• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : دور خطاب الامام الخميني في تنمية الشعور الثوري لدى الشعوب الاسلامية .
                          • الكاتب : د . رزاق مخور الغراوي .

دور خطاب الامام الخميني في تنمية الشعور الثوري لدى الشعوب الاسلامية

-       شارك هذا البحث في مؤتمر الامام الخميني الذي عقد في جامعة الكوفة بالتنسيق مع مركز العراق للدراسات ومركز الهدى للدراسات الحوزوية.

المقدمة:

    يعتبر المشروع الثوري الذي أسسه الإمام الخميني من المشاريع المهمة والرائدة في مسيرة الجهاد والدفاع حيث قام الإمام بتنظير وإظهار الأيدلوجية الإسلامية الثورية وتطويرها وفق الحداثة و العصرنة الواقعية ودفعها إلى الشارع الإيراني المنادي إلى الحرية والعدالة والمساواة ومن ثم تصديرها إلى الشارع العربي والإسلامي لكي ينال حريته المسلوبة منذ زمن حادثة السقيفة .

    لقد استطاع الإمام الخميني بتطوير وتنمية الشعور الثوري لدى الشعوب الإسلامية وذلك من خلال الخطابات السياسية والثورية التي تصعد أنفاس المقاومة والروح الثورية نحو التجليات والسمو والرفعة من اجل الوصول إلى الهدف الحقيقي والسامي وهو رفع راية الإسلام خفاقة في سماء الأمة ، الأمة التي قال فيها القران "كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، وهذه الأمة التي اختارها الله إن تأمر ولا تأمر يجب إن تكون هي الإمام لا المأموم والرئيس لا المرؤوس في قيادة العالم نحو العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة ومن خلال هذا الاختزال البسيط يمكن تقسيم البحث إلى ثلاثة  مباحث رئيسية حيث تناول المبحث الأول ماهية الثورة في فكر الإمام الخميني إما المبحث الثاني فيتناول الطريقة والمشروعية في تصدير الثورة إلى الشعوب الإسلامية والثالث فقد ركز على الدور الايجابي للخطاب الإمام الخميني لتنمية الشعور الثوري للشعوب الإسلامية.

المبحث الأول:ماهية الثورة في فكر الإمام الخميني

     إن مفهوم الثورة عند الإمام الراحل يمكن استنطاقها من الأصول الفكرية التي حكمت هذه الثورة المنتصرة وتجلت في واقعها السياسي والاجتماعي والثقافي القائم اليوم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ونستطيع إيجازها بالآتي:

1ـ دعا الإمام الخميني إلى الجمع بين مهام الفقيه ومهام السياسي, ورأى في الفصل بينهما تعطيلا لأهم ركن من أركان الإسلام ينتهي الى تحويل الإسلام الى كنهوتية مسيحية. ذلك ان الإسلام جعل السياسة من صلب قواعد عبادته(الحج, صلاة الجمعة, صلاة العيدين), والمساجد فيه ليست دورا للعبادة فحسب, وإنما هي برلمانات وثكنات وخزائن لبيت المال, ومدارس وجامعات ومجالس قضاء ومنتديات. فالإمام يعدُّ اذن(من هذا المنطلق) أول من تكلم عن إنشاء حكومة إسلامية في هذا العصر بتشريعها وجهازها التنفيذي.
2ـ تبرز في فكر الإمام الخميني(القيادي ـ التنفيذي) جملة قواعد[1]:

"وحدة القيادة أساس في كسب النصر.

عُدة النصر= بناء النفس+ التنظيم + إعداد العدة.

الأخذ بوسائل العصر في التنظيم والانضباط وإعداد العدة.

إعادة النظر في التقنية وشروطها لتخليصها من السلبية في مفهومها الشائع.

توثيق صلة العلماء بالشعب(السوق والشارع)"، فالأمة هي الأصل في قوة العلماء ومراجع الدين الذين لم يتخذوا من الدين تجارة ولم يتطفلوا على الدين وجعلوا من الإسلام أمانة مقدسة في أعناقهم يجب حفظها والدفاع عنها.

3ـ بهذه المثابة يكون الإمام الخميني صاحب مدرسة فكرية مكتملة نشأ رجالها في الحوزات العلمية فربطوا العلم بالعمل, ورجعوا الى الأصالة في مواجهة حركة التغريب الفكري والحضاري دون ان يقطعوا صلتهم بالعصر وحاجاته, وتسلحوا بفكر ثوري غير مهادن يقف على الجبهتين الداخلية والخارجية ويستمد من تراثه الأصيل والإيمان به دوافع الثقة والقوة والشموخ, اذ لا شيء يستحيل تحقيقه مع الإيمان الصحيح القوي، وما حققته ثورته كان يبدو قبل فوزها أضغاث أحلام (تقويض سلطة الشاه بأجهزتها كلها وبارتباطاتها الخارجية).
4 ـ وهكذا قدمت المدرسة الفكرية الى المسلمين والى العالم مشروعا حضاريا ملائما لروح العصر ومتصلا في الوقت نفسه بأصوله الإلهية فهو في مبناه ومعناه لغة جديدة تواجه ثقافة العصر العالمية التي قطعت صلاتها بالغيب وربطتها بالمحسوس وحده, ويمكن ان نعدها امتدادا أصيلا وحيا لحركة الإحياء القائمة على أصولها العميقة من وحدة التراث الإسلامي والنازعة الى ربط مصلحتها بمصلحة الإنسانية كلها على أساس انها مكلفة بحمل رسالة يمكن ان تعين على إنقاذ المدينة المعاصرة من الدمار(قلب مفهوم السياسة وغاياتها المنقولة عن كتاب(الأمير) لميكيافيلي في الحضارة الغربية, الى الرحمة ورد الظلم والمساواة بين الناس والانتصار للحق في المفهوم الإسلامي).
وهي رسالة ينبغي ان تتجند قوى الأمة كلها؛ الروحية والمادية والعلمية لإبلاغها والنضال في سبيلها، وعلى هذا النحو نفهم مؤدي الكتاب الذي كتبه الإمام الخميني الى غورباتشوف فهما سليما, ونفهم البعد العالمي لثورته التي ربطت فكرة تحرير المسلمين بتحرير المستضعفين في الأرض ووصلت قضايا المسلمين بقضايا التحرر العالمية.

