يبدو أنّ لعنة الاتصال والانفصال لم تبرح قطاعات المعرفة طرّا..وكأنّه بات من واجب الجميع أن يكشف عن موقفه من هذه الجدلية التي قسّمت النّظار إلى قسمين متباريين..وفي كل حقل من حقول المعرفة يستبدّ اتجاه بإقرار الاتصال أو الانفصال.. ولا مهرب من ذلك سواء أتعلق الأمر بالعلوم البحتة أم العلوم الاجتماعية..أحيانا يتهيّأ لي أنّ هذه التيمة لها علاقة بمزاج الناظر وطريقته في التفكير، مما يطرح إشكالية: هل الواقع الموضوعي متّصل أم منفصل..في نظر أفلاطون فالتناغم هو سمة الكون كلّه..بالنسبة لأرسطو هناك انفصال بين وحداته..يتعين أن نتساءل فيما إذا كان الناظر منفصلا في رؤيته للخارج أم متّصل الفكر والمزاج؟
يستطيع أنصار الاتصال أن يستدلوا على رؤيتهم تلك بالرياضيات والفيزياء والفلسفة وحتى الدين.. يستطيع من يروقه الاتصال أن يرى الأعداد متصلة نحو اتصال على خلفية تموقع الصفر بين الموجب والسالب في سلسلة الأعداد..لنتحدث عن الرابط الصفري وتموقع كل عدد منه بحسب النسبة..يحدث هذا حتى لو كان الأمر يتعلق بالعدد طالما الهندسة كمية متّصلة في نظرهم..وفي الفيزياء يستطيع أهل الاتصال أن يحدّثوا عن استمرار الطاقة في الكون كما يستطيع أهل البيولوجيا أن يجدوا في النظام الوراثي ما يثبت الاتصال..وهذا لا يمنع أهل الانفصال أن يستخرجوا رؤية انفصالية من داخل العدد نفسه بل من داخل الهندسة..كما يستطيعون استخراجها من داخل الفيزياء بإعلان الانفصال في كون مادي ذرّي في صميم تكوينه.. في الفلسفة نفسها سنجد هذا التذرير للعالم عبر مونادولوجيا ليبنتز..الوحدات الروحية أو فكرة العادة والتجاور الذي قاوم به الأشاعرة وتحديدا الغزّالي في دحض مفهوم العلّية عند المعتزلة التي يتحقق من خلالها الاتصال..سيكون للعصر الحديث حظّه من هذا الجدل أيضا..الاتصال في الفكر التّاريخي الذي سيعزّز نظرية التعليل التاريخي وصولا إلى ميلاد ذلك الاتجاه المستقبلاتي الحتمي أيضا..الزمان المتصل..استمرار القديم داخل الجديد ولو بشكل آخر..حتى في مفهوم القطيعة يتحدث باشلار عن استمرار السابق في اللاحق..غمر مفهوم القطيعة الفكر الفلسفي..وكانت له صولات وجولات..انتصرت الحداثة عموما للقطيعة..فلا شيء من القديم وجب أن يستمر في الحديث..ولا شيء يتشابه بين الغرب والشرق..بين القديم والحديث..بين القلب والعقل..بين المادة والروح..ولهذا عادت ما بعد الحداثة إلى أصول الاتصال..إلى الأفلاطونية..وعبر التفكيك سنقف على جدل آخر ربما كثيرا ما يبدو باطنيّا في العلاقة بين الأشياء القائمة على الاتصال والانفصال معا..تفكيكية ديريدا تجعلنا نفتعل هذا الفصل التفكيكي وصولا إلى الوظيفة التي تؤمّن الاتصال بين الأشياء..تندك المسافة بين الأزمنة والأشياء..لنكتشف فيما بعد خرائط الاتصال الخفي بينها..جدل الاتصال والانفصال حاضر في أركيولوجيا المعرفة..مع فوكو التاريخ يسلك مسلك الاتصال..غير أنّ ثمة وجه آخر للانفصال والقطيعة بين الإبستيمي..فالأنظمة المعرفية تنفصل فيما بينها..في تأريخه للمعرفة كانت نزعة رصد الأنظمة الجديدة المنفصلة واضح تماما..مع هيدغر تندك الواسطة بين الزمان والوجود لصالح وحدة واتصال الوجود والزمان في مفهوم الدازاين..