هذا النبي الكريم وقدرته الفائقة في التوفيق بين المهام الرسالية ومباشرته مهام الحكم وقيادة الجيوش وبين الإنقطاع لله تعالى في العبادت المستحبة واكتساب الدرجات المعنوية العالية تلك المعادلة الصعبة التي فشل في حلها الكثير ممن ظنوا بأنفسهم خيرا فلما فتنوا بمنصب صغر أو كبر فرطّوا في الكثير مما أفترضه الله عليهم فضلا عن اداء المستحبات ..
                                       وقفات التأمل :
                                             
                                                 ـ1ـ
•    *(( فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم ........))البقرة249
•       إن هذا النهر المادي الذي ابتلي به قوم طالوت بعد أن نصبه الله تعالى ملكا عليهم .. كثيرا ما نبتلى بمثله نهرا معنويا من المحرمات التي يحذرنا الله تعالى منها وبرغم يد الرحمة الإلهية الممتدة الينا بالشفقة والرحمة في غفران زللنا في اللمم  إلا إننا في كثير من الأحيان  لا نكتفي بغرفة اليد وشربنا قليلا أو كثيرا مما يجعلنا غير مؤهلين لأن نكون في جيش النصر الا القليل الذي وفقهم الله تعالى فنهر الشهوات يثقلنا ويخلدنا الى الأرض  .
                                      

                                               ـ 2 ـ
•     ((وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون))الأنبياء: 80 .
•      * التأكيد على الصنعة والعمل اليدوي المنتج وعدم الاتكال على ما يدرّه المنصب الدنيوي من مزايا مادية .. وتأسيس نظرية للعمل المنتج لرفع قيمة الإنسان.. فقد كان  تعليم داود لصناعة الدروع التي تستخدم لحفظ الجسد في القتال فيه إشارة عميقة الى ضرورة الاهتمام بالأسباب المادية التي تحقق النصر على العدو وإنشاء الصناعات العسكرية لهذا الغرض .

                                                 ـ 3ـ
 
((وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب)) ص21..

    أن منصب القضاء منصب الهي وهو من أرفع وأخطر وأهم المناصب فالقاضي يقوم بمهمة تخويل إلهي حصري لصلاحية الحكم بين العباد .. وهو بهذا ليس منصبا دنيويا كباقي المناصب الخدمية يخضع لأختيارات بشرية كما أن القانون الذي الذي يقضي بموجبه يجب الا يكون بشريا .. ولمنصب القضاء قواعد وأصول والالتزام بمبادئ التقاضي وإدارة جلسات القضاء وعدالة القاضي من أهم ما يتطلبه هذه المنصب الخطير لقد فتن داود (ع) بخصمان اختصما فسمع من أحدهما وحكم لصالحه دون أن يسمع من الآخر فقد ظن داود (وهو لم يخطئ بظاهر الحال ) أن المسألة واضحة ولا تحتاج لإقرار الطرف الآخر .. وبغض النظر عن أقوال المفسرين الذين ذهبوا مذاهب شتى في تفسير هذه الآية الكريمة فإننا وبتأملنا نجده درسا عمليا في كيفية التقاضي وحرص المشرع الحكيم على تعليمنا المنهج العملي لتحقيق العدالة والحرص على المساواة بين الخصوم وتمكين كل طرف من يدلي بدلوه ويسوق حججه وأن لا نصادر حق الآخر بداعي وضوح الحجة عليه ..

     هنا ..  هذه المسألة قد تقودنا الى التأمل في مدى استيعاب عقولنا ومداركنا للعدالة الألهية .. وكيف أن الباري (عز وجل) قد منحنا ـ نحن العصاة المذنبين ـ الفرصة كي نناقش وربما نجادل  في خطايا ارتكبناها رغم أن أفعالنا تستنسخ وتشهد بها علينا جوارحنا التي كانت آلات لإرتكاب الإثم ..يعلمنا الحكم العدل من خلال درس داود (ع) ضرورة الإستماع الى الطرف الآخر ومنحه فرصة الدفاع عن نفسه وأن يسوق حججه ولو كانت واهية يدحضها واقع الحال ..

                                             ـ 4 ـ
  ((وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب)) ص 24
   إن سرعة الإحساس بالافتتان وتشخيص مصدر الفتنة والخطأ الذي وقع فيه الإنسان أمر في غاية الأهمية وهو دليل على الحس العالي وعمق الارتباط بالحق ( سبحانه وتعالى ) من هنا كان ظن داود (ع) في محله وهو ظن حسن بتشخيصه الدقيق والسريع لخطأه استحق ثناء الباري (عز وجل ) أن المبادرة بالاعتذار عن الخطأ والاعتراف بالزلل من صفات أولياء الله وبقدر  نقاء الفطرة وسلامتها يكون تحسسها للخطأ وسرعة انابتها .

                          نبذة مختصرة عن حياة هذا النبي الكريم :
•    في بداية عهد داود (ع) تسلط ملك جبار على اليهود تلك الأمة المعاندة وكعادتهم في المحن لجأوا الى الله تعالى يتضرعون كي يننقذهم من ظلمه..فأوحى (عزوجل ) لنبيهم أن يكونوا بأمرة طالوت وعينه ملكا عليهم وأمرهم بالقتال معه .. ولكنهم وكعادتهم أيضا رفضوا هذا التنصيب ولجأوا الى معاييرهم الدنيوية في التفضيل وهي معايير تقوم على المال كمحور رئيسي وما يتبعه من جاه ووجاهة وبمنطق الأنبياء والحكماء أجابهم نبيهم بأن الله هو الذي اصطفاه عليكم وأعطاه من المزايا الذاتية من بسطة في العلم والجسم وهي صفات لا تتحصل بالمال ..ولم يكن لليهود خيار ثالث فإما القبول بطالوت أو البقاء تحت سيف جالوت فقبلوا بطالوت ملكا على مضض ..وسار طالوت بجيش أجساده معه وقلوبهم منكرة لولايته ..وقد أدرك طالوت أن صفوف جيشه بحاجة لغربلة لمعرفة المنافقين واستبيان نواياهم الحقيقية فابتلاهم ربهم بنهر الفتنة الذي لم يشرب منه  غير ثلاثمائة وثلاثة عشر جنديا ( عدة أهل بدر ) وحتى هؤلاء لم يكونوا بالمستوى المطلوب ولم يشكلوا عوامل للنصر حين نظروا الى الأسباب المادية باستثناء فئة ثابتة مؤمنة بالله تعالى وبنصره .. انتصروا بداود (ع) أحجار كانت معه رماها على جيش جالوت الرهيب ليمزقهم كل ممزق ..لتكون باكورة خلافة داود على الأرض .
•    سخر الله تعالى لعبده ونبيه داود (ع) الجبال تسبح له والطير بالكيفية التي تثبت القدرة والإعجاز وقد اختلف المفسرون حول شكل هذا التسبيح وبأي صورة كان فقال البعض منهم أن الجبال والطير كانت تسير أينما سار داود النبي وقال البعض الآخر أن الجبال والطير كانت تسبح بالفعل مع داود بشكل يسمع الناس وليس ذلك بعزيز عل خالقها العظيم وهو الرأي الأقرب ،
•    لقد أعطي داود (ع) أسباب النعم المادية متمثلا بالملك ومظاهر النعم المعنوية متمثلة بالحكمة والتعليم الألهي..
•    أنزل الله تعالى الزبور على داود (ع) كتاب سماوي فيه الذكر والحكمة والموعظة ومما أوحى الله (عز وجل ) فيه لنبيه  وفيه من المعاني العرفانية ما يفوق الوصف :
(( إن أقرب الناس مني يوم القيامة المتواضعون , كذلك وأبعد الناس مني ّ يوم القيامة المتكبرون ))
((إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم تاب من ذلك الذنب واستحيى منه عند ذكره غفرت له وأنسيته الحفظة وأبدلته حسنة ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين )).
((ياداود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد فإن سلّمت لما أريد كفيتك ما تريد ,وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون الا ما أريد ))
((من ذا الذي انقطع اليّ فخيبته أو من ذا الذي أناب الي ّفطردته عن باب انابتي , مالكم لا تقدسون الله وهو مصوركم وخالقكم على ألوان شتى , مالكم لا تحفظون طاعة الله آناء الليل والنهار ,وتطردون المعاصي عن قلوبكم ؟ كأنكم لا تموتون وكأن دنياكم باقية لا تزول ولا تنقطع ولكم في الجنة عندي أوسع وأخصب لو عقلتم وتفكرتم ,وستعلمون إذا أُحضرتم وصرتم اليّ أني بما يعمل الخلق خبير , سبحان خالق النور .))
((أيها الناس لا تغفلوا عن الأخرة ولا تغرنكم الحياة لبهجة الدنيا ونضارتها ..
بني اسرائيل لو تفكرتم في منقلبكم ومعادكم وذكرتم القيامة وما أعددت فيها للعاصين قل ّ ضحككم وكثر بكاؤكم ولكنكم غفلتم عن الموت ونبذتم عهدي وراء ظهوركم واستخففتم بحقي كأنكم لستم بمسيئين ولا محاسبين كم تقولون مالا تفعلون , لو تفكرتم في خشونة الثرى ووحشة الظلمة لقل كلامكم وكثر ذكركم واشتغالكم إلي ّ))
(( حذّر وأنذر أصحابك عن حب الشهوات فإن المعلقة قلوبهم بشهوات الدنيا قلوبهم محجوبة عني ّ))
(( اذكرني في أيام سرائك استجب لك في أيام ضرائك ))
(( ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته ,ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن الا جعلت له المخرج من بينهن , وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي , عرفت ذلك من نيته الا قطعت أسباب السماوات من بين يديه ,وأسخت الأرض من تحته ولم أبال بأي واد هلك ))
((يا داود إني وضعت خمسة في خمسة والناس يطلبونها في خمسة غيرها فلا يجدونها , وضعت العلم في الجوع والجهد وهم يطلبونه في الشبع والراحة فلا يجدونه , ووضعت العز في طاعتي وهم يطلبونه في خدمة السلطان فلا يجدونه , ووضعت الغنى في القناعة وهم يطلبونه في كثرة المال فلا يجدونه , ووضعت رضاي في سخط النفس وهم يطلبونه في رضا النفس فلا يجدونه , ووضعت الراحة في الجنة , وهم يطلبونها في الدنيا فلا يجدونها ))..

في رحاب قصة نبي الله سليمان (عليه السلام)

                                   بسم الله الرحمن الرحيم
 ((وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين))النمل: 15

مقدمة :
لأنهم القدوة الحسنة في طريق السير اليه (عز وجل ).. تعدد صور ابتلاءات أنبياء الله وأولياءه فتناط بكل مرسل مهمة ومع كل مهمة يكون ابتلاء يتناسب معها يبرز وجه أو أكثر من خلق إلهي يجسده النبي والولي يكون دليلا يهتدي بها المكلف في دنيا ضلاله وانحرافه وغفلته ..
في أحداث قصة نبي الله سليمان (ع) وعلى هامشها تتجلى القدرة الإلهية في العطاء غير المحدود والمطلق وتسخير الموجودات العلوية والسفلية لعبده وخليفته في الأرض .. بالمقابل يبرز التصرف المثالي في شكر هذه النعمة لهذا التسخير وتوظيفه التوظيف المناسب لخدمة الرسالة وتحقيق الأهداف ..
لماذا طلب سليمان (عليه السلام ) الملك الدنيوي ؟ هذا السؤال هو محور الابتلاء الذي نجح فيه سليمان نجاحا باهرا سيتضح أن نبي الله  لم يطلب الملك لذات الملك فهو من جاء ليعلم الناس بحقيقة دار الفناء .. ولكنه طلب الملك الذي لا ينبغي لأحد بعده كي يكون وسيلة لنشر الرسالة في عالم مزدهر وحضاري كالعالم الذي كان سائدا آنذاك فكان من مقتضيات مواجهته سلاح يماثله شكلا  ويتفوق عليه نوعا وقدرة ..
إن الإعجاز في قصة  سليمان (ع) تجسد في أكثر من موضع لعل أهمها إن هذا الملك العظيم  وما يتبعه من مسؤوليات جسام وفتن لم يقترب من قلب  سليمان الذي بقي قلبا سليما حتى لقي معبوده  .. فكانت روحة حرما آمنا ليس بها سوى الله تعالى ولم يدع أي مظهر دنيوي صغر أو كبر من الاقتراب من هذا الحرم المقدس ..فكان سليمان يعيش أسمى درجات العبودية لربه  وهو يتربع على عرش ملك باذخ لم يحظ به أحد قبله ، هي معادلة غاية في الصعوبة لا يجيد حلها الا من عرف عرف نفسه وعرف ربه وكان منهم سيدنا سليمان الحكيم (ع) .

