• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : كان الشمس لن تشرق أبدا .
                          • الكاتب : عقيل هاشم الزبيدي .

كان الشمس لن تشرق أبدا

 

/ تحملني الريح عاليا –تلقي بي قرب الجسر- اسأل الساحرة- ما كانت تلك البلاد—تقول- بلادي وبلاد من وهبتهم كتاب الملك وأنت فيه ميت ومن تشبهه ميت ومن غاب ومن يظهر--/
إلى روح الشاعر كمال سبتي
(1)                                    
في الخارج جو معتم كان الشمس لن تشرق أبدا موجات الضباب المحاصرة ثابتة ثبات الأطلال – الخراب القابع في الفضاء اللانهائي محاصر أيضا بلهب الغربة –على الجدار الطيني صور كالحة الألوان –خيط العنكبوت المرسوم في الركن يغلف صورة شخصية لصاحب المنزل بداخلها صوت مكتوم كان ضغط أنفاس لاتريد أن تفارق الغرفة والتي تكاد  تتفجر جوانبها كلم تهدل نصف بابها القديم –صريرا لايهدا—من خلال النوافذ المعتمة تنفذ خيالات الزقاق بشكل مقلوب فاضح –وفي الزقاق حين يمر المارقين تسقط صورهم على بلورات النافذة تفضح غاياتهم –الفجر يحط على بابه كالعصفور كمال يتفرس في ملامح وجهه أمام المرأة وهو فاقد القدرة تماما عن الحديث عن ترحال ذاته الدائم –كانت نظراته تخترق خيالات عالم السحر حين تهبط من قرارة نفسه –يبصر وجوده أكثر وحدته –الدخان المتخلف –قصائده المهملة –حقيبة سفره---مازال كل شيء ساكن سكون قطعة الثلج حين رمى بها أخر مرة في خاصرة كأسه الساكن فانتزعت كل الصمت المقيت وتشظى زبدا كأنه ضياء ---تسلل خيط رفيع منه ظل يتأمله بشغف وحنين ---
 
(2)                                        
 
دوامات الغيوم الخريفية تتشكل خلسة كأنها أعمدة من الرخام في الق كاسح –أنفاسها الخفية تنذر بعاصفة هوجاء –تلغي كل الزمن الضارب في عمق الذاكرة كأنه حجر مسبحة يضرب الأخر----المدن الحزينة خلف السور فقدت رونقها –المزارات القديمة أسرار صبا ظل كمال يعشقها كلما ضاق صدره عشق امرأة يراها بعينين مكحلتين بالسواد—وخطوط هلامية لجسد ممشوق يخفي هيئته في انسدال ثوبها الفضفاض---وفي صدرها الحنون كانت راحته وأمنه –أمس توعدها تحت شجرة السرو الظليلة كانت تخطوا نحوه ببطء حاملة عشق البيادر وأشعة الشمس تمسد رأسيهما ---كان كمال مشغول يقرا قصائد الغربة لها ولفافة التبغ الملتهبة يغزل دخانها صور العدم القادم – كمال لازال رابضا على العشب يتأمل غياب قرص الشمس –ظل قرص الشمس ينفذ بطيئا من خلال قدميه المتشابكة مع أقدامها كأنهما أسياخا حارة مدسوسة في لهيب الجمر---العرق المتصبب من جبينه يخفي ملامحه الصخرية بكل ضراوة –ظل يتأمل الدروب الهاربة إلى السماء يحصيها لكن دون فائدة هتف مستجيرا بها لكن دائرة التوحد تحاصره جسده المفضوح –--الثديان نافران متمردان والخصر هضيم تنسدل عليه ضفيرتين معقودتين ---لازال كمال يتأمل ذات المنظر وبرأسه تطوف ذات الصور بينما ظل وجهه نفس الوجه ---
 
(3)                                    
 
