• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : مجلس حسيني – شهادة الإمام الحسن العسكري {ع} والحركة الرسالية .
                          • الكاتب : الشيخ عبد الحافظ البغدادي .

مجلس حسيني – شهادة الإمام الحسن العسكري {ع} والحركة الرسالية

حديثنا في هذا المجلس عن الإمام الحسن بن علي العسكريّ(ع)... القيمة في هذا الحديث، أنَّ القليل من الناس يعرفون بشكل واضح خصائص حياة الأئمَّة المتأخّرين(ع) وأفكارهم وموقعهم، ومنهم الإمام العسكريّ(ع). وذلك بسبب شدة التعتيم الإعلامي ضدهم .. في هذا المجلس ، نريد أن نطلّ على حياة الإمام العسكريّ(ع)، الَّذي يذكر في تاريخه أنّه ولد في 232 للهجرة، وانتقل إلى جوار ربّه في شهر ربيع الأوّل سنة 260 وهو أصغر الأئمّة(ع) عمراً، فقد كان عمره 28 سنة يوم وافاه الأجل.

في البداية، نحبّ أن نطلّ على ما نقله كتّاب سيرته عن مكانته في المجتمع آنذاك، حيث إنّه كان يملك  من التّعظيم والإجلال في مواقع المجتمع كلّها، بما في ذلك الوزراء والقوّاد وطبقات المجتمع، حتى إنَّ بعض الَّذين كانوا ينصبون له العداء يشهدون بذلك.....

هناك وثيقة تاريخيَّة تنقل هذا الجوّ من بعض أولاد رجال الدّولة، حيث يروي (أحمد بن عبيد الله بن خاقان)، كان أبوه وزيراً للمعتمد العباسي ، أنّه جرى في مجلسه ذكر المنتسبين إلى الإمام عليّ(ع) ومذاهبهم، وكان شديد النَّصب، أي شديد العداوة لأهل البيت(ع)، فقال: "ما رأيت ولا عرفت بسرّ من رأى رجلاً من العلويّة، مثل الحسن بن علي بن محمّد بن الرّضا، في هديه وعفافه ونبله وكرمه عند بني هاشم، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم أي الموقع الكبير، فلقد كان في سنّ الشَّباب وكان هناك شيوخ من بني هاشم، ويقدّمونه عليهم ـ وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة النّاس". ..!!

       هذا ما يبعث على التأمّل، إذ كيف يبلغ إنسان في خطّ معادي  لموقع الخلافة هذه المنزلة العالية..؟ السبب ، لأنَّ هناك كثير من الناس يعتبرون الإمام(ع) أحقّ بالخلافة، لو كانت ابتعدت عن بني العبّاس؟ ــــــ فمن أين يحصل إنسان في هذه السنّ، وفي هذا الواقع الّذي يمتلئ بالّذين ينصبون العداوة لأهل البيت(ع)، على هذه المكانة؟...!

وربّما نقرأ كثيرا سيرة الإمام العسكريّ(ع)، عن ناصبي العداء لهم الَّذين كثروا في عهده، وكانوا يتحركون بأكثر من أسلوب، ما جعل الإمام(ع) يركّز على ضرورة توعية السّائرين في خطّ أهل البيت(ع)، حتى لا يثير هؤلاء أمامهم الشّبهات، فلا بدَّ من أن يسيطر الإمام(ع) على الواقع من خلال الثقافة الّتي كان يحرّكها في ذلك الواقع، والسّموّ الروحيّ والأخلاقيّ والنّشاط الحركيّ في المجتمع، في وقت لم يستطع أيّ أحد أن يسجّل عليه أيّة نقطة ضعف، ما جعله يفرض نفسه على الواقع كلّه.

ونتابع حديث (أحمد بن خاقان) الَّذي ينقل عن أبيه الَّذي كان من الشّخصيّات البارزة في الدّولة، فيقول: "كنت يوماً قائماً على رأس أبي وهو يوم مجلسه للنّاس، إذ دخل عليه حجّابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا في الباب ـ ونعرف من هذا أنّ الأئمّة(ع) كانوا يلتقون بعض الشّخصيّات في الدّولة ويزورونهم، وذلك من أجل القيام ببعض مصالح المسلمين، ومراعاة الظّروف الحرجة المحيطة بهم ـ فقال بصوتٍ عال: ائذنوا له، فتعجّبت مما سمعت منهم أنهم جسروا (أي تجرئوا) يكنّون رجلاً بحضرته، ولم يكن خليفة، أو وليّ عهد، أو من أمر السّلطان، أن يكنّى ـ فأن تذكر شخصاً بكنيته، فهذا مظهر من مظاهر التكريم،والمنزلة ..

 فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، حديث السنّ، له دلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي، قام يمشي إليه ,ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دنا منه، عانقه وقبّل وجهه وصدره، وأخذ بيده، وأجلسه على مصلاّه الَّذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلّمه ويفدّيه بنفسه، وأنا متعجّب مما أرى منه، إذ دخل عليه الحاجب، فقال: (الموفّق) وهو أخو المعتمد العباسي ـ قد جاء. وكان الموفّق إذا دخل على أبي، تقدّم حجّابه وخاصّة قوّاده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدّار سماطين ـ (أي صفين متقابلين) ـ إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدّثه، حتى نظر إلى غلمان الخاصَّة ـ أي خدم الموفّق ـ قال حينئذٍ: إذا شئت ـ (أي أن تذهب) ـ جعلني الله فداك. ثم قال لحجّابه: خذوا به خلف السّماطين حتى لا يراه هذا ـ يعني الموفّق ـ فقام، وقام أبي وعانقه ومضى، فقلت لحجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم، مَن هذا الذي كنّيتموه على أبي وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علويّ يقال له الحسن بن عليّ، يعرف بابن الرّضا، فازددت تعجّباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكّراً في أمره وأمر أبي، وما رأيت فيه حتى كان اللّيل، وكانت عادته أن يصلّي العتمة ـ (أي العشاء الآخرة) ـ ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المراجعات) ـ وما يرفعه إلى السّلطان، فلمّا صلَّى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد، لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يا بنيّ، فقُل ما أحببت، قلت: يا أبه، مَن الرّجل الّذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتَّبجيل، وفديته بنفسك وأبويك، فقال: يا بنيّ، ذاك إمام الرافضة  ذلك الحسن بن علي المعروف بابن الرّضا، فسكت ساعةً، ثم قال: يا بنيّ، لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العبّاس، ما استحقّها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنَّ هذا ليستحقّها في فضله، وعفافه، وهديه..

               هذا النّصّ يعتبر وثيقة تاريخيَّة تدلّ على مدى مكانة الإمام(ع) في المجتمع كلّه، سواء عند من يدين بإمامته أو عند من يعارضها، وليس لذلك من تفسير سوى أنَّ الإمام(ع) استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع كلّه، من خلال الملكات القدسيّة الّتي كان يتمتّع بها في جميع جوانب المعرفة والروحانيّة والصَّلاح والخلق الرفيع.

ــــــــــــــــــــــــــــــ  أسباب سجن الأئمة عليهم السلام بما فيهم الإمامين العسكريين عليهما السلام .. بداية لا بد أن ننظر إلى مشاكل الأمة الإسلامية عامة , يتبين لنا عنوان الحركة الرسالية إنها  كانت الحركة التي  ينطوي تحتها كل محروم ، البلاد الإسلامية امتدت على قسم كبير من الأرض,فكانت توجد فيها طوائف وملل وقوميات وشعوب تختلف عن العرب باللغو , هذه كلها  محرومة .

فطائفة محرومة بسبب لونها وهذه التفرقة العنصرية لا زالت قائمة لحد الآن ... قبل أيام برئت محكمة أمريكية شرطيا قتل شابا اسود  بسبب لونه , وأخرى بسبب لغتها ، وأخرى بسبب حرفتها ، وأخرى بسبب مذهبها .وأكبرها مصيبةَ ,  بسبب الموقع الجغرافي ..كما في العراق الآن حيث يهمش أبناء الجنوب عن جميع العراقيين .. هذا يعني إن هناك تفرقة عنصرية وتفاوت طبقي ، وظلم اجتماعي وإرهاب فكري ، والأمثلة عديدة .وهذه لها تاريخ من تراث العرب ..

رواية تقول: أرسل معاوية رسالة في آخر حياته إلى واليه على البصرة يقول فيها : إني رأيت هؤلاء العلوج قد كثروا في بلادنا ، فخذ هذا المقياس - وأرسل له خيطا من خمسة عقد - وانظر إذا كان احد من الموالي أطول منه فاضرب عنقه . وكلمة (العلوج) تعني الكفار عموما وبالخصوص القوي الضخم منهم ، وهذا يبين فكرة الأمويين حول الجنسيات غير العربية ، بأنها غير مسلمة إذ إن الدين الإسلامي للعرب فقط . فإذا كان هناك رجل طويل ، فماذا ذنبه ان الله قد خلقه طويلا ، وهكذا لأول مرة في التاريخ نرى ان الرجل من الموالي الأطول من الآخرين يجب ان يعطي نفسه ضريبة طوله .

مثل آخر ....الخـــراج :... في الوقت الذي جعل الإسلام قوانين للخراج تلحض شروطاً عدة فيمن يجب أن يعطي الخراج ،ووضعت شروطا قاسية على من يجبي الخراج ، وكيف تصرف الأموال التي تجبى ، ولكن الدولة الأموية تأخذ الخراج أضعافا مضاعفة ، كما تقتضيه أهواء الأمراء والولاة الأمويين .

أما الجزية التي أمر الإسلام بإسقاطها عن الإنسان الذي يتحول من دينه إلى الإسلام حيث يجب عليه آنئذ الزكاة والصدقات ، نجد ان الدولة الأموية كانت تستمر في اخذ الجزية ولا تقبل أسلامهم ، وبذلك تفرض نوع من التفرقة بين المسلم قديما ، وبين المسلم حديثا .