أهم المحطات في حياة سليمان النبي :

                                                ـ1ـ
((وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين*ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما .........))      الأنبياء: 78 – 79
كان على داود (ع) أن يبلغ قومه باختيار السماء لسليمان (ع)  ليكون خليفته وحامل لواء الرسالة من بعده .. ولكن الأمر لم يكن سهلا في أمة معاندة مستكبرة مجادلة كبني إسرائيل فقد احتجوا بصغر السن على تنصيب سليمان (ع)  وقلة التجربة الحياتية خصوصا وهو لم يكمل الثالثة عشر من عمره حين الوصية ..ويحاول نبيهم داود (ع) إقناعهم بالتسليم لهذا الاختيار دون جدوى حتى كان ذلك اليوم.. ففي حادثة مثيرة شغلت الرأي العام تنفلت غنم قوم ليلا لترعى في حرث أحدهم فتفسده ويحصل نزاع ليحتكموا في النهاية الى نبيهم داود (ع) الذي يحكم لصاحب الحرث برقاب الغنم ..لكن سليمان (ع) كان له حكم آخر  ( بتسديد الهي ) حيث يحكم بأن ينتفع صاحب الحرث بدر الغنم وصوفها الى أن يعود الحرث كما كان فيردها الى صاحبها ..ويدهش القوم لهذا الحكم العادل المثالي ويقرّوا مرغمين بحكمته ولكنهم كديدنهم في العناد لم يسلموا لخلافة سليمان الا بعد أن قام قساوستهم ورهبانهم باختباره بعدد من المسائل التي لا يجيب عليها الا نبي مرسل ويجيب سليمان (ع) بإجابات مبهرة فيذعنوا صاغرين لإرادة السماء ..


                                                ـ 2 ـ
((ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب*قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب))ص: 34 – 35
•       إن المملكة المترامية الأطراف التي كان يحكمها داود (ع) والتي  خضع لسيطرتها  ممالك ذاك الزمان الذي تمتع بازدهار نسبي ..كان على سليمان(ع) إدارتها وقيادة جيوشها سيما وهو المكلف بنشر رسالته الإلهية .. لذا فهو بحاجة للأنصار وتحديدا الأولاد لذا فقد تزوج العديد من النساء والجواري لهذا الغرض .. لقد ربط الأسباب بمسبباتها المادية ورغم أن ذلك يبدو طبيعيا وبديهيا لدينا الا أنه طبقا لقانون الأولياء يعتبر تركا للأولى وهو حسن التوكل وتفويض تمام الأمر لله تعالى ..ويشاء الله أن لا يرزق بعد أن طاف بجميع نساءه وجواريه الا بطفل غير مكتمل النمو ألقي على كرسيه كي يتفطن الى الفتنة التي فتن بها ..(و في رواية أخرى ) بأنه رزق ولدا صحيحا معافى ولكنه خاف عليه من الجن ومكرهم به فأسكنه العوالم العلوية حفاظا عليه لكن المشيئة الإلهية قضت بأن تقبض روح الولد حيث أسكنه الأب فيخر جسدا على كرسي سليمان (ع) ... لسنا بصدد ترجيح صحة أي الروايتين ما يهمنا العبرة منها وهيأننا تلقينا درسا إلهيا عن طريق سليمان (عليه السلام) بحقيقة التوكل على الله تعالى وسرعان ما ينيب نبي الله قدلربه نادما معتذرا ..واللافت أن سليمان شفع طلب المغفرة  بطلب عجيب : بأن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده .. فلماذا طلب ذلك ؟وما ارتباط هذا الطلب بالحادثة التي فتن بها ؟ هذا ما يدعوا للتفكر .. لكن لأولياء الله مع مولاهم أحوال لا يمكننا لا نرتقي لفهمها ..ربما  أدرك (ع) أن نشر دعوته تتطلب منه هكذا ملك عظيم وكان عليه ابتداءا اللجوء الى مالك الملك الذي يعطي الملك لمن يشاء كيف يشاء ملك على قدر الواهب وفوق تصور الموهوب له .


                                           ـ  3 ـ
 ((إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد* فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب *ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق)) ص 31-33
      في لقطة تدل على عظم شخصية هذا النبي الكريم وشدة مراقبته لنفسه .. تعرض عليه الجياد المهيأة لخوض المعارك الجهادية في استعراض عسكري ورغم أن هذا من صميم عمله كقائد عام  وليس أمرا ترفيهيا كما يصوره بعض المؤرخين الا أن هذا الاستعراض يطول لكثرة الخيول المعدّة بحيث تفوته بعض المستحبات العبادية التي اعتاد المداومة عليها ..وما إن انتبه لترك الأولى حتى عقر الخيل وهي أحب ماله اليه لوجه الله تعالى ..وهناك من المفسرين من يستبعد ذلك كون أن ذلك الفعل الانتقامي بعيد عن خلق الأنبياء سيما وأن الخيل حيوان لم يرتكب ذنبا .. وقالوا أنه قصد ب(( ردوّها علي )) يقصد الشمس التي ردتها عليه الملائكة ليصلي العصر ..ولكن يبقى الإشكال محوره (( فطفق مسحا بالسوق والأعناق  )) و هنا يمكن أن يكون الجواب ( كما قال بعض العلماء ) أن عقره للخيل كان تعبيرا عن تضحيته بأعز أمواله و بمن شغله عن ذكر ربه والتصدق بلحمها على المحتاجين وهو أمر لا يتنافى مع العدالة في شيء .. وقيل في تفسير معاصر (أفادت دراسات مختصة أن هناك منطقتين حساستين في جسد الخيل يتأثر هذا الحيوان تأثرا عجيبا ويروض من خلالهما هما (العنق والساقين ) ) ربما كان هناك ربط ما بين ما أفادت تلك الدراسات والحادثة محل الابتلاء ربما ... ما يهمنا هو الدرس المستخلص وهو ترتيب الأولويات وجعل مواقيت الشارع الحكيم مواقيت مقدسة لا يجوز تأخيرها ولو كان لأمر مشروع فإن حدث ذلك فيجب التضحية بذات الشيء الشاغل عن ذكر الحق سبحانه وتعالى .. وهذا المعنى مستفاد دروس جهاد النفس وسير العارفين .
                                         ـ 4 ـ
 ((حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون *فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين))النمل 18-19
•    في يوم آخر سليمان النبي والملك وهو في موكبه المهيب  متقدما جيشه العظيم يمر بواد النمل فيسمع نملة ويبدوأنهاالقائدة لمجاميع النمل تحذر صويحباتها من جيش سليمان (ع) أن لا يحطمنهم غير قاصدين غير ملتفتين لصغر حجمهم ( وقيل كان تحذيرها للنمل من الافتتان بهيبة سليمان (ع) وجيشه ).
لقد أدهش نبي الله التصرف الحكيم للنملة وحسن تصرفها وفن قيادتها لجماعتها خصوصا قولها (وهم لا يشعرون) في إشارة للحس الإستخباري والإنذار المسبق وروح المسؤولية .. ويبتسم نبي الله لهذا الموقف الطريف وكان ممكنا بل وطبيعيا أن يتجاوز نبي الله هذا الموقف ويكمل المسير سيما وهو في طريقه مع جيشه العظيم العدة والعدد للقيام بمهمة عسكرية ولكنه يترجل ويخر ساجدا لله تعالى يذكر بامتنان عظيم نعم الله تعالى ربما ذكّره حرص النملة على أبناء جنسها وخوفها عليهم والحكمة التي تعاملت بها بحجم الأمانة التي كلف بها وهو المسؤول عن حفظ رعاياه في مملكة مترامية الأطراف ..وربما كانت معرفته بلغة النمل وسائر الحيوانات وبالتالي اطلاعه على شؤون أصغر مخلوق في رعيتهداعيا لذلك الشكر وربما كان ذكره تواضع حجم النملة بتواضعه أمام ربه العظيم وإتماما للنعمة شمل بشكر النعمة على والديه كنوع من البر بهما  وسأل الله تعالى العمل الصالح الذي يرضاه .

                                            ـ 5 ـ
 ((  وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين*لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين*فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين)) النمل 20-22
   لعل الحدث الأبرز في حياة نبي الله سليمان ورسالته كان في تلك الساعة التي تفقد فيها الطير فلاحظ غياب الهدهد
(هنا من الضروري أن نقف لنتأمل كيف لملك له مملكة بحجم مملكة سليمان العظيمة وبحجم مسؤولياته أن يتفقد طير من الطيور في مملكته .. في حين أن في ممالكاليوم لا يتفقد الإنسان  فضلا عن الحيوان ..)
  فتوعده بحزم القائد الحريص على شؤون رعيته بالذبح أو العذاب الشديد إن لم يأت بحجة تبرر غيابه .. إنها عدالة القوي الأمين .. وبعد حين يأتي الهدهد مع مبرر قوي جدا لغيابه .. فيقول لسليمان النبي أنه أحاط بما لم يحط به علما ..وتلك المفردات تدل على شفافية العلاقة وتلقائيتها بين سليمان الملك وأفراد مملكته الذين يخدموه بكل إخلاص ومسؤولية .. واستمع اليه سليمان (ع) بجدية واضحة لكنه ومع ترجيحه لصدقه لم يستبعد كذبه ..  فكان الحوار الذي رسمه القران الكريم بأسلوب غاية في الروعة والجمال والبلاغة ((قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)) النمل 27
 لذا قام (ع) بتحرير كتاب ختمه بخاتمه وسلمه للهدهد الذي طار على عجل وألقاه على بلقيس ملكة سبأ ..الذي تعاملت مع الموقف بمنتهى الحكمة والشجاعة فلقد كانت امرأة عاقلة وملكة حكيمة عرفت فحوى الكتاب الذي أرسل اليها وان كلماته تغلغلت في أعماقها إجلالا وهيبة .. وعلى الفور دعت أركان دولتها والقادة لاجتماع طارئ وموسع وقرأت عليهم كتاب نبي الله سليمان والذي كان ( من عبد الله سليمان بن داود الى بلقيس ملكة سبأ بسم الله الرحمن الرحيم .. السلام على من اتبع الهدى .. أما بعد فلا تعلوا علي ّ وأتوني مسلمين ) وكالعادة تنقسم الآراء الى حمائم وصقور ولكن الغالبية رأت أن دولتهم تمتلك جيشا قويا له القدرة على المقاومة.. ولكنهم تركوا الخيار لها في نهاية الأمر فهي الملكة صاحبة القرار .. وناقشت الأمر معهم بكل واقعية واضعة كل الاحتمالات مبيّنة رأيها :
 ((قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)) النمل 34

   إن الحكمة التي تعاملت بها هذه المرأة يجب أن تكون دستور عمل ومنهج تفكير عند كل حاكم متغطرس لا يحسب حسابا لموازين القوى معتمدا على عنجهيته الفارغة وخطاباته المغرورة التي دمرت البلاد وأهلكت العباد ..فقررت إرسال هدية لسليمان (ع) فإن قبلها عرفت أنه ملك عادي فقاتلته وإن رفض الهدية عرفت أنه نبي وملك فتعاملت معه تعاملا آخر .. وبالفعل ترسل له ألفا من الخدم من أجمل الذكور والإناث مع خمسمائة لبنة ذهب وتاجا مكللا بالجواهر ومسكا وعنبر وأشياء أخرى فاخرة .. ويخبر الهدهد سليمان (ع) بذلك فيأمر أن تضرب لبنات الذهب والفضة وأن تبسط من موضعه الى تسعة فراسخ وأمر ببناء حائط  من الذهب والفضة وأن يؤتى بأحسن دواب البر والبحر مع الجن يمين الميدان وشماله ،
 فلما وصل وفد بلقيس ورأى ما أعده سليمان (ع) دهشوا ورجعوا يخبرون ملكتهم بذلك التي صدق ظنها وتيقنت أنها أمام نبي كريم آتاه الله تعالى الملك .. لذا فإنها اتخذت قرارا جريئا وشجاعا بالذهاب الى سليمان (ع) لتلتقي به ..في وفد كبير ضم أكثر من أثنا عشر  ألف فيل  وقبل أن تصل اليه يأمر نبي الله  كإظهار للقدرة والإعجاز أن يؤتى بعرشها اليه قبل وصولها .. وقيل أن عرشها كان داخل سبعة أبواب داخل قصرها الذي كان داخل سبعة قصور مغلقة الأبواب ..لكن من يقوم بتلك المهمة المعجزة .. يقول عفريت من الجن ويلقب بالقوي الشديد أنا آتيك بعرشها قبل أن تقوم من مجلس القضاء وكان سليمان (ع) يجلس للقضاء من الضحى حتى منتصف النهار ..لكن سليمان (ع) يريد عرضا أكثر إعجازا  فيتقدم الذي عنده علم من الكتاب وهو آصف بن برخيا وكان صديّقا عالما بإسم الله الأعظم الذي أحضر عرش بلقيس قبل أن يرتد طرف سليمان الذي كان ناظرا الى السماء فلما رأى العرش أمامه خر ساجدا لله تعالى شاكرا ممتنا لفضله تعالى معتبرا ذلك فتنة لإختبار شكره من كفره موضحا أمر قد يسأله بعض المنافقين بخبث فيقولون هل يحتاج الله تعالى الى شكرنا ونحن عبيده فيجيب نبي الله ((.... ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم)) النمل 40 ... إن الله تعالى هو الغني عن عباده الذي لا يضره كفر من في الأرض جميعا ولا ينفعه شكرهم لكن الشكر يُشعر الإنسان بآدميته وارتباطه بمولاه خلاف الكفر الذي يبعده عن دائرة الرحمة  فيصبح كالأنعام بل أضل .... و ما أن تدخل بلقيس حتى تكون على موعد مع مفاجأة عظيمة إنها أمام عرش كعرشها بل هو عرشها ولكن كيف أًُحضر ؟ وهي قد تركته في سبأ في سبعة أبواب موصدة في سبعة قصور محصنة وكيف حدث ذلك بهذه السرعة المذهلة ؟ وإمعانا في تحيّرها يسألها نبي الله أهكذا عرشك ؟أجابت بذهول كأنه هو ! ولو كان السؤال أهذا هو عرشك ؟ لأجابت دون تردد بنعم.. مرة أخرى يفصح تصرفها عن رجاحة عقلها .. ولكن رجاحة العقل والفطنة إن لم تدعم بإيمان وصفاء عقيدة قد لا تفيد في معرفة العقائد الحقة .. فكثير من أهل الكفر والزيغ يتمتعون بقدرات عقلية هائلة .. ولكنهم في عقائدهم تكون مرجعيتهم ثقافاتهم الموروثة التي تتقاطع أحيانا مع العقل ..((وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين))  النمل 43  لقد صدها ماكانت تعبد من التسليم بمعجزة إحضار عرشها مع قطع عقلها الراجح بها .. ولكن ليس هذا كل شيء فحين اقتربت من عرش سليمان (ع)

((قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)) النمل 44

  لقد كان الصرح عبارة عن زجاج أبيض شفاف تحته ماء عذب يجري فيه سمك وكان سليمان (ع) يجلس على صدر الصرح  فرفعت أطراف ثيابها وتهيأت للعبور وقد حسبته ماءا وإذا بسليمان (ع) يخبرها بأنه صرح ممرد  لتدرك بما لا يدع مجالا للشك أنها أمام معجزات كونية تخرج عن نطاق قدرة البشر ..