5ـ يحمّل الإمام الخميني علماء الأمة تبعات كبيرة, فقد ألحّ على نظافة مسلكهم وبعدهم عن إغراءات أصحاب السلطان واستعلائهم على الدنيا وزهدهم في زينتها وحطامها. فالدنيا ـ كما يقول ـ" ليست شيئا ذا بال, والعالم المتقي يصلح مجتمعا بأسره, واذا فسد العالِم فسد العالَم. ولهذا كان يرى ان يدرَّس علم الأخلاق في الحوزات العلمية, اذ لا قيمة للعلم إلا مع العمل واستقامة السلوك, فإن(العمامة) و(اللحية) قد تحولان بين الإنسان وإصلاح نفسه في أحيان كثيرة, اذ تزيدان من التكبر والغرور وتسوغان طرق الضلال وتفرعاتها بالسعي الى الجاه الكاذب والشهرة الفارغة. ومن هنا ضيّق الإمام على العلماء مجال التوبة وأباحها للعامة الذين"يعملون السوء بجهالة"[2], أما العلماء فلا تقبل توبتهم. وهو يدعو العلماء من ناحية أخرى الى التضامن والوفاق, فقوتهم في وقوفهم صفاً واحدا في مواجهة معسكر البغي. والمهم في هذا كله ان يحوّلوا ولاء الناس الكاذب للسلطة, الى ولاء روحي عميق للرسالة التي يجسدونها في أعين الناس, وبهذا يعيدون للجهاد معناه الحقيقي وللشهادة قيمتها الكبرى.
6ـ لا شك ان الإمام الخميني قوّى عزائم الناس في مواجهة الأنظمة السياسية الظالمة في العالم الإسلامي وعمل على تقويض نزعة الاستسلام التقليدية لأولي الأمر أيا كانوا. وهي النزعة التي شاع أمرها في حياة المسلمين بحكم بعدهم عن حقائق الحياة السياسية الديمقراطية السليمة, حتى قوى إحساسهم بفقد حريتهم الداخلية جراء ولائهم الكاذب للسلطة, وفقدوا صلتهم الروحية بها وشجاعتهم في مواجهتها ونمت فيهم ظواهر الخنوع برذائلها كلها وقد اعتمد الإمام في هذا تراث آل البيت وتقاليد أئمتهم في مقاومة الظلم والظالمين والانتصار للمظلومين والمستضعفين حتى أصبحت مفردات الاستكبار والمستكبرين التي أطلقها من شعارات الثورة.
7ـ ولكن الإمام رمى من وراء تطهير الساحة الداخلية, الى ان يهيئ لنقل خط الصراع في حياة المسلمين من الداخل في مواجهة القوى التي تذلهم. ومن المحزن جدا ان تكون مأساة الحرب العراقية الإيرانية, نكسة خطيرة في وجه هذا الجهد, اذ كانت حركته تدعو الى ان يكون الولاء الروحي والسياسي والاجتماعي عند الفرد المسلم ـ مهما يكن مذهبه ـ للإسلام وحده بثوابته التي ينبغي ان تحدد وتنفرد بالولاء. ولهذا دعا الى مؤتمرات تعقد لزعماء المذاهب الإسلامية في أقطارها المختلفة, ليتعاونوا على فرز الثوابت وجمع القلوب عليها, ولينفوا عن أنفسهم ما علق بها بعد هذا التاريخ الطويل من الشكوك والظنون والتعادي في الطريق الى حسن الفهم المتبادل وبناء الثقة المتبادلة.
8 ـ وهكذا خرج الإمام بثورته الإسلامية على التقليد القائم بانكفاء كل قطر إسلامي على همومه فهو يهتم بكل حركة إسلامية على امتداد ديار الإسلام, وخرج بها أيضا على تقاليد الصراع السني ـ الشيعي على مدار التاريخ الإسلامي منذ يوم كربلاء وما قبله, فردّ بثورته على سلبيات التاريخ الإسلامي كله, وعلى الواقع الإسلامي القائم(المذهبية, العرقية, الاقليمية، التقاطع السياسي في الداخل) وعاد الى التمسك بالخط الإسلامي الصافي الذي لمع نجمه مع ظهور الإسلام في وجه القوى الخارجية: الثقافية والسياسية والعسكرية, متجاهلا انشغال كل قطر إسلامي بنفسه, لبعد المسافات واختلاف المشكلات التي تتعرض لها المجتمعات المختلفة, ولاختلاف ألوان الثقافات بحكم اختلاف الظروف, فأعاد على نحو ما, طرح قضية المجتمع الإسلامي الواحد او المتحد من حيث يظن الناس انها قضية قديمة عفا عليها الزمن, وطرح من ورائها قضية الوحدة الإسلامية على صورة من الصور. ومن هذا المفهوم الجامع دعا الى تخصيص أيام إسلامية يجتمع المسلمون في أقطارهم جميعا على الاحتفال بها(آخر جمعة في رمضان: يوم القدس, وأسبوع ولادة الرسول من 12ـ 17 ربيع الأول) إيقاظا لشعورهم بانتمائهم الواحد بدل انتماءاتهم المختلفة.
9ـ ولكن صلته بالعلم الحديث وحاجاته وحاجات الفرد المسلم منه كانت لا تغيب عنه, وكان يدرك إدراكا قويا بحاجة الفرد المسلم الى ان يدرب على الحياة فيه, ويتضح له موقف الإسلام من قضاياه الكبرى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية حتى يملك قدرة التحرر من التبعية للآخرين كما يملك القدرة على التحرر من أدوائه في داخل الساحة الإسلامية وهي الأدواء التي يجمعها التخلف بجوانبه المختلفة.
10ـ وجوه التخلف الذي تعصف أدواؤه بالعالم الإسلامي يمكن إجمالها في: الأمية والفقر, واستشعار الدونية لضعف الانتساب الى العصر, وطغيان الفردية والمحسوبيات, وانحلال الرباط الاجتماعي, وفراغ المذاهب والفرقة بينها, وإغلاق باب الاجتهاد, والالتفات عن بناء نظام اقتصادي إسلامي معاصر, وسوء توزيع الثروة الإسلامية, واختلال التوازن بينها وبين عدد السكان(الانفجارات السكانية), وهكذا يجمع التخلف حقول الحياة بمجموعها؛ الاقتصادي والعلمي والفكري العام(الثقافي) والاجتماعي والسياسي.
11ـ وقد واجهت مدرسة الإمام الفكرية هذا الواقع الإسلامي السيئ بالدعوة الى إصلاح البيت الإسلامي, وإصلاح أساليب التربية, وبتكوين هيئة من رجال المذاهب الإسلامية للبحث في فرز نقاط الافتراق والاجتماع وبث الوعي في النفوس ومواجهة قضايا العصر الكبرى مثل: التوفيق بين القومية والدين ومواجهة الرجعية بمعناها الحقيقي ومعالجة قضية المرأة والقضايا الاجتماعية الأخرى وتحكّم الطائفية في المجتمع الإسلامي وتحكّم الإقليمية والعنصرية.
12ـ ووقفت هذه المدرسة وقفة طويلة أمام القضية التي تواجه العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام, وهي عداء الغرب على إطلاقه لنا, على حين لم يقف موقف العداء من أديان أخرى مثل البوذية والهندوسية, ولم يثر حولها مثل الضجة التي أثارها من حولنا.
والطريف ان الإمام رمى هنا الى ان يعيد المسيحية أيضا وجهها الحقيقي بعيدا عن إرادة الإذلال التي تسلح بها معتنقوها في الميدان السياسي والعسكري, فكأنه في مواجهة الغرب في عدائه للإسلام سعى ان يعيد الى الدين في ذاته وجهه الحقيقي القائم على وحدة المصدر ووحدة القيم ووحدة المصير الإنساني كما أراد الله لهذه الأديان السماوية ان تكون.
لقد بلغت عداوة الغرب للإسلام ان عملوا على تفكيك العالم الإسلامي, وظنوا ان الدعوة الى وحدته قضى عليها التأثر بالفكر الغربي وحضارته الحديثة وما جاءت به من ثقافات وتجارب اجتماعية وسياسية. فهم ظنوا أنهم دفنوا الإسلام بصفته فكرا يعمل على تكوين المجتمعات الإسلامية الحديثة وسياسات دولها, وعملوا على إثارة النزعات"التاريخية" كالنزعة الشعوبية التي أشار اليها رئيس الجمهورية الفرنسية في بعض حديثه عن دافع فرنسا الى تسليح العراق! فقد جاء الإمام الخميني يبعث أفكار الوحدة الإسلامية ومن البلد الذي يظن انه هو الذي صدرت عنه النزعة الشعوبية في القديم والحديث.

