• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الشعائر الحسينية والسلطات الغاشمة .
                          • الكاتب : بهلول السوري .

الشعائر الحسينية والسلطات الغاشمة

 الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها والصلاة والسلام على اشرف الخلق سيدنا محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والرسل وعلى آل بيته الطيبين الغر المحجلين 
قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) : (أن لقتل الحسين (عليه السلام) حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً) ، 
الثورة بمعناها العام هي الانقلاب على وضع أو نظام قائم بالقوة بهدف تغييره .أي هي حركة لإحداث التغيير تصحيحا لانحراف في مسار الأمة أو تصويبا لبوصلة الحراك العام باتجاه مصلحة الأمة و طموحاتها و ذلك وفق منظومة فكرية راشدة تعي طبيعة الظروف و تمتلك أهلية قيادة جموع الناس و بذلك تختلف عن التمرد و العصيان التي يقودها شواذ الناس و تبغي الفساد و التفرقة. من هذا المدخل نلج إلى مضمون البحث و تناول تداعيات ثورة الإمام الحسين \"ع\" و أهمية إحياء المراسم الحسينية على أنها شعائر متصلة بالإسلام فكرا و عقيدة و منهجا و تراثا و نفهم دواعي منع إحياء هذه المراسم من قبل سلاطين الجور و الظلم .. و البداية من تعريف الإمام الحسين \"ع\" لا بعاد حركته و نهضته و أهدافها \" أﻻ و الله لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا ظالما و لا مفسدا و إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، و من رد علي هذا، اصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم الظالمين.
\" و قوله \" أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول: من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا بيعته ، يعمل في عباد الله بالإثم و العدوان فلم يغير بفعل أو قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله، و ما كان في عهد الإمام الحسين لم يكن مسألة خلافية جزئية تنطوي على ظلم أو تجاوز محدود بل كان الردة عن الدين و التي شخصها الإمام \"ع\" بقوله \" ألا و أن هؤلاء قد تركوا طاعة الرحمن، و أطاعوا الشيطان و اتخذوا مال الله دولا و عباد الله خولا \" و لذلك فإن واقعة الطف على قصر مدتها كانت من أعظم حوادث التاريخ و معلما بارزا لأنها جسدت بكل وضوح تلك الجدلية بين متناقضات الحياة، الخير و الشر، الواقعية السياسية و المثالية الأخلاقية، السقوط و السمو، الجاهلية القبلية و الفكر العقلاني الرسالي. كما و امتلكت من القوة و أهلية البقاء كحالة معرفية و وعي ممزوج بالحزن و الأسى و مؤطر بروح الفدائية و الثورة و لتتم بذلك صياغة حالة ثقافة ﻷنصار أهل البيت \"ع\" و ثورة الإمام الحسين \"ع\" كانت على مستويين 
الأول يتمثل بالسلطة الحاكمة المستبدة 
و الثاني هو جموع الناس الخانعين و المقهورين أتباع كل ناعق . 
إذ استطاعت روح الجاهلية و عقليتها التسرب عبر الزمن من إيجاد حاضنة لها من أنصار و دعاة و أن تعود مجددا ممتلكة السلطة و القوة متدثرة بعباءة الإسلام و لتصل إلى مقام قيادة الأمة و ليصبح أكابر الجاهلية خلفاء وأمراء تسلطوا على مقدرات الأمة و تحكموا بمصيرها و عملوا على تقسيمها و فرط عقد وحدتها، فالإسلام أضحى مطية للوصول للسلطة و التحكم برقاب العباد مثقلين كواهلهم بالظلم و العسف متتبعين معارضيهم يقتلونهم بالظنة و التهمة و إزاء هذا الوضع لاذ الكثير من الصحابة بالصمت و السكينة مبايعين خاضعين لسلاطين الجور و الفجور 