•    لكن السؤال هو لماذا أسلمت حين رأت الصرح الممرد في حين معجزة إحضار العرش كانت أبلغ حجة وأكثر عجبا ؟ هنا يمكن تصور احتمالين قد يصح أحدهما أو كلاهما :

الأول : أنها وبفعل ازدهار مملكتها ومعرفتها بفنون العمران والموضات السائدة في ذلك العصر  حين رأت الصرح الممرد أيقنت أنها أمام ظاهرة غير بشرية ظاهرة استثنائية خارقة لما هو سائد أو متخيل ..لذا كان تسليمها كتسليم السحرة أمام عصا موسى (ع) ..
الثاني : ربما كان إيمانها تصاعديا ابتدأ من لحظة ورود الكتاب اليها من سليمان (ع) وتأكد   من     رفض هداياها وإحضار عرشها وأخيرا بالصرح الذي كان تتويجا لإيمانها التراكمي ..وهو أمر غالبا   مايحصل عند أصحاب العقول الذين لا يحكمون عواطفهم وانفعالاتهم في قراراتهم المصيرية.. 
لقد قدمت بلقيس نموذجا رائعا للمرأة المتزنة الشجاعة صاحبة القرار ..ولنلاحظ أنها قدمت استغفارها وإقرارها بظلم نفسها قبل أن تسلم في لفتة لتنقية ذاتها من شوائب عقيدتها الفاسدة حتى إذا أسلمت كمل إسلامها وأقرها سليمان (ع) على ملكها و(قيل) تزوج منها ..
الموت ..الحكمة والمعجزة
((فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين   ))سبأ 14
لقد وهب الله سبحانه وتعالى لعبده سليمان (ع) ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وسخّر له الريح والإنس والجان والطير والوحش وعلمه منطق الطير وأتاه من كل شيء .. كان ملكه نموذجا لعطاء الله غير المحدود وخوله التصرف فيه بصلاحيات مطلقة .. ومثلما كان العطاء الكريم كان سليمان (ع) على قدر المسؤولية والابتلاء .. لكن بعض النفوس المنبهرة بالمظاهر وبالدنيا وزخرفها ربما تفتن بسليمان وملكه .. ربما تنبهر بسليمان الملك والإنسان وتترك سليمان العبد الصالح والنبي فيفتن البعض بتلك السيرة المليئة بالأشياء الخارقة للعادة ..
ربما لهذا وحكمة أخرى أرادها الله تعالى للدلالة على ضعف الإنسان ولو كان مثل سليمان وملكه يبقى في النهاية عبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ..
ففي أحد الأيام وفي لحظات اقتنصها من زمن حراكه الذي لا يهدأ .. من حروب وإدارة وفصل بين العباد ومهامه كنبي وحاكم لكل المخلوقات ..أراد لتلك اللحظات أن تكون لحظات تأمل لملكه العظيم ويأمر بأن لا يدخل عليه أحد ..ويبدو أن جميع من في القصر من أهل بيته والخدم قد تعودوا على خلوته وانقطاعه للعبادة فلم يدخل عليه لمدة طويلة .. الجميع ينتظر خروج سليمان (ع) .. الجميع ينظر بدهشة اليه وهو على شرفة القصر متكأ على عصاه دون أن يجروء احد على السؤال هيبة أو خوفا أواحتراما لسليمان (ع) الذي لم يتحرك من مكانة بل ولم يغير مكان أو طريقة وقفته .. أما ما حصل فبعد أن دخل سليمان (ع) وأخذ ينظر لملكه الذي وهبه له الوهاب يقتحم تلك الخلوة  شاب جميل الهيئة  فيسأله سليمان (ع) من أنت ؟ كيف دخلت ؟ من الذي سمح لك ؟ ويعرفه بهويته فالشاب حسن الوجه لم يكن غير ملك الموت (ع) وقد جاء قابضا وتصبح كل الأسئلة التي سألها نبي الله لا داعي لها ..فهو الزائر الوحيد الذي يدخل على من يشاء ؟ ساعة يشاء وبالطريقة التي يشاء طبيعة مهمته هكذا ؟ فيقبض نبي الله وهو متكأ على عصاه لم يمهله ضيفه الكريم حتى تغيير مكانه .. يقال أنه قبض في اليوم الذي أحس به بانشراح في صدره فأراد أن يصفو له بلا منغص..قبض في اليوم الذي ظن أنه سيكون يوم سروره ..ليترك لنا حكمة ورسالة تقول ..إن اليوم الذي تظن أن يصفو لك فيه العيش في هذه الدنيا لم يخلق بعد .. ولو كنت سليمان الذي أوتي من الملك مالم يؤت أحد من العالمين .. طال انتظار المنتظرين وزادت حيرة المتحيرين في أمر سليمان النبي والملك .. و لم تكشف السر سوى دابة من أصغر دواب الأرض ..حشرة صغيرة لم يأبه بها الجميع يوما .. أخذت تنخر العصا التي كان يتوكأ عليها أعظم ملوك الأرض ليخر الجسد الذي فارقته الروح المقدسة منذ شهور وقيل عام كامل ..لتدرك الجن والشياطين التي تزعم بعلمها بالغيب أنها كانت تلبث في العذاب المهين سجينة بلا سجّان ..

تأملات على هامش القصة :

•    مسألة التحكم بالعوالم السفلية والعلوية وتحديدا تسخيرها للإنسان مسألة أضلت الكثير من الناس بتنوع ثقافاتهم وتفكيرهم المفتقدين لعقيدة راسخة فهناك الكثير من المفاهيم الخاطئة والساذجة في التعامل مع عالم الغيب  ..
•    من تلك المسائل الشيطان والجن.. فالإنسان  دائم البحث عنها .. مطلقا لنفسه العنان في تخيلها    وتصويرها  كقوى خرافية متحكمة جاعلا من نفسه الطرف الأضعف في المعادلة..استولى هذا التفكير الخاطئ على الفكر البشري السطحي وتجذّرت مفاهيمه في العقل الباطن للمجتمع بحيث أصبح يشكل ثقافة شعبية ..
•    ورغم التطور المادي الكبير الذي وصل اليه الإنسان بقيت أفكاره وتحديدا في مسألة التعامل مع الغيب والتعرف على  العوالم الأخري تراوح مكانها .. فلازال الشيطان هذا المخلوق الخرافي الذي لا يستطيع أحد مواجهته يتحكم في ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله ..  وبقيت الجان تلك المخلوقات العجيبة التي تمتلك من الطاقات الخرافية ما يجعل الإنسان مندهشا مذهولا  وأحيانا خائفا مذعورا منها وحيكت الأساطير والحكايات الخرافية حول علاقة البشر بتلك العوالم ..حتى بات الإنسان يجهد نفسه برياضات روحية ونفسية لغرض مشاهدة الجن وخرق الحجب التي تمنع ذلك بل عدّ ذلك من الكرامات والقداسة أحيانا ..  وكل ذلك ناشئ من عدم معرفة الإنسان بنفسه وبالتالي عدم معرفته بما يمتلكه من طاقات وما يمثل من حجم و مقدار تكريم الباري (عزوجل ) له .. وتفضيله إياه على جميع خلقه بل وتسخير كل ما خلق لخدمته شرط أن يكون أهلا لذلك التشريف  ..فالإنسان سيد المخلوقات وأفضلها بل لأجله خلقت وسخرت لكن حدود تلك السيادة وذلك التسخير يتأثر قوة أوضعفا بدرجة طاعة الإنسان لخالقه وعبوديته لمولاه مالك الملك وأن سلطة الأنسان هي سلطة  تفويض من الله تعالى وبمدد منه  وليست سلطة مطلقة أو أصلية أو ثابتة .

•    ان مسالة تسخير العوالم للإنسان  الكامل خليفة الله في الأرض مسألة تلقائية وطبيعية لكن إظهارها الى عالم الإمكان يضفي عليها هالة من الغرابة في عالم الحس والمشاهدة عند عامة الناس لا يستوعبوا حصولها بفعل تخبطهم بظلمات الحجب التي تكونت من خطاياهم وخطأهم وغفلتهم ..
•    أن الملك لله تعالى وحده يؤتيه من يشاء وكيف يشاء ومتى شاء  بلا حدود لعطاءه .. لكن هذا العطاء غير المحدود يستلزم محلا مناسبا لتجليه وهي النفس التي أصبحت مظهرا من مظاهر الحق سبحانه وهي نفس المعصوم الذي يجسد الإنسان الكامل ..

•     أن شكر النعمة يكون من جنس النعمة التي أنعم بها المنعم وقام  سليمان (ع) بتجسيد عدة مظاهر لهذا الشكر العملي  . فسليمان (ع) قد ملك دنيا لم تملكه .. وتصرف بأسبابها ولم تصرفه عن عبادة ربه الأعلى و انقاد له كل شيء ولم ينصرف قلبه الى أي شيء من حطامها فمن كان يريد الدنيا فليكن مثل سليمان  .
•    إن الشياطين والجن والملائكة هي مخلوقات كسائر ما خلق الله تعالى خلقها لحكمة وغاية ولا تخرج بأي حال من الأحوال عن قدرته ومشيئته فلا ضرر لها ولا نفع لها الا بإذنه سبحانه . ..
•    سليمان (ع) لم تشغله مسؤولياته كنبي وقائد وحاكم من الاهتمام  بشؤون رعيته إبتداءا من أصغر المخلوقات  كالنملة والهدهد وانتهاءا بالإنسان .. وفي ذلك درس لكل من ولاه الله تعالى ملكا فنسي رعيته متذرعا بكثرة المسؤوليات ..
•    عبادة غير الله تعالى أي كان هذا الغير صنما أو وثنا ..  نفسا أو إنسانا أو شهوة ..هي  حجابا تصد عن إتباع الحق وساترا للحقيقة مثلما صد بلقيس ما كانت تعبد من دون الله تعالى  .
•    لم يفنَ ملك سليمان ولكن سليمان هو الذي غادره في لحظات .. لم يمهله الأجل حتى تغيير مكانه فقبض وهو متكأ على عصاه في اللحظة التي كان يتأمل ملكه العظيم ليبعث لنا برسالة تلخص فلسفة الوجود أن الدنيا إن لم تفارقها فارقتك فهي ليست قدرنا وهي محطة وإن كانت مثل ملك سليمان .. سليمان الذي لم يكن بها غير عابر سبيل اجتازها الى دار البقاء.. والخلود

•    مسألة التوفيق بين إدارة الحكم والملك العظيم وما يتطلبه من فنون السياسة ونظمها الإدارية وقيادة دفتها وبين المقامات الروحانية العالية التي حصل عليها هذا النبي العظيم .مسألة غاية في الصعوبة والمشقة

في رحاب قصة نبي الله يونس (عليه السلام )

