اصبحت اليوم مناهج الاسلام السياسي تحتل مركز الصدارة في المباحث والدراسات السياسية والاجتماعية ,بسبب صعود تياراته الى واجهة العمل السياسي في الدول العربية بصورة مفاجئة بل وخاطفة كذلك , فلم يعهد التاريخ السياسي العربي مثل هذا التغيير من قبل , ففي الوقت الذي كانت فيه الثورات العربية ( اجتماعية ) المضمون والغاية , قام بها مجموعة من الاكاديميين والتنويرين العرب , في محاولة لاسترداد معنى ( المواطنة ) بكل ماتستبطنه من حقوق اهملتها الحكومات الدكتاتورية العربية طوال نصف القرن الماضي , الا ان ماانتهت اليه الثورات كان مغايرا تماما للمقدمات التي انتجت المشروعية الثورية , فمثلا لم تكن مساهمة التيارات السلفية بالثورة في مصر بمستوى تمثيلها السياسي بعد ذلك , ترى ما الذي حدث في فترة الغليان الجماهيري وما هو الدور الذي لعبته وكالات الاستخبارات العالمية والذي غيرت بموجبه الخارطة الثورية وملامح التكوينات السياسية فيما بعد الثورة , بحيث انزوى الاهتمام الاعلامي ( بالشباب ) ـ مفجري الثورة ـ وتضاءل دورهم بصورة كبيرة في التمثيل السياسي في البرلمانات والحال نفسه في تونس واليمن كذلك , هذا السؤآل قد نجد له جوابا في المستقبل بعد ان يُفتضح رعاة العملية السياسية الجدد , ولاندري اقريب ام بعيد ذلك اليوم .
هذا التقابل بين المقدمة والنتيجة يشير الى حالة الصراع الخفي للوصول الى السلطة والذي ركزت عليه الادبيات الاسلامية المعاصرة كغاية لنظالها ضد الدكتاتورية طيلة الفترة الماضية , ولم تلتفت نتيجة لذلك الى ايجاد نظرة معاصرة للدولة او الوطن او المواطنة , وانما احالت كل تلك القضايا الجوهرية الى مجال العقيدة , فاكتفت بمخرجات السلف ونظرتهم الى تلك المعاني بكل اسقاطات الحقب التاريخية عليها , , ومن هنا كان الفكر هو فكر العقيدة والمواطن هو من آمن بتلك العقيدة , الذي ( يجوز ) له ان يتمتع بكل امتيازات ( المواطنة ) وما سواه فمحروم منها ( مُبعد ) عن نيل سعادتها .
ومن هنا كانت ادبيات الاسلام السياسي المعاصر تركز في خطابها على ايجاد مشروعية سيادية عليا لمشروعها الاجتماعي والثقافي الغريب عن تطلعات المواطن العربي , ليس لانه يستبطن بُعدا ايدلوجيا عقائديا يجعل من نموذج السلف في التعامل مع مفاهيم الدولة والوطن والمواطن مرجعا للصياغات الجماهيرية لتلك المفاهيم , بل لانه بات من الواضح ان هذا المنهج خارج الزمن الذي حكم على تلك التجارب بالنجاح في الماضي , ولعل ذلك منها ـ تيارات الاسلام السياسي المعاصر ـ هروبا الى الوراء لتجاوز اشكالية ( الخواء ) المعرفي بتلك المفاهيم المستحدثة , وهروبا من استحقاقاتها الواقعية , والتي كانت سببا لتغيير الانظمة السياسية في ماعرف بـ ( الربيع العربي ) , او لعلها ايقنت بان هناك اشكالية ستحدث نتيجة الاعتماد على هذه ( الإحالة ) الخاطئة للسياسة الاجتماعية على العقيدة , وماستسببه من ارباك في الممارسات التفصيلية للدولة ومؤسساتها , فالنصوص التاريخية بالإضافة الى انها خارج الزمن الذي نحياه اليوم بكل تعقيداته , فهي كذلك تجعل من الدولة واشخاصها فوق ( المواطن ) او معنى ( المواطنة ) لانها تضفي على نماذج العمل السياسي للسلف نوعا من العدالة المطلقة , والتي تنعكس اليوم بهيئآت وأشكال مختلفة منها المطالبة بـ ( الخلافة ) او ( الامارة ) مثلا او رفض التقييم والنقد للمارسة السياسية وغيرهما , اي ان الدولة هي الراعي الذي يُستحسن منه كل شيء درئأً للفتنة وحكومة الهمج الرعاع , في تصريف مبتذل لقول الإمام علي ( ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم ) , وذلك كما هو ظاهر في الضد مما تهدف اليه الدولة المدنية التي ينبغي ان تكون مُخرجا اجتماعيا للحراك الجماهيري وممثلا له .