هنا نصل إلى سبب التشدد و الإصرار بأن ينزل الإمام \"ع\" على حكم أمير الكوفة و أن تؤخذ منه البيعة ليزيد بن معاوية بأي ثمن و تحت أي طائل و لو كان دون ذلك القتل ﻷن بيعة الإمام \"ع\" تختلف عن بيعة عامة الناس نظرا لمقامه و موقعه و يزيد يحتاجها لإضفاء الشرعية على حكمه و سلطانه، فاﻹمام \"ع\" يمثل مرجعية الدين و ولايته واجبة و ببيعته ليزيد لن يتردد بقية أهل البيت و أنصاره بالبيعة أسوة به واقتداء و فوق كل ذلك عندما تحصل البيعة قهرا فهي رسالة واضحة من جانب السلطة بأنها لن تتورع عن انتهاك أية حرمة من أجل الحكم، فمن يتطاول على سبط النبي \"ص\" سيكون تطاوله على غيره أيسر و أكثر احتمالا. و هذا ما قاله عبدالله بن مطيع للإمام \"ع\" و هو في طريقه قاصدا الكوفة : \' فوا الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، و لئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا\' 
في هذه الظروف الدقيقة و العصيبة جاءت نهضة الإمام الحسين \"ع\" ليس من قبيل الاستجابة لرسائل وصلته من أهل الكوفة بعد موت معاوية و حسب فهو أدرى بأهل العراق و شؤونهم فهم أصحاب أبيه و أخيه \"ع\" المنقلبون عليهما ذلك الوقت ، فالنهضة الحسينية هي ثورة حقيقية جاءت لتصحيح المسار و كشف الفساد و إنقاذ الدين و إقامة الحجة و لتنزع الشرعية من الانقلابيين المغتصبين لخلافة رسول الله \"ص\" . و هي حكمة الله سبحانه أن ادخر الإمام الحسين \"ع\" إلى زمن عصيب تسير الأمة فيه أشواطا نزولا بدرجات الانحراف و الفتنة و التشوش و ليكون دمه الطاهر قربان تطهير و تصحيح المسار و إحياء منهج الرسالة ..و يقول الإمام \"ع\": ألا ترون أن الحق لا يعمل به و إلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا . فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما \" و هو \"ع\" في موقفه لا يهادن على حساب دينه و حقه من مقام الضعف و التخاذل فيقول: \" لا و الله لا أعطيهم إعطاء الذليل و لا أقر إقرار العبيد \" و رغم معرفته بأنه يقينا مقتول و كذلك صحبه لم يكن الشك يخامرهم بذلك و لكنهم وطنوا أنفسهم على منهج الرسالة لا يحيدون عنه و لو كان دون ذلك إزهاق أرواحهم قال تعالى \" و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين \"
و لسنا نبالغ في شيء بأن السلطة الحاكمة ما كانت تخشى الإمام الحسين \"ع\" في حياته و حسب بل حتى بعد استشهاده المبارك ذلك بما يمثله من إرث جهادي و لذلك سعى الجهاز الإعلامي الأموي و دعاته و من بعده العباسي في ترويج مفهوم مشوه و منحرف للثورة ليكون نظير ما يقوم به أئمة أهل البيت \"ع\" و أنصارهم من إحياء للمراسم الحسينية من خلال جملة من المظاهر واﻷفعال منها :
-العمل على تبرئة يزيد بن معاوية من دم الحسين \"ع\" وحصر الإدانة برجال النظام و بالذات أمير الكوفة عبيد الله بن زباد و عمر بن سعد و الشمر ذي الجوشن و سواهم كأفراد و ليس كمنظومة حكم متكاملة و من أمثال الدعاة القائلين بذلك ابن حجر الهيثمي، عبدالله بن زهير بن علوي الحربي 
-تشويه الثورة عبر طروحات مختلفة: 
وصف الإمام الحسين \"ع\" بأنه طالب للملك والسلطان ﻹ فراغ الثورة من مضمونها العقائدي الرسالي و صبها في قالب الغاية الشخصية كما يذكر احد الكتاب المصريين واسمه عثمان محمد علي في احدى مقالاته : 
{ لا اريد أن أدخل فى اسباب ذهابه للعراق ( الامام الحسين ) ، وخيانة العراقيون، له لأننا كُلنا نعرفها ونحفظها ، ونعرف ما ذكره التاريخ عن تفاصيلها حق المعرفة ..ولكن ما نتناساه جميعا انها كانت من أجل إستعادة المُلك والعرش ، او على الأقل إقتسامه بينه وبين يزيد كما كان بين (على ، ومعاوية) } . 
