قواعد لعبة الكبار ليست هي قواعد لعبة الصغار..أحيانا يشبه دور المحاور الإقليمية دور أولئك الأطفال الذين يقفون على هامش الملعب لكي يعيدوا الكرة الطائشة إلى الملعب لتستمر اللعبة..وإذا حدث أنّ محورا إقليميا شطّ عن دوره ليدخل الملعب ليشارك اللاعبين لعبتهم فسيطرد فورا أو سيعرض نفسه لمخالفة..ليس من حقّ من فرضت عليهم الموقعية الجيوسياسية أن يكونوا محاور إقليمية أن يتعدّوا حدودهم..خلال السنتين الأخيرتين من الأحداث العربية تعرضت دول عربية كثيرة لعقوبات غير مباشرة..بعضها وصل حدّ تهديد استقرار تلك الدّول..بعض الدول الخليجية أرادت أن تلعب داخل الملعب الأمريكي بين جناحيه: جناحه العسكرتاري الذي يمثّل اليمين المتطرف وجناحه الذي يمثل سياسة القوة الناعمة..كلفت هذه اللعبة تلك الدول توريطا لها في مستنقعات كثيرة باتت هي المقدمة التي تخفي الكثير من التهديد لمستقبل وجودها ككيان..لأنّ غباء هذه المحاور يجعلهم في موقف الجهل بالخطوط الحمراء الأمريكية..إنهم يجهلون أنّ العبث بأجنحة داخل واشنطن هو تهديد لاستقرار الدولة العظمى..وأنّ لا خيار عن حرب أهلية أمريكية إلا بتصدير تناقضات الجناحين الأمريكيين إلى الخارج..كم من مرة تحدثنا عن أنّ الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط تدريجيا..وذلك لأسباب ليس فقط راجعة لتراجع نفوذها أو قدراتها بل نظرا لإدراكها بالتحولات البنيوية التي تمس النظام العالمي..إن الولايات المتحدة الأمريكية استشعرت خطورة التفرد بقيادة العالم .. ذلك لأنّ تبعات هذا التفرد كانت كبيرة تكاد تتهدد أسس الأمبراطورية الأمريكية..اهتدت أمريكا إلى نصيحة هنتنغتون التي حذّرت واشنطن من الاستمرار في سياسة التدخل..ذلك لأنها نبهت إلى استحالة الهيمنة الأمريكية على العالم.. الفكرة نفسها ستجد طريقها إلى سياسة أوباما..لكن بعد أن تمّ تحويلها من الفكرة العامة التي شوّشت عليها، أي الفكرة الهنتنغتونية حول صدام الحضارات إلى منحها إطارا آخر سيجده أوباما في أطروحة جوزيف ناي حول سياسة القوة الناعمة..أمريكا تستعد للانسحاب وفي أقل التقادير تقسيم النفوذ بينها وبين عدوها التاريخي ولكنه نظيرها في لعبة التوازن الدولي: روسيا..أمريكا لها أكثر من مبرر لهذا الأمر..فهي من جهة بلغت آخر أشواط الشطط في التدخّل وباتت تفكر في استراحة مقاتل..وهي من ناحية أخرى تتحول إلى دولة ستصدّر الغاز قريبا ويصبح همها التسويق..الطاقة والإمكانات تتحول إلى الضفة الأوراسية..هناك يجب أن تعتمد على تفاهمات مع القطب الروسي الجديد..تنازلات تقتضيها لعبة التوازنات..شيء من الشرق الأوسط لروسيا مقابل منافذ أوراسية جديدة..نظرية الألعاب تقتضي دائما الخسارة الأقل..بين القدرات الإيرانية المتصاعدة كان لا بد أن يتم دخول روسيا إلى المجال..وجب أن لا يخرج الشرق الأوسط عن القطبين التقليديين..وهذا أمر في صالح التوازنات العالمية في أقل تقدير..فالشرق الأوسط في المنظور الجيوستراتيجي الأمريكي إما أن يكون روسيا أو إيرانيا..وحتما ستختار أمريكا روسيا.. ليس ثمة خيار..إنّ تصاعد القوة الإيرانية هو من فرض الحد الأدنى من التفاهم الأمريكي ـ الروسي بخصوص التدخل..وروسيا لها كامل الضمانات الدولية لتدبير التوازنات..
