• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حينما يتحدث العقلاء .
                          • الكاتب : صالح الطائي .

حينما يتحدث العقلاء

في عام 1964 صدرت الطبعة الثانية من كتاب (شخصيات قلقة  في الإسلام) لعبد الرحمن بدوي عن دار النهضة العربية في مصر، وهو كتاب ممتع مفيد يكاد يجمع شتات تجربة الأستاذ بدوي في بوتقة واحدة سابقة لزمانها، ولكنها ليست غريبة عنه، وأقصد بالسبق أن أهل ذاك العصر ما كانوا بحاجة إلى الكلام المنمق ليفهموا الآخر، فهما كانا يقفان سوية على خط شروع واحد، تحكمه قوانين صارمة تكاد تصادر النزعات العدوانية أو تكبتها ولا تعطيها فرصة التعبير عن نفسها، ومع ذلك كانت لكل منهما عدته التي يريد استخدامها ليربح الكأس، وعليه المفروض أن نجد اليوم بالذات؛ لا في ذلك الوقت ـ مع اشتداد روح الإقصاء والعدوان بين المكونات الإسلامية ـ من يتحدث بهذه اللهجة المحببة، ويستخدم هذا الخطاب الناعم، عسى أن ترق القلوب، وتهفو إلى الإنسان لكونه إنسان قبل أن يكون شريكا في المذهب او صاحبا في المعتقد.
ومن الأقوال التي أعجبتني كثيرا في هذا الكتاب الجميل، ربما لأني أفتقدها الآن بشدة، ولا أجد من يرددها أو يعتقد بها، قول الأستاذ عبد الرحمن بدوي (غفر الله تعالى ذنبه):
"وعلى ضوء هذا التقرير لحقيقة الدين الحي نستطيع أن نفهم ونقدر الدور الأكبر الذي قامت به الشيعة، إلى جانب السنة في تكوين الروحية في الإسلام. فللشيعة أكبر الفضل في إغناء المضمون الروحي للإسلام، وإشاعة الحياة الخصبة القوية العنيفة التي وهبت الدين البقاء قويا غنيا قادرا على إشباع النوازع الروحية للنفوس حتى أشدها تمردا وقلقا. ولولا هذا التحجر في قوالب جامدة ليت شعري ماذا كان سيئول إليه أمره فيها . 
ومن الغريب أن الباحثين لم يوجهوا عناية كافية إلى هذه الناحية، ناحية الدور الروحي في تشكيل مضمون العقيدة؛ الذي قامت به الشيعة، والعلة في هذا أن الجانب السياسي في الشيعة هو الذي لفت الأنظار أكثر من بقية الجوانب مع أنه ليس إلا واحدا منها، وقد يكون أقلها خطرا من حيث القيمة الذاتية لهذا المذهب، ووجوده بشكل واضح لا يدل مطلقا على طغيانه على بقية الجوانب، بل كان نتيجة لطبيعة الصلة بين الدين والدولة في الحضارة العربية.. ولهذا نميل إلى إطلاق لفظ الشيعة في المقام الأول على التيار الروحي في الإسلام الذي حاول تعمق الرمز الأولى لهذا الدين وإيجاد قيم روحية مؤولة عن نصوصه الظاهرة"
 
وأنت مهما أعدت قراءة هذا النص لن تخرج بغير المحصلة التي تكونت لديك عند قراءتك الأولى له، فالنص نابع من روح نقية لا كالأرواح الملوثة المعاصرة التي تطرح الفكر الوهابي السلفي المتشدد المتحيز الإقصائي. فهذا النص نابع من ثقافة وفكر وإخلاص ومسؤولية تجاه الكلمة وأثرها على المجتمع، نابع من شعور بالانتماء الإسلامي بلا مسميات، نابع من فهم للقيم بعيدا عن مؤثرات الطائفية والتحيز، وهذا كله ليس غريبا على المثقف الواعي الذي يدرك الحقائق عن طريق البحث والتقصي والاستنباط لا عن طريق ترديد ما يقوله الآخرون ببغائيا بلا علم ولا دراية. 
إن هذه الأطروحات ليست غريبة على مثقفينا من الشيعة والسنة، لكن الغرابة كل الغرابة تتمثل في الهزيمة النكراء التي تعرض لها هذا الفكر النير، ليتحول خلال خمسين عاما من شكله الإنساني العلمي المحايد إلى فكر إقصائي عدواني متطرف، يضع الشيعة في منزلة دون منزلة اليهود والقرود، وهو لا يعرف عن الشيعة أكثر مما يعرف عن لون جناح جبرائيل.!
اليوم مع اشتداد أزمتنا الخانقة، ومع تفشي روح الكراهية في مجتمعاتنا العربية التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، نحتاج بشدة إلى متنورين عقلاء، يعيدون التعامل مع الكلمات بنفس ذلك الأسلوب الرائق الجميل، لكي تتمكن من لي عنق المعاندين، وسحبهم إلى جادة الصواب بعيدا عن التوحش والافتراس في زمن التوحش والافتراس الذي نعيشه، والذي فقدنا فيه أو كدنا نفقد آخر مقومات إنسانيتنا، فمن يا ترى له قدرة التصدي لهذا المشروع الإنساني الرائع والكل مشغول بقوقعته التي بناها لنفسه وانحشر داخلها دون أن يترك كوة للتنفس أو بابا للخروج؟!



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=64168
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 07 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28