                                بسم الله الرحمن الرحيم

      
قال تعالى :((وإن يونس لمن المرسلين*إذ أبق إلى الفلك المشحون*فساهم فكان من المدحضين* فالتقمه الحوت وهو مليم* فلولا أنه كان من المسبحين* للبث في بطنه إلى يوم يبعثون))الصافات: 139 - 144
حففنتت222واتالاناً
المقدمة
لقد كان إبتلاء نبي الله يونس إبتلاءا عظيما غنيا بالدروس والعبر .. قبل تدبرها تفصيلا سنورد النقاط التالية كمقدمة لها :
1.    في أحيان كثيرة قد يؤدي حرص الداعية على أداء رسالته والحماسة الى الوقوع في أخطاء كان من الممكن تلافيها بمزيد من الصبر والمصابرة ..
2.    إن أنبياء الله تعالى هم أصحاب الدرجة الرفيعة في درجة الحرص والإخلاص ولكنهم يتمايزون تفاضلا في درجة التكامل والمزايا النفسية في درجة ترك الأولى او العمل به .. مع العلم إن ترك الأولى لا ينافي عصمتهم ولكنه يؤثر على الدرجة المثالية التي يتطلبها إتمام العمل ..
3.    إن الحب في الله تعالى والبغض في الله من أعظم مظاهر الإيمان .. وهذا الولاء المبدئي يجب أن يكون البوصلة التي يتحرك باتجاهها المؤمن ..
4.    إن أنبياء الله ورسله يشق عليهم كثيرا حلول الغضب عليهم فهم المرسلون إليهم رحمة ..ولكنهم حين يتأكد لهم ضلال  قومهم وعنادهم بعد إقامة الحجة عليهم فإنهم يتحولون أعداءا لهم طبقا لقاعدة الولاء لله تعالى ..
5.    لم تكن مغاضبة يونس (ع) مغاضبة لنفسه بل مغاضبة خالصة لله تعالى وحرصا على الرسالة .
6.    لقد بنى يونس (ع) تصوراته وحكمه على قومه من ظاهر حالهم وعنادهم .. وتجارب أنبياء الله السابقين مع أقومهم فلم يحدث أن رجع قوم عن غيهم بعد أن استحقوا غضب الرحمن ..
7.    لقد تدارك يونس (ع) خطأه غير المقصود بتوبة وإنابة هي الأعظم في تاريخ الإنسان مميزة للغاية بدأها بتوحيد وضمنّها تسبيح وختمها بإقرار بالذنب .. لقد فتحت التوبة اليونسية  أبوابا للتكامل الروحي ..
  نبوة يونس (ع)
اختلف المؤرخون في زمن ولادة يونس : فقيل انه ولد بعد موسى وهارون (عليهما السلام ) وقيل هو من أولاد هود وقد بُعث لما تبقى من قوم هود .. ولكنهم اتفقوا على مكان قومه وهو نينوى قرب الموصل في العراق ..
وأبوه هو متي وهو عبدا صالحا شديد الورع التقوى والشكر لله تعالى وقيل إنه قرين داود (ع) في الجنة ..
يونس النبي قام بتبليغ رسالته على أكمل وجه .. لم يدع وسيلة الا اتبعها مع قومه المعاندين وبالمقابل لم يدع قومه وسيلة إيذاء الا وواجهوا بها نبيهم الصابر .. كانوا يقابلون الدعوة الى الحق بالسخرية والإستهزاء ولطف الإسلوب بالقسوة والغلظة , ولم تؤمن بدعوة التوحيد الا مجموعة قليلة كان من بينهم عابد قليل العلم وعالم حكيم ..وكانا مقربين من نبي الله ..وتستمر فترة الدعوة اليونسية أكثر من ثلاث وثلاثين سنة  ولا أمل يلوح في الأفق في تغير الموقف .. ويخشى نبي الله على الرسالة و المؤمنين بها.. ويستشير العالم والعابد .. ويشير العابد بالدعوة على القوم لعنادهم وكفرهم واليأس من هدايتهم فيما يكون رأي العالم بالتريث والصبر ..لكن نبي الله وبدافع الحرص على الرسالة ودراسة أحوال قومه يرجح ما ذهب اليه العابد ..
ويدعوا نبي الله على قومه بقلب منكسر يملؤه الحزن .. ويستجيب الباري (عز وجل) دعوته ويحدد الأجل لنزول العذاب ..وقبيل حلول الأجل بوقت قصير يقرر نبي الله الخروج من القرية قبل أن يؤذن له ،و يصحبه العابد فيما يقرر العالم البقاء حتى اللحظات الأخيرة مع القوم على أمل أخير في توبة القوم ..
ويخرج يونس (ع) مغاضبا على قومه المعاندين منتصرا لربه بعد أن أقام الحجة البالغة على قومه المعاندين  وأنه غير مؤاخذ ولا ملوم بتركهم لقد تعامل وفق المنطق الإنساني فيما أراده الله (سبحانه تعالى) أن يرتقي الى التعامل الإلهي الرباني وكان الأولى  ..
بعد مغادرته المدينة العاصية تاركا فيها المؤمن الحكيم الذي آثر البقاء مع قومه في محاولة أخيرة لهدايتهم ..وصل يونس (عليه السلام) ساحل البحر وهناك وجد سفينة ملئت حتى آخرها بالناس والمتاع .. صعد (ع) فيها لتوصله الى الضفة الأخرى .. وبعد لحظات من صعوده السفينة تهب ريح عاصف ويرتفع الموج الغاضب وتشرف السفينة على الغرق .. فيأتي من يقول إن على ظهر هذه السفينة عبد أبق من مولاه فإن ألقوه في البحر سلمت السفينة ومن فيها .. ويعرف يونس (ع) أنه المقصود ..وتجري القرعة بين المسافرين .. فتخرج ثلاثا على يونس (ع) فيلقى في البحر ليجد حوتا بانتظاره يسكنه جوفه ..
ويبدأ الامتحان الرهيب وساعاته العجيبة ..فيونس (ع) في أحشاء الحوت المظلمة المعتمة اللزجة المقززة والحوت في ظلمات البحار .. في برزخ من ظلمات متداخلة موحشة ..هل يستطيع بشر أن يتخيل ذلك ؟؟ ماهو شعور يونس الإنسان ؟ بماذا كان يفكر ..هل كانت لديه قدرة على التفكير أصلا ؟ كيف كان يتنفس ؟ ماذا كان غذاؤه وشرابه  طيلة الأيام السبعة التي قضاها في جوف الحوت ؟ لقد تدخلت العناية الإلهية في كثير من التفاصيل المتعلقة بحفظ وبقاء يونس (ع) على قيد الحياة ..لكن يبقى الجانب الأهم والمعجزة الكبرى هو في تعامل نبي الله مع الموقف .. فقد تملكه إحساس واحد تسيد وأختزل كل أحاسيسه الأخرى وهو إحساسه بالذنب والتقصير والندم والتوبة وظلم النفس بتركه الأولى وهو الصبر على قومه حتى آخر اللحظات .. لقد كان شعورا قاسيا ذلك الذي عاشه ذا النون .. ولكن لنرى بأية إيجابية تعامل معه  ؟ لقد أتخذ من ذلك الموضع الموحش المظلم الغريب مسجدا ومعبدا يسبّح فيه لله تعالى .. 
وبقلب مفجوع وروح خاشعة يتوجه يونس العبد الآبق الى سيده ومولاه هاربا منه إليه ..طارقا وبإلحاح المضطرين أبواب رحمته التي وسعت كل شيء ..وتردد أصداء تسبيحاته عبر أعماق البحار البالغة العتمة .. ويسمعها ويأنس بها سكان تلك العوالم التي تتساءل بسرور عن هذا الأنس الذي دخل عليها وتلك البركة التي عمت وجودها كما تساءلت سكان السماوات العلى عن ذلك التسبيح الإنسي العجيب الذي أدهشها  .. ليتحول الحوت مسجدا متنقلا ويكون يونس عابدا مسبحا موحدا مقرا بذنبه منيبا مستغفرا ..
((  وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) الأنبياء 87
  لقد ابتدأ التسبيح اليونسي بتوحيد الباري من كل شرك وتنزيهه مما لا يليق به (سبحانه ) ثم أقر بذنبه وتقصيره .. ليعلمنا درسا بليغا في الوسيلة لطلب التوبة و مقدماتها وأدب الاستغفار ..بقي على هذا الحال ثلالثة أيام وقيل سبعة ..ويستجيب ربه الرءوف الكريم لعبده الذي نجح في اجتياز الاختبار الكبير  ((فاستجبنا له ونجيناه من الغم ...)) الأنبياء 88
 لم يقتصر الكرم الألهي العظيم على يونس النبي بل أسس لقاعدة في الرحمة الألهية لكل من ظلم نفسه وأوقعها بغم المعصية والبعد عن الله تعالى ولو كان بمقدار ترك الأولى ..
 لقد كان تسبيح يونس طوق نجاة له ولكل مؤمن موحد..((...وكذلك ننجي المؤمنين)) الأنبياء 88..
      هنا نتوقف عند لفظة الغم والتي تدل على المعاناة النفسية التي تعتري المؤمن حين يحس بالمخالفة التي يجب الا تقاس بحجم المعصية بل بقدر من عصي .. إن الغم الذي كان يجثم على قلب يونس (ع) لا يمكننا تصوره وهو غم الأولياء الصالحين الذين اعتادوا العيش متنعمين بفيض النور الإلهي الذي تسبح في فضاءاته أرواحهم الطاهرة ..
 بعد أن جاء الفرج الألهي .. يقذف الحوت بيونس (ع) على ساحل البحر .. لينقطع التسبيح المبارك ويستوحش سكان البحار الذين كانوا يأنسون بصدى تسبيحه  ..  يونس الإنسان الضعيف المسكين المستكين الذي لايملك لنفسه ضرا ولانفعا .. جسدا منهكا رطبا لزجا لا يقوى على الحركة .. تؤذيه حرارة الشمس فيضلله ربه البر الرحيم ..بشجرة القرع ..وشيئا فشيئا يستعيد عافيته ...
(هنا يروى أن يونس بعد أنس بشجرة القرع التي تظله وتغذيه تذبل شيئا فشيئا حتى يفقدها فيحزن نبي الله لفقدها فيوحي الحق سبحانه اليه يا يونس أحزنت لفقد شجرة لم تخلقها ولم تربّها  فكيف تستعجل عذاب عبادي الذين خلقتهم و ربيتهم وغذيتهم ..)) فيستغفر يونس ويعتبر.. وفي ذلك نكته عرفانية بالغة في عظيم رحمة الباري بعباده ورأفته التي لا يمكننا تخيلها .. وتلك رحمته بالعاصين فكيف بالمطيعين منهم ..
لكن مالذي حصل لقومه بعد تركه لهم ؟
يقول الرواة : قبل أن تشرق شمس نهار الأربعاء يوم عذابهم الموعود .. راح العالم الذي آمن بيونس النبي يبالغ في نصح القوم ويحذرهم من عذاب ربهم الذي لاحت بوادره بغيوم كالجبال سوداء أطبقت بضلالها خنقت الأجواء مذكرهم بما حل بالأقوام السابقة وكيف خسروا الدنيا والآخرة بعنادهم ومعصيتهم لرسلهم .. فينظر بعضهم لبعض ويتسلل الخوف الى أعماقهم ويستشعروا سوء المصير الذي ينتظرهم ..لينتصروا على شيطانهم وأنفسهم .. ويقتنعوا بكلام العالم ويسألوه عن سبيل الخروج .. فيشير عليهم بأن يخرجوا الى الصحراء تاركين مساكنهم رجالا ونساءا صغارا وكبارا مرضى وعاجزين .. مفرقين بين الأم وصغارها.. والحيوان وفصيله .. باكين متضرعين منيبين مستغفرين .. ويفعلوا ذلك ويعلوا الصراخ والضجيج .. ويعلم الله تعالى صدق توبتهم فتشملهم رحمته التي وسعت كل شيء ..فيرفع عنهم العذاب ويمتعهم الى حين لتكون الأمة الوحيدة المستثناة من الإستئصال  التي نزل بها العذاب و رفع عنها برحمة الله تعالى لهم و توبتهم ..
 ((فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لمآ آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)) يونس 98
ويبقى الدرس الكبير في الاستثناء بشرط ..ففي الوقت الذي استثنى فيه الباري (عز وجل ) القرية الظالمة من قانون الاجتثاث بشرط توبتهم ورجوعهم .. استثني يونس النبي والعبد الصالح من قانون الاجتباء حين ترك الأولى بما يفترض القيام به ..ثم ليستثنى ثانية من قانون العقاب بشرط توبته وإنابته واستغفاره .. لتكون ثلاث استثناءات إلهية رحيمة ..استثناءين لنبي الله و واحد لقومه ..
  ويعود يونس (ع) لقريته نبيا وداعيا الى الله ليؤسس دولة التوحيد من جديد ..يعود يونس (ع) لقوم استوعبوا الدرس تماما فينتفعوا بإيمانهم دنيا وآخرة .
بقي أن نشير الى أن لحظة من لا تعد من عمر الزمن شيئا وكّل بها يونس النبي (ع) الى نفسه.. لحظة ليست بخطيئة ولا معصية بل ترك فيها ما لا يترك ..وظن فيها ما لا يجب أن يظن .. لحظة فكر فيها بعقل بشري ولم يستوعبها بروح النبي كادت تؤدي بمحوه من ديوان المرسلين وتبقيه في العذاب الى حين يبعثون.. لنعرف أي لطف وكرم يغمرنا به رب العزة والجلال ونحن نرتكب الجرائم  الجسام كل لحظة ولا نبالي .. لندرك مدى عظم منزلة يونس النبي عند ربه ..إن عظم الابتلاء يدل على عظم الدرجة والاجتباء مثلما طول الإمهال والاستدراج يدل على السقوط والتسافل والخذلان ..
ونختم بتلك الرواية الرائعة :
يروى أن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان في بيت أم سلمة ففقدته من الفراش فقامت تطلبه فإذا بتا تراه في جانب من البيت وهو رافع يديه يبكي ويقول :
اللهم لا تنزع مني صالح ما أعطيتني أبدا .. اللهم لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا.. اللهم لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا أبدا .. اللهم لا تردني من سوء استنقذتني منه أبدا ..
فانصرفت ام سلمة تبكي حتى انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله ) لبكاءها فقال لها .. مايبكيك يا أم سلمة ؟ فقالت بأبي أنت وأمي يارسول الله ولم َ لا أبكي وأنت بالمكان الذي  أنت به من الله قد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر تسأله الا يشمت بك عدوا أبدا وأن لا يردك في سوء استنقذك منه أبدا وأن لا ينزع صالح ما أعطاك أبدا وأن لا يكلك الى نفسك طرفة عين أبدا .. فقال ( صلى الله عليه وآله ) : يا أم سلمة وما يؤممنني , وإنما وكل الله يونس بن متي طرفة عين فكان منه ماكان ))....

