• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : منيف وجبرا وعقدة الدونية .
                          • الكاتب : افنان القاسم .

منيف وجبرا وعقدة الدونية

أقول مباشرة، وهذا هو رأيي الشخصي، إن رواية "عالم بلا خرائط" لعبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا من بين أضعف الروايات التي كتبها هذان الكاتبان، من بين أضعف الروايات التي كتبت في الأدب العربي، رواية عضلية، كتبها كل واحد من الكاتبين بعضلاته، وهَمّ الواحد والواحد، أن يبدي تفوقه على الآخر، لشعور الواحد والواحد بالدونية أمام الآخر، فكانت الإرادة الفوقية، إرادة القوة، هي الكامنة من وراء هذا المشروع الروائي المشترك، وكان المنطق الخطابي، منطق التوتاليتارية، هو المقتحم للغة يفرض عليها كل ما تعجز عنه.

لن أقوم بعرض للرواية، فالرواية موجودة على إنترنت، وهي، على أي حال، غير قابلة للعرض، لتناوب الخواطر في رأسي الكاتبين، ولن ألتمس، في هذه المقاربة النفسية السيميائية، غير القيام بتحليل مقتطفات من هذه الخواطر إثباتًا لأطروحتي:

“الأصعب ليس أن يموت المرء بل أن يموت الذين حوله كلهم ويبقى هو حيًا”.

ينتمي هذا المقطع إلى لائحة الأقوال المأثورة التي تفعم بها الرواية، أقوال منطقها الخطابي منطق الشعور بالدونية، فبقاء المرء حيًا دون الآخرين هو الأصعب، سبب هذه الصعوبة –حسب يونغ- غياب من يُعنى به، مما يجعله يشعر بنفسه مرفوضًا مطروحًا مستبعدًا، يكتم شعوره، وينطوي على نفسه. هناك موت رمزي في هذه الحال، يدفع إلى الإحباط تمامًا كالموت الفعلي، ومرة أخرى، يكون بقاء المرء حيًا بعد موت كل الذين هم حوله هو الأصعب.

“الألم أقوى محرك في هذه الحياة بوسعه أن يدمر الإنسان بقدر ما بوسعه أن ينقذه”.

كما رأينا الموت الرمزي في القول السابق نرى الألم الرمزي في القول اللاحق، ألم مدمر وألم منقذ، فنذهب من الشعور بالدونية إلى عقدة الدونية "كمحرك في هذه الحياة" دون أن يعيها المرء، لكنه يشعر بها تحت شكل ألم يدفعه إلى تدمير نفسه، وفي الوقت ذاته يمكن ألا يشعر المرء بعقدته الدونية، فيعقلن ألمه، وينقذ نفسه. بشكل مفارق، ودومًا من خلال هذه القراءة التحليلية للألم في رمزه، يكون التخلي عن الفرح، وقبول الألم، الألم فقط دون الفرح، كمحرك حياتي، وبدافع المنطق التوتاليتاري للخطاب، كافتتان مرضي بالألم، يكون نسيان أسبابه التي يمكن أن تكون أقسى شيء في الوجود: حروب أمراض كوارث فواجع جماعية أو فردية أفعال بربرية في الجسد أو في المجتمع أقسى في حدتها من الألم نفسه، الألم الحقيقي بالفعل.

“أذكر قولاً أعتقد أنّه لهرقليطس: "روح الإنسان بلد قصيّ لا يستطيع أحد الاقتراب منه واختراق حدوده والتجوال فيه". سيضحك الشاعر الإغريقي القديم. سيقول إني توهمت، وإن ما اقتربت منه وتجولت فيه كان بلدًا غير بلد الروح. ربما كان محقًا. ربما نحن لم نعطَ جواز المرور إلى مملكتنا الحقيقية. أو أن لدينا جواز المرور، ولكن شرطة الحدود لا يعترفون بجوازنا. أو أننا ما نكاد ندخل حتى نعثر ونسقط. أو أننا ندخل ونندهش ثم نتيه. الطرق لا إشارات فيها ولا أضواء. وهي كثيرة الحفر كالهاويات. ومن يدري؟ في أماكن تتخللها الغابات الكثيفة - التي تنطلق من بين أغصانها وحوش لا تعرفها كتب الحيوان... في دواخل الرّوح منّا تلتهمنا الوحوش!”

