• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الغرق في بحر التفاصيل .
                          • الكاتب : رامي الغامدي .

الغرق في بحر التفاصيل

 :: مدخل ::

\"إن الحضارة الإسلامية كانت وما زالت معنية أساساً بإصلاح الإنسان عقيدة وشريعة، وبيان ما يجب وما يحرم وما هو مستحب أو مندوب أو مكروه أو مباح، ودخلت هذه المجالات في تفاصيل شاملة وتعليلات دقيقة مذهلة وفي كل ذلك أنجزت انجازات هائلة لا مثيل لها في أية حضارة سابقة ولا لاحقة. لقد كان وما يزال الاهتمام في الدراسة والبحث والتأليف والعلم والمعارف مستغرقاً في الهم الديني استغراقاً، حتى الجوانب الفقهية المتعلقة بالمعاملات الدنيوية كانت تبحث بوصفها قربة إلى الله وإسهاماً في تطبيق شرعه وليس من أجل تنمية هذه الجوانب. إن الأمة لا يمكن أن تنجز إلا في المجالات التي تهتم بها، وكذلك الأفراد لا يبدعون إلا في الحقوق التي تستغرق اهتمامهم\". *

* إبراهيم البليهي (مفكر سعودي)



   لقد أصبح من غير المفيد في عصرنا هذا أن نستمر في بذل جهدنا وطاقتنا في ذات التفاصيل التراثية الدينية التي أُشبعت بحثاً وتدقيقاً وتقريظاً وتصحيحاً وشرحاً وتعليلاً وتدويناً، ثم نهمل كل أشكال الحياة ووسائلها التي هي من صميم تلك التفاصيل بل هي طريق استمرارها ووسيلة تطبيقها واستثمارها.

   إننا أوفر حظاً ممن سبقنا من القرون منذ فجر الإسلام؛ لأننا الآن – على خلافهم – نملك في سجلّاتنا معظم ما يمكن أن ينتجه العقل البشري من آراء ونظريات وأفكار في تفسير الأصول – القرآن والسنة –، وفي المعاملات وقوانينها وطرقها، وفي شتى ما يُقبل فيه الاجتهاد. علاوةً على أنها – أي الأصول – محفوظة ولا خوف من ضياعها إلا بإضاعة تطبيق أحكامها، فنحن لسنا بحاجة إلى إعادة البحث فيما قد تم وأعيدَ بحثه، ولا بحاجة إلى حفظ ما هو محفوظ أصلاً. قد كان السابقون بحاجة لهذا، صحيح. وفعلوا ذلك. وأتينا بعدهم وفعلنا أيضاً.. فإلى متى؟

   لا أطالب هنا بوقف الاهتمام بمجال الهمِّ الديني وليس لي أن أفعل (حاشا وكلَّا)، بل أقول أنه لدينا من الاهتمام به ومن رجالاته ما يكفي، وأننا بحاجة إلى أن نزيد عليه لكي نعيش هذه الحياة كما أراد لنا الله جلّ وعلا أن نعيشها ونعمرها ونقرر رسالته فيها، وهذا لا ولن يتم دون الاهتمام بكافة مجالات الحياة في العلم والصناعة والطبيعة والقضاء وحقوق الإنسان والأدب والفن مجتمعة، دون إهمال أو تجاهل أيٍّ مما سبق. كما أننا لم ولن نعيش كما أراد لنا الله بالاكتفاء بالاستغراق في تفاصيل كتابه وسنة نبيه (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) باعتبارها غاية الحياة الدنيا وضمان جنة الآخرة، وأن ما عداها هو بعد عن الله، فهذا ليس صحيحاً أبداً، ولن نتماثل للشفاء من هذه المعضلة الثقافية المزمنة دون حياة مفتوحة على فرص تتيح لنا تطبيق هذه التفاصيل.

   لقد أصبحنا نسمّي بالله وندعو دعاء الركوب أو السفر عندما نقصد مكاناً بالسيارة، وهذا جيد، ولكن غير الجيد أن السيارة نفسها ليست من صنعنا، وأننا نقف في حلبة لعبة الأسعار، بثياب أبْلتها الرقع، عاجزين لا حيلة لنا أمام الذمم الواسعة لوكلاء شركات السيارات المعتمدين والمدعومين بواسطة الدولة، وأنه إذا تعطلت هذه السيارة فسنقف أمامها عاجزين في انتظار الميكانيكي الذي هو أيضاً ليس من بني جلدتنا، ولو كان منا فإنه قد اضطر إلى تعلم هذه المهنة اضطراراً بسبب الفقر وقلة الحيلة، وليس بسبب سيادة ثقافة العلم والصناعة واحترامهما بكل مجالاتهما وفروعهما.