    لقد نجح الإمام الخميني على المستوى الداخلي والخارجي والعالمي والإسلامي, فخلّص الشعب الإيراني من مظالم الشاه وفساد حكمه وأقام الجمهورية الإسلامية القوية, ودعا الى وحدة الأمة الإسلامية, لتتمكن من الصمود أمام غطرسة الاستكبار العالمي بقيادة أمريكا.
واستطاع بفضل إيمانه الراسخ, وإخلاصه لله ربه, واعتزازه بدينه ومقومات أمته ان ينفذ الى قلوب العالم الإسلامي, فيستقطب محبتهم ومشاعرهم الأخاذّة, ويوجهها وجهة واحدة, لحماية مصالحها, واستقلالها الذاتي وبلادها, والتحكم في مصير ثرواتها, وتمكنها من أداء دور عالمي رفيع المستوى, وذلك من خلال المنطلقات أو الأسس التالية[3]:

·        إدراكه قوة الأمة الإسلامية فكريا واجتماعيا واقتصاديا وعقيديا وثقافيا وسياسيا, وهذه القوة تستطيع بها إثبات الذات, والدفاع عن القيم الإسلامية العليا, والانطلاق في ترسيخ أسس الدعوة الإسلامية في العالم المعاصر وفي كل زمان ومكان, انطلاقا من قول الله تبارك وتعالى(ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).

·        إمكان علاج مرض الأمة الإسلامية, وتجاوز مرحلة ضعفها الآنية, وتخطي مظاهر تخلفها, وإصلاح سوء أوضاعها الحالية, وليس الأمر عسيرا, بل هو ممكن بالعودة الى تبني تعاليم الإسلام الراسخة في العزة والمكانة, والعمل على وحدة الصف, والتعاون فيما بينها تعاونا أوثق لحل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية, وبناء نهضة قوية تبدأ من الزراعة والصناعة المتطورة, ثم برمجة محاور النهضة والتخطيط لها في جميع الميادين عملا بالآية القرآنية الكريمة(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم).

·        القدرة الذاتية عند الشعوب الإسلامية للتخلص من هيمنة العالم الغربي, والاستكبار العالمي بزعامة أمريكا, وتقليص تدخلها في شؤون الأمة العربية والإسلامية, وإلجامها وإنهاء نفوذها واسترداد ثروات المسلمين النفطية والمعدنية وغيرها, والاستغناء عن اقتصادياتها, ومقاطعتها مقاطعة مبرمجة وحكيمة وقوية, وطريق ذلك كله يبدأ من تخليص الشعب والقادة من الشعور بالتخلف, والتخلص من عقدة النقص, والاستعداد للبناء والعمران الجاد, فإن أمريكا ودول الغرب ـ وريثة الحضارة الرومانية ومبادئها ـ لا تؤمن ولا تحترم غير القوة المادية, وهي قوة يمكن تحقيقها, وان يضم اليها القوى الروحانية الشديدة التي تحمي التطلعات, وتؤدي الى التماسك والصبر والجدّ والعزيمة في تنفيذ المخططات, والتي يفتقدها العالم الغربي والشرقي برمته.
ومقومات هذه الخطة: العودة الى دمج الدين بالدولة, وإنهاء أسطورة الغرب التي روّجها المشبوهون وتلامذة المستشرقين وأدعياء الحرية والوطنية والتقدم, وهي مبدأ فصل الدين عن الدولة, الذي نجح في الغرب نجاحا طبيعيا, لأن المسيحية تدعو الى هذا الفصل وتباركه, ولأن الكنيسة وقفت أمام النظريات العلمية, وتقدم الحياة.. أما الإسلام ورجاله فلا يعرفون هذه الآراء, ويؤمنون بتلازم المسيرتين: الدينية والدنيوية, فهما يخدمان بإخلاص تطلعات الأجيال وبناء حضارة الأمة, فكان لابد من إسقاط هذا الشعار.
المبحث الثاني:الطريقة والمشروعية في تصدير الثورة الى الشعوب الإسلامية

عند ما خطب الإمام الخميني للمرة الأولى عن ظاهرة تصدير الثورة ربما لم يفهم الكثير من الناس دافعه بشكل صحيح، ولهذا الغرض سعى في كتاباته وأحاديثه بعد فترة قليلة إلى أن يوضح أبعاد هذه المسألة للجميع. وفي إحدى هذه الخطب، ضمن وصفه وتحليله لهجوم وكالات الأنباء الغربية المتعددة التي كانت تسعى إلى تشويه وجه الثورة الإسلامية خارج إيران، خاصة لدى المسلمين، أعلن:" "أننا سنصدر ثورتنا إلى كل العالم حتى يعلم الجميع لماذا قمنا بالثورة. لقد كان هدفنا الاستقلال بمعنى التحرر من القيود والتبعية للشرق والغرب، أي أمريكا والاتحاد السوفيتي (السابق)، والحرية، أي التحرر من أغلال استبداد إمبراطورية شاه إيران (الحكم البهلوي)، والجمهورية الإسلامية، أي أن يحقق الإيرانيون حلمهم بإقامة حكومة على أساس الإسلام والديمقراطية"[4].

