• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : السياسة العربية ومحاصرة الإمامة، الحسن بن علي أنموذجا(*) .
                          • الكاتب : صالح الطائي .

السياسة العربية ومحاصرة الإمامة، الحسن بن علي أنموذجا(*)

شاءت إرادة الله أن تكون إمامة الحسن بن علي (عليه السلام) في العصر الذهبي للسياسة العربية، فالسياسة العربية التي بدت فطرية في العصر الجاهلي لم تخل من وجود عقول ناضجة، مفكرة، تعمل لدنياها وفق أسس حياتية تتساوق مع عصرهم الذي كانوا يعيشون فيه.

ثم وبسبب حافز المنافسة الخطرة التي استشعروا وجودها في الرسالة السماوية الجديدة، تحولوا إلى مرحلة متقدمة من مراحل الصراع والنشأة، فالتصدي للرسالة المحمدية لم يكن دينيا كما يعتقد البعض، بل جاء بدوافع سياسية اقتصادية، وكان وعيهم السياسي قد دفعهم إلى توظيف الدين الوثني؛ للإفادة من جماهيريته فبدا الصراع دينيا.

بعد فتح مكة ودخولهم الإسلام تمكنوا هذه المرة من توظيف الأطروحة الإسلامية لخدمة مناهجهم السياسية، ونجحوا في ذلك نجاحا باهرا، وهو نجاح مكنهم بعد عشرين عاما من تجميد أحد أكبر المشاريع الإسلامية، في اليوم الأول لوفاة رسول الله، وهو موضوع (الإمامة) بحيث أنهم حيدوا الناس أو كسبوهم إلى جانبهم دون أن يثيروا الضجة التي كان من المتوقع حدوثها اعتراضا وامتناعا.

وعلى مدى خمسة وثلاثين عاما نضجت رؤاهم السياسية بحيث أنهم نجحوا خلال هذه المدة في تعيين وفي قتل ثلاثة من الخلفاء الذي أعقبوا النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا عمل جبار لا تقدر عليه إلا قوة سياسية جبارة واعية.

بعد هذه السنوات، شكل انتخاب الإمام علي صدمة كبيرة للسياسيين، لكنهم وبما معروف عنهم من مكر ودهاء ومقدرة سياسية؛ لم يستسلموا، وإنما استوعبوا الصدمة، وبدأوا في التخطيط بآليات جديدة تناسب المرحلة، بالتعاون مع وأولئك الذين شعروا أن بيعة علي ستسلبهم نعيمهم الدنيوي. 

فعلي كان يريد أن يسير بهم على المحجة البيضاء، في وقت وعدتهم السياسة والسياسيون الذي ساسوا الأمة بعد موت النبي بدنيا ونعيم لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، فالأموال التي أدخلتها الفتوح المسيسة، أفسدت سريرتهم، ولوثت فطرتهم، ووهنت عقيدتهم، وأغدقت عليهم النعيم والترف والرقيق، ولذا لم يكونوا على استعداد للعودة إلى بؤس حياتهم الأولى.

لقد أفادت السياسة من هذا التناقض المجتمعي، وراهنت عليه، ونجحت في رهانها حينما استطاع السياسيون سنة 36 هجرية تجييش الألوف من المسلمين بما فيهم الصحابة، وساروا بهم إلى البصرة، لتبدأ من هناك مرحلة إسقاط حكومة علي. فقتل من جيشهم حسب الروايات المتباينة من عشرة إلى ثلاثين ألفا، وقتل من جيش الإمام من خمسمائة إلى خمسة آلاف.!

حيث قال ابن أعثم في تاريخه: قتل من جيش علي ألف وسبعمائة، ومن أصحاب الجمل تسعة آلاف .

وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: قتل يوم الجمل من جيش عائشة عشرون ألفا، ومن أصحاب علي خمسمائة.

وفي تاريخ اليعقوبي: قتل نيفٌ وثلاثونَ ألفا

كل هذا مع أن الإمام كان قد رد عليهم بما يريده ويأمر به الإسلام، فقال لجيشه قبل القتال، كما ينقل المسعودي في مروج الذهب: (أيها الناس إذا هزمتموهم، فلا تجهزوا على جريح, ولا تقتلوا أسيراً, ولا تتبعوا مولياً, ولا تطلبوا مدبراً, ولا تكشفوا عورة, ولا تمثلوا بقتيل, ولا تَهتكوا سراً)

 

هنا أقول: إن السياسيين لم يكونوا يريدون من جماعة الجمل أن ينتصروا، ليتحولوا إلى منافسين لهم، بل أرادوهم أن ينجزوا مرحلة من مراحل المشروع السياسي كموظفين، ولا فرق بعد ذلك إن ماتوا أو انتصروا. فهم إن ماتوا لن يموتوا إلا بعد أن يضعفوا عليا وجيشه، وإن انتصروا سيخرجون من الحرب ضعافا يسهل القضاء عليهم.