إسرائيل من جهتها كانت سباقة إلى معرفة أن واشنطن تبتعد عن الشرق الأوسط..لذا فهي تفكّر في التحول على المدى المتوسط والبعيد إلى الحلف الروسي..ليس لدى إسرائيل غير ورقة التقنية الإسرائيلية التي تحتاجها روسيا والصين..لا بد من أن تدفع جهة ما الثمن..دول عربية ستدفع الثمن غاليا..إن دخول روسيا طرفا في الحرب على الإرهاب قد تكون له امتدادات خارج سوريا والعراق..قد يمتد إلى اليمن وربما قد لا نستبعد تحولا في الموقف حيال ما يجري في مصر والمغرب العربي..ستكون ليبيا مركز استقطاب لكثير من الخيارات..هناك حكومة تم تعيينها من قبل المبعوث الأممي ليون..على أساس أن تطرح أمام الأطراف المعنية..لكن رفضها تم فورا من الأطراف الحاضرة في الصخيرات..تركيبة استثنت الوجوه المألوفة جدا..بعض الأشخاص الحاضرين لم يجدوا أسماءهم فانزعجوا..عبد الحكيم الذي كان يتطلع إلى وزارة الداخلية لم يجد إسمه..ثمة احتجاجات بدأت في بنغازي لرفض هذه الحكومة والدعوة لتحرير طرابلس من المتشددين..فيما جماعة طرابلس ستواصل المعركة..مصر معنية جدّا بما يجري في ليبيا..لن تسمح بأي حكومة يوجد فيها عناصر من المقاتلة..وإذن سيستمر النزاع..قد لا نستبعد انضمام الجزائر إلى احتواء ليبيا ضمن المخطط المصري..الجزائر أقل خشية اليوم من الإرهاب الذي قد يجد عمقه الاستراتيجي في ليبيا..الموقف المصري من التدخل الروسي في سوريا يعطي انطباع ـ على الرغم من أنه أتى بخلاف ما يرتضيه حليفه السعودي ـ بأنّ مصر والجزائر قد تفتحان المجال لروسيا للتدخل..إذا لم يحسم ملف الإرهاب في منطقة شمال أفريقيا وتحديدا حلّ المسألة الليبية فإنّ ارتدادات الشرق الأوسط سيكون لها صدى في هذه المنطقة وبالتالي لا مناص من تحالفات تنتهي بدخول روسيا طرفا..التوازنات الجديدة ستمنح روسيا أدوارا في الحرب على الإرهاب..وجب التذكير هنا أن الرواية التي اتبعها الاعلام العربي الرسمي خلال ما سمي بالربيع العربي شكلت عائقا لفهم أصول اللعبة الدولية..ثمة حوادث تاريخية هي التي تساهم في التغيير وثمة أحداث مفتعلة يتم صناعتها من خلال ماكينة لعبة الأمم..الأحداث المصطنعة والمزيفة تلعب دور المشوش على الأحداث التاريخية وتقوم باستنزاف العقل السياسي المحلّي..وبينما كان يفترض في المراقبين المحليين أن يتأملوا أصول اللعبة وينظروا في الأحداث التاريخية، سقطوا في ملهيات الأحداث المصطنعة وأصبحوا يعيشون على سبيل ما هو افتراضي تسوقه الميديا..العالم يستعيد توازنه من خلال دخول روسيا الى الميدان..لكي يتم ترسيم هذا التحول لا بدّ من تدخل وموقف حاسم وحرب..روسيا الآن ترسّم تحولها إلى قطب عالمي..وهي اليوم مختلفة تماما عن زمن الاتحاد السوفياتي..إنها روسيا الأقل شمولية والأخف من عبئ الاتحاد السوفياتي والأكثر خبرة وتجربة..تحرك الصين هو الآخر من أجل ضمان موقع ضمن صراع الأقطاب..وكل هذا مهم بالنسبة للتوازن الدولي..حلفاء روسيا في الشرق الأوسط هم الأقوى...سوريا والعراق وقريبا اليمن وسيكون هناك تنافس كبير بين مصر وإسرائيل في السباق نحو روسيا..إنّ المطلوب اليوم ونحن نسلك نحو نظام عالمي جديد وليس شرق أوسط جديد هو كيف يتم الحؤول دون أن تصبح إسرائيل أقرب إلى روسيا من أي الدول العربية الأخرى..يجب لعب كل الأوراق لإيقاف التفاوض السري الذي يجري اليوم بين موسكو وتل أبيب..هذه الأخيرة تعمل ليل نهار لاحتلال مكانة لها في الحلف الروسي..ومصير هذه اللعبة يتوقّف على شطارة بعض دول الممانعة في أن يجعلوا تحالفهم مع روسيا هو ليس قضية صداقة فحسب بل ضرورة جيوستراتيجة لا غنى عنها..سيكون كما هو دائما دور إيران أساسيا في إرساء موازين القوى بين العرب وإسرائيل داخل هذا الحلف المفترض..أي الصراع حول استقطاب هذا الحليف الجديد..الدور الروسي أساسي ومهم..فالعالم من دون توازن قوى معرض للخراب..حينما سقط الاتحاد السوفياتي تنامت سياسات التدخل بشكل جنوني..ولم يبق سوى القليل لإعلان حرب عالمية كبرى..وهو أمر مستحيل في تقدير القوى العظمى..فضحايا الحرب العالمية يعدون بالملايين وليس بالمئات والآلاف..هنا لا بدّ من التأكيد أنّ بعض الدّول العربية نجحت في الامتحان..وكانت سوريا البلد العربي الذي استطاع أن يلعب دور المحور الرئيسي لتحقيق التحول نحو نظام عالمي جديد..سيحسب لسوريا وللأسد الذي يجب أن يتحول إلى قائد فوق إقليمي نظرا للدور الذي لعبه في عملية التحول العالمي، وبالتالي إرساء عالم متعدد الأقطاب مما يجعل الأسد الذي وصف في الاعلام الرسمي االغارق في الاستبداد والتبعية برجل الحرب والقتل، أجل سيجعل الأسد القائد العربي الذي سيجلب التوازن والسلام للعالم بصموده الذي قهر السياسات البتروكيماوية التي ستدفع الثمن الأكبر في المرحلة الانتقالية من التحول العالمي..اليوم سوريا هي في وضع أكثر أمانا وهي الاختبار الأكبر لنجاح روسيا في تحولها إلى قطب عالمي رسمي..وحتما هذا هدف سيجعل مصير سوريا رهانا لروسيا.. البعض يعتقد أن دور سوريا والأسد ليس أساسيا في إدارة هذه المعركة..وهذا جزء من مفارقة التهوين وعدم الاعتراف..إنّ القوة ليست في نهاية المطاف سوى حسن تدبير العلاقات والأحلاف في عالم الأمبراطوريات العظمى.. |