ولقد أوضح ببيان صريح أن "هدفنا من تصدير الثورة ليس الاعتداء العسكري لأن هذا عمل الدول الاستعمارية ولاسيما المعسكرين الموجودين في تلك الفترة، إننا نريد أن يعرف العالم مبررات ثورتنا ونوضح أهدافنا أن القوى العظمى لا تريد ذلك، لو أن الناس في العالم يعرفوننا، فأنهم سيقومون بالدفاع عنا، ولن ينخدعوا بحيل وسائل الإعلام الإمبريالية... لأنهم يهاجمون ثورة الشعب الإيراني ويتآمرون عليها بسبب ضياع مصالحهم فيها"[5].

وفي نفس الوقت فإن وسائل الإعلام الغربية سعت إلى تفسير موضوع تصدير الثورة الإسلامية على النحو الذي تريده. ولقد قالوا في تحليلاتهم أن هتلر و ستالين أيضا قد فشلا في تصدير ثورتيهما، وانهزما في النهاية. ولقد قصدوا بعرض هذا التحليل إلى أن يعلنوا على العالم مع الأخذ في الاعتبار نظرة الناس السلبية تجاه هتلر و ستالين، أن هدف الإمام الخميني من تصدير الثورة هو نفس الأمر الذي كان يسعى إليه هذان الزعيمان اللذان ينفر العالم منهما.

وكذلك فإن بعض الأنظمة السياسية في المنطقة كانت تعتبر ان أي فكر جديد في المنطقة يعد خطراً على حكوماتها، فاتخذت قراراً متسرعاً تحت تأثير هذه الدعاية، وصارت مع وسائل الإعلام الغربية في نفس الاتجاه، وأطلقت على تصدير الثورة ظاهرة مخيفة على مستقبل البشرية.

ولقد جعلت بعض هذه الأنظمة نظريتها في حدود محلية، واعتبرت أن هدف الإمام الخميني هو الهجوم الديني فزعمت أن هدفه هو تشييع المسلمين السنة . أو بعبارة واحدة القضاء على المذهب السني. وبنظرة عابرة على الكتب والمقالات التي نشرت في الثمانينيات نجدها تعبر عن هذا الواقع.

هل قام الإمام الخميني بهجوم عسكري على مكان ما من أجل تصدير الثورة؟ هل كان هدفه القضاء على المذهب السني؟ الإجابة على هذه الأسئلة ليست أمراً صعباً، لأن الجميع يعرفون أن جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو الحرس الثوري لم يقم بأي عمل عسكري ضد أية دولة أخرى، بل كان يوجد في لبنان لفترة وجيزة من أجل مساعدة اللبنانيين والفلسطينيين في حربهم ضد إسرائيل وكان يقتصر على العمل اللوجستي دون التدخل في الشؤون الداخلية.

إن هدف الإمام الخميني الذي كان يسعى إلى تحقيقه هو وحدة المسلمين، لقد أعلن أنه على الرغم من إصرار بعض الذين كانوا يسعون إلى إقامة جمهورية شيعية، إلى أن هدفه كان هو إقامة جمهورية إسلامية، حيث كان يعرف أن الشيعة والسنة بينهما اختلافات في بعض المسائل الفرعية، ولهذا فقد حذف بعضا من آرائه وملاحظاته السابقة في كتب مثل "تحرير الوسيلة" و "كشف الأسرار" بعد الثورة الإسلامية، وأمر الإيرانيين بإصرار أن يصلوا مع أهل السنة في موسم الحج وفي الحرمين الشريفين، حتى أنه اعتبر أن القيام بمثل هذه الطقوس الشيعية الخاصة التي من الممكن أن تعود بالضرر على وحدة المسلمين (سواء شيعة أم سنة) مبطلة للصلاة.

لقد كانت هذه خطوة عملية تجاه الوحدة الإسلامية، وكانت دليلاً على نيته الخالصة في الدفاع عن الكيان الإسلامي. حتى عندما ذهبت إليه جماعة من أتباعه أوصاهم بأن يؤدوا الصلوات الخمس في أوقاتها، في حين أنه كان يعلم أن الشيعة تجيز جمع الصلاتين وأنهم اعتادوا على ذلك.

وقد تحدث الإمام الخميني في السنوات الأخيرة من عمره مرات عديدة عن الإسلام المحمدي الخالص، واصطلاح (المحمدي الخالص) بمعنى أنه كان يميل إلى الإسلام في عهد الرسول، حيث كان الإسلام لا زال صافياً لا تشوبه شائبة لقد كان يعرف لو أن المسلمين وضعوا هذه المسألة نصب أعينهم فإن كثيراً من الاختلافات المذهبية سوف تتضاءل ولن يستطيع الاستعمار أن يشعل نيران الاختلافات العرقية والدينية بين المسلمين.

وبالنظر في مسألة تصدير الثورة يجب أن تتضح هذه المسألة، ما هي ماهية الثورة؟... وما هي أهداف الزعيم أو زعماء الثورة من هذه الظاهرة؟.. من وجهة نظر الإمام الخميني وأغلبية الإيرانيين كانت الثورة هي التحرر من الاستبداد والوصول إلى الحرية والديمقراطية، وفي نفس الوقت كان هناك نوع جديد من النظر تجاه بعض الأمور، ويمكن القول أن الثورة في الواقع كانت ثورة في فكر الإيرانيين وهذه المسألة يمكن التعبير عنها من الآية القرآنية: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)).

كان الإمام الخميني يؤمن أنه قد تم تغيير فكر ومعتقدات الإيرانيين خلال العقود الأخيرة، وأنهم عادوا ينظرون مرة أخرى تجاه الإسلام بشكل جيد، وكانت هذه المسألة في رأيه دليلاً على أن الثورة الإسلامية ثورةً على كل شيء وتغير في رؤية الناس ومعتقداتهم.