 

ثم لما حققت حرب الجمل أهدافها بالتأثير على معنويات ونفسيات جيش الخلافة الشرعية، أشعل السياسيون سنة 37 هجرية نار صفين التي كانت على عدة صفحات، بعضها حربي وبعضها سياسي. حيث جهّز معاوية جيشاً عدده (130) ألف مقاتل من الشاميين، ليقفوا قبالة جيش الخلافة البالغ عدده (135). وقد نجحوا في الصفحتين.

وكانت صفين مطحنة غيبت عشرات الوجوه الكبيرة التي ممكن أن تعرقل المشروع السياسي إذا بقيت على قيد الحياة، حيث قُتل من الطرفين خلال المعركة سبعون ألفا، فمن أصحاب معاوية قتل خمسة وأربعون ألفاً، ومن أصحاب علي (عليه السلام) خمسة وعشرون ألفاً.!

 

ثم بغية دعم وإدامة هذا النجاح، حركوا الخوارج سنة 38 هجرية، ووجهوهم إلى النهروان لحرب علي، فانتصر عليهم، وقتل منهم عددا كبيرا، أختلف فيه: قال نصر بن مزاحم في وقعة صفين: "أن الذين قتلوا كانوا خمسة آلاف". وفي المستدرك قال الحاكم، وفي شرح النهج قال ابن أبي الحديد: "كانوا ستة آلاف رجع منهم ألفان". وفي شذرات الذهب قال المسعودي، وفي العقد الفريد قال ابن عبد ربة: "إن المقتولين كانوا ألفين وثمانمائة. وفي معجم الأدباء: "قيل: ألف وخمسمائة.. وقيل ألف وثمانمائة".

 

بعد معركة النهروان تحركت خلاياهم لتنفيذ الصفحة الأخيرة باغتيال الإمام علي (عليه السلام) وتولي زمام الأمور رسميا. وبموت علي تكاملت آليات عمل ونظرية فكر السياسة العربية، وتحول السياسيون إلى قوة سياسة تضارع قوة الإمبراطوريات الفارسية والبيزنطية.

 

وفي هذه المرحلة الحساسة القلقة بالذات، ابتدأت مرحلة الإمامة العاملة للحسن بن علي (عليه السلام)، في وقت لم يكن يملك ولو جزء بسيطا مما كان يملكه جده أو أبوه، وفي وقت كانت السياسة العربية أقوى منها في زمن جده وأبيه.

فكان الإمام قبالة خيارين، أحلاهما مر: 

إما المغامرة بالتشيع وبالإسلام كله وخوض حرب ضروس مع السياسيين، لا تُعرف نتائجها.

أو الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، مع حفظ التشيع والدين، ولا اقصد الخسائر المادية بل العقائدية، فالإسلام والتشيع كلاهما كانا على المحك، وكانا يحتاجان إلى عقل مستنير مدبر يمكنه إخراجهما من هذه الورطة.

 

وبقدر كيد السياسة وشدتها، كان عقل وإيمان وحنكة الإمام الحسن، فنجح في ترويض السياسيين، ووضعهم على المحك الذي يؤدي إلى:

إما عودة الحق إلى نصابه، إذا ما التزموا ببنود الاتفاق. 

أو كشفهم بشكل واضح لا يقبل التأويل إذا رفضوا البنود. 

 

هذا العمل ابتداء من عدم خوض الحرب إلى عقد الصلح، كان أكبر من عقول الناس التي تعودت أن تحل مشاكلها بالسيف، ولذا لاموا الإمام الحسن، وهم لا يدرون انه عمل كل ما عمل من أجل الحفاظ عليهم، ليوصلوا مشروع الرسالة إلى الأجيال، ففنائهم في الحرب كان سيؤدي إلى تسيد الفكر السياسي المغلف بغطاء ديني، فتنسى الناس رسالة محمد (صلى الله عليه وآله)، وتتعبد برسالة السياسيين. 

أما بقاؤهم أحياء، حتى لو كانوا محاصرين، ومطاردين، فإنه سوف يسهم في حفظ بيضة الإسلام. وفعلا تحول أتباع الإمام بالرغم من شدة المطاردة والتنكيل إلى مراقبين يصححون ما يقدرون على تصحيحه.

أما لو كان الإمام الحسن قد أصر على خوض الحرب، فمن المؤكد أنه سيقتل فيها، وسيقتل معه الحسين، وغالبية الطالبيين، وعددا لا يحصى من خلص الصحابة، فلا تكون هناك نهضة حسينية ولا دين.!!