فالذي اسلم قديما ، يكون باستطاعته ان يشترك في الحرب والغنائم ، وان يمتلك الأرض ويعمل ما يشاء ، بينما الشخص الذي اسلم حديثا فأنه محروم من كل هذه الحقوق وكانت نتيجة ذلك الكثير من المآسي والويلات ، والارتداد عن الدين ، وانكفاء الفتوحات الإسلامية ، بعد ان رأوا الدين أداة لتسلط من لا يتورع عن ركوب أي محرم من اجل جمع المال .

يقول الطبري في أحداث سنة 110 هجرية "  كان الأشرس السلمي والياً على خراسان في عهد هشام بن عبد الملك فقال : ابغوني رجلا له ورع وفضل أوجهه إلى من وراء النهر{  ما وراء النهر، هي جزء من آسيا الوسطى ، تشمل أراضيها جمهورية أوزبكستان والجنوب الغربي من كازاخستان} فيدعوهم إلى الإسلام فأشاروا عليه بابي الصيداء ، فقال لست ماهرا بالفارسية فضموا معه رجل من تميم ، فقال أبو الصيداء : اخرج على شريطة ان من اسلم لم يأخذ منه الجزية ، قال الأشرس : نعم ، قال ابو الصيداء لأصحابه فاني اخرج فأن لم يف الولاة أعنتموني عليهم ، قالوا نعم . فشخص إلى سمرقند ، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومــن حولهــا إلى الإسلام على ان توضــع عنهم الجزية فســارع الناس ، فكتب إلى أشرس ان الخراج قد انكسر ، فكتب أشرس اليه كتابا جاء فيه : " فأنظر من اختتن منهم وأقام الفرائض وحسن إسلامه وقرأ سورة من القرآن فارفع عنه خراجه " . ثم عزل أشرس وصيروه الى هاني بن هاني  فقام ابو الصيداء يمنعهم من اخذ الجزية ممن اسلم ، فكتب هاني ان الناس قد اسلموا وبتوا المساجد ، فجاء دهاقين بخارى إلى أشرس وسجنوه   واخذوا الجزية ممن اسلم من الضعفاء فكفرت الصغد وبخارى واستجاشوا الترك " .يعلق السيد حسن الأمين في موسعته ( دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ) في الجزء الحادي عشر صفحة 33 على هذه الحادثة فيقول : لم يشأ هاني هذا ان يثقل ضميره فشهد بإسلامهم وإسراعهم الى بناء المساجد، ولكن الإسلام وبناء المساجد ليسا مما يرضيان الأمويين ، وما المساجد وما العرب وما المسلمون والإسلام ، إذا كان ذلك يحول دون سلب الشعوب ...مما يلفت النظر هنا ان الدهاقين وهم مجوس ، وهذا يؤكد انه قد هالهم انتشار الإسلام وخافوا المستقبل وطغيان الدعوة الإسلامية هؤلاء الدهاقين المجوس الذين كان الامويون يولونهم جباية الخراج ويمنعون العرب والمسلمين من ذلك ، الدهاقين يتفق رأيهم كل الأنفاق مع الرأي الأموي فـي منع انتشار الإسلام ، فيحرضون الأمويين وعمالهم على هؤلاء الذين اسلموا ..

 في مثل هذه الأجواء تتولد نواة المعارضة , ويحاول البعض ان يركب الموجة لصالحه , ولكن الأئمة يتقلدون زعامة المعارضة من خلال موقفهم وثباتهم على الحق , وعدم ميولهم الذاتية أو مصالح دنيوية. الفساد الإداري والمحسوبية........   نقطة أخرى ..

 كانت هناك الكثير من العصبيات منتشرة في الدولة الإسلامية وبالذات في الجهاز الحاكم المسيطر على مقاليد الأمور ، ومن ابرز أمثلة ذلك وأكثرها وضوحاً انه عندما كان احد الأشخاص يصبح وزيراً ، أو والياً ، فان هذا الأمر يستتبعه أن تصبح كل المجموعة القريبة منه صاحبة أهمية ، وتتولى بذلك مناصب عاليــة ، لا لشيء يمتازون به أو كفاءة يمتلكونهــا سوى قربهم من هـذه الشخصية صاحبة الموقع والمنصب الحساس .