واستيعاب فكرة الثورة بهذا الشكل معناه أن الثورة ليست بضاعة ولا سلعة بالقطع لكي نستطيع توريدها أو تصديرها. الثورة هي مشروع طويل الأجل تتشكل من خلاله أفكار ومعتقدات أمة مع الأخذ في الاعتبار سماتها الفكرية والقومية.. وبعبارة أخرى الثورة هي فكر وعقل.. الفكر سواء كان خيرا أم شرا متحرك لا يعرف الحدود، ويتميز بأنه ينتقل بسرعة.

اليوم وعلى أرض الواقع نحن نشاهد هذه الظاهرة بشكل واضح جداً، فهناك كثير من الدول ليست بينها علاقات سياسية ولكن الأفكار موجودة بين مجتمعاتها ويمكنها أن تنتقل بسهولة من مكان إلى مكان.

وعلى سبيل المثال، فإن إيران لا تستطيع على الإطلاق أن تحول دون دخول الأفكار الغربية إليها، فهذه الأفكار تدخل إيران بأشكال مختلفة : وسائل إعلام، ملابس، موسيقى، أغذية و...، والطريق الوحيد هو مواجهة بعض الأفكار الخاطئة وأن يُعرض على الناس الفكر الصحيح لكي يستطيعوا أن يختاروا أفضله بأنفسهم.

وكذلك الغرب أيضا لا يستطيع مع وجود منتجاته في مجال الاتصالات أن يمنع دخول الأفكار الموجودة في الدول الإسلامية ومن بينها إيران إلى بلاده، والأفكار الناتجة من فكر الثورة الإسلامية موجودة في الغرب منذ سنوات مع الأخذ في الاعتبار هذا المفهوم وهو أن الإمام الخميني أعلن في خطبه مع بداية الثورة الإسلامية أن ثورتنا الإسلامية تم تصديرها إلى كل العالم، وكان يقصد أن العالم قد عرف الثورة الإسلامية بشكل يخالف ما تشيعه وسائل الإعلام الإمبريالية، وعرف لماذا قمنا بالثورة، وماهية ثورتنا الإسلامية.

الآن ومع التكنولوجيا الجديدة من الممكن أن نزعم أن انتقال الأفكار وتبادلها أصبح أكثر من ذي قبل، لأن الأقمار الصناعية وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) هي أدوات ووسائل جديدة ومتقدمة تخدم هذه الظاهرة، ومن الطبيعي أن الأفكار يتم قبولها إذا كانت تحمل مفهوماً جديداً جديراً بأن يجذب انتباه الناس.

بالطبع إن بعض هذه الأفكار سوف تبقى وتدوم على الأمد البعيد، وستقود الناس من الظلمات إلى النور. والفكر أو النظرية هو الرمز الخالد الذي يكون لصالح الناس في الواقع وهذه المسألة تتجلى بوضوح في الآية القرآنية: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ))... والنظر في تاريخ الفكر في العالم يثبت هذه المسألة، إن شرط قبول وثبات فكرٍ ما، ليس القوة السياسية والعسكرية لأصحابه.

وتحاول الولايات المتحدة الأمريكية الآن أن تفرض الفكر الديمقراطي على الشرق الأوسط بقوة السلاح، فهل ستنجح في أن تستولي على قلوب الناس؟ يؤكد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على هذه المسألة باعتبارها واحدة من السنن الموجودة في الكون ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) فالقوة والسلاح لهما مدى محدود، أي أنه عندما يزول الضغط الناتج عن السلاح سيتبدد كل شيء، حتى البشر لا يستطيعون أن يُحملوا إلى الجنة بالقوة، لأن الله خلق الناس أحرارا، ومنحهم حق الاختيار بين الحق والباطل... حتى أن الله سبحانه وتعالى يقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وآله: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بمسيطر)).

ويجب الاعتراف أنه بعد مرور ثلاثة وثلاثين سنة على انتصار الثورة الإسلامية، فإن كثيرا من الناس في العالم قد اتبعوا عبثاً ادعاءات "مؤامرة تصدير الثورة"، وهم يعرفون أنهم مستعمرون وأنهم أخفوا نواياهم المسمومة في قوالب جميلة من الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأنهم اعتدوا على شعوب العالم المظلومة بحملات عسكرية.

منذ سنوات تعرف الشرقيون ومن بينهم المسلمون على مصطلح "الغزو الثقافي العربي" ووضعوا أبعاده موضع البحث في كتبهم ومؤلفاتهم بشكل منتظم وراحوا يعرضون سبل مواجهته.

وها هي الولايات المتحدة التي كانت تخيف الدول الإسلامية من تصدير الثورة الإسلامية، تقدم الآن على تصدير الديمقراطية بغزو عسكري، وهدفها من الديمقراطية خلق مناخ جديد في الدول الإسلامية لكي تأمن على مصالحها الطويلة الأجل في المنطقة بشكل أفضل وأكثر من ذي قبل.

ومنطق الولايات المتحدة هو إيجاد وسيلة لحفظ مصالحها في المنطقة،وفي الوقت نفسه الإفادة من الديكتاتوريات، الليبراليات، النظم العسكرية، والانقلابات وكثير من المفاهيم المتناقضة.

وهذه الدولة هي الأولى التي استخدمت القنبلة الذرية ضد الآخرين، ولها حلفاء مثل إسرائيل لديهم قنابل ذرية، ولكنها ليست مستعدة الآن لكي تعترف رسمياً بحق إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية للأغراض السلمية.

خلاصة القول:  

ـ لقد كان هدف الإمام الخميني من اصطلاح "تصدير الثورة" هو بيان ماهية الثورة، وهدف الثورة الإسلامية لشعوب العالم حتى لا يقعوا تحت تأثير وسائل الإعلام الإمبريالية. وأن يعلم أن فكرة الهجوم العسكري على الدول الأخرى ناتجة من الفكر ألاستكباري الاستعماري وكان يخالفه.

ـ وفي المقابل لقد سعت وكالات الأخبار الإمبريالية إلى إشاعة أن تصدير الثورة هو نفسه تصدير الإرهاب، لإخافة شعوب العالم عند سماعها ذلك.

ـ تدعي الولايات المتحدة الآن أن غزوها العسكري لدول المنطقة من أجل "تصدير الديمقراطية" وإنقاذ الشعوب، لا لتأمين مصالحها على المدى البعيد،وهذا مخالف للواقع.

