كشفت رواية (عناقيد الغضب) للكاتب الامريكي جون شتاينبك، الوجه الآخر المتواري للنظام الرأسمالي المادي، وهو الوجه الذي حاولت ماكينة الدعاية الغربية حجبه عن الناس بكل ما أوتيت من قوة ومهارة وذكاء، لكن ليس من السهولة حجب الحقائق المرة ذات المساس بحياة الناس، قد تحجب الحقيقة لفترة من الزمن لكنها تظهر بعد ذلك جلية واضحة كالشمس بعد انقشاع الغيوم.
لقد كشف جون شتاينبك في روايته هذه بشاعة وجه النظام الرأسمالي في الغرب مثلما كشف جورج اورويل بشاعة النظام الاشتراكي في الشرق في روايته 1984.
وصودرت الرواية بل وأحرقت ولكنها تسربت الى خارج الحدود فطبعت وانتشرت وترجمت الى مختلف لغات العالم وأصبحت احدى الروايات العالمية المثيرة للاهتمام وذلك بسبب انحيازها لهموم الطبقة المهمشة والمظلومة والمسحوقة من الناس الذين هم ضحايا نظام قيل عنه بأنه النظام الكفيل بإسعاد البشر على وجه الارض، لكن الرواية لامست الحقائق على الارض واثبتت بان الادعاء شيء وان الوقائع التي يعرفها بسطاء الناس شيء آخر.
اثبتت الرواية ذلك بكل بساطة وتلقائية، اثبتت ذلك من خلال تتبع حياة اسرة امريكية (هي واحدة من عشرات الآلاف من الأسر) التي انتزعت منها ملكيتها من ولاية يوكوهاما، اذ وجدت نفسها مضطرة لمغادرة الارض التي عاشت عليها بسبب قسوة قوانين النظام الرأسمالي الفاقدة لأي حس انساني، تنتزع من ارضها بالقوة والاكراه بعد ان اصبحت اليد العليا ليس لصاحب الارض، بل لمالكي المصارف الربوية الذين تتضخم ثرواتهم يوما بعد اخر على حساب سعادة الناس وطمأنينة عيشهم، وجدت هذه الاسرة نفسها مكرهة على ترك الارض التي عاش عليها الاباء والاجداد والهجرة الى الغرب باغراء اعلانات مدفوعة الثمن من قبل اصحاب الاقطاعيات الكبيرة وارباب المصانع والشركات من اجل عمالة رخيصة وخدمة شبه مجانية.
فالإعلانات تشير الى وجود فرص عمل لهؤلاء المنتزعين من أرضهم والمرميين على قارعة الطريق.
وتقطع هذه العوائل المنكوبة المسافات الطويلة بمشقة بالغة بحثا عن فرص العمل المعلن عنها متكبدة ألوان العذاب لتكتشف بان تلك الاعلانات ليست سوى وسيلة من وسائل اصحاب الاموال لاجتذاب اكبر عدد ممكن من هؤلاء المعذبين والباحثين عن اية فرصة عمل تدفع عنهم غائلة الجوع، فكلما تكاثر عدد هؤلاء الجائعين كان ازدحامهم وتكالبهم على الحصول على فرصة العمل اقوى واشد ليكون صاحب المزرعة او الشركة او المعمل اكثر حرية في اختيار الاصلح للقيام بالعمل المطلوب وباقل ما يمكن من الاجور الى درجة الاذلال والاستعباد، حتى وصل الامر من سوء الاستغلال لمجاميع الفقراء المهاجرين الى المدن الامريكية الثرية الى ان يضطر سبعة من افراد اسرة واحدة للعمل نهاراً كاملاً مقابل وجبة طعام واحدة فقط..!.
ويتعرض هؤلاء المهاجرون الذين هم ضحية الأنظمة المادية الفاقدة للروح الانسانية الى الوان من الاستغلال، استغلال الانسان لاخيه الانسان بسبب الفارق الطبقي الذي جعل قلة من الناس في القمة تتمتع بكل مباهج الحياة بينما الاكثرية تسحق تحت اقدام القلة صاحبة الثروة والسلطة والجاه.
كل ذلك يجري تحت لافتة كبيرة وبراقة اسمها (الحرية) حتى اصبحت الحرية وسيلة لاستعمار واستعباد الشعوب الفقيرة والضعيفة.
ومثلما دفعت هذه الشعوب ثمن النظرية الماركسية، دفع الشعب الامريكي الثمن ذاته، ورواية (عناقيد الغضب) تجعلنا نلمس مقدار خيبة الأمل التي عاشها فقراء الشعب الامريكي في ظل نظام لا يلتفت الى المشاعر الانسانية ولم يعرها أي انتباه لان انتباهه منصب دائما على مقدار ما يحصل عليه من ربح ومن مال.
وقد نجح الروائي في كشف مكامن الخلل في النظام الراسمالي وعمق المشكلة الانسانية التي يعاني منها ذلك النظام القائم على قيم مادية متجردة عن بعض الأخلاق، وذلك بسرده تفاصيل حياة تلك العائلة المهاجرة وهي تفاصيل دقيقة قد لا يصبر على تتبعها قارئ اليوم المتعجل للوصول الى غايته من اسرع طريق، لكن التفاصيل هذه تبدو ضرورية للكاتب الذي يريد الوصول بالحقيقة الى الناس، حيث تتراكم فصول الماساة الانسانية لتلك الاسرة التي هي واحدة من الاف الاسر المهاجرة، تتراكم فصول الماساة شيئا فشيئا الى ان تصل الى ذروتها كما تتراكم ذرات الرمال الصغيرة في الصحراء لتكون تلالا تسد الافق، تتراكم تفاصيل فصول الرواية حتى تصل الى ذروتها في المشهد الأخير، ذلك المشهد المتفجر بالحزن المعبر عن معاناة الانسانية حينما تتنكر للقيم الانسانية حيث يموت الانسان جوعا في اغنى بلدان العالم واكثرها تطورا وأرقاها حضارة، ما يؤشر وجود خلل خطير في بنية النظام الحاكم لشؤون الناس.
يصور المشهد الاخير في الرواية حالة رجل على وشك مفارقة الحياة بعد ان استنفد كل ما لديه من طعام، اذ اعطى حصته من الطعام للاطفال الصغار مدعيا الشبع وهو جائع، حتى أبصرت به امرأة وهو مشرف على الموت فلم تجد ما تسعفه به الا ان تحتضنه، تضمه الى صدرها كالطفل الرضيع، وتضع ثديها بفمه فهي لا تملك من الطعام الا الحليب الذي في صدرها لكي تبعد عنه شبح الموت..!.
الرواية مكونة من جزأين بواقع 650 صفحة، وهي من اصدارات دار المعارف، وترجمة سعد زهران. |