• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : خطر (المنهزمين سلفاً).. .
                          • الكاتب : عباس البغدادي .

خطر (المنهزمين سلفاً)..

يجافي الصواب من يظن ان الحرب التي نخوضها ضد الارهاب تتجلى فقط في خطوط النار وساحات القتال الساخنة؛ بل تتعدى الى مجالات أخرى لها تحدياتها واستحقاقاتها، ومن ذلك، مواجهة خطر العدو المستتر الذي يعشعش في نفوس البعض مستهدفاً إرادتهم ومعنوياتهم، ويعمل من بقع معتمة على تفتيت روح المواجهة وعزيمة التحدي في وقت الأزمات، فيحيلهم الى أشخاص سلبيين متخاذلين محبطين ينتشرون في المجتمع، يمكن تسميتهم بـ(المنهزمين سلفاً) لأنهم يرفعون الرايات البيضاء قبل أي مواجهة أو تماس مع الخطر الحقيقي!

بالطبع يمكن أن تعثر على هؤلاء في أي موقع وأي فئة وأي مستوى من التعليم والثقافة، وأخطرهم من يتسنم المسؤولية الرسمية، أو (يمثل) من مقعده النيابي شريحة من الناخبين، ومكمن الخطورة يتكرس فيما يمكن أن تعكسه انهزاميتهم على دورهم المفترض ومواقع مسؤولياتهم، ويميلون -على الأغلب- في أوقات المحن والأزمات والاستحقاقات المصيرية الى التمسك بمصالحهم الضيقة، وتقديمها على مصالح المواطنين ومصائرهم، ويتحولون الى وجه آخر من أوجه الفساد والمفسدين. أما عن تعقيدات المخاطر وتشعب مسالكها التي تجلبها المجموعة الأخيرة فتحتاج الى بسط أعمّ من مساحة هذه السطور، ولكن الحديث هنا يتركز على ما سواهم من المنهزمين سلفاً، المبثوثين بيننا، ممن يُبتلى بهم المجتمع في كل الظروف والمراحل، ومن سماتهم انهم تتهشم لديهم الروح المعنوية وعوامل الدفاع الذاتي أمام مجمل الأخطار والتحديات، وصولاً الى الأخطار الوجودية المتمثلة حالياً بالإرهاب، فيصبحوا صلصالاً طرياً تشكله بسهولة عوامل الحرب النفسية، ويكونوا بذلك فريسة سهلة لها، وطاقة سلبية متحركة بين الجموع، تنشط وظيفتها في التثبيط وإشاعة روح الإحباط واليأس في المجتمع، في وقت هو أحوج ما يكون فيه هذا المجتمع الى التماسك وتقوية العزائم ورصّ الصفوف وتحشيد الطاقات، والحفاظ على سلامة الروح المعنوية وتعزيزها وجعلها في أوج عطائها، لمواجهة عدو همجي لا يعترف بأقل من الإبادة كهدف معلن..

تتطرق بعض الأبحاث في مجال علم النفس الى "الشخصية الانهزامية" فتشير الى انكفائها في الظروف العادية وتكون غير معروفة تماماً أو مشخّصة لدى من حولها، ولكنها تظهر بشكل واضح في أوقات الأزمات، ويتزايد دورها السلبي كلما كانت مُطالبة بالمشاركة الايجابية مع باقي أفراد المجتمع، وكأن ذلك هو تعويض نفسي للنكوص والتقهقر وإعفاء الذات من أي مسؤولية مجتمعية! ومن صفات تلك الشخصية -حسب تلك الأبحاث- أنها لا تؤمن بالعطاء وقيم مثل المشاركة والوفاء، وتركز على الجانب المظلم والسلبي في كل أمور الحياة، تفتقد الى الثقة بالنفس، كسولة ومترددة واتكالية وكثيرة الشكوى وتجيد التبرير، إضافة الى تميزها بالثرثرة، وانها مسلوبة الارادة و تنأى عن المواجهة، وغالباً ما تقع في الأخطاء لهيمنة الشعور بالفشل لديها قبل الإقدام على أي أمر، كما انها متمرسة في إسقاط الفشل على الآخرين، وتوصف أيضا بأن لديها وفرة من التشاؤم واليأس بما يمكّنها بأن توزعه على من حولها وكأنها تؤدي واجباً عليها، وانها شخصية استهلاكية مادياً ومعنوياً واجتماعياً، فتطلب من الآخرين وتتوقع منهم أكثر بأضعاف مما تقدمه لهم، ولا ينتظر منها بادرة أمل في المشاركة، والأفظع انها (تستمتع) بالهزيمة والمهانة والتقهقر!