فهذا معاوية بن أبي سفيان يُؤمّر ابنه يزيد بن معاوية ويجعله على رأس جيش من جيوش المسلمين الذاهبة للقتال ضد البيزنطينيين ، وفعلاً سار بهم ولكنه في الطريق وصل إلى منطقة ذات ماء عذب وهواء عليل ، وبعض الأديرة ( وقديماً كان في الأديرة - جمع دير - أنواع مختلفة من الخمور المعتقة ) فوجد يزيد ذلك فرصة مناسبة ، حيث وجد له بالإضافة إلى ذلك عشيقة تؤانسه وتلاطفه ، فاستقر هناك ، وطاب له العيش في ذلك الدير فتوقف الجيش فترة ، فانتشر فيه الوباء وتحطمت نفسيات الجند والمقاتلين ، وجاء البعض إلى يزيد ليحثه على الخروج والمسير لقتال الروم ، ولكن يزيد رفض رفضا قاطعا ، وهنا يقول بعض المؤرخين : إن هذا الجيش في ضخامته لو اصطدم مع البيزنطينيين لكان من الممكن ان يقضي عليهم ويسجل نهايتهم إلى الأبد ، ولكن مع الأسف ، إن القائد الذي كان يمسك بزمام الأمور ، لم يكن يملك ذرة من كفاءة ومقدرة على انجاز ما وجّه إليه ، ولذلك فلا غرابة أن يعود هذا الجيش منكسرا ذليلا محطماً نفسياً .

ومظهر آخر من مظاهر المحسوبية ، وهو انه إذا عُزل خليفة ما أو مات فان الذي يحل مكانه كان أول ما يفعله هو أن يأتي على الأخضر واليابس مما خلفه الذي سبقه في الحكم ، إذ يبادر في البدء إلى تغيير جميع الولاة ويستبدلهم بأهل بيته وخاصته . ليس لان من يأتي بهم أصحاب كفاءة وتجربة وإنما لأنهم من أهله فقط .ويسبب بذلك الاضطراب والتوتر في البلاد الإسلامية كما يدمر أوضاع الكثير من الأهالي .وعلى سبيل المثال : عندما جاء البرامكة إلى الحكم ، أتوا حتى بأطفالهم ونصبوهم في مواقع حساسة في الدولة ، وعندما جاء جماعة الفضل ، نصبوا الشخصيات التي تواليهم في السلطة دون أدنى تقدير للكفاءة والقدرة .وتاريخهم معروف ونهايتهم دموية مروعة ..

والحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان واليا من قبل الأمويين على الكوفة ، فانه يولّي ابن أخته محمد بن القاسم الثقفي على السند ، وابن عمه على خراسان . ولكن عندما جاء والي غيره فانه سرح كل العمال الذين كان الحجاج قد عينهم ، وسجن قسما آخر منهم . إذا هكذا هي الصورة كانت على صعيد المحسوبية التي كانت متفشية ومنتشرة في الجهاز الحاكم والمسيطر على مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية....

ـــــــــــــــــــ  : الإرهاب الفكري :...  جزء آخر من الصورة التي كانت تعيشها البلاد الإسلامية ، وهو الإرهاب الفكري الذي سيطر وخيم على الوضع ، حيث مارسه الخلفاء في أجلى صورة ، وكتب التاريخ مليئة بالشواهد والأمثلة التي تحكي واقع هذا الإرهاب وانعكاساته السلبية على الحركة الثقافية وعلى المفكرين المسلمين ، وبالتالي على مصير الأمة الإسلامية ككل . فبالرغم من إن الإسلام جاء بشعار { لا أكراه في الدين } فإن الإرهاب الفكري ساد لفترات طويلة ،ولا زال إلى يومنا هذا ,  ولو كانت الحرية هي السائدة في الدولة الإسلامية ، لطرح الجميع آراءه ونضجت الرؤى ، ولحصل تلاقح فكري ، يعود على المجتمع الإسلامي بالفوائد الجمة ، ولحلّت الكثير من الاختلافات الفكرية والفقهية التي نشأت بين المسلمين ومن ثم لعادت على البشرية جمعاء بالفوائد الجمة الكثيرة .

إن التقدم العلمي الذي نشاهده في الدول الأوروبية اليوم ، إنما تحقق الجزء الأكبر منه بسبب الحرية الفكرية التي سادت بعد العصور الوسطى . ففي عصر النهضة ، أنتجت الرؤى وساعدت الحرية الفكرية على تنميتها ، بينما الذي حصل في الدول الإسلامية هو العكس حيث ساد الإرهاب الفكري بسبب سيطرة الحكومات الظالمة المنحرفة ، مما عرقل نمو الفكر البشري ، وأوقف عملية نمو المسيرة الإسلامية .

ومن أهم المصائب التي أخرت  الأمة سجـن الأئمة (ع) ومنهم الإمام العسكري{ع} .

ذكر  تاريخ الإمام العسكريّ(ع) أنّ الخليفة العباسي حبسه، ونحن نعرف أنّ الأئمّة(ع) كانوا يُسجنون في عهد بني العبّاس، حيث كان هؤلاء يعرفون أنّ الأئمة من أهل البيت(ع) يملكون امتداداً روحيّاً ينفتح على امتداد سياسيّ معرفيّ، يحمله النّاس في نفوسهم لأهل البيت(ع)، لأنهم يعتبرونهم في موقع الإمامة،والقيادة والمسؤولية ,  ويعرفون أنّ لهم الشرعيّة في موقع السّلطة، ولذلك، كانوا يوكّلون عناصر مخابراتهم لرصد حركة كلّ إمام، بغية محاصرته، مخافة انفتاحه على المجتمع، وتخويف النّاس من اللّقاء به، وربّما كانوا بين وقت وآخر يعملون على إيذاء هذا الإمام أو ذاك، بزجّه في السّجن.