المبحث الثالث:الدور الايجابي لخطاب الإمام الخميني لتنمية الشعور الثوري لدى الشعوب الإسلامية/

إن التاريخ دائماً هو الحكم في تقييم حياة الرجال العظام بعد وفاتهم، وسوف يقيّم بشكل كامل مجموع انجازاتهم في حياتهم والأثر الذي يتركونه على الأحداث، وبعضهم سيكون تأثيره وقفاً على حياته، بينما يكون للبعض الآخر تأثير يمتد إلى زمن طويل بعد موتهم. والإمام الخميني من هذا الصنف الأخير. والأمر الآخر هو أنه مهما يكن الشخص الذي يكتب تاريخ فترة آية الله الخميني، حتى ولو كان من أعدائه، فإنه ولابد سيعترف بحقائق ثلاث[6]:

أولاً: إن تأثيره لم يتحدد بإيران فقط وإنما تعداه إلى خارج حدود إيران ودخل إلى عمق الأقطار الإسلامية الأخرى كلها. وتمثل هذا التأثير بإشعال جذوة النهضة الإسلامية فيها.

ثانياً: كان لهذا تأثيره العميق على السياسة العالمية، وجعل العالم يعترف بأن الإسلام قوة لابد من إدراك أهميتها.

ثالثاً: إن التأثيرات السابقة ستبقى إلى زمن أطول كثيراً من حياة الإمام الخميني.

وهناك مساحات عديدة برز فيها تأثير حياة الإمام الخميني بشكل خاص أو عام، وسنشير إلى نواح مخصوصة منها. ولن يكون بمقدورنا بالطبع أن نعطي شرحاً واضحاً لها، ولكننا سنشير إلى النقاط الأساسية فيها:

1ــ تحطيم التدخلات الخفية للقوى العظمى:

عندما بدأت شواهد انتهاء القوى الاستعمارية وضمور دورها في القرن العشرين، بدأ شكل آخر من الكفر يحتل مقامها، وقد بدأ هذا العصر بولادة القوى العظمى، أميركا والاتحاد السوفيتي وقد اقتسمت الدولتان العالم بينهما وأما الدول التي لم تقبل أن تصبح تابعة لهما، فإن حكامها هددوا بالمقاطعة الاقتصادية واستعمال القوة لإجباره على التخلي عن الحكم باستعمال الطرق المختلفة التي نجحت أجهزة المخابرات العالمية في استعمالها. وفي العام 1953 نجحت "السي. آي. أيه" باستعمال طرقها الخبيثة وإعادة الملكية إلى إيران. وحركت السي.آي.أيه جهاز السافاك ــ المخابرات السرية الإيرانية ــ للقبض على واغتيال جميع العناصر الإسلامية. وجرى احتواء اقتصاد "البترو ــ دولار"[7] الإيراني داخل النظام الرأسمالي الأميركي من خلال بيع "أنماط التحديث الجاهزة". ولم تفلح ملايين البترو ــ دولارات في إقامة نظام اقتصادي متوازن، لأن الفقراء بقوا على أشد ما يكونون عليه فقراً. وكان عليهم، في الحقيقة، أن يهاجروا إلى المدن طلباً للمعيشة وسكنوا بيوتاً من علب الصفيح. إن أخذ اثنين وخمسين رهينة أميركية من قبل إيران قد هزت العالم. وأساس الهزة هي قدرة دولة صغيرة على تحدي دول كبيرة. وأثبت هذا العمل  كيف أن بمستطاع دولة صغيرة أن تجبر دولة عظمى على الركوع والدخول معها في مفاوضات لاستعادة ملايين الدولارات الإيرانية التي اغتصبتها منها أميركا. وكان هذا العمل من قبل الإمام الخميني تحطيماً للتدخلات الخفية للدول العظمى.

2ــ خلق الأرضية للتحرك الثوري في البلدان الإسلامية:

 الثورات ظواهر نادرة لا تحصل في كل يوم من حياة العالم. وفي العالم الإسلامي بشكل خاص، لم تحدث هناك ثورة لقرون عديدة. وما زالت القوى الاستعمارية التي تغلبت على دول المغول والعثمانيين هي المسيطرة على العالم الإسلامي. وقد وضعوا ألعوباتهم على دفة السلطة في البلاد، التي تخلوا عنها حتى بعد زمن طويل من رحيلهم. وتمتعت الحكومات الجديدة بقوة مطلقة (ديكتاتورية) وأجهزة أمنية قوية استطاعت أن تدمر كل المجاميع المعارضة لها. ولكن الثورة الإسلامية في إيران فتحت طريقاً جديداً للتغيير السياسي في العالم الإسلامي. وبرز هذا الطريق من خلال الجماهير التي التفت حول قيادة الإمام الخميني. وإن المهارة التي أدار بها الإمام الخميني ثورته تجاوزت كل نظريات الثورة المعروفة.

 3ــ دور العلماء:

 بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) وتحول الخلافة إلى شورى مقيدة وملك عضاض، لم يعد بالمستطاع طرح قيادة تحتل المقام الصحيح، وكان هناك ثلاث مرشحين: رجال مثل أبي ذر الغفاري الذي استطاع مواجهة الحكام بصراحة وجابههم في وجوههم ولكن هذه النوعية في الصحابة كان نادرة، وكان يندر أيضاً أن نجد تحدياً مسلحاً من أفراد أسرة الرسول صلى الله عليه وآله بعد ثورة الحسين بن علي (ع) الذي استطاع بشهادته أن يسحب الشرعية من حكام عصره. والجماعة الثالثة التي كانت مرشحة للقيادة هي فئة العلماء ولكنهم اخضعوا للجهات الحاكمة لتمرير سياساتها. وقد كان لتخلي غالبيتهم عن دور القيادة أثره في تشويه صورتهم لدى العامة. وجرى حصر وظيفتهم بالشعائر الإسلامية، كالعبادات وحدها، من دون إنجاز عمل كبير للإسلام. وكان الإمام الخميني قد صادف في مسيرته الجهادية علماء كثار مثل هؤلاء ممن كان علمهم قد وضع في خدمة الشاه ودولته. ولكن الإمام أثبت أن هناك استثناء لما هو مطروح وأن الإسلام لا يكون مطلقاً في خدمة الشاه ودولته ولكن فقط في سبيل الله سبحانه وتعالى وكان لدور الإمام الخميني في قيادة الثورة الإسلامية أثره في الارتفاع بصورة العلماء في العالم الإسلامي كطبقة لها إمكانيات ثورية هائلة.