في رحاب قصة نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام)

                                     بسم الله الرحمن الرحيم

 ((إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ))آل عمران: 59

مقدمة :
       بعدة وفاة موسى (ع) بدأت قافلة الانحراف لبني إسرائيل بالتحرك العلني بعد كانت طوال حياة النبي موسى تعد العدّة لذلك وتنتظر اللحظة التي تعلن فيها تمردها رسميا ..فحرفّوا التوراة التي جاء بها نبيهم وبدأوا يمارسون الدين كما يشتهون وكما تصوره لهم الأهواء .. فتتالت عليهم رسل السماء تعيد ماهدمه المنحرفون وتعيد كتابة ما انمحى من سطور التوراة ولكن تلك الدعوات ذهبت أدراج الريح ..مع ملاحظة ان هذا لا يعني  عدم وجود الصالحين ولكن عددهم  لا يمثل رأيا عاما أومؤثرا .. لقد كان تيار الانحراف والضلال جارفا وكبيرا ..قتلوا من المرسلين ماقتلوا .. وقد ذكر المؤرخون أرقاما كبيرة لعدد الأنبياء الذين تمت تصفيتهم ..وطبقا لأهوائهم السخيفة وتوراتهم التي حرفوها شكلا ومضمونا ومعنى  فهم شعب الله المختار وهم وحدهم السائرون على طريق الهدى وهم اسياد لبقية البشر الذين خلقوا لخدمتهم ففي جسد اليهودي يجري دم مميز عن دماء غيرهم من البشر هذه النظرية الشيطانية التي استمدوها من نظرية (أنا خير منه ) أسست لأكبر وأخطر الانحرافات البشرية وما زالت تنتج آثارا الى اليوم ..
وكان كل نبي مرسل يأتي ببشارة النبي المخلص .. وقد انتظره الجميع من ساد ومن أُستعبد ومن ظلم ومن اضطهد !! الجميع كانوا ينتظرون ..أما المعذبون فينتظروه ليحررهم وأما المنحرفون فينتظروا ليقرهم على ظلمهم أو يقتلوه .. هكذا صوّرت لهم أحلامهم المريضة ..
رفعوا لافتة أبناء الله وأحباؤه وتحت هذا الغطاء المنافق المخادع فعلوا المنكرات وكل أنواع الفساد والإفساد في الأرض ..
وفيما استمرت نذر السماء بالنزول على القوم الظالمين ..منذرة ومبشرة .. تستمر قافلة الانحراف بالمسير دون توقف تكتسب المزيد من الأنصار ..
عمران النبي وولادة مريم (عليهما السلام )

  تصل مهمة هداية هؤلاء المنحرفين الى نبي الله عمران الذي يؤدي ما كلّف به بكل تفان ولكن جهده يذهب أدراج الريح وسط موجة الضلال والتضليل التي تحيل الأجواء الى ظلام مطبق ..
لكن عمران النبي كانت لديه هواجس خاصة وان كانت متعلقة بالرسالة ..فهو لم يرزق ولدا .. الولد الذي يكون امتدادا للرسالة والدعوة الى الله تعالى . زوجته الطيبة التي يحزنها الأمر أكثر ..لا تجد غير بارئها الرحيم تلجأ اليه..وتدعو بقلب منكسر ويؤمّن زوجها النبي على دعاءها ..ولم يخذلها الكريم من فيض عطاءه فتحس الأم بعد فترة بالحمل المبارك يتحرك في أحشاءها فتجتاحها موجة من الفرح الغامر مع زوجها ويسجدا شكرا لله تعالى ..تجسد الزوجة الصالحة شكرها الى شكر عملي بأن تهب ما في بطنها لخدمة بيت المقدس ويستأنس الزوج الذي كان مسئولا عن البيت ومن كبار رجاله..
( هنا نفتح قوس لنتحدث عن النذر ففي كثير من الأحيان يعبر النذر عن شخصية الناذر وثقافته وعمق تفكيره وعقيدته .. فأم مريم نذرت ما في بطنها ليكون خادما للبيت متفرغا للعبادة بمعنى أنها ستحرم من وجوده معها تريد أن تنتزع أية رغبة شخصية أو تعلق نفسي .. لقد كان نذرها من جنس العطاء وفيه تهذيب للنفس ...البعض يتعامل مع النذر بسذاجة مغيبا فلسفته عن فكره .. فيلجأ الى نذر مبالغ فيه أو غير مألوف أو غير قابل للتنفيذ أو محرم .. أما أولياء الله والعارفون فإنهم يفتشوا عن الأمر الأشق على نفوسهم الأرضى لربهم فيلزموا أنفسهم به .. ففي حين تنصرف نظرة البسطاء الى النذر فإن أولياء الله ينظرون الى رضا المنذور له فهي فرصة للقرب ونيل رضاه سبحانه و في  النهاية إن فلسفة النذر تشريعا وفائدة  تتعلق بالناذر ونفسه وليس بالشيء المنذور والمنذور له الغني عن العالمين ) .
  ويشاء الله تعالى أن يتوفى نبي الله (عمران) قبل أن يرى وليده المنتظر ..و يأتي يوم الولادة لتفاجأ الأم بان مولودها ليس ذكرا ..إنه بنت مباركة تشع نورا وبهاء فتسميها مريم بمعنى العابدة ومابين فرحتها بتلك البنت وبين نذرها الواجب الوفاء تنتاب الأم حيرة كبيرة ..فتلجأ من جديد ودائما الى ربها وبارئها
((فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ))آل عمران: 36
ففي مجتمع لم يألف وجود النساء في محل العبادة فضلا عن التفرغ للخدمة في البيت المقدس والمبيت فيه .. يكون الأمر صعبا جدا ..
((فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا .............))آل عمران: 37
بعد أن يتقبلها ربها بقبول حسن تأتي الأم الطيبة بها الى البيت المقدس فيستقبلها الجميع باحترام كبير فهم يعرفون من هي (حنّة) زوجة نبيهم الكريم عمران (ع) وحين تقص عليهم قصة النذر والولادة يتفهم الجميع ذلك بل ويتنازعون على شرف كفالة مريم المقدسة .. وكان بينهم رهبان الدير زكريا النبي (ع) زوج خالة مريم .. وكان من المفترض أن يكفلها منذ البداية ولكن قطعا لأي مشاكل محتملة مع الأحبار الذين يبحث بعضهم عن هذا الشرف المعنوي.. يلجأوا الى القرعة التي تنصف زكريا (ع) ..فيكفلها ويتعهد بشؤونها فيبني لها دارا مستقلة على سطح الدير بسلّم لا يرقى عليه أحد غيره.. فتنقطع مريم لعبادة ربها ومناجاته فتحصل لها كرامات كثيرة .. كان زكريا يرقبها بكثير من الإجلال لمعرفته بشأن تلك القديسة المباركة ..
زكريا (ع)
   ذات يوم وفيما كان زكريا (ع) يدخل عليها إذ رأى أمرا أثار عجبه لقد رأى عندها فاكهة ناضجة في غير أوانها ..وقد تكرر هذا أكثر من مرة ..و يسألها زكريا عن ذلك الغذاء المبارك فتجيبه بجواب يدهشه ويفتح له بابا لحل مشكلة شخصية دامت لعقود من الزمن .. ولعل مريم كانت تدرك وتعلم بتلك المشكلة لذا فكأنها قصدته بقولها ((  ........كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذاقالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب))  آل عمران: 37
بذات اللحظة يحس زكريا أن الرب الرحيم قد أذن لحلمه أن يتحقق وبقلبيملؤه الرجاء وبتلك اللحظة ينطلق قلب زكريا العامر بحب سيده ومولاه فيدعوه  مخلصا أن يهب له الولد الذي يحمل لواء الرسالة والدعوة الى الله (عز وجل)
((ذكر رحمة ربك عبده زكريا*إذ نادى ربه نداء خفيا*قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا*وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا*يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا*يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا *قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا*قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا))مريم: 2 - 9


هنا تتبادر الى الذهن مجموعة الأسئلة أجاب عليها المفسرون لكن لا بأس من مناقشتها والتأمل فيها :
?    كيف يكون دعاء زكريا بصيغة النداء وهو الصوت العالي وفي نفس الوقت يوصف بالخفي؟
?    ما الذي كان يقصده نبي الله من الشقاء بدعاء الله وماعلاقة ذلك بالشيب ووهن العظم ؟
?    قوله (يرثني ) ماهو الميراث الذي حرص زكريا على  توريثه للوليد المنتظر ؟
?    حين بشر زكريا بالغلام الذي كان الغرض من دعاؤه ..ماوجه تساؤله عن الكيفية ؟
?    ماهو وجه الأعجاز في آية زكريا الدالة على البشارة ؟
?    لماذا أوحى زكريا لقومه بالتسبيح صباحا ومساءا ؟

 قبل ذلك كله.. ما الذي دفع زكريا (ع) أن يدعو ربه في ذلك الوقت تحديدا ..ألم يكن يدعوه من قبل وهو النبي الكريم الذي لا ينقطع عن الذكر والشكر كما هو شان أولياء الله تعالى ؟
إن هذا السؤال يفتح لنا نافذة نطل من خلالها على عالم كبير ..اسمه العلاقة مع الله (تعالى).. وتحديدا الدعاء ..ذلك الطقس العبادي الجميل .. تلك الأحاسيس المثيرة (احتياج .. إلتجاء ..تضرع ..إحساس بإن هناك كهف تأوي اليه حين يتخلى عنك الجميع ..شعور دافئ تحتمي به من برد ظلمك لنفسك أو ظلم الغير لك )..
و إذا كان  لكل شيء قمة أو ذروة يصلها ..فحين يصل الإنسان الى قمة شعوره بالعجز ويسقط في يده ويدرك حجمه الحقيقي وإن هناك رب رحيم كريم قوي عزيز غني قادر لطيف لما يشاء..عندما يصل الإنسان لتلك اللحظة ويستحضر آدميته المنكسرة المقرة المذعنة قاطعا كل علائقه البشرية .. يأتي الفرج من حيث لا يحتسب ولا يتوقع ..
( وإذا كان هذا قانونا لنا فإننا نكرر ما قلناه بشأن أولياء الله تعالى أن لهم قانون آخر اختاروا السير بموجبه طواعية لا كرها إنهم يعيشون تلك العلاقة المنقطعة مع الحق سبحانه وتعالى دوما في كل لحظة وحين .. يستشعرون عبوديتهم وذلهم وانكسارهم واحتياجهم وفقرهم وفاقتهم .. وهذا الشعور راسخ ملتصق بأرواحهم الكبيرة وإن اضطروا لكتمانه أمام الناس وإن عاشوا في أجواء من العز والغنى والسلطان الدنيوي تبقى تلك الأجواء ظاهرية لا يمكنّوها من التغلغل لدواخلهم المقدسة التي ليس فيها سوى الله ذكرا وشكرا ومحبة وخوفا ورجاءا..يتعاملون مع المظاهر وفق قانون الابتلاء  )..
لقد كان يعيش زكريا (ع) أجواء الدعاء طوال عمره الشريف ولكنه عندما رأى ما كان عند مريم من رزق وما قالت له مريم (ع) استلم الإشارة الإلهية وفهم ماكان يتوجب عليه ..إنه يريد أن يعلمنا درس في الدعاء كبير جدا مفاده ..إن الله (عزو جل )برحمته وكرمه هو الذي يفتح لنا نافذة الدعاء .. هو من يرشدنا الى الطريق ..إن الهام الدعاء بحد ذاته نعمة كبرى .. حتى قال بعض العارفين أنا من حرمان الدعاء أحرص من حرمان الإجابة ..فالدعاء يبقى ذلك الطقس العبادي أحد أركان الإعداد الروحي للإنسان في طريق سيره نحو التكامل ..
نعود لوقفات التأمل فيما ذكر من أجوبة المسائل المتقدمة :
1.    إن النداء وإن كان يرتبط بالصوت العالي وهو يتناقض ظاهرا مع كونه ((خفيا)) بمعنى الإخفات الا انه يمكن تصور ذلك والجمع بينها وهو يحدث كثيرا بل ويستحب كأدب من آداب الدعاء أن يرفع الصوت في مكان بعيد عن الناس إما مكانا أو زمانا ..فهو نداء لا يسمعه الناس كأن يكون في مكان خالي أو وقت السحر حيث لا يسمع أحد .
2.    إن زكريا وبأدب العبد مع ربه يعترف بعظيم نعمة الله تعالى عليه أن ألهمه الدعاء طيلة عمره وأنه لم يكن يوما شقيا بهذا الدعاء فلم يعرف من ربه الا الحسنى وإجابة الدعاء .. وهو أدب آخر من أدب الدعاء ذكر النعمة المتجددة من الباري عز وجل على عبده ويأتي من ضمن التذلل وعرض الحال على من هو أعلم به كذكر الشيب وعوامل العجز.. ونكرر هي دروس متقنة موجهة لنا ..
3.    لقد ذكر زكريا سببا لطلبه أو دعاءه فلم يكن سببا دنيويا كزينة الحياة الدنيا بل ذكر أسباب وجيهة وعقلانية لطلب الولد كي يرثه أرثا ماديا كون زوجته من سلالة يوسف وقد ورثت مالا خشي أن يقع بيد الأشرار أو أرثا معنويا كونه نبيا ويتمنى أن تتصل حلقات الدعوة الى الله في هذا البيت المبارك ..
4.    حين بشر بإجابة الدعوة فإن زكريا تساءل عن الكيفية بلحاظ عدم وجود الأسباب الطبيعية للولادة وهي رسالة موجهة لنا للدلالة على قدرة الله تعالى المطلقة وقد تكررت تلك المواقف التعليمية ..
5.    لقد كانت آية زكريا عظيمة ومعجزة كبيرة .. فهو ومع إمكانيته على الكلام ومع سلامة كل قواه التي تساعد في النطق يعجز عن ذلك ..نستطيع أن نتأمل في ذلك .. فنسأل هل لتلك الآية المتعلقة بالنطق لها ارتباط بأصل المسألة وهو الدعاء وهو أيضا متعلق بالنداء الخفي .. ربما .
6.    إن حصول المعجزتين البشارة والآية لم تكونا شخصيتين يرتبطان بزكريا الإنسان والنبي بل عبارة عن درسين ألهيين في صميم العقيدة وهما موجهان للأمة لذا اقتضى تعميم النعمة واستلزم ذلك التسبيح في إقبال النهار وإدباره لما لهذين الوقتين من خصوصية ..
بالنتيجة كان درس زكريا (ع) غنيا بالمعاني الروحية والعرفانية وتعليميا في أسلوب الدعاء وأدبه وطقوسه والتعامل مع آثاره المعنوية ..