لم يعد الانفصال في الزمان في ذاته حيث أولى مهام هيدغر كانت هي البحث في الزمان والتاريخ بل غدت قضية الكائن وخبرته التي ترسم أشكالا من الانفصال لكن ليس داخل فضاء الزمان بل داخل فضاء الكينونة نفسها..هنا الاتصال والانفصال يحضران بشكل متداخل..دحض هيدغر الاتصال بين الوجود والموجود وأقر الاتصال بين الزمان والوجود معتبرا الزمان مفهوما وجوديا يرتبط بالهمّ الوجودي..تواصل مع الفلسفة ما قبل سقراط مثلما فعل ملاصدرا ليبدأ الحديث عن فلسفة الوجود من حيث بدأ ، من حيث الدهشة الأولى..وهكذا قفز على كل ضروب الفلسفات بما فيها الحديثة التي يسمها بنسيان الوجود..الانفصال عن التدبير التجريدي للوجود بوصفه غدا مجرد محمول منطقي في الفلسفة الحديثة والاتصال بالمنابع الأولى حيث الوجود له مكانته الكبرى..جدلية الاتصال والانفصال حاضرة في كل مقاطع فلسفة هيدغر...والغاية هي إقرار أهمية الوجود حتى لو أدى إلى تأكيد الانفصال بين الميتافيزيقي والفيزيقي..هذه الجدلية مستمرة ومتفاوتة التأثير..
لدى العرب الكثير من الجولات في الاتصال والانفصال..أقصد العرب المعاصرين..في مثال التجربة المغربية عشنا ولا زلنا نعيش هذا الجدل بين الاتصال والانفصال..يستمر هذا حتى في الجغرافيا والسياسة والتاريخ..كنّا ولا زلنا ننظر إلى أنفسنا كاستثناء جغرافي وتاريخي..ولكننا نتحدث عن انفصال جغرافي في الوقت الذي نتحدث فيه عن اتصال..حتى لما فكرنا يوما في مناهضة الاستعمار استنجدنا بجدلية الاتصال والانفصال..كانت الحركة الوطنية قد اهتدت إلى تشكيل أيديولوجيتها..الأيديولوجيا التي سنسميها فيما بعد بالسلفية الوطنية..سلفية تتغنى بأمجاد الماضي ونقاءه لمحاربة التباس الحاضر..القبض على الفكرة الحضارية من الماضي ومواجهة الاستعمار الحديث..هذه النزعة الاتصالية استمرت مع مغرب الاستقلال..وهيمنة على الثقافة السياسية للحركة الوطنية..لم يلتفت أحد لهذه النزعة الاتصالية سوى عبد الله العروي..هذا الأخير في أطروحته غير المترجمة حتى الآن ـ ولا أدري ما سرّ ذلك ـ حول الجذور الثقافية والاجتماعية للحركة الوطنية المغربية، كان قد نبّه إلى أنّ المعضلة تكمن في السلفية بوصفها شكلا من أشكال الاتصال..بينما في كل أعماله فجر العروي قضية القطيعة..إن الحداثة لا تتحقق إلا بالانفصال..قال العروي بالطفرة واقتصاد الزمن..غير أن الجابري الذي كان معنيا بوصفه منظرا داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وكاتب مشروعه الأيديولوجي هو سليل هذه النزعة السلفية الاتصالية..تصدى للعروي وانتهت التجربة بنقد العقل العربي..هنا سنقف على ملامح كثيرة من الاتصال والانفصال..ليس لدى الجابري أي مانع في أن يستعمل الاتصال والانفصال بمختلف وظائفه ما دام يستطيع أن يوقف هدير القطيعة القصوى للعروي..سيقول الجابري بأن الاتصال موجود وضروري..وهكذا لكسر شوكة تاريخانية العروي..لكن تحت طائلة القدر الجغرافية الثقافية..نستطيع تأمين الاتصال مع شكل خاص من التراث العقلاني الذي تجغرف في الإقليم المغربي ـ الأندلسي..هذا الاتصال مع شكل خاص من التراث يؤكد على جدلية مزاجية للاتصال والانفصال..هناك من جانب اتصال بتراث خاص ولكن هذا يعزز فكرة الانتقاء..أي تراث نريد؟ والحقيقة أن العروي نفسه لم يستطع رغم رفضه للانتقاء أن يخرج من ربقة الانفصال حتى في إطار نشدانه للقطيعة برسم الحداثة..لقد تساءل الجابري: أي تراث نريد؟ وتساءل العروي: أي حداثة نريد..في نظري وكما أكدت على ذلك في كتابي: العرب والغرب، كلاهما ينتحل نحلة غير واقعية..بل أراهما يقفان الموقف نفسه بخصوص تجاور الأشكال..فالجابري يتحدث عن تراثات..والعروي عن حداثات..الجابري يختار الرشدية والعروي يختار المدرسة التاريخانية بإخراجها الماركسي بوصفها هي الأصلح للعرب..الانتقاء إذن قائم هنا..وحينما نقول بالانتقاء نقول بالتجاور والانفصال.. تحضر تفكيكية دريدا غير المعلن عنها في نقد العقل العربي للجابري في لعبة تفكيك الأنساق والقبض على ما هو مركزي فيها وما هو هامشي..بل كيف نقوم برجّ مركزيات الخطاب لصالح ما يبدو هامشا..من محنة ابن رشد كما يرى الجابري ممكن أعادة تشكيل التراث المناسب للاتصال بالحداثة..فالتراث والحداثة ممكن أن يتواصلا على أرضية واحدة فقط هي العقلانية المغربية والعقلانية الغربية على حساب شرق هرمسي لازال محكوما بالعقل المستقيل..وهي حفريات المعرفة التي تحضر في نقد العقل العربي حيث القبض على الإبستيمي داخل الأنساق المختلفة ومن ثمّ القول بتجاورها..حتى الزمان التاريخي لم يعد له هنا أهمية..فلكل نسق زمانيته وربما في نظر الجابري أن الزمان الثقافي العربي قد توقف في القرن الرابع الهجري..حضور مفاهيم الاتصال والانفصال عند الجابري ليست جادّة..بل هو تلفيق اعتاد عليه لتمرير وظيفة أيديولوجية لتعزيز وإسناد أيديولوجيا السلفية الوطنية التي عاش وترعرع فيها.. ولذا فهو لا ينسب لا للهيدغيرية ولا للفوكونية ولا لتفكيكية ديردا..هذا ما سميته مرارا بعدم الاستقامة الفكرية التي يتمتع بها غريمه العروي..في إحدى اللقاءات أجاب الجابري عن أنه هو كل هذه الأشياء..هو سلفي وحداثي وكل هذه التناقضات بوصفه يعيش في عالم متناقض..كان الجابري يدافع عن الانفصال بين العقول..فهو يتحدث عن عقول وبنيات وأنساق منفصلة..بنية العقل البرهاني وبنية العقل البياني وبنية العقل العرفاني وأثر ذلك على الثقافة العربية..ولذا بدا له الواقع العربي منذ نشأته ذرّي منفصل حتى في جغرافيته حيث تتجاور حبات الرمال ولا تتصل..ومن ثمة غياب السببية حيث وكما يقول:" واذن فالمبدأ الذي يؤسس وعي سكان هذه البيئة لن يكون السببية ولا الحتمية بل سيكون الجواز"..وفكرة الجواز في نهاية المطاف هي فكرة الانفصال..حيث يقول أيضا:" على أن مبدأ التجويز ليس إلا نتيجة لمبدأ الانفصال"..لقد كانت غاية الجابري أيديولوجية محض..ولذا لم يكن يهتم بالإشكاليات الابستيمولوجية التي قد تحدث عند تلفيق المفاهيم وتدبير الأجوبة على أرضية جدل فوضوي بين الاتصال والانفصال حجب الحاجة الأيديولوجية..لقد التقط المفهوم من كل هؤلاء الذين استعملوه في آرائهم لكنه استعمله هو استعمالا لغاية في نفس يعقوب..كل هؤلاء: هيدغر وفوكو ودريدا عوالم قائمة بذاتها..يحضرون جميعا في المحاولة الجابرية لأنهم يحضرون في حالة تعسفية ومجزوءة ومبتورة..يحضرون جميعا لأنّ لا أحد منها بالفعل يحضر كلّه وبثقله المرعب..هكذا تستصغر الأيديولوجيا المفاهيم، وهكذا فعلت ولا زالت تفعل في المشاريع العربية .
|