وهنا، ينقل التّاريخ لنا كيف كان تأثير الإمام(ع) في السِّجن، ففي الرّواية عن عليّ بن محمد العلوي، قال: "حبس أبو محمد عند علي بن نار مش، وهو أنصب الناس وأشدّهم على آل أبي طالب، وقيل له: افعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً حتى وضع خدّيه له ـ كناية عن الخضوع والتذلّل ـ وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن النّاس بصيرةً، وأحسنهم فيه قولاً". وقد كان تأثير الإمام العسكريّ(ع) الرّوحيّ في هذا الرّجل قويّاً، ووصل إلى درجة أنّه استطاع فيها أن يقلب تفكيره كلّه ووجدانه كلّه، وإذا به يتحوَّل من عدوٍّ لدود إلى صديق حميم، بل تحوَّل إلى داعية إلى الإمام(ع).

وفي رواية أخرى : "دخل العباسيّون على صالح بن وصيف ـ وهو الّذي يتولّى سجن الإمام وهم  من المنحرفين عن الأئمَّة ومن مخالفيهم ـ  وكأنهم يشجّعونه على التّضييق على الإمام(ع) ـ فقال لهم صالح: وما أصنع ـ فلقد أعيتني الوسائل كلّها ـ وقد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصَّلاة والصّيام إلى أمر عظيم، فقلت لهما ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجلٍ يصوم النّهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم، ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمَّا سمعوا ذلك، انصرفوا خائبين"..... هذا يدلّ على مدى قوّة التّأثير الروحيّ الّذي كان الإمام العسكري(ع) يتمتّع به، من دون أن يتكلّم مع الآخرين أو يدخل معهم في أيِّ حوار، وتلك هي خصوصيَّة أهل البيت(ع)، الَّذين يملكون من الملكات القدسيَّة الّتي حباهم الله إيّاها، ما يفيضون به على كلِّ النّاس الَّذين يعيشون معهم بكلّ المعرفة لله والرّوحانيّة والخلق العالي الّذي يجتذبون النّاس به الّذي يمثّلونه، وهو خطّ الإسلام في منهج أهل البيت(ع).

وفي سيرته(ع)، أنّه بلغ عدد الرّواة عنه (149)، حدّثوا عنه بلا واسطة، مع الاختلاف في وثاقتهم ومنازلهم، ما يدلّ على اهتمام المجتمع الثقافي آنذاك بالمكانة العلميَّة الّتي يمثّلها الإمام الحسن العسكريّ(ع)، لأنَّ الرّواة ليسوا مجرّد أشخاص يسألون، بل كانوا يمثّلون أساتذة المجتمع في الثقافة الإسلاميّة، ومواقع المعرفة فيه.

ملاحقـة الأفكـار المنحرفـة:... وهناك قصَّة ينقلها ابن شهرآشوب في (المناقب) عن أبي القاسم الكوفي في كتاب (التّبديل)، تدلّ على أنَّ الإمام العسكريّ(ع) كان يلاحق التطوّر الثقافي في مواجهة الفكر الإسلاميّ، بحيث كان يلاحق المفكّرين في زمانه، وخصوصاً الَّذين يعملون على هدم الأسس العقيديّة والثقافيّة للإسلام، ومنهم فيلسوف العراق، ويُقال أيضاً فيلسوف العرب (يعقوب ابن إسحاق الكندي)، فيروي ابن شهرآشوب عن الكندي: "أخذ في تأليف تناقض القرآن، وشغّل نفسه بذلك، وتفرَّد به في منـزله، وإنَّ بعض تلامذته دخل يوماً على الحسن العسكري، فقال له أبو محمّد(ع): أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمَّا أخذ فيه من تشاغله القرآن؟ فقال التّلميذ: نحن من تلامذته، كيف يجوز منَّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال له أبو محمّد(ع): أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله ـ فالشَّرط الأوّل أن تدخل قلبه، لتستطيع أن تدخل عقله، وهذا أسلوب من أساليب الحوار في القرآن، وهو أنَّك إذا أردت أن تدخل في حوار فكريّ مع شخص آخر تختلف معه، لتقنعه بما أنت فيه، أو لتناقشه فيما هو فيه، فعليك أوّلاً أن تفتح قلبه بالكلمة الحلوة، والإطلالة الحلوة، والأسلوب الحلو، لا أن تكفّره وتزندقه وتجهّله، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}ـ فإذا وقعت الأنسة في ذلك، فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها،  فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بالقرآن ـ (أي الّذي يوحي لك بهذه الأفكار) ـ هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني الّتي قد ظننت أنّك قد ذهبت إليها؟ فإنّه سيقول لك: إنّه من الجائز، لأنّه رجل يفهم إذا سمع ـ وعظمة أهل البيت(ع) أنهم لا ينكرون على الَّذين يختلفون معهم صفاتهم الإيجابيّة، خلافاً لما هو دائر بيننا، فإذا اختلفنا مع شخص، فلا نتحدّث عنه بخير، ولو بنسبة واحد في المائة، فمع أنَّ الكندي ألّف كتاباً في تناقض القرآن، وهو أمر خطير، لكنَّ الإمام(ع) يقول لتلميذه إنّه سيقول لك من الجائز، لأنه رجل مفكّر، ولأنه رجل منسجم مع نفسه، فإذا جئته بفكرة معقولة، فإنها سوف تدخل عقله، ولا يتعصّب في رفضها، ويتشبّث بقناعاته ـ فإذا أوجب ذلك ـ فإذا رأيته استجاب للمسألة ـ فقل له: فما يدريك، لعلّه قد أراد غير الّذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه.

