• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : قيد .
                          • الكاتب : ميسون زيادة .

قيد

لم أكن يوماً وحيدة كنت دوماً محاطةً بكلِّ عائلتي حتّى أسلافي صورهم الزيتية الغالية الثمن كانت تزيّن جدران المنزل الفخم الذي ورثته عن والدتي ولن أورثه أحداً.
غريبٌ أن تنظر إلى الشيء نفسه بطريقتين متناقضتين تماماً، ولكنّك غالباً ما تفعل بمرور الزمن، فهذا هو الدرج الفاره نفسه أنزله كلّ يومٍ مراراً، ولكنّني على غير العادة أشعر تجاهه بالكره للمرة الأولى، لم أعد أحبّه وأتباهى بسخاء بنائه ورُقيِّه وبالصور الزيتية التي تُزيّن الجدران قربه، لأنّني أشعر أني دفعت ثمن هذا الرخاء شيئاً لا يعوّضه الزمن، أليس غريباً أنّه بدخول عاملٍ واحدٍ جديد إلى المعادلة فإنّها تنقلب ضدّك بعد أن كانت لسنوات معك؟.
كانت عيونهم ترصد تحركاتي كلّ يومٍ منذ بدايته عندما أنزل الدرج وأشعر أنّهم يمتصّون طاقة جسدي، وعندما أصعد ليلاً تعود لتحاصرني النظرات فتنقلني إلى عالمٍ ليلي مخيف، ليس صعباً على الأغنياء أن يمضوا نهارات حياتهم لأنّ المال يحلُّ مشكلة النهار أمّا الليل فلا يستطيع المال وحده أن يحلّ مشكلته الأزلية.
في الجلسات النسائية الكثيرة التي كنت أخترع مناسباتها اختراعاً كنت سيدة الموقف دوماً بجمالٍ وطلّةٍ بهية تحسدني عليها الكثيرات، وحديثٍ لا ينتهي عن مدنٍ لم تزرنها، والكثير من الصور.
وأتساءل بعد ذهابهنّ هل من الممكن أن تحقق لي رؤية برج إيفل، وصورةٌ قرب تمثال بوذا الذهبي، ومعرفة الفارق بين هرمٍ ينتمي للفراعنة أم لحضارة الإنكا ما تطمح له أنثى؟
كانت ترهقني نظرات من حولي بحسدٍ وكأنّني أملك كلّ شيء، كما كانت ترهقني أحاسيسي بأنّني لا أملك شيئاً سوى قيدٍ ورثته بلا مفتاحه وللأسف فهو غير قابلٍ للكسر دون بتر جزءٍ منّي.
وأعود لليلي السرمديّ وحدي، أبدؤه كالعادة بحبّةٍ بيضاء لا أدري حقيقة محتواها، ولكنّها كانت تُهديني نوماً سريعاً لم يقدمه لي سواها لا عائلتي ولا أصدقائي، وأدخل دائرة القيد مربوطةً إلى قطعةٍ خشبية، أو شجرةٍ عاريةٍ بلا خير وسط غابةٍ سوداء بلا ملامح مع مجموعةٍ من أكلة لحوم البشر، يرقصون حول النار الوحيدة الواضحة في تلك الغابة فرحين بعُرِيِّهم وخوفي ينهشون من لحمي قليلاً.. قليلاً .. والموت يأتي ثقيلاً بطيئاً كثقل الوقت.
أستيقظ خائفةً وحيدةً إلى الأبد، أكثر ما أخشاه حلماً جديداً بإخراجٍ جديد لمسلسلٍ أحفظه عن ظهر قلب.
