لا شكَّ أنَّ "الزِّلزال العنيف" الذي يضرب "منطقة الشَّرق الأوسط" تَمَكَّنَ مِن تمزيق المنطقة وتقسيمها دون توقَّف. وبذلك كَوَّنَ دُوَلاً دُون تسمية، وأسَّس لجمهوريَّات تعيش تبعيَّة الدَّور والفعل والهدف على حساب جمهوريَّات ما زالت إسماً على الخريطة. ففي سوريا مثلاً ظَهَّرَت الأزمة خريطة مُتَشَعِّبَة من ثلاث دُويلات هي دمشق والسَّاحِل، والدُّويلة الكرديَّة المدعومة مِن واشنطن، ودويلة داعش النّصرة التي تسيطر على مساحة كبيرة مِن الأراضي السُّوريَّة وهي أيضاً مدعومة بشدّة مِن واشنطن والحلف الوَهَّابِي الأطلسي، فيما تركيا بدت أمام واقع جديد ومثير، فالنُّفوذ الكُردي المتنامي بقوّة سَحَقَ الغطرسة التركيَّة وأكَّدَ وجود "دويلة كرديَّة" تمتد مِن "ديار بكر" إلى جبال قنديل(معقل مقاتلي حزب العمَّال الكردستاني: بي كي كي). فيما العراق يعيش "أزمة تَفتِيت" شديدة التَّعقيد ضُمن "خريطة نَار" تدعمها واشنطن بإصرار، بهدف تثبيت التَّقسيم الحَاصِل، وذلك بخلفيَّة تأكيد "دويلة الكُرد" في الشّمال، ودويلة داعش (في الوسط) لإجهاض مشروع بغداد أو ما تبقَّى مِن العراق كهويَّة شيعيَّة في الوسط والجنوب، تماماً كحال ليبيا التي تحوَّلت مِن دولة مترامية الأطراف إلى جُزُر قَبَلِيَّة تتنَاحَر على السُّلطة بجنون وسط تنامي مثير للنُّفوذ الدَّاعشي الموظَّف لدور يُرَاد أن يَلعَبَهُ في مصر والوسط العربي، بدليل أنَّ دويلة دَاعِش في سيناء التي تزيد عن 60 ألف كيلو متر مربَّع تكاد تكون محسومةً فضلاً عن مربَّعَات مختلفة ونافذة في قلب مصر خاصَّةً لجهة الصّحراء الليبيَّة، فيما تَكاوِيْن "دويلة قبطيَّة" تكاد تكون منتهِيَة(الصَّحرَاء الغربيَّة)، وكذلك الحال مع باكستان التي تعيش "نوبة تفتُّنت" قريباً مِن العاصمة إسلام آباد، بالإضافة إلى دويلة "وزيرستان" التي تكاد تضاهي إسلام آباد.. إلى كثيرٍ مِن الدُّويلات التي تنتظِر دورها. وهو نَفس السِّينَاريو الخبيث الذي تَبَنَّتهُ واشنطن لسحق السُّودان وتقسيمه بين جنوب وشمال، ثمَّ شمال مضطرب وجنوب متناحر، وقريب منه مجزرة الصُّومال التي حَوَّلت هذا البلد إلى مُربَّعَات وأحياء ومتاريس. والحال كذلك باليمن الذي تحاول واشنطن وحلفاءُها تمزيقَهُ بين صنعاء وعدن. والعَيْن الآن على السَّعوديَّة التي ستُعَانِي قطعاً مِن "أزمة وُجُود وتَرَابُط"، لأنَّ كلّ "عناصر تفتِيتِهَا" حاضرة جِدَّاً، ليس على مستوى النَّاحية الشَّرقيَّة التي تتَّسِم بنفوذ الشّيعة والنَّفط، بل أيضاً لجهة الوسط والغرب، بل والشّمال، وليست قضيَّة تقسيم السَّعوديَّة إلاَّ "مسألة وقت"، خاصَّةً أنَّ النِّزَاع الوهَّابِي مع آل سعود وانقسام العقل الدِّيني بين مُؤيِّد ومُعَارِض، فضلاً عن رعاية "وجود داعشي" هو الآن بمرحلة "حضانة وتفريخ" يُسَاعِد عليه الصّراع المجنون بين أجنحة