فصار الرّجل إلى الكندي، وتلطَّف إلى أن ألقى إليه هذه المسألة، فقال له: أعد عليّ، فأعاد عليه، فتفكَّر في نفسه، ورأى ذلك محتملاً في اللّغة، وسائغاً في النظر ـ فاللّغة العربيَّة مرنة متحرّكة، فقد يفهم بعض الناس الكلام على أنّه الحقيقة وهو من المجاز، وقد يفهم أنّ المراد هو المعنى اللغوي، والمقصود هو المعنى الكنائي ـ فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنـزلة، فعرّفني من أين لك هذا. فقال: أمرني به أبو محمّد(ع)، فقال: الآن جئت به، وما كان ليخرج مثل هذا الأمر إلا من ذلك البيت ـ الّذي زقّ أهله العلم زقّاً، والّذين يعيشون صفاء الحقيقة واستقامة التفكير والجدل من أجل الوصول إلى الحقيقة ـ ثم إنه دعا بالنّار وأحرق جميع ما كان ألّفه..

فالإمام العسكريّ(ع) كان يتابع بدقّة ما يجري في السّاحة الفكريّة ، ويناقش الأفكار المنحرفة الّتي تطرح هنا وهناك، وكان يواجهها بالحجَّة وبالأسلوب العلميّ، لأنّه يعرف أنَّ شخصاً مثل الكنديّ الّذي هو فيلسوف العراق، لا يمكن أن تردَّه عمَّا هو فيه بالأساليب السلبيَّة، كالشّتائم والتكفير والتّضليل وما إلى ذلك، مما يستخدمه المتفلسفون الَّذين لا يملكون الحجّة على ما يواجهون به الّذين يختلفون معهم.

وهناك حديث آخر أيضاً يحاول الإمام(ع) أن يردَّ فيه بعض الشّبهات، فعن الكليني عن إسحاق بن محمد النخعي، قال: "سأل أبا محمّد(ع) ـ السؤال المطروح دائماً: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}. فلماذا جعل الله المرأة الطرف الضّعيف وأنقص من حقّها، وجعل الرّجل الطّرف القويّ وجعل له الحظّ الأوفر؟ ـ قال: ما بال المرأة المسكينة الضَّعيفة، تأخذ سهماً واحداً، ويأخذ الرّجل سهمين؟! فقال أبو محمد(ع): إنَّ المرأة ليس عليها جهاد ـ بينما الرّجل عليه جهاد، وكان الرّجل في الجهاد يأخذ سلاحه، فلم تكن الدّولة تعطي المقاتل سلاحاً، بل يشتريه، ويحمل معه مؤونته وراحلته ـولا نفقة ـ فلا يجب عليها أن تنفق على الرّجل ولا على أولادها، بل الرّجل هو الّذي ينفق عليها ـ ولا عليها معقله، إنّما ذلك على الرّجال ـ فإذا قتل شخص إنساناً خطأً، فإنّ الدية تتحمّلها العاقلة، وهي الرجال من الأقرباء، أمّا النّساء، فلا يدفعن الدّية، فالله عندما أعطى الرّجل، أعطاه بمقدار ما أخذ منه، فقد حمّله مسؤوليّة الجهاد ونفقة العائلة ونفقة الزّوجة، وجعله مشاركاً في الدية الّتي تكون على العائلة، أمّا المرأة، فإنّه لم يلزمها بذلك. ومعنى ذلك، أنَّ حصّة المرأة أصبحت أكثر من حصّة الرّجل، وكأنَّ الإمام(ع) يريد أن يقول له: ليست المسألة هي أنه كم أعطاك، لكن كم أخذ منك، فمن الرابح في الطرفين في المحصِّلة؟ إنَّ المرأة إذا تزوّجت تأخذ مهراً وتأخذ النَّفقة، فلا تنفق من مالها، ثم إنَّ نفقة الأولاد على الرَّجل أيضاً، فمالها يبقى ثابتاً لا يتحرّك.

