• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : أحداث ليبيا وارتباك موسكو .
                          • الكاتب : علي بدوان .

أحداث ليبيا وارتباك موسكو

من الواضح بأن القيادة الروسية تعاني الآن من ارتباكات كبيرة بشأن موقفها الحقيقي المتعلق بالأحداث الواقعة فوق الأرض الليبية، حيث يسود التشوُّشُ الواسعٌ داخل أروقة الكرملين مع قيام الولايات المتحدة وبعض دول غرب أوروبا بالعمليات العسكرية ضد ليبيا، في مشهدِ بات عويصًا، ولا قدرةَ لأَحدٍ أَنْ يتلمّس أو أن يتنبأ بمآلاته وتفاصيلِه المقبلة، وتفاعلاته التي قد تصيب الكثير من الدول التي كانت وما زالت لها مصالح كبرى في ليبيا كالصين وروسيا والهند على سبيل المثال.
الارتباك في الموقف الروسي يعكس في إحدى تجلياته التردد في اتخاذ الموقف الحاسم المطلوب تجاه العديد من القضايا الدولية الهامة ومنها المسألة الليبية. فروسيا تحفظت على قرار الحظر الجوي المفروض على ليبيا والصادر عن مجلس الأمن تحت رقم (1973) وتحفظت معها الصين، بينما تحفظت عليه بعض الدول من الأعضاء المراقبين، وتحديدًا: الهند وألمانيا، والبرازيل، وهي دول هامة، وذات شأن وحضور على صعيد المجتمع الدولي.
والآن وبعد أكثر من عشرة أيام من العمليات العسكرية الغربية ضد ليبيا ونظام معمر القذافي، فإن جزءًا هامًا من قلق موسكو يعود إلى الضرر الكبير الذي تلحقه الولايات المتحدة بمصالح روسيا، وبحلفائها الإقليميين، وإلى استثمار واشنطن لمقدرات المجتمع الدولي ومؤسساته الكبرى لتمرير سياساتها وإكسابها طابعًا شرعيًّا.
إن القلق والارتباك الروسي يأتي أيضًا حين ترى روسيا بأم عينها بأن مصالحها في العالم مستهدفة، حيث تعتبر ليبيا من الدول الوثيقة الصلة بموسكو منذ أربعة عقود ونيف، وبينهما علاقات على مستويات عدة ومنها المشاريع التي تنفذها شركة (جازبروم) وشركة السكك الحديد الروسية في ليبيا، هذا إذا أضفنا إلى ذلك بأن روسيا تعتبر المورد الأساسي لتسليح الجيش الليبي.
إن المعاناة الروسية من سطوة الولايات المتحدة على الهيئة الدولية الأولى تتعالى الآن، حيث بات من المعتاد أن تستصدر الولايات المتحدة وبسهولة قرارات استخدام القوة في الشؤون الدولية، ليصبح هذا الأمر توجها معتادًا في السياسة الأميركية دون أي انتباه للآخرين في المنظمة الدولية، وحتى في حالات استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) فإن الولايات المتحدة تحمل على عاتقها تنفيذ ما كانت تريد تمريره عبر مجلس الأمن الدولي بغض النظر عن (الفيتو) الروسي، هذا ما وقع إبان العدوان على العراق علم 2003 حين ذهبت الولايات المتحدة وبريطانيا بشكل رئيسي إلى الحرب دون تفويض من مجلس الأمن، ودفعت باتجاه إلحاق بعض الدول الكبرى بمغامرتها العسكرية بعد حين كفرنسا واستراليا.
إن مؤشرات الارتباك الروسي بشأن الموضوع الليبي واضحة لكل المتبعين لما يحدث من تفاعلات سياسية داخل أروقة في الكرملين، حيث دلت تصريحات أدلى بها الرئيسان الروسيان ديميتري ميدفيديف وفلاديمير بوتين قبل أيام خلت على اختلاف رأيهما في ما يحدث في ليبيا، فقد وجه رئيس الوزراء فلاديمير بوتين انتقادًا حادًا للتدخل العسكري الغربي في ليبيا، وندد بقرار مجلس الأمن الدولي القاضي بفرض عقوبات على النظام الليبي، مشيرا إلى أن هذا القرار يشبه الدعوة إلى الحملة الصليبية في العصور الوسطى، بينما رفض الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف استخدام تعبير "حملة صليبية" لوصف الوضع في ليبيا، مع تحفظه على العمل العسكري الغربي ضد ليبيا.