لدينا هنا حديث عن روح الإنسان عند هرقليطس، الإنسان بلا عقدة الدونية، وعن روح الإنسان عند جبرا ومنيف، الإنسان بعقدة الدونية: الأول روحه بلد قصي منيع على الآخرين، والثاني روحه بلد غير بلد الروح. اعتمادًا منا على يونغ في نظريته نقول: العقد التي لم يتم حلها –بما فيها عقدة الدونية- تقود إلى انحراف نفسي (المفردة توهمت خير تعبير عن هذا الانحراف)، وتظهر أصول هذه العقد –عقدة الدونية هنا- في تاريخ الشخص (دلالات جواز المرور المملكة الشرطة الطرق الحفر...)، في شخصيته (إشارات جواز المرور إلى مملكة حقيقية أم غير حقيقية جواز مرور معترف أم غير معترف به التعثر والسقوط أو الدهشة والتيه...)، في الأحداث التي يعيشها الشخص (أهمها انطلاق الوحوش من الغابات الكثيفة وحوش غريبة لا تعرفها كتب الحيوان)، وكل هذا كي تغذي عقدة الدونية نفسها بنفسها، تحت استعارة: في دواخل الروح منا تلتهمنا الوحوش. كما رأينا امحاء الفرح في رمزه أمام الألم في رمزه، نرى امحاء العالم في رمزه أمام الروح في رمزه، فالخطاب التوتاليتاري يرمي بالذنب على عاتق الأنا، على الرغم من كل التبريرات التي ساقها النص لوضع لا يحتمل، وضع توتاليتاري في الواقع، يظهر الروح على أساسه بشكل دوني، فهذه العبارة الفظيعة "في دواخل الروح منا تلتهمنا الوحوش" عبارة فوقية استعلائية غير ذات معنى دلاليًا إلا من ناحية تفخيم الكلام بإملاء إرادوي.

“إنني إنما أخدع نفسي - أخدعها عن وعي، فلا بد لنفسي إذن من أن تتعلم كيف تجد الثغرات في الأسوار، كيف تكتشف المنسربات الجوفية - للنفاذ أفقيًا وعموديًا، وفي كل اتجاه، إلى الأجواء التي تتحمل تتحمل.”

لا شك أن في خداع النفس خداعًا لعقدة الدونية، فهو خداع واع –كما جاء في النص- ومن شرطه بالتالي التعلم (لا بد أن تتعلم كيف تجد الثغرات في الأسوار) والاكتشاف (كيف تكتشف المنسربات الجوفية): الاستعارات تقليدية لكنها من جوه الخطاب التوتاليتاري، وما يهم هو خداع عقدة الدونية لتجاوزها إلى عقدة الفوقية، عقدة الاستعلاء أفقيًا وعموديًا وفي كل اتجاه –كما يدلل النص- فتنتهي أسباب الموت الرمزي، والألم الرمزي، والروح الرمزي، وتكون النظرة الأخرى إلى أسباب أخرى أو إلى الأسباب ذاتها، وهذه المرة من علٍ: من الأجواء التي تتحمل. تتكرر المفردة تتحمل مرتين لضغط عقدة الاستعلاء وإشارة إلى أعراض أخرى للمرض ذاته، فما الأمر سوى خداع للنفس. إنه الخطاب السريري في نهاية المطاف، بمعنى أن الكاتبين لم يخدعا نفسيهما بما فيه الكفاية ليجعلا من رموزهما رموزًا لمملكة الروح كما يفهمها الشاعر الإغريقي هرقليطس، وظلا ينوآن بعقدة الدونية –عن غير قصد منهما- عقدة لم يخدعاها عن وعي بالفعل، وبالتالي لم يكن لنصهما بعده "المأثوري" الديني الميتافيزيقي.


 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=56950
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 01 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28