تمر الأيام مثل غيمات لانعتقد بعودة لهن، كما حالنا كل صيف، فننسى المطر والبرد والغيم، ثم حين نيأس نجد في السماء بعضا منها، ويقول لنا الكبار، إطمئنوا فهناك برد ورياح ومطر. وهاهو أيلول يتهادى مثل غانية ينتظرها الرجال.كذلك تمر السنين وتمضي وتأخذ معها عديد أحلامنا الصغيرة التي بدأت للتو تكبر في دواخلنا، وفي شهر رمضان هكذا هو الحال فيأس النفوس وإنغماسها في لذة الأيام والليالي، ونسيانها لعادات الزمان يجعلها عاجزة عن معرفة التغير الذي يعتريها في شهر الطاعة، ولطالما راقتني تلك الخطبة الرائقة لرسول المحبة والإعتدال محمد صلوات الله عليه وآله وهو يتلو نسائم الرحمة من فمه الشريف مستقبلا شهر الله فيقول والمسلمون يستمعون إليه بهدوء المطمئنين:
"أيّها الناس إنّه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة و الرحمة و المغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، و أيّامه أفضل الأيّام، و لياليه أفضل اللّيالي، و ساعاته أفضل السّاعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، و جعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، و نومكم فيه عبادة، و عملكم فيه مقبول، و دعاؤكم فيه مستجاب. فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، و قلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه، و تلاوة كتابه، فانَّ الشقيَّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، و إذكروا بجوعكم و عطشكم فيه جوع يوم القيامة و عطشه، و تصدَّقوا على فقرائكم و مساكينكم ووقّروا كباركم، و إرحموا صغاركم، و صلوا أرحامكم، و إحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلُّ النّظر إليه أبصاركم، و عمّا لايحلُّ الاستماع إليه أسماعكم، و تحنّنوا على أيتام النّاس يتحنّن على أيتامكم، و توبوا إلى الله من ذنوبكم. و إرفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم، فانّها أفضل السّاعات ينظر الله عزَّ و جلَّ فيها بالرَّحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، و يلبيّهم إذا نادوه و يستجيب لهم إذا دعوه. أيّها النّاس إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها بإستغفاركم، و ظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفّفوا عنها بطول سجودكم، و إعلموا أنَّ الله تعالى ذكره أقسم بعزَّته أن لايعذِّب المصلّين و السّاجدين، و أن لايروّعهم بالنّار يوم يقوم النّاس لربّ العالمين. أيّها النّاس من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشّهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة، و مغفرة لما مضى من ذنوبه، قيل: يا رسول الله! و ليس كلّنا يقدر على ذلك، فقال عليه السّلام: اتّقوا النار و لو بشقّ تمرة، اتّقوا النار و لو بشربة من ماء. أيُّها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازاً على الصّراط يوم تزلُّ فيه الأقدام، و من خفّف في هذا الشهر عمّا ملكت يمينه، خفّف الله عليه حسابه، و كفَّ فيه شرَّه كفَّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، و من أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، و من وصل فيه رَحِمَه وصله الله برحمته يوم يلقاه، و من قطع فيه رَحِمَه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، و من تطوَّع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النّار، و من أدَّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدَّى سبعين فريضة فيما سواه من الشّهور، و من أكثر فيه من الصّلاة عليّ ثقّل الله ميزانه يوم تخفُّ الموازين، و من تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشّهور.
أيُّها الناس! إنَّ أبواب الجنان في هذا الشّهر مفتّحة، فسلوا ربّكم أن لايغلقها عليكم، و أبواب النيران مغلّقة فسلوا ربّكم أن لايفتحها عليكم، و الشيّاطين مغلولة فسلوا ربّكم أن لايسلّطها عليكم.
|