• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الإعجاز اللغوي القرآني: مناسبة اللفظ لمقتضى الحال .
                          • الكاتب : د . حميد حسون بجية .

الإعجاز اللغوي القرآني: مناسبة اللفظ لمقتضى الحال


      كان كتاب الله ولا زال مظنة للإعجاز بأنواعه: التشريعي والعلمي والأخلاقي وكشف حجب الغيب واللغوي وغيرها. على أن ابلغ وأعجب تلك المعاجز هو الإعجاز اللغوي وذلك لأن لغة القرآن هي اللغة العربية التي كانت في أوج تكاملها عندما نزل القرآن الكريم متحديا العرب من أن يأتوا بسورة من مثله. وهذا هو نفسه ما جعل القرآن الكريم يجمع محاسن أساليب الكلام دون أن ينتمي إلى أي من تلك الأساليب: فما هو بالشعر ولا هو بالنثر. فقد جاء نظمه في أقصى غاية من الفصاحة. واختيرت ألفاظه ووضعت في وضعها اللائق بها في مختلف المقامات، وهذا ما يسمى (المناسبة بين اللفظ والسياق). وقد يكون السياق لغويا أم سياق حال، كما يقول الدكتور مصطفى شعبان المصري في كتابه(من الإعجاز اللغوي في القرآن، 2012).
    وتدور هذه المقالة في النوع الثاني من السياق ألا وهو سياق الحال، وهو ما يعرف عند البلاغيين (مطابقة الكلام لمقتضى الحال). وهذا بدوره يشتمل على ما يتعلق باللفظ وماله من أحوال ترتبط بالظروف غير اللغوية التي تحيط بالنص القرآني الشريف؛ وبلاغيا، من كونها تتعلق باهتمامات علم المعاني الذي يهتم بعلاقة اللفظ بالمعنى. والجدير بالذكر أن مثل هذا التحليل يتوافق كثيرا مع ما توصل إليه علم اللغة الغربي.  يقول الدكتور تمام حسان في كتابه (اللغة العربية معناها ومبناها، 2006: 372)(إن الذين عرفوا هذا المفهوم...سجلوه في كتب لهم تحت اصطلاح"المقام"). فالسياق يقابل المصطلح الانكليزي context الذي يشتمل على السياق اللغويlinguistic context وسياق الحال أو السياق الاجتماعيcontext of situation والسياق العاطفي emotional context وسياق الموقف situational context والسياق الثقافي cultural context، وفق تصنيفات مختلفة. يقول الدكتور أحمد مختار عمر في كتابه علم الدلالة،2006: 68) شارحا ما يقوله فيرث Firth (أن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة).
     ولا يفوتنا أن نذكر أن علماء اللغة العرب القدماء قد أشبعوا ذلك دراسة وبحثا، وهذا ما يدل على أن للعرب القدماء اليد الطولى في هذا العلم. أما المعاصرون فقد بدأوا منذ حين خطوات كبيرة في هذا المضمار. 
   والأمثلة القرآنية في هذا المجال كثيرة، ولا يمكن الإلمام بها في مقالة محدودة كهذه. لذلك سنسوق بعض الأمثلة على ذلك:
الموقف1: الآية الكريمة من سورة يوسف(وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن)(يوسف| 100). فقد ورد ذكر (السجن) دون (الجب) رغم أن الإحسان الإلهي إلى النبي يوسف بإخراجه من (الجب) قد سبق إخراجه من (السجن). فكان ما بين هذا اللفظ ومناسبة سياق الحال قد تمثل في مراعاة المخاطَبين وهم أخوة يوسف، فلم يذكر (الجب) صفحا عنهم وتناسيا لما حدث منهم، وذلك لأن الآية جاءت بعد قوله(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم)(يوسف|92). كما أنه تنبيه لطهارته وبراءته مما نسب إليه من المراودة وما وصل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن.
الموقف2: وهو ما يذكر بصدد الجملة الاسمية والجملة الفعلية والمواقف التي تستخدمان فيها. فالآية الكريمة من سورة البقرة| (الآية 14) (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم). فجرت مخاطبة المؤمنين بالجملة الفعلية(آمنا) ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية(إنا معكم). والفرق يتضح في أن استخدام الجملة الفعلية فيه تكلف وإظهار للإيمان خوفا ونفاقا ومداجاة، وهم على علم أن المؤمنين لن يصدقوهم ولو استخدموا أوكد الألفاظ. أما ما قالوه لشياطينهم فهو يؤكد على اعتقادهم الكفر فكان ذلك رائجا عند إخوانهم ومتقبلا منهم.
 
   يقول الدكتور مهدي المخزومي في كتابه(في النحو العربي: نقد وتوجيه، 1964: 41-42)(الجملة الفعلية هي الجملة التي يدل فيها المسند على التجدد)(أما الجملة الاسمية فهي التي يدل فيها المسند على الدوام والثبوت). ويقول د. فاضل السامرائي في كتابه (الجملة العربية، 2009: 161)(ذكر بعضهم أن الجملة الاسمية تدل على الثبوت والجملة الفعلية تدل على الحدوث). ثم يعلل ذلك في أن الاسم يدل على الثبوت والفعل يدل على الحدوث.
     فاستُخدم النوعان من الجمل مراعاة للحالة التي كان عليها المتكلمون والمخاطَبون، وهو مراعاة من الآية لسياق الحال والسياق الاجتماعي الذي وردت فيه الآيتان.
 الموقف 3: ونبقى في إطار استخدام الجملتين الاسمية والفعلية وكيف ينطبق ذلك على الآية الكريمة(قال ربي أنى يكون لي غلام  وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر)(آل عمران|40). فقد كانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا، فهو ليس وصفا لازما، بينما عبّر الذكر الحكيم في الجزء الثاني بالجملة الاسمية لأن كون المرأة عاقرا أمر لازم لها وليس وصفا طارئا عليها.
الموقف 4: ويدور حول اقتران الخبر بالفاء أو عدمه. فالفرق بين الآيتين التاليتين هو الفاء أو عدمها، ففي الأولى كان الكلام عن أموال موجودة فعلا في حجر النبي، فلا مجال لمعنى الشرط فيه، فأصبح خبرا محضا وهذا لا يقترن بالفاء. وفي الثانية يكمن السبب في الحظ على التبرع، ففيه معنى الشرط، لذلك اقترن بالفاء. وما يحدد ذلك هو السياق:
(الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة|262) و(الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(البقرة|274).
     لكن علماء اللغة يبوبون هذه الآيات تحت العناوين التالية ومناسبتها(تناسبها) مع سياق الحال(الدكتور مصطفي شعبان المصري(من الإعجاز اللغوي في القرآن، 2012): 1. معنى اللفظ المعجمي 2. صفة اللفظ 3. بنية اللفظ  4. حروف المعاني 5. موقع اللفظ الوظيفي 6. عدول اللفظ عن أصله التركيبي 7.      تنويع الأسلوب. ونعطي أمثلة عامة، ونرجو من الله التوفيق للتوسع في إيراد ما يتبقى مستقبلا.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=51554
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 09 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28