ويرزق زكريا (ع) مولودا سمّاه الله يحيى وحباه بعشر صفات مميزة ذكرت في الآية المباركة :
((يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا*وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا*وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا*وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا)) مريم 12-15
بعد هذه الحادثة يصبح ذكر مريم على كل لسان في مجتمع إسرائيلي افتقد منذ زمن للمعاني الروحية وانغمس بالمادة وعبادة الأهواء تأتي تلك الفتاة الصغيرة بكل براءتها وطهارة مولدها وشرف نسبها وشمائلها ونورانيتها .. لتجسد لهم معاني لم يألفوها كثيرا رغم قوافل الأنبياء وآخرهم زكريا (ع) ومن قبل أبيها عمران (ع) ..

في لحظة انقطاع وتبتل مريم تتلقى أولى بشائر الإجتباءالألهي بفرح يجتاح كل وجودها :
((وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين*يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين))آل عمران: 42ـ43 ..
لكن في يوم آخر وفي لحظات إلهية بالغة العظمة تفاجأ مريم العذراء المقدسة العابدة بوجود رجل في مكان تعبدها .. مفاجأة اضطرب لها كل كيانها : من هو ؟ كيف دخل الى مكان الذي لا يجرؤ أحد الوصول اليه ؟ماذا يريد منها ؟ أسئلة كثيره ازدحمت في بالها الذي شغل تماما من هول ما ترى .. لكنها تمالكت مشاعرها المضطربة واستحضرت كل شجاعتها التي ورثتها من آباءها..لتقول لزائرها التي رأت فيه علامات الصلاح
 ((إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا)) مريم 18
لقد استعاذت بالله منه إن كانت له صفة التقوى فإن حرمة لا يقدسها الا ممن يخاف الله ويرعى حرمه ..مفيد جدا أن نفتح قوس هنا ( إن كثير من النفوس التي لم تقدم على المعصية حين تذكرها  بالله تعالى فإنها تستعيد فطرتها ويستيقظ ضميرها ولو بشكل مؤقت يكون كافيا لردعها أو الإحجام عمّا تهم بفعله وهناك الكثير من المواقف الحياتية ما يعزز ذلك )
•    ويطمئنها الملك الكريم بأنه رسول ربها فتشعر بقدر كبير الهيبة والجلال ولكنها كانت على موعد مع مفاجأة كبرى ببشرى الرسول  التي أصابتها بالحيرة
•     ((قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا)) مريم 19
•    فتتساءل ببراءة ((قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا)) مريم 20
•    تساءلت بمنطقية ومحدودية العقل البشري الذي يربط الأسباب بمسبباتها الطبيعية فالطريق الطبيعي للولادة هي باقتران المرأة بالرجل وهذا الاقتران إما يكون شرعيا أو غير شرعي ولا سبيل ثالث ..ويقطع الملك الكريم تساؤلاتها المشروعة تلك ((قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا)) مريم 21

    حينها و بروح راضية تسلّم لأمر الحق ( تبارك وتعالى ) لكنها لم تستطع أن تمنع فكرها وهو يسأل السؤال الكبير : ماذا بعد ؟ كيف ستواجه مجتمع مريض مشكك كمجتمع بني إسرائيل بأمر كهذا ؟ لقد كانت مريم المقدسة تمر بتجربة نفسية بالغة الحساسية ..من خلال :

•     ان مريم العذراء لم تكن تمتلك أي تجارب حياتية سابقة ..لم تكن تختلط بالمجتمع الا نادرا .. ولم تكن تعرف من الرجال غير زكريا زوج خالتها وكفيلها فكيف بها وهي تتعرض لأقصى درجات العلاقة بين الرجل والمراة ..فأن تحمل المرأة من رجل فهي خاتمة المطاف بالنسبة لعذرتها وعفتها ..وبطريق غير مألوف   
•    ان بني إسرائيل قوم سوء يفترضون سوء النية في الغير ويتعاملون بالظنون وكأنها حقائق ..ولم يسلم من سوء ظنهم وظلمهم حتى نبيهم الكريم (موسى ) وهو كليم الله ومن رسل أولي العزم فاتهموه بالزنا (العياذ بالله)  لولا أن برأه الله تعالى وعلى لسان المرأة ذاتها كما مرت الإشارة إلى الحادثة  ..
•    ان وضع المرأة في المجتمع بشكل عام وفي كل زمان وضع معقد وصعب ..فهي دائما مدانة حتى يثبت العكس في حين أن الرجل يتمتع بالبراءة حتى تثبت ادانته ..واضطهاد المجتمع للمرأة لا يختص بمجتمع دون آخر وإن لبس عباءات مختلفة ..فمريم وبكل براءتها وطهارتها عليها أن تواجه مجتمعا وإن كان يقر رأيه العام بعفتها ويضرب بها المثل الا إنه لا يخرجها من حساباته السيئة ..
•    إن جوهر قضية ابتلاء مريم أن المجتمع أعطاها حصانة أخلاقية مميزة رقت بها عن الشبهات..والمجتمع متى ما أعطى تلك  الحصانة لأحد أفراده فإنه يضعه تحت مجهر دقيق يحسب عليه كل حركاته وسكناته فيضعه دوما على طاولة التشريح.. من هنا يبرز حرج موقف العلماء في المجتمع وكيف أن المجتمع يسلط عليه الأضواء الكاشفة لاكتشاف أخطاءهم  ..وتضخيم تلك الأخطاء أحيانا والتشهير ليس بهم وحسب بل وبالجهة التي يمثلون.. وقد اشتهر المجتمع الإسرائيلي بالتشهير والقدح بأنبياء الله وأولياءه ..وكان هذا هو أحد هواجس مريم المقدسة .

بلحاظ ما تقدم فقد عاشت مريم المقدسة ساعات عصيبة وهي تحس بالجنين المبارك يتحرك في أحشاءها بعد أن نفخ جبرئيل (ع) في جيب درعها .. جُل تفكيرها كان في كيفية مواجهة الناس ..وماذا تقول لهم ؟..وهي تعرف مسبقا أن لا أحد يستطيع إدراك ماحدث ..لذا فإنها حرصت بأقصى ما تستطيع أن لا يراها أحد طيلة مدة الحمل التي اختلف المفسرون بمدتها وكيفيتها ..
   وتأتي ساعة الامتحان الكبير ..الساعة التي كانت  تنتظرها بخوف .. فترحل بعيدا عن أعين الناس .. في أطراف المدينة ..حيث فتاة وحيدة في مقتبل عمرها ..لا أحد يساعدها أو يقف معها في أشد لحظة تمر بها المرأة في حياتها ..موقف رهيب ومفزع لكن مريم المتسلحة بإيمانها بربها العظيم تستجمع كل قواها لتنتصر على العوامل الخارجية من آلام ومحن لكن ماذا تفعل لأمور ليس بيدها؟ مرة أخرى يؤرقها ذات السؤال الكبير : ماذا تقول إن سألها السائلون عن وليدها ؟ وتتكلم بلسان العذراء التي تحافظ على أعز ما تملك تقولها لكل امرأةإستزلها الشيطان أو سولت لها النفس الأمارة بالسوء أن تشذ أو تنحرف لتسقط في الهاوية أو على وشك السقوط .. أن تفكر في قول السيدة المقدسة وهي التي تعلم بشأنها وشرفها ومكانتها العظيمة
 ((فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا))مريم: 23
   لقد تمنت الموت قبل أن تاتي هذه اللحظة التي تكون فيها محل تهمة أو شبهة .. هو درس أعطته السيدة العذراء لبنات جنسها كي يدركن مدى صعوبة وقسوة تلك اللحظة .. وحين تصل مريم الى أقصى درجات خوفها وقلقها وآلامها ووحشتها وإنقطاع السبل بها وبعد أن تستنفذ كل ما ليها من طاقة بشرية ..يأتي فرج ربها الكريم الذي وعدها ولن يخلف وعده ..يأتي الفرج ودائما من حيث لا تحتسب ..
((  فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا*وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا*فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا))مريم: 24 - 26
لقد ناداها روح الله الوليد المبارك والنبي الموعود بنداء أرشدها الى ما يسد جوعها..والعبارة المباركة (وهزي إليك بجذع النخلة) فيه دلالة على بذل الجهد كقانون ثابت من قوانين العيش في هذه الدنيا .. بذل الجهد ولو بمقدار الجهد البسيط المهم أن يسعى الإنسان بتحصيل الأسباب المادية الظاهرية .. والا من المتعذر على مريم بالضعف الجسدي الذي هي عليه .. أن تهز نخلة مثمرة  .. لكنه درس على أن تكليفنا هو بذل الجهد بإخلاص ويبقى الأمر لله تعالى من قبل ومن بعد ..
  كذلك .. فإن تقديم تحصيل الغذاء على غيرها من الأمور التي كانت تشغل تفكيرها .. فيه إشارة على تقديم الأهم وهو حفظ النفس على أمور يتكفل الله تعالى بحلها ..
  وحمل الشق الآخر من النداء مافيه تهدئة لروعها وتبديدا لهواجسها ورسم لها طريقة التعامل مع الموقف ....
   لقد نجحت مريم (ع)  وبتفوق مذهل  في أقسى امتحان وأشق مهمة .. و كل ما عليها الآن أن تحمل الطفل وتدعه يكمل الطريق لتبدأ صفحات جديدة من الدعوة الى الله تعالى ..
 كل ماعليها أن تحمل المولود المبارك وتشير اليه :((فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا))مريم: 29

(من المهم ملاجظة أن (القول)غير(التكلم) فالقول هو إفصاح عن الإرادة وهو أعم من الكلام الذي هو أحدى وسائل التعبير فلا يتعارض قولها إني نذرت للرحمن صوما مع صيامها عن الكلام فربما قالت ذلك إشارة ) .. وبالفعل تأتي مريم  تحمل الصبي الذي يتلألأ نورا وبهاءا .. ويستقبلها القوم الذين على مدخل المدينة .. ويصبهم الذهول مريم

وهنا سوء النية لدى القوم التي كانت سبب مخاوف مريم والتي أشرنا اليها ..فهم لم يسألوها ولم يستفسروا منها لم يفترضوا فيها حسن النية والمفترض هم يعلمون من هي مريم ..لقد حكموا عليهاإبتداءا وذكرّها بنسبها العفيف ..وكأنها والعياذ بالله قد دنست هذا الشرف العائلي ..
عقولهم التي ارتبطتبالحسيات لم تستوعب ما قالته مريم المقدسة فظنوا أنها تستهزء بهم.. وساد الصمت للحظات قبل أن يحدث ما أخذ بمجامع كيانهم ذهولا ودهشة وعجبا
((قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا*وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا*وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا*والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا))مريم: 30 - 33
    كان اندهاشهم مبررا فهم يستمعون لكلام مبين لطفل لم يتجاوز عمره ساعات قليلة .. ينطق بلسان فصيح لم يسمعوا له نظير ..لقد كانت ثلاث معجزات ركبت مع بعضها في لحظات باغتت القوم المحترفين في دنيا العناد بحيث لم تدععهم يفكرون بردة فعل غير التسليم ..طفل يولد من غير أب ويتكلم في المهد وينطق بمنطق الرسل والأنبياء ويذكر تشريفه بالرسالة وتكاليفه الشرعية وصفاته ذاكرا السلام دستورا يؤطر حياته والممات ..
ويسلم اليهود للأمر الواقع ويتعاملون مع النبي الذين ظلوا يبشرون بقدومه بحذر شديد ..مؤملين أنفسهم بأن قدومه سيقوي مركزهم الديني ويوطد سيطرتهم ويضفي المشروعية على فسادهم وإفسادهم الذي يقومون به تحت لافتة ( شعب الله المختار) ولافتة ( سيغفر الله لنا )..فيما المستضعفون والمقهورون فرحوا بظهوره كمخلص لهم ومنقذ..
ويعلننبي الله عيسى ( ع) عن برنامجه الإلهي وعن مهمته التبليغية التصحيحية ..وعن آياته والمعجزات التي كانت بإذن الله تعالى
((إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين)) المائدة: 110
الملاحظ تكرار اللفظ المبارك (بإذني ) لسد أي ثغرة يمكن ان ينفذ منها فكر منحرف فيشكك ببشرية عيسى (ع) خصوصا ونحن نتكلم عن قوم خبروا النفاق وأتقنوه اتقانا كما لم يتقنه غيرهم ...أما التذكير بنعم الله تعالى وإن كان موجها لعيسى لكنه موجه أصلا لكل العالمين بما فيهم اليهود الذي يعتبر إرسال عيسى (ع) نعمة من أكبر نعم الله لهم ..تلك النعمة التي رفضوها كعادتهم وجحدوا بها ..وأخذوا يحيكون المؤامرات للكيد مبكرا بالنبي المخلّص الذي لطالما ذرفوا الدموع لانتظار ظهوره .. وحين جاء بما لا تهوى أنفسهم ..ناصبوه العداء ..
  لقد جاء المسيح بآيات باهرات وكلها تدور مدار خرق القانون المادي الذي جعله اليهود دستورا لا يخرق ..فالعيش في عالم المادة وجعل من قانونها العام أصلا لا استثناء فيه ورفض الغيب وقدرة السماء يوصل الإنسان لطريق مسدود أمام أحداث لا يمكن تفسيرها حسب القوانين الأرضية ..إن اليهود ومنذ اللحظة التي أشعل فيها السامري حب العجل في قلوب القوم المنحرفين .. منذ تلك اللحظة وهم يذوبون في أهواءهم وما تصور لهم أوهامهم وما يحدثهم به الشيطان .. فأخذت سفينة الانحراف تبحر وشراعها (نحن أبناء الله وأحباؤه ) ولأنهم كذلك فلهم أن يفعلوا ما يشاءون ..حتى رست سفينة الضلال والتضليل عند سواحل (عزرا ) الذي أسس لكيان منحرف وأخترع لهم توراة وفق أهواءهم ورغباتهم الشاذة ..
  ومن العجيب أن اليهود وبعد أن رأوا في السيد المسيح (ع) عدوا لانحرافهم وضلالهم راحوا يروجون لفكرة أن هذا المسيح المبعوث هو المسيح الدجال الذي حذرت منه كل الأنبياء ..
لقد جاءهم عيسى بالعديد من المعجزات والتي ذكرت في كتاب الله العزيز منها : خلق الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتصير طيرا بإذن الله وقد ذكرتهم تلك الآية بعجلهم الذي عكفوا على عبادته .. والعجيب أيضا أن أجدادهم  آمنوا بوهم العجل ورفضوا هم حقيقة خلق الطير ..وجاءهم بآية شفاء الأكمه والأبرص بإذن الله وقد جاءت هذه الآية لتشفي العديد من الحالات التي يستعصي علاجها في ذلك الوقت فهي آية ومعجزة ورحمة أيضا بالعباد ..ثم جاءهم بآية كبرى لا يستطيع أحد أن يشكك بها وهي إخراج الموتى بعد أن اندرست آثارهم دون التقيد بزمن وفاتهم ..وقد آمن الكثيرون من هذه الآية تحديدا في روايات مفصلة ..
لكن بني اسرائيل الذين مردوا على الكفر والنفاق وقطعوا أشواطا في طريق الانحراف ..وأسسوا مدارس كبرى للضلال والتضليل أبوا الا أن يكملوا طريق تيههم فقد أتهموا نبيهم الكريم بالسحر تلك التهمة التي يفضلها دوما أعداء الرسل ..وأخذوا يكيدون به وبخطوات جدية ..