 4ــ إفشال نظريات المستشرقين:

 لقد أعلن المستشرقون الغربيون أن الإسلام قد انتهى والمستشرقون جزء من التقاليد المدرسية الغربية في دراسة مختلف جوانب الإسلام وقد وصلوا إلى تحقيق نفوذهم وتكوين معداتهم العلمية خلال الفترة الاستعمارية وعبروا عن المصالح الغربية في الحاجة إلى فهم الإسلام للتعامل معه، وكان العالم الغربي قد عرف قوة الإسلام خلال الحرب الصليبية. وكان لدى المستشرقين استنتاج وصلوا إليه بأهوائهم الخاصة يقول إن الإسلام رجعي وإن التحديث سيحتل مكانه بسهولة. وكان من صالح الاستعمار أن يسود المنظور الاستشراقي المشوه الذي يقول بالفصل بين الإسلام والسياسة. ولكن أعظم هزة أحدثتها الثورة الإسلامية كانت في المحيط الغربي حيث أثبتت أن جميع نظريات المستشرقين حول الإسلام كانت مشوهة. وجعل صعود الإسلام كقوة عالمية ثالثة الاستعمار والمستشرقين الغربيين يعودون إلى التفكير بالأسباب التي جعلتهم يقعون في الخطأ. ويشهد على ذلك أن أكبر كمية من الكتابات عن الإسلام والثورة الإسلامية قد نشرت في الأوساط الإعلامية الغربية وبأعداد تفوق إلى حد كبير ما نشر في دول العالم الثالث.

 5ــ تأسيس الدولة الإسلامية:

 ليس من السهل أن نطلق تعبير "الدولة الإسلامية" على حكومة من حكومات القرن العشرين، وربما أيضاً الحكومات السابقة عليها. والحكومات والدول القائمة في العالم الإسلامي هي حكومات خاضعة للاستعمار وتابعة له بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن بعضها قد أخذت بنظام غربي للحكم في دستورها وأحزابها ونظامها السياسي، والبعض الآخر قد تبع أفكار علمانية اشتراكية وديمقراطية وشيوعية وماركسية. وبكلمة أخرى، إن الدولة ــ النموذج في العالم الإسلامي في القرن العشرين ــ تحاول أن تعطي لنفسها صبغة وبنية غربية.

 وكان للإمام الخميني تصور آخر، "فقد وضع نصب عينيه نموذج دولة الرسول صلى الله عليه وآله وهناك فارق بين أن يكون لديك تصور وبين أن تكون لديك القدرة على تحقيقه. ولكن جهد الإمام كان موفقاً في الجانبين. لقد نجح في تشييد الجمهورية، وبقيامها ظهرت للعالمين مساوئ الأنظمة الأخرى، إذ ان الجمهورية الإسلامية كانت بمثابة المرآة وهي أن لم تك كاملة النقاء فقد كانت أقرب إلى التصور الإسلامي الأصيل منها إلى أي نظام في العالم الغربي"[8]. ولو لم تكن كذلك لما سعى الغرب إلى تحطيمها.

 والمهم أن الإمام قد طرح نموذجاً جديداً يقتدى به؛ فهو لم يسعى إلى سلطة كما فعل الآخرون الذي يجعلونها في أعقابهم وإنما ترك لغيره أن يحتل منصب رئاسة الدولة ومنع أفراد عائلته من احتلال أي موقع سياسي. ثم ان الثروة لم تكن موضع اهتمامه على الإطلاق وكان يرى فيها سبيلاً إلى الخير ومرضاة الله سبحانه وتعالى.

 6ــ توحيد الفكر الإسلامي:

 لقد نخرت الطائفية جسم العالم الإسلامي. واستمرت تفعل ذلك لقرون والانقسام الكبير كان بين السنة والشيعة وتولد عن هذا الانقسام ضعف العالم الإسلامي بينما استفاد منه أعداؤهم. وكان من السهل على الإمام الخميني أن يستغل الانقسامات الموجود ولكنه بروحه العالية وشخصيته الإسلامية بقي فوق الانقسامات وبذلك أصبح اسمه محبوباً في جميع أرجاء العالم الإسلامي، وأما الذي عادوه فقد كانوا شلة من رجال السلطة المتسلطة على أنظمة الحكم في الدول الإسلامية ممن أحسوا بالخطر على مصالحهم.

 قام الإمام الخميني بدور توحيدي في صفوف جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ولم يكن تأثيره ذا طابع سني أو شيعي بل كان إسلامياً وقد قرأ ملايين الشباب المسلم في العالم كتب وخطب الإمام الخميني ووجدوا أنها تدور حول قضايا تهم جميع المسلمين، كما أن الإمام بسلوكه مضى شوطاً بعيداً في التقريب بين الشيعة والسنة.

 7ــ الوعي السياسي في المجتمعات الإسلامية:

 إن الثورات لا تغير المجتمعات بشكل جزئي وإنما يجري التغيير بصورة كلية ولكن أغلبت المجتمعات الإسلامية، بسبب عدم حدوث ثورات جذرية فيها، فإنها لا تهتم بالسياسة مما يترك الفرصة أمام الهيئات الحاكمة للتصرف بما تشاء، في الوقت الذي تكون فيه غاية مسعى الجماهير هي طلب الرزق ولم تك إيران استثناء لهذه القاعدة خلال العهد الملكي، ولكن ثورة الإمام الخميني خلقت وعياً سياسياً جديداً في قطاعات عريضة من المجتمع الإسلامي، ودفع ذلك قطاعات كالجيش والسياسيين والطلبة والمثقفين والجماهير بشكل عام إلى اليقظة السياسة. وكان العهد السابق قد خلق لديهم الإحساس بأن النظام سيبقى إلى الأبد، ومنعهم الوعي المهزوم الذي خلقه نظام الشاه من التفكير بالخروج على الحكم، ولكن الثورة أحدثت التغيير وخلقت الوعي بإمكانية امتلاك الإنسان لمصيره.

 وكان التأثير على أوجه لدى المثقفين والجماهير لأنهم كانوا القاعدة التي ساندت الثورة الإسلامية وإن تأثر الوعي السياسي الذي استحدثته الثورة لم يعد محصوراً بإيران وحدها فسرعان ما انتقل إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، وتسبب ذلك في إثارة المخاوف لدى حكام هذه البلدان إذ تكونت في دولهم جماعات إسلامية تستمد إلهامها من نموذج إيران ويعود فضل الوعي الجديد إلى الإمام الخميني، لأنه، ومن خلال رفع مستوى الوعي السياسي، وضع الأسس التي تتطلبها كل الثورات الإسلامية.