تصوير الإمام \"ع\" على أنه مصاب بحالة من الإحباط و اليأس لأنه لم يوفق في تحقيق غايته بالسلطة و لذلك قاد معركة انتحارية كان يعلم مسبقا أنه لا يملك إمكانية النصر فيها تلفيق أقوال نسبوها زورا إلى الإمام الحسين \"ع\" من جملتها أنه قال لعمر بن سعد \" اذهب بي إلى يزيد أضع يدي في يده \" والحقيقة الثابتة أن الإمام \"ع\" قال: إنا أهل بيت النبوة، بنا فتح الله، و بنا يختم، و يزيد شارب الخمور، و راكب الفجور، و قاتل النفس المحرمة، و مثلي لا يبايع مثله\" و بذلك يؤكد امتناعه لبيعته و ضرورة الثورة و رب قائل منهم أن الحسين \"ع\" وأنصاره إنما هم متمردون على السلطة الشرعية المتمثلة \" بخلافة و إمامة\" يزيد الذي اجتمعت عليه إرادة الأمة في مقاربة وقحة لما كان عليه الخوارج و هذا التوجه بدأ به عبيد الله بن زياد إعتبارا من وصوله إلى الكوفة أميرا و تمكن بذلك من تفريق الناس و دفعهم لخذلان مسلم بن عقيل رسول الإمام الحسين \"ع\" و في كتاب \"السر المكنون \"يقول ابن الجوزي :\" من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة المنتسبين إلى السنة أنهم قالوا : كان يزيد على الصواب و الحسين مخطئ في الخروج عليه ... و قال الشوكاني : لقد أفرط أهل العلم فحكموا بأن الحسين السبط رضي الله عنه و أرضاه باغ على الخمير السكير الهاتك لحرمة الشريعة المطهرة يزيد بن معاوية لعنهم الله ..فيا للعجب من مقالات تقشعر منها الجلود .و يتصدع من سماعها كل جلمود \" 
وهذه عينة من بعض المقالات في شأن ثورة الامام الحسين \"ع\" 
(( انا عن نفسى قلتها في المقالة ،وأقولها مرة أخرى انا لا أعلم الغيب ، ولا أعلم سريرة الحُسين حين كان يُقاتل جيش يزيد ، هل كان يُقاتل في سبيل الله ،ام في سبيل التاج ؟؟، و بالتالي لا أظلم نفسى ،وأعوذ بالله من أكون من الجاهلين وأتدخل في حُكم من أحكام علام الغيوب((. 
اتخاذ يوم عاشوراء يوم فرح و سرور و كعيد يحتفل به و ليصبح عادة أهل دمشق الذين استقبلوا بالبشائر خبر القضاء على الثائر و أظهروا الفرحة و الراحة و ذهب لحد الشتماتة و التشفي و من ثم أصبحت سنة نقلها الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق أيام عبدالملك بن مروان نكاية بآلاف الشيعة و من بعدهم تبناها سلاطين الأيوبيين في مصر
ومن الإجراءات المباشرة أن الحكومات المتلاحقة عملت على منع إحياء المراسم و الشعائر العاشورائية أو زيارة مقام الإمام \"ع\" و ضيقت الخناق على الناس و وضعت العراقيل ففي عهد الرشيد و المتوكل تم وضع المفارز و بث العيون لمراقبة الطرق المؤدية إلى قبر الإمام \"ع\" مما اضطر المسافرين للسير ليلا و الاستراحة نهارا و نشرت الحرس و فرضت عقوبات جائرة قاسية وصلت حد إلقاء الناس في المطبق أيام المتوكل و قتلهم 
ولئن إجراءات منع الشعائر لم تفلح في منع الناس و لم تردع العقوبات الظالمة زوار أبي عبدالله \"ع\" من القدوم إليه، تفتق حقدهم عن سلوك آخر شنيع و هو هدم المقام الشريف و تضييع معالمه و آثاره و بلغ من بغض المتوكل العباسي و كرهه أنه أمر بحرث الأرض و أن يجري الماء عليه و أن يعفي أثر القبر و لكنه لم يتمكن من إزالة أثر الريح الطيب المنبعث من القبر الطيب و بذلك استدل الناس للقبر ثانية وحاول بعضهم مقابلة الحزن بالفاجعة بمظاهر الفرح و الزينة و الغناء و الأناشيد ..
