• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : خبرة حياة .
                          • الكاتب : ميسون زيادة .

خبرة حياة

في أواخر سني الاندفاع وأوائل الخبرة، يملك كمّاً من المعلومات العلمية العالية المستوى تكفيه ليعتقد بقدراته وتفوقه على أقرانه، كان ينظر إلى ولديه كجزء من تعريفه لكينونته فأراد لهما أن يكونا هما أيضاً مميزين عن كل أقرانهما، فكر لو أنّه يستطيع أن يعطيهما ما يملك في عقله من علوم وآراء وأفكار فسينتقل بهما إلى عرش العلم الذي يتطور سريعاً في عصرٍ يحكمه العلم والوقت معاً.
وقبل أن يبدأ التجربة الفريدة التي خطرت في باله ولم تطبق بعد على أرض الواقع، أراد أن يسجل على دفترٍ كلّ ملاحظاته عن طفليه الآن، فالعلم يبدأ بالملاحظة أولاً فالتجربة ثمّ ملاحظة ما بعد التجربة، وبالمقارنة يحصل على الاستنتاج المنشود.
بدأ دفتر ملاحظاته بمعلوماتٍ عن ولديه، صبي في الثامنة من العمر، أبيض الوجه عسلي العينين، ذكي جداً، وفتاة في السادسة، بيضاء الوجه زرقاء العينين، ذكية.
على رأس الصفحة الأولى للدفتر، التحصيل العلمي، لخّص رأيه بهما جيد جدّاً إلى مميز تبعاً للمادة ومدى حبِّهم لها، مع تميّز الصبيّ في مادّتي الرياضيات و العلوم و تميّز الفتاة باللغة و الرّسم و الموسيقا.

راقبَ أطفاله و هم يلعبون مع أولادِ الجيران، بعضُ الخلافاتِ بدأت لم يضطر حتى أن ينهض من مقعدهِ ليتدخّل في حلّها، فهي تنتهي بعد لحظاتٍ من بدئها بهدفِ إكمال اللّعب.
الصّفحة الثّانية من الدّفتر، التآلف الاجتماعيّ جيّد جدّا إلى مميّز.
كان يتنزّه مع أطفالِه بالحديقة، سقط طفلٌ عمرهُ عامان على الأرض، ركضت ابنتهُ لتساعدهُ على النّهوض، كتبَ، الفتاةُ إحساسٌ عالٍ بالتّعاون و المسؤوليّة.
طفلٌ رثُّ الملابس ينظرُ إلى ولدَيهِ و هما يأكلان الذُّرة المُفرقعة و العصير، يتفق الطّفلان أن يتقاسما كيساً من الذّرة و يقدما للطفل الفقير الآخر، ينظرُ إليهما بسعادةٍ و فخر، بفتح دفتره و يكتب الصّبيّ و الفتاة، إحساس عالٍ بالآخر يصل للإيثار.

تستمرّ الملاحظات و يأتي اليوم الّذي اتّفق فيه مع نخبة من الأطبّاء  وأخصّائيي الحاسوب لنقل كلّ ما في عقله إلى ولديه باستخدام أحدث التّقنيات الّتي توصّل لها عصره، ولم ينسَ بالتأكيد أن يستدعي مجموعة من الصّحافيين لتوثيق الحدث.

جلسَ على كرسيٍّ في حين تمدد الطفلان على سريرين أبيضين حيث اقترح الأطبّاء أن يتمّ تخديرهما تحسّباً لأي طارئ، تمّ توصيل أجهزة المُراقبة لمؤشّراتهم الحيويّة جميعاً، ثمّ نُسخت جميع المعلومات من عقل الأب إلى الحاسوب، شعر بالقليل من الدّوار، ولكن هو من أصرَّ أن يبقى واعياً للحدثِ كُلّه و لم يشأ أن يتمَّ تخديره.