 8ــ الروح الإسلامية:

 واحد من تأثيرات نهضة الإمام الخميني انها أعادت إلى الجو الروح الإسلامية بعد أن انطفأت شمعتها تحت الحكومات الجاهلة وتأثيرات المستشرقين لقد حصر الإسلام في معاني عبادية ضيقة وحول إلى طقوس محددة ولكن الإمام الخميني أعاد للروح الإسلامية حيويتها بإظهار المعاني الإسلامية كالجهاد، الشهادة، الظلم، المستضعفين والمستكبرين وغيرها.

 وإن إحياء مفهوم الحج على الوجه الذي عناه الإسلام قد أقلق الجهات التي تريد حصره بحدود ضيقة.

ونختم البحث الحالي ببعض الأقوال التي قالها مفجر الثورة الإسلامية الإمام الخميني (قد)[9]:

1.قال مخاطباً مندوبي السودان والأردن بعد عام من نجاح الثورة:

"إنّ على المسلمين أن يوجدوا التحوّل المطلوب؛ التحوّل من الخوف إلى الشجاعة، التحوّل من التوجُّه للدنيا إلى الإيمان وإلى الله، فإنّ منشأ كلّ الانتصارات أن نتحوّل إلى موجودات إسلامية إنسانية إيمانية كما أراد الله لنا".

ومن الملاحظ هنا أنّ القائد الحكيم هو الذي يراقب مسيرة الثورة بكل دقة، فإذا ما حدثت حالة (الإقبال الثوري) لدى الأمة عمل على استثمارها على أفضل وجه، في سبيل تحقيق مصالح الشعب، وتصعيد الوعي لتحقيق الصحوة المطلوبة. ولنا من القرآن الكريم وعمل الرسول الأكرم والقادة خير الأدلة والتطبيقات لهذه القاعدة الأساس.

2.قوله في اشتداد ظلم الطغاة وتصاعد الهجوم الاستعماري:

"عندما يتصاعد هذا العامل، وبالخصوص عندما يتصاعد الإحساس الشعبي بهذا الظلم، يترك أثره في تحريك الجماهير نحو بذل الغالي والرخيص للخلاص منه، وتحقيق التغيير الاجتماعي المطلوب".

3.قوله في الوحدة الإسلامية:

ويضيف الإمام الخميني الراحل في معرض تحليله ورؤيته لموضوعه الوحدة الإسلامية «إننا لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمة الإسلامية وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم إلا أن نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلامية، وهذه بدورها سوف تكلل أعمالها بالنجاح يوم تتمكن من تحطيم رؤوس الخيانة وتدمر الأوثان والأصنام البشرية والطواغيت التي تنشر الظلم والفساد في الأرض ...».

4.قوله في الفقيه المتصدي:

وبهذا الشأن يؤكد الإمام الخميني (رض) في كتاب «الحكومة الإسلامية» «إنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فالفقيه هو المتصدي لأمر الحكومة لا غير، فهو ينهض بكل ما نهض به الرسول (ص) لا يزيد ولا ينقص شيئا، فيقيم الحدود كما أقامها الرسول (ص) ويحكم بما انزل الله».

5.كتب هو في وصيته: «بقلب تجلّله السكينة، وفؤاد مطمئن، وروح مبتهجة، وضمير متفائل بفضل الله، أستأذِن الأخوات والإخوة وأرحل إلى موطني الأبدي وأنا بأمس الحاجة إلى أدعيتكم لي بالخير، وأطلب من الله الرحمن الرحيم أن يتقبّل عذري لقصوري وتقصيري وقلّة خدمتي، وأرجو من الشعب أيضاً تقبل عذري في قصوري وتقصيري، وأن يواصلوا مسيرتهم إلى الأمام بكل قوة وعزم وإرادة».

 إن التاريخ سيستمر في تقييم الثورة الإسلامية، ولكن تأثير الثورة الإسلامية سيغيّر اتجاه ومصير المسلمين في القرن الحادي والعشرين وكلما نجحت عملية إعادة الحيوية إلى الإسلام في داخل الأمة فإنها ستصبح أكثر قوة وصلابة في مواجهة المخاطر المحيطة بها.

المراجع والمصادر

1.القرآن الكريم.

2.الإمام الخميني والصحوة الإسلامية،محمد علي تسخيري،إيران.

3.الإمام الخميني في مواجهة الشيطنة الأمريكية،د.فتحي يكن، لبنان.

4.حول فكرة الإمام الخميني"خطوط وملاحظات"د.عبد الكريم الاشتر،سوريا.

5.دور الإمام الخميني في بعث الحركة الإسلامية.د.بهجت داكير،المغرب.

6.دور المرجعية الدينية في المجال السياسي،صاحب هذه السطور،العراق.

7.آثر الإمام الخميني في تغيير موازين القوى العالمية والمحلية،مجموعة من الباحثين،إيران

8. الاستقلال الثقافي: طريق الثورة نحو الأصالة الإسلامية، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إعداد محمد على حسين، 1402 هـ.

9.الحكومة الإسلامية: منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى، دروس فقهية ألقاها الإمام الخميني على طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف في عام 1389 هـ.

 

[1]الإمام الخميني في مواجهة الشيطنة الأمريكية،د.فتحي يكن، لبنان ص17

[2] آثر الإمام الخميني في تغيير موازين القوى العالمية والمحلية،مجموعة من الباحثين،إيران،ص79.

[3] دور المرجعية الدينية في المجال السياسي،صاحب هذه السطور،العراق،ص219.

[4] الإمام الخميني والصحوة الإسلامية،محمد علي تسخيري،إيران،ص23.

 

[5] دور الإمام الخميني في بعث الحركة الإسلامية.د.بهجت داكير،المغرب ص22

[6] حول فكرة الإمام الخميني"خطوط وملاحظات"د.عبد الكريم الاشتر،سوريا،ص15.

[7] الاستقلال الثقافي: طريق الثورة نحو الأصالة الإسلامية ، إعداد محمد على حسين،ص9.

 

[8] الحكومة الإسلامية: منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى، دروس فقهية ألقاها الإمام الخميني على طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف في عام 1389 هـ.

 

الامام الخميني والصحوة الاسلامية،محمد علي التسخيري،مقالة نشرت على (نت)في 8/6/2011




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=54865
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20