وعندما ولى المنتصر العباسي يزيد بن عبد الله بن دينار ولاية مصر تتبع هذا الروافض و أبادهم و عاقبهم و امتحنهم و قمع أكابرهم و حمل جماعة منهم إلى العراق على أقبح وجه و ضيق عليهم في طقوسهم و شعائرهم ثم أعقب ذلك ازدهار و انفراج في ظل حكومة الحمدانيين بحلب و الفاطميين و لكنه سرعان ما منع و اقتلع بقسوة و وحشية في عهد الأيوبيين و كذا كان الأمر في الشام و في بغداد بعد استيلاء السلاجقة الترك عليها فحظي التيار المناهض للشيعة بغطاء رسمي من السلطة و تشجيعا منه فعادت المآتم الحسينية تقام سرا و في معرض الحديث عن منع إحياء شعائر عاشوراء تجدر الإشارة إلى فتوى تقي الدين أحمد بن عبدالحليم المعروف بابن تيمية الذي كان عالما بدلالات و معاني إحياء هذه المراسم و زيارة القبور بشكل عام و المراقد الشريفة بشكل خاص لكنه يجانب الحقيقة و يفتي بحرمة الزيارة و لو كان قبر النبي \"ص\" متذرعا بروايات قاصرة عن معناها متحدثا عن محاذير فقهية تستتبع من زيارة القبور مخالفا ما ثبت من سنة المصطفى \"ص\" و زيارته للقبور و منها قبر أمه و بكائه و ابكائه لمن حوله و قوله في زيارة القبور : \" السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمبن . وذهب أئمة المذاهب الأربعة إلى جواز زبارة القبور ولم ينكروها. 
إن مجرد استذكار ما حل بالإمام الحسين \"ع\" وصحبه في عاشوراء يجعل المرء المنصف غير المتعنت في حالة التعاطف تجتاحه تيارات من الحزن ممزوجة بالغضب و الانفعال و يستتبع ذلك إدانة و إنكار للظالم و تبرؤ منه و من فعله و إسقاط أخلاقي له و بهذا المعنى فكربلاء هي نصر مؤزر في وجدان الأمة حركت مشاعرها و مدتها بروح التضحية و الثورة فمن وحيها و بدافع منها كانت حركة التوابين و المختار الثقفي ثورات أبناء الإمام الحسن \"ع\" و ما تلاها من ثورات في العالم الإسلامي
و ﻷن جريمة كربلاء شكل منحرف جدا للجريمة بكل أبعادها و ترفضها الفطرة السليمة بغض النظر عن المقام الروحي للحسين \"ع\" تجاوزت حادثة الطف حدود المذهب و الدين مؤثرة بعمق في نفس كل ما طرقت أسماعه هذه الحادثة في كل زمان و مكان و لتصبح علامة بارزة في الإرث النضالي الإنساني في وجه الطغيان، يقول غاندي مفجر ثورة الهند السلمية ضد الانكليز 
\" 
تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فانتصر\" \" 
و النبي \"ص\" هو أول من نعى الإمام الحسين \"ع\" و في يوم ولادته.. و جرت دموعه الطاهرة في مواقف عدة حزنا عليه من ذلك قول عائشة : سمعت أن النبي \"ص \" قال دخل علي البيت ملك لم يدخل علي قبلها فقال أي محمد : إن ابنك هذا حسين مقتول و إن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها قال: فأخرج تربة حمراء ... و النصوص في هذا متضافرة
وقد وجه أئمة أهل البيت \"ع\" شيعتهم نحو زيارة النبي \"ص\" والأئمة السابقين \"ع\" لخدمة هدف كبير هو إبقاء الصلة دائمة غير منقطعة ونابضة بالحياة بين الإسلام الصحيح والإنسان المسلم و أن لا يتحول الدين إلى مجرد ممارسة لطقوس و حركات صورية و شكل من التباكي و مظاهر الحزن
. و لو توقفنا باستفاضة على أدعية الزيارة و تمعنا في معانيها نجد أن المقصود هو الحفاظ على جذوة الإسلام مشتعلة و إحياء تراث الرسالة بكل أبعادها و مضامينها من منع الظلم و القهر و الطغيان و إعلان الولاء لله و الرسول \"ص\" و التبرؤ من أعدائهم، و التأثير في نفوس المسلمين و قيادة فكرهم لغاية واحدة هي جمعهم على منهج واحد
وان كنا لا ننكر الجانب العاطفي و دوره و الشعور الوجداني و أثره و لكن ذلك يشكل إطارا للطقوس التهذيبية و ليس غايتها و على هذا الأساس كان تأكيد الأئمة \"ع\" و دعوتهم لزيارة الحسين \"ع\" في مختلف الأوقات و لبس في مناسبات محددة . يقول الإمام زين العابدين \"ع\": مروا شيعتنا بزيارة الحسين\" ع\" فإن إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين \"ع\" بالإمامة من الله عزو جل
 