يقترب منه رئيس الأطبّاء يسأله:
- هل أنتَ بخير؟
- نعم،.. نعم.
- هل تريد حقّاً أن ننتقل للمرحلة الثانية؟
- بالتّأكيد.

يبتسم الطبيب ويربّت على كتفه برضا و يقول:
- هل تعلم أنني أفكّر بأن أطبّق التجربة على نفسي وأولادي بعد أن تخرج من المشفى مع أولادك، أعجبتني فكرتها جدّاٌ، أنت عبقريّ.
جعله المديح يشعر بالزهو إلّا أن الفكرة لم تعجبه لأنّه أراد شيئاً مميّزاً له ولأبنائه فقطـ، على الرغم من أنه قد حظي بشرف الفكرة و الأسبقية، أجابه بشيء من الدبلوماسية:
-عليك أن تنتظر، ربما عدة أشهر حتى نعرف النتيجة، أرجوك تابع عملك فأنا بشوق لتنتهي هذه المرحلة.
عندما عادوا إلى المنزل استقبلتهم الأمّ بفرحِ تجاوزهم الخطوة الأولى، ولكنها كانت قلقة هل ستتجاوز هي معهم ما بعد الخطوة الأولى بسلام؟.
بالتأكيد كان هناك جسدان صغيران يحملان عقل بروفسور لغة، تطوّر تحصيلهما الأكاديمي بشكلٍ ملحوظ، وكانت النتيجة الأولى لمراقبة ما بعد التجربة ممتازة، وبدأ الأساتذة يتصلون بالأب ليخبروه عن مدى التميز والإبداع الذي يملكه ولداه ويهنّئوه على نجاح التجربة.
كان ابنه يلعب مع أخته لعبة شطرنج عندما علا صوتاهما، اقترب الأب:
-ماذا يحدث؟
-إنّها فتاةٌ غبية أعلِّمها الشطرنج منذ أكثر من ساعة، ولم تحمل في عقلها الضعيف أية خطّة حتى الآن.
اندفعت الفتاة إلى غرفتها تبكي، في حين تسمّر الأب في مكانه للحظة، متسائلاً هل هو غبي؟، لم يكن يوماً يخب الشطرنج.
اقتربت الأمّ من الأب بهدوء وهمست في أذنه:
- هل سمعت ما قاله ابنك عن أخته؟، لم يكن يستخدم مثل هذه الكلمات سابقاً.
كان الأب يعلم أنّ الأم لم تكن موافقة على التجربة أساساً، تجاهل كلامها وعاد إلى دفتر ملاحظاته، قرأه مرات ولم يستطع أن يضع استنتاجاً محدّداً، سأل زوجته:
-ماذا كنت تقصدين؟ الشطرنج؟
ابتسمت ابتسامةً حزينة، فعلى ما يبدو أنّ زوجها لن ينتبه إلى أخطائه يوماً وحده:
-كلا، ليس من المهم أن يلعب كل البشر الشطرنج، كنت أقصد طريقته المتعجرفة بوصف أخته بفتاة غبية.
وعندما قرأ صفحة التعريف بولديه في دفتر الملاحظات تساءل، لماذا وصف ابنه بذكي جداً، وابنته بذكية فقط، هل هو حقاً ذكوري متعجرف؟.
دخل غرفة ابنته ليواسيها ويبرر لها ما حدث، فوجئ بها ترسم رسمة غريبة، سوادٌ كثير وكلب جريح دامٍ، ابتسم محاولاً أن يخبّئ إحساسه بالصدمة، فجدران غرفتها مليئة بصور قديمة لقوس الألوان، وأم تحضن طفلاً وقاع بحر فيه حورية وأسماك ملونة، سألها باقتضاب:
-ما هذه الرسمة؟
وبجرأة تفوق طفل السادسة عمراً، وتتجاوز هيبة الأب:
-إنّه أخي بعد أن قتله غروره.
ركض إلى الهاتف، اتصل بالطبيب، سأله بعد سلام مقتضب خيل إليه أنه دهر من الزمن:
- هل التجربة عكوسة؟