ولذا، قلنا لبعض الصّحافيّين من باب النكتة، إنّه يجب على الرّجال المطالبة بالمساواة مع النساء، باعتبار أنَّ حصّة المرأة أكبر، يقول ـ فقلت في نفسي: قد قيل لي إنَّ ابن أبي العوجاء قد سأل أبا عبد الله(ع) عن هذه المسألة، فأجابه بهذا الجواب ـ والإمام العسكريّ(ع) التقط ما في نفسه قبل أن يتحدَّث به ـ فأقبل أبو محمّد(ع) فقال: نعم، هذه المسألة مسألة ابن أبي العوجاء، والجواب منّا واحد ـ فنحن لا نختلف والإمام الصَّادق(ع)، فجوابنا واحد ـ إذا كان معنى المسألة واحداً، جرى لآخرنا ما جرى لأوّلنا؛ وأوّلنا وآخرنا في العلم سواء ـ ليس هناك إمام أفضل من إمام ـ ولرسول الله(ص) ولأمير المؤمنين(ع) فضلهما"...

وهذه حقيقية إيمانيّة لا بدّ من أن ننتبه إليها، وهي أنَّ الإمام(ع) يؤكّد في هذه الرواية، أنّ الأئمّة(ع) حتى لو صدر عن بعضهم، ولم يصدر عن البعض الآخر إلا أقلّ من ذلك، بسبب الظروف التي تتّسع لبعض وتضيق عن آخر، إلا أنَّ قاعدة العلم واحدة للأوّل وللآخر.

 

موقـف الشّيعة من الأئمـّة(ع):...  هناك مشكلة، وهي أنَّ بعض الأحاديث الواردة، تدلّ على أنّ بعض الناس كان يشكّك في الإمام(ع)، كما كان يحدث في حياة أكثر من إمام، حيث كانوا يقفون على بعض الأئمَّة، ولا يتعدّونهم إلى غيرهم، وقد سمّوا بـ(الواقفة)، فقد "كتب إليه بعض الشّيعة"، والواقع الشّيعي آنذاك كانت تؤثّر فيه مؤثّرات كثيرة، حتى في قضيّة الإمامة، من خلال الأخلاقيّة الّتي يعيشها بعض الناس في إخلاصهم للخطّ، أو ابتعادهم عنه، والتاريخ يعيد نفسه، فكتب(ع): "إنّما خاطب الله العاقل ـ ولم يخاطب الّذين لا يعقلون، لأنهم لا ينفتحون على خطاب الله: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} النّاس على طبقات:  إذا الـرّيـح مـالـت    مـال حيـث تميــل

هؤلاء هم الضَّائعون، وطبقة استحوذ عليهم الشّيطان، شأنهم الردّ على أهل الحقّ ـ فلديهم عقد كثيرة، وينطلقون من عقدهم النفسيَّة ـ ودفع الحقّ بالباطل، حسداً من عند أنفسهم ـ وما أكثر الحاسدين الّذين يتحرّك الحسد في نفوسهم، لينطلق في تصرّفاتهم وسلوكيّاتهم! فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فإنَّ الرّاعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها بأهون سعي  ..

قال لشيعته وهو يوصيهم، والوصيّة هي للشّيعة في الخطّ الإسلامي، لأنّ التشيّع ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل هو الخطّ الأصيل للإسلام، وهذه الوصيّة مرويّة أيضاً عن الإمام الصَّادق(ع) مع بعض التّغيير في الألفاظ: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ في معرفته وطاعته وعبادته ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍّ أو فاجر، وطول السّجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد(ص). صلّوا في عشائرهم ـ يعني هؤلاء الّذين يجاورونكم وتختلفون معهم في المذهب ـ واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدَّى الأمانة، وحسَّن خلقه مع النّاس، قيل هذا شيعي، فيسرّني ذلك ـ لأنّه سائر على الحقّ والاستقامة في خطِّ الإسلام ـاتّقوا الله وكونوا زيناً ـ نتزيَّن به ـ ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودّة ـ اجعلوا النّاس يحبّوننا، فلا تتحدَّثوا مع النّاس بالحقد والبغضاء والسّباب وما إلى ذلك ـ وادفعوا عنّا كلّ قبيح، فإنّه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوءٍ فما نحن كذلك، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب".هذه وصيّته، فهل نعمل بوصيَّته؟ إنها تمثّل الخطّ الإسلاميّ في عالم العبادة، وفي عالم السّلوك الاجتماعيّ الّذي يجعل الإنسان في مجتمعه خيراً لكلِّ مجتمعه..

 

 

 

ويذكر المؤرِّخون أنّه عندما أعلنت وفاته، ضجَّت سامرّاء ضجَّةً واحدة، وانطلق كلّ النّاس في تشييعه، وأرسل الخليفة إلى بيته من يفحص هل له ولد، ويفحص جواريه هل إنَّ إحداهنّ حامل، لأنهم كانوا يريدون أن يطمئنوا لانقطاع الإمامة، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أخفى وليّه بالطَّريقة التي حفظ بها هذا الوليّ الّذي ينتظره العالم كلّه، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.