على ضوء تلك الصفات يمكن تلمس الكثير من الممارسات العملية لـ(المنهزم سلفاً) في الواقع المعاش، فتراه يتفنن في إحباط الآخرين واستهداف عزيمتهم، فيسمي الشجاعة تهوراً، والإقدام تسرعاً، والإيثار تنازلاً، وكذا في التقليل من شأن الانتصارات وتضخيم قدرات العدو، وترديد ما تشيعه أبواق الأعداء دون تمحيص الدوافع، وكأنه يقدم -تطوعاً- خدمة مجانية للأعداء والمتربصين، ويشكك في كل المعلومات والوقائع التي تصب في صالح المقاتلين المؤازرين لأبطال القوات المسلحة في مواجهة الارهاب. ولا يتوانى المنهزم سلفاً عن تثبيط الهمم لدى الآخرين، ويضخم أي إخفاق أمني أو على جبهات الحرب، ويتطوع في إشاعة ثقافة (التعجيز) وبأن الجهود الوطنية لا يمكنها أن تنهض بمهام التحرير وصون الكرامة ودحر العدو؛ بل ينبغي -وهذا ظنه- ان نتوسم الخلاص فقط بجهود (الآخرين) كأميركا والغرب أو التحالف الدولي.. كما يبرر المنهزم نكوصه وانهزامه وجبنه وسلبيته بأنه (غير مقتنع) بما يجري! وكأن التهديد الوجودي ومشروع الإبادة الذي يجاهر به العدو يترك للضحايا المستهدفين فرصة أن (يتفلسفوا) بترف في قناعاتهم أو نظرياتهم!

الخطر الأبرز هو أن هؤلاء المنهزمين سلفاً (لا يشكلون خطراً) في ظاهر المشهد، كفيروس يستعصي على المجاهر الالكترونية الطبية، مما يسهّل عليهم أدوارهم السلبية، في حين لو تم احتساب مخاطر هذه الأدوار بدقة، سنخرج بنتيجة مؤداها انها لا تقل خطورة عن الطابور الخامس او المفسدين السياسيين أو أنشطة عدائية مشبوهة أخرى، بواقع انهم يحيلون الانتصارات الى انكسارات بتبريراتهم السقيمة وتشويههم للحقائق وترويجهم الأكاذيب، إضافة الى تضخيمهم للسلبيات في كل مناحي الحياة اليومية، خصوصاً تلك المرتبطة بالجهد الحربي والحفاظ على الروح المعنوية المرتفعة، وهم بهذه السلوكيات يعوضون نفسياً عن انهزاميتهم و(لا وطنيتهم) وبأنهم عنصر معرقل يقف بالضد من الارادة الوطنية، وانهم جبناء بالفطرة، وعالة على غيرهم.. 

لذا فكلما كانت عوامل الاستحقاقات الوطنية إزاء أفراد المجتمع أكثر وضوحاً وإلحاحاً في المنعطفات الخطيرة، نجد المنهزمين نفسياً يتصلبون أيضاً بالضد من تلك الاستحقاقات، وتتضاعف لديهم جرعات التبرير لانهزاميتهم، ويتحولون الى مضخات لكل السلبيات والمثبطات والاحباطات. وللمرء أن يتخيل مقدار الضرر الذي يتركه هؤلاء في واقع يحشّد كل صغيرة وكبيرة لتعزيز جبهة الصمود الداخلية، وتعضيد جهود القتال والثبات ومقارعة الارهاب.

ان أقصى ما يمكن فعله إزاء (المنهزمين سلفاً) في هذا المنعطف الخطير الذي يمر به مجتمعنا العراقي، هو تشخيصهم عبر العوامل السلوكية الملازمة لهم -التي سلف الإشارة اليها- ومحاولة عزلهم مجتمعياً لتجنيب الآخرين مخاطر تصرفاتهم وسلوكياتهم، أو احتواءهم عبر تصحيح ما يشيعونه وما يحاولون تسويقه من سلبيات ومفاهيم مشوهة وسقيمة، أما (علاجهم) فهي عملية مضنية حسب خبراء علم النفس، ولا طاقة للمجتمع أو مؤسسات الدولة المعنية المنخرطة في هذه الظروف بجهود الحرب على الارهاب أن يتبنيا هذه المهمة، والتي تزيد من الأعباء والمسؤوليات، فالأسلم هو المضي وفق قاعدة (الأهم فالمهم) في مرحلة تتطلب توجيه كل الجهود لكسب المعركة ضد الارهاب.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=55137
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29