الجماعة الصالحة
((فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون* ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين))آل عمران: 52
 إن مسألة تكوين الجماعة المناصرة الصالحة للرسالة مسألة غاية في الأهمية بل إنها تشكل في مرحلة ما من عمر الرسالة أمر ضروري لاستمرارها ونشرها ..لكن السؤال هو عن كيفية تكوينها .. ما الذي يجعل أفئدة أناس تتفق على نصرة العقيدة مع كل عوامل الاختلاف وأحياناالتناقض بينهما ..؟
الى أي مدى يستطيع النبي المرسل أن يختار تلك الجماعة ..وماهي معايير ذلك الاختيار ؟
لماذا لم يتمكن  بعض الأنبياء في تكوين الجماعة الصالحة ومنهم نبي الله موسى (ع) بكل عظمة الكليم وسمو مكانته ؟  
قبل ذلك :
ماهي فلسفة وجود تلك الجماعة و أهميتها والخصائص الذاتية لأفرادها ؟
إن الأسئلة المتقدمة أثارتها الآية المباركة ((وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون)) المائدة 111
في بعض الأحيان تحتاج العقيدة كبرنامج عمل الهي الى تطبيقات عملية لذلك المنهج .. فالنصوص النظرية المقدسة بحاجة الى مجال تطبيقي كي تستوعبه الأذهان وكي تكون حجة دامغةعلى بعض المنافقين الذين يدعون بمثالية الأحكام الشرعية وعدم قابليتها للتطبيق .. الأمر يقتضي وجود نماذج بشرية تكون محلا لتطبيق تلك الأحكام ومساعدة على نشرها ..فوجود الجماعة الصالحة المؤمنة المؤهلة والمعدّة روحيا لأن تشكل القاعدة والنواة لمجتمع الإيمان ..وتكون حاضنا مناسبا للرسالة وحماية المرسل ..و على امتداد التاريخ  لم نشهد تلك الجماعة الصالحة المثالية التي استمرت على النهج الرسالي وحققت الأهداف المطلوبة الا باستثناءات نادرة ومحدودة .. ولكن في الأعم الأغلب بقيت الجماعة الصالحة التي تعين على بناء الأنموذج الرسالي أملا ينشده المرسلون دون أن يتحقق..
في الغالب تأتي تلك الثلة الخيرة من وسط اجتماعي متواضع من الناحية المادية أو فقيرا ..ينشأ من رحم المعاناة الاجتماعية وإرهاصات الواقع وتناقضاته جماعة تحس بحاجة مجتمعها للتغيير وبكل أشكالها وخصوصا الفكري والعقائدي الشاذ تعيش آلام المسحوقين والمحرومين وضحايا الواقع الذي يفرضه المستبدون والظلمة ..تلك الجماعة المتحفزة للثورة المهيأة نفسيا وفكريا لاحتضان الرسالة جاعلة نصب أعينها حقيقة وهدف واحد هو رضاه سبحانه وتعالى .. فهم لا ينشدون التغيير لأجل التغيير وتحقيق الرفاهية في دنيا فانية مثلما ضل كثيرون  ظنوا بأنفسهم خيرا وحسبوها من تلك الجماعة الصالحة ولكن وفي أول منعطف  دنيوي عابر انهاروا تحت وطأة غرائزهم النائمة ..
والرسول وبحكم أخلاقه الإلهية السامية وتعامله الكريم مع الناس وفق ظاهرهم فإنه يهيأ هامشا كبيرا من التسامح  تستغله بعض النفوس للظهور على مسرح القيادة دون أن تعرف نفسها أو تهذب نفسها بما يكفي فتكون عبئا على الرسالة وهماً مضافا لهموم المرسل ..وقد تجسد ذلك تماما في رسالة الإسلام والنبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين إندس المنافقون في صف النخبة وقد بلغوا من النفاق حدا خفي أمره حتى على الرسول  ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأظهر حقيقتهم علام الغيوب ..إذن لا يمكن للنبي كإنسان اختيار جماعته الصالحة الا بتسديد إلهي ووحي منه سبحانه ..

     بقي أن نعرف إن الحواريين جماعة النبي عيسى (ع) الصالحة لم يكونوا كلهم بالمستوى المأمول أوالمطلوب فلم يتمكنوا من حمل الأمانة كما يجب وخصوصا بعد أن رفع الله تعالى عيسى اليه ..فتوزعوا في الأمصار ينشرون أناجيل محرفة فصار لكل حواري انجيل بإسمه فيه بعض تعاليم المسيح وأغلبها موضوعة .. وحتى في حياة نبيهم (ع) فإن بعضهم لم يكونوا بالنضج الكافي .. فقد سألوا نبيهم ذات يوم سؤالا ( قيل ) أنهم كانوا يقصدون أن يرى العامة مظهر من مظاهر القدرة الألهية
 ((إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مآئدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين*قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مآئدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين*قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين))المائدة: 112 - 115
يبدو أن بعض الحواريين هم من سألوا هذا السؤال الساذج الذي يؤكد أن العقلية الإسرائيلية السطحية المشككة لازالت مترسخة في نفوسهم والأغرب الصيغة غير المؤدبة (( هل يستطيع ربك )) وكأنهم ينسفون أساس الإيمان وهي الثقة بقدرة الله (عز وجل ) الأمر الذي ناسبه توبيخ نبيهم لهم أما التبرير الذي ساقوه فهو أغرب من الطلب وفيه تأكيد للنزعة المادية التي يعتنقها اليهود لقد أرادوا شيئا ماديا يلمسوه بأيديهم أو يأكلوه .. كي يصدقوا نبيهم وكأن كل الآيات التي جاء بها لم تثبت صدقه لا الولادة المعجزة ولا التكلم في المهد ولا إحياء الموتى ولا إبراء الأكمه ولا خلق الطير بإذن الله تعالى كانت كافية إثبات ذلك الا بمائدة يأكلون منها ..تلك المائدة التي كانت تنزل على أجدادهم فسألوا نبيهم أن يستبدلها بالأدنى ..
  لكن عيسى (ع) وبكل حكمة يعطي لطلب الحواريين بعدا روحيا بأن يجعل من المناسبة عيدا وطقسا عرفانيا وشعيرة من شعائرالله تعالى يعظمها هذا الجيل والأجيال اللاحقة  ..
وينزلها الله تعالى إكراما لنبيه الكريم واقامة للحجة الكاملة على بني اسرائيل ولكن مع انذار شديد ونهائي ومن شدة هذا الإنذار يتبين لنا حجم خطأهم فيما طلبوا والطريقة غير المؤدبة في التعامل مع القيم الألهية ..
فيأكلوا منها أيام طويلة ولكن هل اطمأنت قلوبهم ؟ هل صدقوا بنبيهم ؟ ربما البعض كان كذلك لكن البعض كفر وكذّب ..وهو ديدنهم ولو نزلت عليهم ألف مائدة من السماء أولئك الذين طبع الله تعالى على قلوبهم..فجاءت العقوبة الألهية التي بمسخهم على صورهم الباطنية قردة وخنازير لأنهم كانوا كذلك في داخلهم لم يكونوا لائقين لأن يكونوا بشرا ..مسخوا لثلاثة أيام ..ثم إجتثوا لينضموا لقافلة المستأصلين ..            
محطات التأمل في حياة عيسى المعجزة والإنسان والرسول :

بالرغم من أن المؤرخون لم يتحدثوا كثيرا عن حياة عيسى النبي ..فباستثناء فترة الطفولة والكهولة هناك ضبابية وعتمة تلف الفترة المحصورة مابين هاتين الفترتين لم نتعرف خلالها على طبيعة الحياة التي عاشها مع أمه العذراء والعلاقة مع اليهود والإعداد للرسالة .. ولكن إجمالا نستطيع أن نذكر بعض المحطات التي تستدعي التأمل :
•    على هامش الحياة الشخصية لمريم العذراء (ع) إختلق القصاصون والوضاعون شخصية أسموها يوسف النجار ابن عمها وقالوا أنه تزوج من مريم أو ادعى بأنه زوجها كي تبرر حملها بشكل شرعي خوفا من القوم أو حياءا من الفضيحة وإن يوسف قد رفض في البداية ولكنه وافق بعد ذلك بعد أن وبخه الملاك الذي أنبأه بقداسة مريم وطهارتها وحقيقة المولود المبارك في رحمها ..وقد تأثر بعض المسلمون بهذه القصة ونقلوها في سيرهم ولا يخفى ما في ذلك من حط من قدر امرأة شرفها الله تعالى في أطهر وأقدس مهمة ..
•    لقد كانت مهمة عيسى (ع) رسالة تصحيح مسار ومواجهة قوى الانحراف وهي بقمة قوتها متسلحة بعقيدة صاغوها على مزاجهم أخذوا من شريعة موسى (ع) ما يعجبهم ورفضوا ما خالف هواهم ورسموا لليهودي صورة وهمية غاية في التعالي والغرور فهم أبناء الله وبالتالي فقد أخذوا لأنفسهم صكا للبراءة من النار وهم أحباء الله وورثة الأرض والسماء .. وبالتأكيد لم تكن مهمة سهلة بل كانت غاية في الصعوبة كونه يحارب جبهة منافقة تمتلك الشرعية الكاذبة متمسكة بالتوراة المحرفة ولم تكن قوى كفر صريح واضح المعالم ومما زاد في شراسة المعركة هو امتلاك اليهود للسلطة الدنيوية متمثلة بسلطة الدولة بكل إمكاناتها .. فأمسك اليهود بالتوراة المزيفة بيد وبسلطة القانون الجائر بيد أخرى فكان عيسى (ع) مبتدعا يريد تحريف التوراة الأمناء عليها وخارجا على القانون الذي يحرس انحرافهم ..
•    تكمن الصعوبة في مهمة عيسى (ع) إنه حارب نفاقا وليس كفرا صريحا .. فقتال النفاق علاوة على صعوبته كون المنافق يمتلك هامشا كبيرا من المناورة وقدرا كبيرا من الزيغ والخداع فإن حسم المعركة معه لا يكون سريعا و واضحا كما هو الحال في قتال الكفر الصريح  .. لقد تحول اليهود بعد موسى (ع) الى أمة منافقة مخادعة ترفع شعار الصالحين لتقتل النبيين وتحمل لافتة السماء لتتبع الأهواء .. يقولون بألسنتهم ما ليس بقلوبهم .. ويؤمنون بأول النهار ليكفروا بآخره ..
•    رغم قصر مدة رسالة عيسى (ع) ثلاث سنوات لكنها كانت دروس مكثفة وحوت على مفاهيم الهية كثيرة معززة بآيات باهرات كانت بمثابة الضربات المتلاحقة لليهود الذين لم يستطيعوا تحريك ساكنا تجاهها .. وكان نبي الله يلقي العديد من الدروس النظرية والعملية من خلال وصاياه العظيمة وحكمه ومن سيرته الحياتية وتجواله مع فريق عمله من الحواريين يلف المدن برحلات تبليغية يشفي المرضى أجسادا وأرواحا ..  
•    إن الذين ادعوا بأنهم ورثوا نهج المسيح واستلهموا دروس الإنجيل تفرقوا في الأرض شيعا كل يدعي احتكاره للحقيقة والحق أنهم جميعا قد أضاعوها ..ففريق عبد المسيح لوحده وآخر أشرك خالقه في العبادة ..فلم يقدموا أكثر مما قدم اليهود للإنسانية التي تنتظر المسيح ليعود يوما ما ليقول الحقيقة التي أضاعتها ..
•    كأن عيسى (ع) قد أحس أن العقول التي أدمنت الحس وتعاملت مع قوانين الطبيعة كناموس مقدس وهي ترى تلك القوانين كيف تخرق بآيات بينات لا تستوعب ما يحدث أمامها فتشك في عبوديته فراح يؤكد على تلك العبودية أقوالا وأفعالا لإنتزاع أية فكرة خاطئة من الأذهان ..
•    ((قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا))مريم: 30 ((وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم))مريم: 36((إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم))آل عمران: 51