وصلّى الله على الإمام الحسن العسكريّ(ع)، وعلى آبائه(ع)، وعلى ولده(ع)؛ حجَّة الله في الأرض،

بعد أن أدّى الإمام العسكري{ع} مسؤوليته بشكل كامل تجاه دينه وأمّة جده{ص}  وولده{ع} نعى نفسه قبل سنة 260 ، وأخذ يهدّئ روع والدته قائلاً لها : لا بد من وقوع أمر الله لا تجزعي ، ونزلت الكارثة  ، والتحق بالرفيق الأعلى بعد أن اعتلّ في أوّل يوم من شهر ربيع الأول من ذلك العام . والعلة تزيد فيه والمرض يثقل عليه حتى استشهد في الثامن من ذلك الشهر ، وروي أيضاً أنه قد سُم واغتيل من قبل السلطة حيث دس السم له المعتمد العباسي الذي كان قد أزعجه تعظيم الأمة للإمام العسكري وتقديمهم له على جميع الهاشميين من علويين وعباسيين فأجمع رأيه على الفتك به .. ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد (الحجة) وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين وقد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب .

ودفن الإمام الحسن العسكري{ع} إلى جانب أبيه الإمام الهادي{ع} في سامراء ، وقد ذكر أغلب المؤرخين أنّ سنة وفاته كانت (260هـ) وأشاروا إلى مكان دفنه  دون إيضاح لسبب وفاته..

        يتضح لنا من خلال متابعة تاريخ الإمام العسكري{ع} وموقف السلطة العباسية منه أنّ محاولة للتخلّص من الإمام قد دبّرت من قبل الخليفة المعتمد خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سلسلة الإجراءات التي اتخذتها السلطة إزاء الإمام علي الهادي{ع} ، ثم ما اتخذته من إجراءات ضد الإمام الحسن العسكري (ع ) ، فقد قامت بسجنه عدّة مرات فضلاً عن المراقبة المشددة على بيته ، كما حاولت نفيه إلى الكوفة ، وغيرها من الإجراءات التعسّفيّة ضدّه وضد شيعته وضد العلويين ، ووفقاً لذلك وبضم رواية أحمد بن عبيد الله بن خاقان والذي كان أبوه أحد أبرز رجالات الدولة ، يتأكّد لنا أنّ استشهاد الإمام العسكري كانت وراءه أيدي السلطة الآثمة دون أدنى شك .

الصلاة على الإمام العسكري (عليه السلام) ...  وكان لاستشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) صدى كبير في سامراء حيث عطّلت الدكاكين وسارع العامة والخاصة مهرعين إلى بيت الإمام ، ويروي أحمد بن عبيد الله واصفاً ذلك اليوم العظيم قائلاً : ولما رفع خبر وفاته ، ارتجّت سرّ من رأى وقامت ضجة واحدة : مات ابن الرضا ، وعطّلت الأسواق ، وغلّقت أبواب الدكاكين وركب بنو هاشم والكتّاب والقوّاد والقضاة والمعدّلون وساير الناس إلى أن حضروا جنازته فكانت سرّ من رأى شبيهاً بالقيامة ..

وبعدما جُهّـِز الإمام العسكري (عليه السلام) خرج عقيد خادمه ، فنادى جعفر بن علي فقال : ياسيدي قد كُفّن أخوك ، فقم وصَلِّ عليه ، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يتقدّمهم عثمان بن سعيد العمري وهو أحد وكلائه (ووكيل الإمام الحجة -عليه السلام- فيما بعد) ، ولما دخلوا الدار فإذا بالحسن بن علي -صلوات الله عليه -على نعشه مكفّناًً ، فتقدّم جعفر بن علي ليصلي عليه ، فلما همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة بشعره قطط ، وبأسنانه تفليج فجذب رداء جعفر وقال : ياعمّ ، أنا أحقّ بالصّلاة على أبي ، فتأخر جعفر وقد اربدّ وجهه واصفرّ ، فتقدّم الصبي فصلّى عليه(عليه السلام) .

ولما اُخرج نعش الإمام العسكري (عليه السلام) صلّى عليه أبو عيسى بن المتوكل بأمر الخليفة المعتمد العباسي ، تمويهاً على الرأي العام حول استشهاد الإمام (عليه السلام) ، وكأنّ السلطة ليس لها في ذلك يد بل على العكس ، فإنّها قد أظهرت اهتماماً كبيراً أيام مرض الإمام (عليه السلام) وخرج كبار رجالات البلاط العباسي مشيعين... ، ولكن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تنطلي على شيعة الإمام ومواليه ، وهكذا غالبية المسلمين الذين عاصروا ما جرى للإمام (عليه السلام) من قبل السلطة من سجن وتضييق .

هنا الإمام الحسن العسكري {ع}  غسل وكفن وصلي عليه .. ولكن إمامنا الحسين بقي ثلاثة أيام , مرميا على تراب كربلاء..

الشيخ عبد الحافظ البغدادي

 

الحمد لله رب العالمين




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=56269
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 01 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29