-بالتأكيد، بصعوبة تكمن بفصل آرائهم عن آرائك بعد أن اختلطت, فالمعلومات العلميّة تُفصل بسهولةٍ أكثر, ولكن هل تلاحظ أيّة آثارٍ جانبيّةٍ غير مرغوبة؟
تلعثم قليلاً ثمّ تجاوز نفسه وأجاب :
- أشعرُ أنّهما لا يستمتعان بعمر الطفولة كما ينبغي, فهما لا يحبّان اللّعب مع أولاد الجيران, ليس شيئاً مهماً على كلّ حال, أحببت فقط أن أتأكّد, هل أجريت التّجربة لك ولأولادك؟
-كلا، كنت أنتظر رأيك بها.
-حسناً، حسناً، إذن لنبقَ على اتصال.
شعر بشيء من السكينة، ولكن هل يملك كل هذه العدوانية في داخله، أراد أن يختبر شيئاً قبل أن يلغي التجربة، دعا كل أطفال الجيران الذين كان أولاده يستمتعون باللعب معهم، فأولاده لم يعودوا يحبّون اللّعب في حديقة المنزل الطفولية حسب رأيهم، كانت الأمور تسير بطريق موفق إلى أن بدأت الأم بتقطيع قالب الحلوى الذي حضرته وتوزيع العصير على الأولاد، بدأ الهرج وتساقطت بعض قطع الحلوى على الأرض ، بنت صغيرة سكبت العصير على ملابسها وبدأت البكاء، لاحظ أنّ ابنته تجلس بعيدة تراقب بصمت، اقترب منها:
-لماذا تجلسين وحدك؟
-أشعر أنّه من الغباء أن تجلس مع مجموعة تفوقها بكلِّ شيء.
-ولكنّ الإنسان الحكيم يسعى إلى التأقلم مع أيّ ظرف.
أجابته بفتور لم يعجبه:
-لا أسعى أن أكون حكيمة، المهمّ أن أكون مميّزة.
تساؤلٌ جديد أضيف إلى قائمة تساؤلاته عن نفسه، هل هو مجرد مظهر لشخص ذكي؟
وعندما بدأ لعبة الأسئلة، تألقت عينا ولديه بنور العارف المتفوق، كاد ما رآه في عينيهما من الثقة أن يثنيه عن عزمه على التراجع عن التجربة، ولكن...
أجاب أحد الأطفال على سؤال في الرياضيات قبل ابنه، هجم عليه ابنه وضربه بلؤم حتّى أوقعه على الأرض، راحت الأم تواسي الصغير، بنما اتجه نحو ولده ليسأله:
-لماذا تعاملت معه بهذه الطريقة؟
-إنّه أسود.
صدمه الجواب ولكنّه أراد أن يفهم أكثر، فقال:
-بدايةً إنّه أسمر، وثانياً ما المشكلة إن كان أبيضاً أم أسمراً أم أسود اللون؟ هكذا خلقه الله.
-أشعر أنّه متسخ ولا يحقّ له أن يتفوّق عليّ.
-إنّه طفل نظيفٌ ومهذّب، المشكلة تكمن فيك، في نظرتك إليه، قد يتفوّق عليك حيناً وقد تتفوّق عليه حيناً آخر.
- إذن دعنا ننهي هذا النقاش العقيم.
في الصباح اتجه إلى المركز الطبيّ مع ولديه، كان يدعو الله أن يستطيع الطبيب أن يفصل كلّ الآراء التي لوّثت عقل صغيريه، متردِّداً بالاعتراف بكلّ ما حدث، ولكنّ هاجس الكمال الذي يعيشه وأمانته العلمية تفرض عليه أن يعترف بالحقيقة، فقد تجاوز صدمة الحقيقة الأولى، وعارضها بشدّة، إلى أن قبِلَ وجودها.
م. ميسون زيادة
 

 



 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=70011
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19