بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ{23}
الآيات الكريمة السابقة تكلمت عن الكفار وما ستؤول اليه عواقب امورهم , اما الآية الكريمة فسلطت الضوء على الجانب المشرق "المؤمنين" ( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) , اهل الايمان والعمل الصالح , ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) , بساتين كثيرة , تجري فيها انهارا مختلفة , ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ) , يبين النص المبارك ان حلية اهل الجنة الذهب المرصع باللؤلؤ , ( وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ) , كما ويبين النص المبارك ان لباس اهل الجنة الحرير .
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ{24}
تبين الآية الكريمة عنهم ان الله تعالى هداهم الى طريقين :
1- ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) : ان الله هداهم الى طيب القول , ما ينعكس القول فيه على العمل , فأن اطيب القول ما كان له اثرا في التطبيق .
2- ( وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) : كما ويبين النص المبارك ان الله تعالى هداهم الى طريقه المحمود , حيث العاقبة الحسنة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ{25}
تبين الآية الكريمة مؤكدة ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) , كفروا بالله تعالى وكذبوا بما جاء به الرسول الكريم محمد "ص واله" , ( وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) , يمنعون الناس عن الايمان به جل وعلا وطاعته , ( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) , وكذلك يمنعون المسلمين عن الكعبة , ( الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء ) , الذي جعله الله تعالى منسكا ومكانا للتعبد , ( الْعَاكِفُ فِيهِ ) , المقيم , ( وَالْبَادِ ) , من هبّ اليه في طارئ , ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ) , ومن عدل عن القصد بغير وجه حق , ( نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) , ليس له سوى العذاب الاليم .
مما يروى في سبب نزول الآية الكريمة انها نزلت في قريش , عندما منعوا الرسول الكريم محمد "ص واله" عن مكة .
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{26}
تشير الآية الكريمة الى ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) , بينا له مكان البيت العتيق ليبنيه , ( أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ) , المعلوم ان ابراهيم "ع" لم يشرك بالله تعالى , فما معنى النص المبارك ؟ , هناك عدة وجوه للجواب :
1- ان يكون المعنى بالنص المبارك اتباع ابراهيم "ع" .
2- ان يكون المعني ابراهيم "ع" وكل من قصد البيت العتيق حاجا او معتمرا ان يترك خلفه كل العوالق الدنيوية , وان يقبل على الله تعالى بقلب ليس فيه شيئا من شوائب الدنيا .
( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ) , من الاوثان وكافة انواع النجاسات الظاهرية والباطنية , ( لِلطَّائِفِينَ ) , لمن يطوفه طالبا وجهه عز وجل , ( وَالْقَائِمِينَ ) , القائمين به او المقيمين فيه , ( وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) , المصلين .
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ{27}
الآية الكريمة تخاطب ابراهيم "ع" ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ ) , نادي فيهم , ( بِالْحَجِّ ) , تدعوهم الى الحج , ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) , جمع راجل اي مشاة , ( وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ) , والبعض الاخر يأتون راكبين على الجمال , و ( ضَامِرٍ ) هو البعير المهرول الذي انهكه السفر وطول المسافة , ( يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) , يأتي الجميع , المشاة منهم والركبان , من كل طريق مترامي الاطراف .
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ{28}
تستمر الآية الكريمة في موضوع سابقتها ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) , منافع دنيوية و آخروية , ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) , عند الذبح , ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) , يبيح النص المبارك الاكل من الذبائح , وكذلك امر بإطعام ذوي الفقر الشديد منها .
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ{29}
بعد ذلك تبين الآية الكريمة ( ثُمَّ ) , عليهم ان :
1- ( لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) : يزيلوا اوساخهم , وهي قص الاظافر والشارب وحلق الرأس .
2- ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) : من الهدايا والضحايا , ومناسك حجهم على اراء اخرى .
3- ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) : على بعض الآراء هو طواف الافاضة , وعلى اراء اخرى طواف النساء .
هناك عدة اراء حول سبب تسمية الكعبة بالبيت العتيق , نذكر منها :
1- ( بالبيت العتيق ) أي القديم لأنه أول بيت وضع للناس . "تفسير الجلالين للسيوطي" .
2- عن الباقر عليه السلام إنه سئل لم سمى الله البيت العتيق قال هو بيت حر عتيق من الناس لم يملكه أحد . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
3- عن الصادق عليه السلام سمي البيت العتيق لأنه اعتق من الغرق . "تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني" .
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ{30}
تبين الآية الكريمة مشيرة ( ذَلِكَ ) , الامر الذي تقدم , هو مما اوجبه الله تعالى عليكم , فينبغي لكم ان تعظموه , ( وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ) , احكامه وكل ما لا يحل انتهاكه , ( فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ) , ثوابا , ( وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ ) , اباحة الاكل منها , ( إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) , باستثناء ما يتلى عليكم تحريمه كالميتة وما اهل لغير الله تعالى , ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ) , يختلف فيها المفسرون , فمنهم من يرى :
1- ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) من للبيان أي الذي هو الأوثان . "تفسير الجلالين للسيوطي" .
2- اجتنبوا ما يذبح للأوثان , وكل ما يتعلق فيها من هدايا وغيره .
3- هو الشطرنج . "تفسير البرهان ج4 للسيد هاشم الحسيني البحراني , تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني " .
( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) , امر باجتناب قول الزور , يختلف المفسرون ايضا في قول الزور , فمنهم من يرى انه :
1- ( واجتنبوا قول الزور ) أي الشرك بالله في تلبيتكم . "تفسير الجلالين للسيوطي" .
2- شهادة الزور . "تفسير الجلالين للسيوطي" .
3- قول الزور هو الغناء . "تفسير البرهان ج4 للسيد هاشم الحسيني البحراني , تفسير الصافي ج3 للفيض الكاشاني " .
حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ{31}
تستمر الآية الكريمة في بيانها ( حُنَفَاء لِلَّهِ ) , خالصين لله تعالى , طاهرين مما سواه , ( غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) , لا يشركون به جل وعلا , وهو تأكيد لما سبق , ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ ) , ثم ان النص المبارك يصف حال المشرك بالله تعالى بمثالين :
1- ( فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ) : يصف النص المبارك حال المشرك كمن سقط من السماء , لأنه يكون قد سقط من ذروة الايمان الى اسفل حضيض الكفر , فتناولته الطيور , تمايله يمينا وشمالا , وذلك لان الافكار والتيارات المنحرفة تشتت افكاره ترمي به من نظرية الى اخرى , فيصبح غير مستقر الفكر , وليس له رأي ثابت .
2- ( أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) : يصف النص المبارك حال المشرك بمثال اخر , زيادة في تقريب الموضوع الى الاذهان , فيكون كمن تجرفه الرياح وتسقطه في مكان بعيد عن الحق الثابت , والاستقرار الكامن في الايمان .
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ{32}
تشير الآية الكريمة ( ذَلِكَ ) , ما امر الله تعالى به من الايمان به توحيده وعبادته جل وعلا , ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ) , معالم دينه , ( فَإِنَّهَا ) , فأن تعظيم تلك الشعائر , وهي البدن التي تهدى للحرم بأن تستحسن وتستسمن "تفسير الجلالين للسيوطي" , ( مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) , لأصحاب القلوب المتصفة بالتقوى .
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ{33}
تستمر الآية الكريمة في بيانها ( لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ) , كركوبها عند الضرورة على ان لا يثقل عليها , وكذلك يمكن الانتفاع بلبنها على ان لا يهلكها حلبا ... الخ , ( إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) , حين الذبح , ( ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) , حيث محل ذبحها . |