 

معنى هذا أن ما قام به الإمام الحسن لم يكن تعبيدا لدرب النهضة الحسينية، كما يعتقد البعض، ممن يعدونه ممهدا لنهضة الحسين، ولذا يرون أنه أقل منزلة من الحسين.! كلا وألف كلا، فنهضة الإمام الحسن توازي وتزاحم بالمنزلة نهضة الحسين، إذ كان لكل منهما منهجه الخاص الذي يتواءم مع طبيعة المرحلة، ولذا أرى أن ما قام به الحسن قد يكون أعظم مما قام به الحسين، إن لم يكن مساويا له، بالرغم من أن ما قام به الحسين على درجة من العظمة لا يرقى إليها شيء.

 

وعلى الذين ينظرون إلى الإمام الحسن نظرة خاصة أن يعرفوا أن الأعم الأغلب من روايات سيرته ومنهجه لدى المدرستين الشيعية والسنية، هي روايات مدسوسة، لأن المشروع السياسي الذي نجح بعزل الحسن عن القيادة المجتمعية هو الذي تولى كتابة وتشويه سيرته، ليسقطه في أعين المسلمين، وكان مشروعهم التخريبي هذا على درجة عالية من الدقة والتنظيم، لدرجة انه نجح بالتسلل إلى منظومتنا الفكرية، فغذاها بمجموعة كبيرة من الأخبار والروايات والقصص الكاذبة والأحاديث الساقطة التي لا زال بعضها معتمدا، نتخوف من تصحيحه لوجود المعترضين، ولو قدر لنا إسقاط هذه الإضافات من سيرة الإمام الحسن، سترون الوجه الناصع لنهضته التي لا تقل عن نهضة أبيه وجده، ولذلك شواهد من حديث المباهله وخطب الإمام علي.

فقولنا: (الإسلام محمدي الوجود علوي البقاء)، يعني أن الإسلام حسني البقاء وحسيني البقاء كذلك، فحديث المباهلة في جزئيته (وأنفسنا وأنفسكم) جعل عليا نفس النبي، وهذا لا خلاف فيه... وحينما نجد الإمام علي يقول للإمام الحسن: (أنت بعضي بل أنت كلي) فهذا يعني أن الحسن نفس علي... وبالتالي يكون الحسن نفس محمد (صلى الله عليه وآله) ومشروعه هو نفس المشروع. 

 

ثم لا ننسى أن نهضة الحسين على عظمتها تعرضت بالرغم من تخليدنا لذكراها على مدى 1370 عاما إلى التخريب والدس والتشويه، ولذا قال الشهيد مطهري: "استشهد الإمام الحسين ثلاث مرات: 

الأولى: على يد اليزيديين بفقدانه لجسده.

والثانية: على يد أعدائه الذين شوّهوا سمعته وأساءوا لمقامه.

أما الثالثة: فعندما استشهدت أهدافه على يد أهل المنبر الحسيني. وكان هذا هو الاستشهاد الأعظم". فكيف بإمامة كدنا أن ننساها؟!!

 

إن ما يجب أن ننتبه له هو أن الاهتمام بنهضة الإمام الحسن يجب أن لا يقل عن الاهتمام بنهضة الإمام الحسين، وما نقدمه للنهضة الحسينية يجب أن يُقدم مثله إلى النهضة الحسنية، فكلاهما جاءا من نبع واحد، وأصل واحد، لتحقيق هدف واحد.

ومن هنا أدعو إلى تجديد أساليب تعاملنا مع التاريخ، ولاسيما الروايات الخاصة بتاريخ الأئمة والتشيع.

وأدعو إلى التحرر من ربقة الخنوع للنص الذي نراه مقدسا فنتهيب من الوصول إليه أو فك طلاسمه.

وإلى التعامل مع الروايات بعقلية مفتوحة، تجازف بالدخول إلى المناطق المسكوت عنها، والمناطق المظلمة دونما وجل، فبقاؤنا مقرون بدرجة تفهمنا لحقيقة ما كان، وحقيقة ما يجري الآن.!

وآخر ما أريد قوله: إن من يفكك بعقل حيادي مفتوح الروايات التاريخية في الطبري والكامل والبداية والنهاية ومروج الذهب وكل كتب التاريخ الأخرى، سيجد أن الخلاف ليس بين السنة والشيعة، وإنما بين السياسيين والشيعة، وأن أحفاد السياسيين وحدهم هم الذين بقوا على هذا النهج إلى الآن، أما المسلمون من غير السياسيين فتجاوزا ذلك، وتفهموا الحقيقة بعيدا عن مؤثرات السياسة والسياسيين، وأن من عاد منهم اليوم إلى أجواء الصراع الأول؛ إنما تأثر بحث ودفع السياسيين لا بمناهج عقيدته التي يتعبد بها.! 

(*) محاضرة ألقيتها يوم الأحد 30/11/2014 في المركز الثقافي الواسطي، منتدى رابطة الرافدين، بمناسبة إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=54433
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 11 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 3