العائلة المالِكَة، كلُّه يُؤكّد أنَّ "كعكعة السَّعُوديَّة" أضحت تحت "ساطور التَّقسيم الموظَّف"، بدليل أنَّها دخلت حرب اليمن كقوَّة صانعة للتَّاريخ وتوازنات الإقليم، وها هي الآن تعيش "لحظة هزيمة" هي الأخطَر بعد دخول أنصار الله والجيش اليمني إلى "عُمقِهَا الحيوي" ناحية محافظة جيزَان ونجران وعسير، وسط انهيار مخيف بالقدرة السَّعُودِيَّة، لدرجة أنَّ مشاهد دبَّابات أبرامز والآليَّات الأمريكيَّة الثَّقيلة تحوَّلت دليلاً أكيداً على عجز السعوديَّة وإمكان تفتيتِتِهَا بسهولة.كلُّ هذا يجري وسط نزيف اقتصادي هَيكلي قَاتِل حَوَّلَ القدرة الماليَّة السَّعوديَّة قريباً مِن جُثَّة تتآكلها كلاب الحروب. على أنَّ مشروع تقسيم الشَّرق الأوسط ومحو الدُّول تمَّ تنفيذهُ على طريقة سيناريو "روائح الدَّم وخرائط الجُثَث". ولأنَّ تقسيم الأوسط ضرورة ماسَّة، فإنَّ الغرب يُرَوِّج لضرورة التَّقسيم وتثبيتِه بخلفيَّات إثنيَّة ومذهبيَّة وتبعيَّة لخدمة مصالح الغرب وإعادة بناء "أوسط مُتَهَالِك" يعيش على "القَتْل والموت والإبادة والفظَاعَات والتَّناحُر". وما نَرَاهُ اليوم يُؤكِّد حقيقة المشروع وينذر بـ"أزمة أكبر"، لأنَّ انهيار دعائم النّظام الإقليمي الحالي سيُخلِّف كارثةً دمويَّة تُعبِّر عنها مراكز "القوَّة المتناقضة" بنوعٍ مِن حروبٍ شرسة ومعارك شديدة التَّعقيد. هذا يعني أنَّنا بـ"لحظة تاريخ هو الأخطر". لأنَّ المعركة ليست معركة عواصم سياسيَّة بل "محو دُوَل وتأسيس أخرى" بخلفيَّات ثَأر وإبادة مجنونة. ومَعَهُ ستتأثَّر "مراكز القوَّة" جِدَّاً، خَاصَّةً أنَّ حشد واشنطن وروسيا يتراكم بأشكال مختلفة ويُؤسِّس لحَلِيْفَي حرب مختلفة الوجوه والأدوار والسيناريوهات. وما نراهُ اليوم جزءٌ مِن "هويَّة أوسط" يعاني مِن النَّزيف والتَّخَبُّط، والآتي أعظم. لذلك فإنَّ المبادرة إلى حسم بعض التّفاصيل "ضرورة وجوديَّة"، لأنَّ ما يجري الحشد والإعداد لتنفيذه لا يصحّ معه الإعتماد على "ردَّة فعل"، بل لا بُدَّ مِن أساس وتخطيط ومشروع وأدوات إجرائيَّة مُهيكَلَة، لأنَّ الحرب الحاليَّة أكبر مِن "صفقة إقليميَّة وأصغر مِن حرب كونيَّة"، ورُبَّمَا تحوَّلت "حرباً كونيَّة" حِيْن تتحوَّل المصالح الكونيَّة جزءاً مِن ضرورات حرب المنطقة. وهي ليست بعيدة. لكنَّ الأكيد الذي لا بُدَّ مِن معرفتِه أنَّ واشنطن ليست "سوبرمان". ومع أي "اختبار كَبِيْر" سيرى العالم أنَّ المحور الذي تقودُهُ "طهران" قَادِر على "طَحن قسم أساسي مِن هياكل النّظام الإقليمي الحالي"، وهو بالتَّأكيد قَادِر على منع واشنطن مِن "التَّفرُّد"، وبأسوأ الأحوال هو قَادِر على منع واشنطن مِن ربح "نصف حرب". وهذا ما ستثبتُهُ الأيَّام، وهي ليست بعيدة. لأنَّ الأمور ذاهبة للتَّعقيد الذي سيتحوَّل مع أي خطأ كبير إلى محرقة أكبر مِن إقليميَّة. |