الوفاة المعجزة

((ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين*إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون))آل عمران: 54 - 55

    حين جاء عيسى (ع) بالحق وبعد أن أعلن مبادئ رسالته التي تمثل روح شريعة موسى (عليه وعلى نبينا السلام ) الحقيقية غير المحرفة وبعد أن كشف زيف ما ادعاه اليهود وظللوا الناس به أحس كبراءهم وأئمة الكفر فيهم  بالخطر الشديد خصوصا بعد أن جاء عيسى بالآيات الباهرات من إحياء الموتى وشفاء المرضى وغيرها من المعجزات التي لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتجاهلها حتى اتهموه بالسحر كان اتهاما باهتا لم يصمد كثيرا أمام الآيات المترادفة والضربات المركزة التي كان يسددها لهم نبي الله والتي كانوا يترنحون من فرط قوتها وتركيزها ..فلم تكن لهم خيارات كثيرة .. فقرروا تصفيته جسديا بحجة الحفاظ على دين موسى وكي لا يظهر في الأرض الفساد ويذهب بطريقتهم المثلى !!..
  يقال أنه قد وشي به من أحد حواريه مقابل دراهم معدودات ولكن ذلك صعب القبول ولم يقم دليل معتبر عليه سوى روايات اليهود الضالة..وحين ألقي القبض عليه وأرادوا صلبه ألقى الله تعالى شبهه على الشخص الذي وشى به فصلب مكانه بينما رفع نبي الله عيسى جسدا وروحا الى الله تعالى بعد أن أدى رسالته على أكمل وجه لتكون معجزة الوفاة آية كبرى مثلما كانت معجزة الولادة والحياة ..

من قوال العبد الصالح والنبي المرسل عيسى بن مريم (عليه السلام)
 (يا عبيد السوء! يهولكم طول النخلة، وتذكرون شوكها، ومؤونة مراقيها، وتنسون طيب ثمرها ومرافقتها، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة، فيطول عليكم أمده، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها.
يا عبيد السوء! نقوّا القمح وطيّبوه، وأدقّوا طحنه، تجدوا طعمه، ويهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه، تجدوا حلاوته، وينفعكم غِبّه، بحقٍّ أقول لكم: لو وجدتم سراجاً يتوقّد بالقطران، في ليلة مظلمة، لاستضأتم به، ولم يمنعكم منه ريح نتنة، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممّن وجدتموها معه، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها. يا عبيد الدنيا! بحقٍّ أقول لكم: لا تدركون شرف الآخرة، إلا بترك ما تحبّون، فلا تنظروا بالتوبة غداً، فأن دون غدٍ يوماً وليلة، وقضاء الله فيها يغدو ويروح. بحقٍّ أقول لكم: إن من ليس عليه دين من الناس، أروح وأقلّ همّاً ممّن عليه الدّين، وإن أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة، أروح وأقلّ همّاً ممّن عمل الخطيئة، وإن أخلص التوبة وأناب، وإن صغار الذنوب ومحقّراتها من مكايد إبليس، يحقّرها لكم، ويصغرها في أعينكم، فتجتمع وتكثر فتحيط بكم. بحقٍّ أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان: فرجل أتقنها بقوله، وصدّقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله، وضيّعها بسوء فعله، فشتّان بينهما، فطوبى للعلماء بالفعل، وويل للعلماء بالقول.
يا عبيد السوء! اتخذوا مساجد ربّكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم، واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات. إن أجزعكم عند البلاء لأشدّكم حبّاً للدنيا، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا.
يا عبيد السوء! لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة، ولا بالذئاب الغادرة، ولا بالأُسد العاتية، كما تفعل بالفراس، كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون، وفريقاً تجدعون، وفريقاً تغدرون بهم. بحقٍّ أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم، وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم: أن تنقّوا جلودكم، وقلوبكم دنسة؟ لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيّب، ويمسك النخالة، كذلك أنتم، تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغلّ في صدوركم.
يا عبيد الدنيا! إنّما مثلكم مثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه. يا بني إسرائيل! زاحموا العلماء في مجالسهم، ولو جثواً على الركب، فإن الله يحيي القلوب الميّتة بالحكمة، كما يحيي الأرض الميّتة بوابل المطر)(1).
__________
(1) - البحار، الجزء الأول، الطبعة القديمة صفحة 48 - 49.

البشرية الناشئة على أعتاب مرحلة جديدة

بعد اكتمال رسالة عيسى (ع) بمشهد الختام والوفاة المعجزة .... و بدلا من  أنتفكر البشرية في الحكمة الإلهية العظيمة والآية الكبرى لعيسى الإنسان والنبي والعبد الصالح راحوا يفتنون بالمسيح الإنسان وتاهوا في دنيا ضلالهم ولم يستوعبوا معجزة الولادة المباركة لنبيهم الكريم و ترتبت نتائج خطيرة على صعيد الفكر والعقيدة على ذلك الزيغ فخاضوا في الفتن والأوهام الباطلة حين قالوا بأن المسيح هو ابن الله كفرا وضلالا وانحرافا ...لتفشل البشرية من جديد في إثبات لياقتها لتحقيق الهدف الإلهي المنشود باستثناء فئة قليلة صابرة مؤمنة صادقة شكلت نواة ممهدة ومبشرة برسالة خاتمة ..واستمر قطار الضلال بالمسير متخطيا محطات الفتن والضلال .. بالمقابل سارت قافلة البشرية الصالحة على قلة عددها ومشقة الطريق وكثرة العقبات بخطى واثقة نحو فجر جديد يخترق ظلمات الانحراف ..

الحـــــــمد للـــــــه رب العــــــــــــالمين

الخاتمة

       لقد حاولنا بهذا العمل الذي لا نجد وصفا بتواضعهالإقتراب من العالم القدسي لرسل الحق (عز وجل ) و سفرائه الى خلقه وصفوته من عباده ..معتمدين على كتاب الله العزيزمصدرا رئيسيا في التأمل مستأنسين من هامش التفكر والتدبر الذي توحيه النصوص الشريفة حسب التفاسير المعتبرة متجنبين الخوض في الآراء والروايات التي قد تشتت ذهن القارئ الكريم وتصرفه عن أصل الموضوع وجوهر الهدف من ذكر السير المطهرة ..ومع بذل أقصى  الجهد في تلافي النقص والتقصير لكننا نحس بوقوعنا في إفراط هنا وتفريط  هناكفإن وقعنا في بعض المحاذير  نسأل الباري (عز وجل ) أن يستغرقها بكرمه وفضله العميم .. و آملين من القارئ العزيز أن يكون لنا عونا في تلافيها ممتنين شاكرين .. مؤكدين أن هذا الكتاب ليس سوى وقفات تأمل ومحطات تفكر وخواطر وهو لا يرقى في كل الأحوال أن يكون بحثا تخصصيا بل أقرب الى العمل الأدبي بعد هذا :
   ..نُذكّر ببعض النقاط التي سبقت الإشارة اليها لأهميتها :
1. كون النبي المرسل حجة الله على خلقه .. لابد أن يكون منزّها من كل العيوب الخُلقية والخلقية معصوما من الذنوب كبائرها وصغائرها ..
2.    إن كل ماورد من نسبة  الذنوب اليهم (عليهم السلام) يأتي على سبيل ترك الأولى ..
3.    إن جميع الأنبياء ال(124) ألف نبي ومثلهم أوصياءهم (عليهم جميعا سلام الله) كلهم جاءوا
برسالة واحدة ولو اجتمعوا جميعا في زمن واحد ما اختلفوا في شيء (كما جاء في الحديث الشريف ..فهم رسل من واحد أحد..وهدفهم النهائي مشترك ..
4.    سادة الأنبياء خمسة وهم أصحاب الشرائع وأولوا العزم وهم (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبي الخاتم وهو سيدهم وأفضلهم (على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه  )..
5.    ومن هذا التفضيل والتشريف للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله ) فإن أوصياءه الأئمة المعصومين (عليهم السلام ) هم أفضل من الأنبياء جميعا فالله (عز وجل ) لم يخلق خلقا أفضل من محمد وآله (عليهم السلام )  ..
6.    إن كل أنبياء الله تعالى هم امة محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم ) و إن عظم منزلة كل نبي مرسل  تأتي على قدر معرفته بالخاتم (ص) وسبقه الى الإقرار به في عالم الذر ..
7.    لا يمكننا التسليم بالقول المشهور ( كل رسول هو نبي وليس كل نبي رسول ) ولكن طبيعة الرسالة والتكليف يختلفان من نبي لآخر لذا لا يمكن الفصل بين النبوة والرسالة .


أخيرا.. ارتأينا أن يكون الحديث الشريف التالي مسك للختام وموجزا للكلام ..
.. جاء في مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام )أنه قال : إن الله عز وجل مكّن أنبياءه من خزائن لطفه وكرمه ورحمته وعلّمهم من مخزون علمه وأفردهم من جميع الخلائق لنفسه فلا يشبه أخلاقهم وأحوالهم أحد من الخلائق أجمعين إذ جعلهم وسائل سائر الخلق اليه وجعل حبهم وطاعتهم سبب رضاه ..وخلافهم وإنكارهم سبب سخطه ،وأمر كل قوم بإتباع ملة رسولهم ثم أبى أن يقبل طاعة أحد الا بطاعتهم وتبجيلهم ومعرفة حبهم وحرمتهم ووقارهم وتعظيمهم وجاههم عند الله .. فعظّم جميع أنبياء الله تعالى ولا تنزلهم منزلة أحد من دونهم ولا تتصرف بعقلك في مقاماتهم وأحوالهم وأخلاقهم الا ببيان محكم من عند الله وإجماع أهل البصائر بدلائل تتحقق بها فضائلهم ومراتبهم ، وأنى بالوصول الى حقيقة ما لهم عند الله تعالى وإن قابلت أقوالهم وأحوالهم بمن دونهم من الناس أجمعين فقد أسأت صحبتهم وأنكرت معرفتهم وجهلت خصوصيتهم بالله وسقطت عن درجة حقائق الإيمان والمعرفة فإياك ثم إياك )) نسأل الله تعالى العفو والعافية.
                              وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين  
                                                                   
                                              فرغ من كتابته بتوفق الباري(عز وجل)                              
                                               في  20/رمضان المبارك/1433ه
                         أخيرا لابد من التأكيد ..
إن ما قرأته من تأملات :
?    ليس تفسيرا لآيات الله بقدر ما هو تدبرا وتأملا فيما قاله المفسرون وهو بهذا أقرب الى العمل الأدبي منه الى المادة العلمية
?    هو عمل يبحث عن قارئ متفاعل متسائلا أحيانا و أخرى منتقدا وثالثة رافدا بالأفكار أن هذا النوع من القراءة المتفاعلة هو ما يثري ساحتنا الثقافية.
?    إنه محاولة للعودة الى كتاب الله العزيز ليكون المصدر الرئيس لقصص أنبياءه ورسله (عليهم السلام ) بعد أن اتخذت قصصهم مادة سردية درامية اختلط فيها الحق والباطل وتعرضت السير المباركة لكثير من الإسفاف فوتت على المتلقي أن الهدف القرآني ليس سرد قصة هذا النبي الكريم أو ذاك بقدر ما كانت تأكيدا لمبنى عقائدي أو نهج فكري أو جانب تعبدي أو عبادي أو منهج حياتي .
?    حاولنا قدر ما نستطيع احترام فكر القارئ وقراءة أفكاره ونحن نسجل تأملاتنا ليكون هذا الكتاب نافذة تفتح آفاقا لقراءة متأملة متدبرة ....
      نسأل الباري (عز وجل )  أن يوفقنا قدر ما نوينا وأن لا يكلنا الى أنفسنا طرفة عين فإن وفقنا فهو ولي  التوفيق وإن لم نوفق فمن أنفسنا الأمّارة بالسوء التي أثقلتها ذنوبها وقعدت بها أغلالها نسأله تعالى بأنبيائه ورسله وسيدهم المصطفى وأهل بيته الطاهرين أن يتقبل هذا العمل عملا خالصا لوجهه الكريم ونسألكم الدعاء ...والله المسدد .


                                              


كافة التعليقات (عدد : 1)


• (1) - كتب : فراس ، في 2019/09/26 .

عند الحديث عن ام ابراهيم هناك خطأ مطبعي حيث يرد في النص ام موسى بدلا من ام ابراهيم. جزاك الله خيرا



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=40561
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 12 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16