زرعت في حديقة المنزل أربع أشجار من الياسمين ونخلةً واحدة، كنت أعتقد أنّه ميراثٌ جيد أفضل من كلِّ أموالي، رعيتها بأفضل ما أعرف من حنان، فهم أطفالي الذين سيبقون بعدي ويدعون لي، أربعة صبيانٍ برائحة زكية وبياضٍ نقيٍّ لم أعهده في الذكور القساة الذين عرفتهم طوال حياتي، وصبيةٌ بهيةٌ طويلةٌ مثمرة، ومنذ زرعتهم أُضيف إلى قائمة أحلامي حلمٌ قاسٍ آخر، كنت أسير بخطاً ثابتة أعرف تماماً إلى أين أذهب أحمل بين يديّ عدة لفّاتٍ بيضاء وأرتدي البياض، الثلج كان يغطي الأرض وقدماي الحافيتان الداميتان تغوصان في الثلج فأمشي بتثاقل، وعندما أصل إلى قدمي صنم أضع لفّاتي جانباً وأبدأ الحفر، تتشقق يداي من برودة الثلج وتنزفان أيضاً، ثمّ أدفنهم ... أستيقظ مذعورة... وأحاول أن أطرد من رأسي ما رأيته داخل اللفات الخمس ولكني أذكر ما رأيت تماماً... أربعة أطفالٍ صبيان وبنت.
في اليوم التالي زارتني صديقتي فحكيت لها عن حلمي، وسألتها عن معناه، قالت لي دفنتِ أربعة هموم فالصبي همّ، ودنيا جميلة فالفتاة دنيا، لم يكن في كلامها ما أستطيع نفيه فهمومي كثيرة تحتاج إلى الدفن، وحياتي الحلوة دفنت منذ زمن، مع أنّها لم تفهم ما سرّ الثلج وقدمي الصنم إلا أنني كنت أعلم، وعلى الرغم من رغبتي الملحّة بسؤالها عن كابوس أكلة لحوم البشر حتى أرتاح من ثقله على صدري، لا أدري لمَ يجعلني الكلام عن أشياء تزعجني ومشاركة أيّ آخر بها أشعر بالراحة؟
ولكنني لم أتجاوز كبريائي المصطنع وأتجرأ أن أتحدّث عنهم، وأنا أذكر وجوههم وهم يرقصون حول النار يملكون على سواد بشرتهم وجوهاً كوجوه أسلافي، واحتفظت به في صدري يؤرِّقني.
كنت دوماً أتساءل هل الوحدة هي المشكلة أم أنّ المشكلة تكمن في اللاامتداد واللاانتماء، وأصبحت أتحاشى النظر في عيون أسلافي وأنا أعلم أنّهم يُحدّقون بي في كلِّ لحظة، وفي لحظةٍ وقفت بها أمام المرآة واكتشفت الشيب الذي غزا شعري قررت أن أمزِّق صوري التي كنت أتباهى بها يوماً حتّى لا أترك إرثاً ثقيلاً من الصور ورائي، يبدو أنّ الصور أرهقتني طوال حياتي، أتمنّى منها أن تعيد لي دَينها بعد أن أموت عندما ينشرون في جريدةٍ محلية صورة سيدّةٍ عجوز ثريةٍ ماتت وقد خصّصت منزل العائلة للأيتام فقط، دون أن يعلم أحد سرّ ذلك فقد عاشت يتيمةً وحيدة، مع وصيّةٍ غريبةٍ بألّا يغيّروا شيئاً فيه، خصوصاً الصور، حتى ترى تلك العيون الناقدة فرحة الطفولة يوماً بالعبث بأشياء الأغنياء بلا اهتمام، وحتى تتكسّر كلّ تلك التحف الغالية الثمن في مكانها تماماً لعبةً بيدي طفلٍ يحاول أن يكتشف الحياة.
لم تعد الصور ولا الأحلام ترعبني فلديّ هاجسٌ أكبر الآن، متى سيرون جسدي بلا روحٍ كما كان دوماً، ممدداً على سريرٍ شبيهٍ بسرير ماري أنطوانيت، ربما بعد عدّة أيامٍ من موتي.



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=68815
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 10 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19