. يقول الإمام الصادق \"ع\" : من سره أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوار الحسين بن علي \"ع\"
 
يقول الإمام الكاظم \"ع\" : أدنى ما يثاب به زائر الحسين \"ع\" بشط الفرات إذا عرف حقه و حرمته و ولايته أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر \"
 
و الحديث عن أسباب التضييق و منع الشعائر الحسينية فهو يتعلق بخصوصية ثورة الإمام الحسين \"ع\" من أنها صاغت النموذج المثالي للفدائي المتماهي في حب الله و المستعد للعطاء من غير حدود و أن يجود بنفسه في سبيل كلمة التوحيد و الرسالة، لا يخشى في دينه لومة لائم و لا يخضع لإغراءات الدنيا لا في سلطة أو مال، و هي الشخصية التي لا تقيد نفسها بالخطب الحماسية العاطفية بل تجسد كل تلك المعاني في الميدان العملي و لو في بيئة تحكمها سلطة فاسدة جائرة لتحقق التزامها بالانتصار للدين القويم، و هذه الشخصية هي التي يخشاها الحكام ثم إن الشعائر بتوحيدها الفكر و العمل تمكن الأمة من امتلاك القوة و البأس و القدرة على إحداث التغيير متى أرادت، أي أنها تصبح مصدر تهديد بإسقاط السلطة و الانقلاب، و إذا أخذنا بالحسبان أن السلطات التي كانت قائمة و أمثالها القائمة اليوم تفتقر إلى مقومات الشرعية و أحقية البقاء الأمر الذي يجعلها تحذر هذه الشعائر كمحرك للقوة الروحية و العقائدية و العزم و الإرادة، إذ لا سبيل لأحد بمقارعة جموع الناس المؤمنة بدينها، المعتصمة بالعقيدة، المتمسكة بمظلوميتها، السائرة في جهادها لرفع الظلم و المقتدية بسيد الشهداء \" ع\" فهولاء منصورون لا يخذلهم الله. 
يقول الله تعالى في كتابه العزيز \" و كان حقا علينا نصر المؤمنين\" .
الشعائر الحسينية ليست مجرد تجمعات لكتل بشرية تؤدي طقوسا و نشاطات كرنفالية غايتها التسلية و طلب المتعة و التسرية عن النفس أو تنتهي بحفل خطابي كما في تأبين القادة و الملوك و الزعماء و إنما هي مناسبات لتجديد عهد الولاء و البيعة و التمسك بالقرآن كدليل عمل و سبيل رشاد و من خلال استذكار ملحمة كربلاء كأحد أهم المحطات التاريخية التي جسدها أئمة أهل البيت و لتكون حافزا لاجتراح معجزة النصر رغم قلة الناصر و العدة و لكن بأتم الاستعداد الإيماني. و هو ليس إحياء لميراث النبي \"ص\" و آله فقط بل لكل الأنبياء \"ع\" باعتبارهم ذرية بعضها من بعضها . 
و بهذا المعنى هي مدرسة تربوية عظيمة تصنع الإنسان وتصوغه في حالة من الطهارة متحررا من بهرجة الدنيا و خداع مفاتنها تمثلا و تأسيا بمن أريقت دماؤهم بكربلاء
إن مجرد بقاء المنهج الحسيني الثوري و لو على سبيل التراث الفكري يعني وجود جملة مقارنة تكشف و تعري حكومات الطغيان والفساد و تنزع عنها الشرعية، ﻷنها مثل أعلى و قدوة، فكيف بهذا المنهج يتجاوز حالة الإرث الفكري و يتحول لبرنامج عمل يطبق على مساحة الأمة. 
و من الغريب أن المخالفين يعتبرون مجرد ذكر كربلاء و ما وقع فيها إنما يندرج ضمن إطار ثقافة الشيعة كحالة مذهبية ضيقة و ليس ضمن إطار الحالة الإسلامية ككل، و في ذلك يكمن قصور النظر و ضيق أفق الفكر ﻷن شخصية الإمام الحسين \"ع\" هي شخصية جامعة موحدة تتجاوز المذهب و هي في بعدها الرسالي العالمي إنسانية شاملة تمثل القيم الأخلاقية في تساميها و مثاليتها ..
و هم يقصدون بذلك الإيحاء بأن المراسم الحسينية لا تعنيهم أو تخصهم من قريب أو بعيد . 
و في مجانبة للحقيقة و تنكب عن الحق ربما يذهبون أبعد من ذلك بأن يعتبرون المراسم مجرد طقوس يراد بها التكفير و التوبة عن خذلان الحسين \"ع\" و الغدر به. ثم أنهم ينظرون إليها من قبيل أنها مجرد طقوس و ليست شعائر عبادية للاهتداء و الاقتداء و هنا يتم التركيز على بعض السلوكيات كاللطم و التطبير و أنها تفضي إلى إيذاء النفس و تحميلها ما لا تطيق ثم يسمونها بالبدعة و الضلال محذرين الاتيان بها و هذا ديدنهم أنهم يقولون الحق ليوردوا الناس مواطن الباطل فالحقيقة أنهم يريدون الانتقاص من هذه الشعائر و منعها ما استطاعوا لذلك سبيلا .. 
لم تقتصر المراسم الحسينية على زيارة المقام الشريف وقراءة الدعاء ﻷن ثورة الحسين \"ع\" أصبحت ملهمة شعراء الشيعة و بذلك ظهر شعر الرثاء ليغني الأدب الشيعي و يضفي عليه سمات الحزن و الأسى و الحض على الثورة، و هو شعر غني بقيمته التربوية. و كان هذا الشعر مدفوعا بحافزين: 
أ_ عاطفي وجداني: ينطوي على حجم كبير من التأثر بالمأساة بموازاة الإدانة للجريمة و الوحشية فيها
ب _ ديني: و هو الاستجابة لدعوة الأئمة في نظم الشعر و تشجيعهم عليه تخليدا للواقعة و مدحا للأئمة \"ع\" و تعظيما لشعائر الله و براءة من أعداء الدين.
روي عن الإمام الصادق \"ع\" قوله: من قال فينا بيتا من الشعر بنى الله له بيتا في الجنة \" 
أول شعر رثي به الحسين عليه السلام قول عقبة بن عمرو السهمي 
من بني سهم بن عوف بن غالب 
 