   إن ما يحدث لأمتنا من إغراق واستغراق في تلك التفاصيل، دون الانفتاح على ما تدعو إليه نفس التفاصيل، قد أدى إلى فهم خاطئ مفاده: إقرار تلك التفاصيل كغاية للحياة وليست وسيلة لممارستها، وهنا بالذات يحدث الخلل الكبير فيُتّهم المخالف – أي كل من لا يقرّ على أن هذه التفاصيل هي الغاية – بالفسق والفجور وقد يصل الأمر إلى تكفيره وإخراجه من الملة؛ وكل ذلك يمكن تصويره بهذا المثال: أب يجلس ابنه الصغير في زاوية ليحدثه عن تاريخ جده البطل الصالح الذي واجه كل الشرور وتغلب على كل الصعاب بالخير والحكمة والتّقوى، لكنه يستمر في هذا الحديث يعيده ويفصله ويسهب فيه طوال عمر الصبي حتى يموت ويتيبّس في ذات الزاوية! بحجة أن ما يقوله لطفله هو العلم وهو الخير وأن ما سواه لا خير فيه، وأن قضاء حياته في الاستماع لهذه القصة سيدخله الجنة؛ هنا نرى أنه لا هو سمح للطفل باستكشاف الحياة صغيراً كأي إنسان يجب أن يمر بمرحلة الطفولة كي يتهيأ لما بعدها، ولا سمح له بأن يكبر عقلاً ومعرفةً كبقية أقرانه، ولا سمح له بأن يواجه الحياة بمشاكلها وتجاربها مما يعني أنه لن تكون لديه الفرصة لكي يطبق فلسفة جده في واقعه المحدود والمنغلق، وفي نهاية المطاف يموت الصبي رجلاً وحيداً بلا أصدقاء بعد أن عاش لا يفهم أحداً ولا يفهمه أحد!



رابط المقال على مدونتي
http://mo3attaq.spaces.live.com/blog/cns!BDB6EB8DD6730CE9!1677.entry

رامي الغامدي

 


كافة التعليقات (عدد : 3)


• (1) - كتب : انا عربي مسلم من : الاردن ، بعنوان : ما هو التطبيع في 2010/09/07 .

ما هو التطبيع ؟
ماذا يعني التطبيع؟
التطبيع؟؟؟!!!
ان التطبيع ببساطة هو الاعتراف بشرعية دولة اللصوص المسماة "إسرائيل"، مما يمهد السبل امام فتح أبواب العلاقات الثقافية/السياسية/الاقتصادية... معها، ليتغلغل منها هؤلاء اللصوص مدشنين بذلك مشروعهم الاستراتيجي داخل باقي اقطار الوطن العربي. التطبيع ببساطة: هو أن تعترف بحق اللص الذي سرق بيت أخيك وطرده هو وعائلته إلى الشارع، فتفتح له بيتك ليقوم بسرقتك وطردك فيما بعد
التطبيع بشكل مختصر يعني انك لا تؤمن بنظام بلدك الذي تسكن فيه وانك غير مخلص لوطنك العربي الاسلامي التطبيع يعني ان تبيع شرفك و عرضك يعني ان تبيع مبادئك يعني انك غير مخلص للقياده في بلدك وانك مستعد ان تبيع بلدك وقيادتك للكيان الصهيوني باقل الاسعار في النهاية يجب تنفيذ حكم الاعدام بحق المطبع امام اعين جميع الناس ليكون عبرة لغيره بتهمة الخيانة العظمى للوطن



• (2) - كتب : الميزان من : العراق ، بعنوان : جزيتم خيرا في 2010/08/24 .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اود ان اشكر الاخ الفاضل صاحب المقال على لطافة اسلوبه واخلاقه العاليه في الكتابه



• (3) - كتب : ابن البصرة من : العراق ، بعنوان : احسنت في 2010/08/24 .

احسنتم على هذا المقال الرائع
اعجبني وصفكم لنا نحن العرب
لقد أصبحنا نسمّي بالله وندعو دعاء الركوب أو السفر عندما نقصد مكاناً بالسيارة، وهذا جيد، ولكن غير الجيد أن السيارة نفسها ليست من صنعنا

نعم هذا هو حال العرب فشكرا لكم



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=418
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19