وتشير مختلف المصادر المطلعة من موسكو بأن الارتباك والتباين داخل القيادة الروسية بشأن الموقف من الموضوع الليبي، يدفع الآن القيادة الروسية لمراجعة مواقفها الأخيرة، فقد ارتكبت قيادة الكرملين أكثر من خطأ فادح خلال العقدين الأخيرين، نتيجة تواضع دورها في مجلس الأمن، وتجنبها الدائم الدخول في مواجهة مكشوفة مع الولايات المتحدة ومشاريع القرارات التي تعمل على طبخها بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا. فروسيا التي آثرت أن لا تعرقل قرار الأمم المتحدة الأخير بشأن ليبيا الرقم (1973) ساهمت بشكل أو بآخر على توفير القرار الذي اتكأت عليه الولايات المتحدة ودول الغرب للقيام بتوجيه الضربات العسكرية ضد ليبيا.
إن تزايد وتيرة القلق الدولي من سلوك بعض الدول الغربية ومعها الولايات المتحدة بشأن ليبيا، ومنها مواقف بعض الدول المؤثرة في حلف الناتو كتركيا وغيرها من البلدان، جعل من واشنطن تهرول ساعية لنقل قيادة العمليات الحربية للناتو، ولإلقاء ثقل العمليات الجوية على فرنسا وانجلترا، خصوصًا وأن المعالم على الأرض في ليبيا لا تنبئ إلى الآن بوجود انهيار وشيك للنظام الليبي.
إن موسكو تلاحظ الآن حدوث انقلاب متدرج في الرأي العام وقطاعاته الواسعة في العالم العربي، انزاح بشكل عام باتجاه التحفظ على ما يجري في ليبيا بعد موجات القصف الجوي الغربي، لمختلف المناطق الليبية، وهي غارات استهدفت المرافق الحيوية كالمطارات والموانئ والمدنيين قبل أن تستهدف قوات الجيش الليبي الموالية للعقيد معمر القذافي، فقد لاحت أمام الناس صورة العراق الذي دمر واستبح تحت عنوان الشرعية الدولية، وجيء بالمعارضة إلى سدة القرار على ظهر الدبابات الأميركية.
أخيرًا، في المقاربات اليومية للحال التي غدت عليها روسيا اليوم، نستطيع القول بأن موسكو (المربكة والمرتبكة) أخطأت في الموضوع الليبي حين نأت عن استخدام حق النقض لمنع تمرير القرار (1973) في مجلس الأمن، كما أخطأت معها الصين، بالرغم من أنها وفي خطواتها السياسية ومجمل علاقاتها الدولية، تدرك الآن ضرورة وقف الاستقطاب الأحادي في العالم الذي استهدفها قبل غيرها، حيث سعت عملت واشنطن على تسجيل شروطها على كافة الأطراف الدولية، وتقزيم مصالحها بصرف النظر عن مصالح الآخرين كما حدث في العراق مثلاً حين ابتلعت الولايات المتحدة مصالح غالبية الدول التي كانت ترتبط بعلاقات ودية مع العراق خصوصًا في جانبها الاقتصادي والتجاري وفي جانبها المتعلق بالنفط واستثماراته.
وهنا، يمكن للروس الذين يراقبون التوازنات العالمية المتشكلة، أن يجدوا بعض العزاء لأنفسهم في أنه مهما حدث وبغض النظر عن الموضوع الليبي، فإن المواقف الجيوسياسية وسطوة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تتآكل بعد أن أصيبت بأضرار جسيمة بشكل عام مع غرق واشنطن في آتون الأزمات الطاحنة في العراق وأفغانستان وانهيار نظام حسني مبارك. حيث تقدر الجهات الروسية العليا، بأن تلك التحولات ستقود إلى منظومات سياسية جديدة أقل ميلاً إلى الغرب، وأكثر محلية، وأعمق جذورًا، وذات نكهة أكثر إسلامية، ولها روابط جديدة معها ومع الصين والهند وتركيا والبرازيل وغيرها.


 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=4579
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 04 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28