إذا العين فـّرت في الحيـاة وأنتم __ تخافـون في الدُّنيـا فأظلم نـورها
مررت على قبـر الحسين بكربلا __ ففاض عليه من دمـوعي غزيرها
فما زلت أرثيـه وأبكي لشـجوه ___ويسـعـد عيني دمعهــا وزفيرها
وبكيت من بعد الحسين عصـائب __أطافت بــه من جانبيها قبــورها
سـلام على أهل القبور بكربـلا ___وقـل لها منّي سـلام يـــزورها
سـلام بآصال العـشي وبالضُّحى ___سـلام بآصال العـشي وبالضُّحى
ولا بـرح الوفّـاد زوار قبــره __ يفـوح عليـهم مسـكها وعبيـرها
 
على أن السلطات انتبهت لما يورثه هذا الشعر من أثر في تحريك مشاعر العامة و يؤجج انفعالها فواجهته بالتضييق و القمع و لاحقت الشعراء و نكلت بهم و أنزلت بهم عقوبات قاسية. فالكميت الأسدي لاقى عقوبة السجن في عهد هشام بن عبد الملك، 
شعر الكميت الأسدي في رثاء الحسين (ع) 
أضحكني الدهر وأبكاني ___ والدهر ذو صرف والوان 
لتسعة بالطف قد غودروا ___ صاروا جميعا رهن أكفان 
وستـة لا يـتـجـارى بهم ___ بنو عقيل خير فرسان 
ثم علي الخـير مـولاهـم ____ ذكرهم هيـج أحـزاني 
و منصور النميري صدر أمر بقتله من الرشيد و لكن المنية كانت أسرع إليه، يقول الرشيد بعد سماعه أحد قصائده :لقد هممت أن أنبشه ثم أحرقه. فالسلطات تعاملت مع هذا الشعر من منظور سياسي و اعتبرته خطرا يقوي علاقات الشيعة فيما بينهم و يجمعهم و يثير الشبهات حول شرعية الحكومة القائمة. و لذلك كان تداول هذا الشعر يتم سرا و في تكتم شديد
 
مقتطفات من قصيدة منصور النميري
 
ألم يُبْلغكَ والانباءُ تنمى *** مصُالُ الدهرِ في وُلْدِ البتولِ
بتربة كربلاء لهم ديارٌ *** نِيامُ الأهلِ، دارسة الطُلولِ
تحيات ومغفرة وروح *** على تلك المحلة والحلولِ
 
ألا يا ليتني وُصلت يميني *** هناك بقائم السيف الصقيل
فَجِدْتُ على السيوف بحرّ وجهي *** ولم أخذل بنيك مع الخذول
 
يقول الأصفهاني: \"كانت الشعراء لا تقدم على ذلك ( يعني شعر رثاء الحسين \"ع\") مخافة بني أمية و خشية منهم \" يقول أبو الأسود الدؤولي ظالم بن عمرو : أبني علي آل بيت محمد .. بالطف تقتلهم جفاة نزار و يقول منصور النميري : آل النبي و من يحبهم ..
يتطامنون مخافة القتل أمنوا النصارى و اليهود ... وهم من أمة التوحيد في أزل 
 
شعر السيد الحميري في رثاء الامام الحسين (ع) 
أمْرِرْ على جدثِ الحسينِ *** وقُلْ لأعظمِهِ الزكيّهْ
يا أعظماً لا زلـتِ من *** وطفاءَ ساكبةٍ رويّهْ
ما لذّ عيش بعد رضك *** بالجياد الأعوجيّهْ
قبرٌ تضمن طيبـاً *** آباؤه خيرُ البريّهْ
يا عينُ فابكي ما حييتِ *** على ذوي الذممِ الوفيّهْ
 
و يمضي الزمن و يطوي صفحات أيامه بحوادثها و وقائعها إلا أن يوم الطف يبقى صفحة مفتوحة تعلم الناس معنى الثورة، و الأخطر أنها غلبت منطق الواجب على منطق الممكن، و هذا ما كان في موقعة عين الوردة . 
كربلاء قدمت صورة شاملة للحياة بكل معانيها و صحابة الإمام \"ع\" مثلوا نموذجا فريدا للعلاقات الإنسانية المثالية اعتبارا من الروابط العائلية وصولا للولاء العقائدي، و على أرضها حضر الرجل شيخا و شابا و أخا و ابنا و ابن أخ و حضرت المرأة أما و أختا و بنتا و زوجة و حتى الأطفال كان لهم حضورهم المميز.
بذلك اكتملت لوحة في غاية الروعة و النقاء و الصفاء هي التضحية و تسابقوا دونها في بذل المهج ..
يوم الطف ليس كغيره من أيام الدهر يقاس بمدته الزمنية بل يتجاوزه ليجسد حالة التناقض في الحياة و مسؤولية الاختيار ما بين الإيمان والردة و الكفر، الحق و الباطل، الإصلاح و الفتنة، العدل و الظلم . و كربلاء تتجاوز جغرافية المكان و الأرض و الأبعاد 
و قصارى قولنا أن قضية الإمام الحسين \"ع\" تتجاوز حدود البدن و لا تنحصر في جسد مقطع مرمل في الصحراء، فذلك حادث محدود في بعدي زمانه و مكانه و سرعان ما تعفى آثاره في ذاكرة الناس و مآله النسيان، و لكن القضية في بعدها الرسالي باقية ، لا تفنى و تستعصي على النسيان ﻷنها قضية القرآن و السنة، هي الحق المضيع و الالتزام بالدين و حب الله و رسوله و عن النبي \"ص\" أنه قال :\" حسين مني و أنا من حسين أحب الله من أحب حسينا \" و الإمام \"ع\" بهذا المقام هو المعلم و الهادي و المرشد و القدوة لكل مظلوم و مقهور و مستضعف على مر الزمن و ليكون المثل الذي يتكرر في أتباعه و أنصاره .. لكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله .. طبت وطاب ثراك 
 
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين .



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=66521
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 08 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19