الباحة الفسيحة ينبثق النخيل من باطنها بكثافة مواظبا على بسط ظلاله بأبدية  على بساط الأرض المؤدي إلى الزقاق –كمال يدخل الباحة بخفة وبقدمين متعثرتين قلقتين بين الأشياء المركونة على الأرض من دون أن ينظر وسط الظلام إلى الأجساد الخشبية متحاشيا هبوط الضوء عليه –جلس في زاوية قصية ودفن وجهه في أعماق سحيقة من الروح حيث الدهاليز التي تتقاطر فيها وجوه أليفة وأخرى تحيله إلى كتلة خائرة –على السطح يتكور الدجاج مستسلما لنعاس قلق – السراج الزيتي يرسل ضوءا مريضا مرتعشا –صور ثابتة ثبوت الصمت –البيت القديم يحتضن الفرن الرمادي في باحته – رائحة الفحم المحترق يثير شجنه –كمال كعادته يتأبط أوراق ديوانه القديم –يقراه على أسماعه وعلى سطح الفرن اللاهب تستسلم كلماته الأبدية السنة النار محاصرة بالجدران المشتعلة  كانت تتوهج بخفة  -ابيض احمر اصفر----صورة خجلة تعكس كل سرمديات العدم –لمناوئة جحافل الوجل المستديم –كأنها ثريات تتأرجح وسط المراكب المنسية  --كمال يستدرك دواوين صباه وصوت الطفولة ووجع أمه وغربة أبيه وأصدقاء الأمس –النار تكفلت بترتيب تلك الفوضى وأعلنت راحت الأشياء وتركت روحها قاصدة بؤرة النور الذي استوطن السماء كله --
(4)                                         
 
بعينين مذبوحتين ووجه يسعفه الرعب جاب كمال الأزقة تلاحقه صرخات أطفال وطرق أبواب البيوت الصغيرة المتلاصقة –عرج على سكن العائلة بين الأنقاض والخرائب انهارت قواه –ذكريات الصبا –لعبه –أصدقائه –وقد آوت نشيجها بقايا الجدران المرتعشة بزفرات الموت – يوم توفى أبوه ظلوا ينتظرون وصوله –أخروا تحرك الجنازة إلى أن يصل –اكتشفوا أن أحدا منهم لا يعرف عنوانه –كمال بكى مثلما لم يبكي في حياته –احدهم--/كان من الواجب يا أستاذ  أن تترك لنا عنوانك/ -أجاب –السفر أبدا لم يكن يهمني بقدر ما يجعلني حرا أهيم مع أسراب الطيور –أدمعت عيناه -/سعود / ولدي الوحيد –يوما ما سأموت وأنت بطبعك لاتتحمل نتيجة ما سيقال لو ---سأموت ياابني قبل آن اهرى لك وجه حتى –كانت العائلة ملمومة في فناء الدار وكان صخبها يعلو ويعلو في تلك الأمسية---توسد كمال على اللوح عاريا جوار أبيه –الكل ينظر أليه يتقدمهم سعود ليلقي عليه النظرة الخيرة ويغلق عينية  حال لونه وكأنه ممسوخ من زمن الرواية الأولى –اندفعت أنفاسه بشدة كأنها زبدا قد لفظه البحر في هياجه المفاجئ –
 
                                             
 
(5)                                        
 
عندما يلح صهيل الذكرى وينتفض في شعاب القلب والعقل –نتحرك في الزمان والمكان ونقطع مسافات طويلة كانت قد فرقت بيننا وبين من نحب –التقيته مصادفة مددت له يدي لأصافحه واحتضنه قرب زهرة النارنج عند المساء –أوقدنا الشموع وكأننا في ضريح ولي صالح نتبرك ببركته—حاولت جاهدا أن اذكره بي وأنقذ الموقف وبلباقة ذكرته بأيام الدراسة –ابتسم وهو يداري غفلته –أستاذي أنا هو تلميذك إبراهيم –أطبق صامتا –يحرك رأسه وعادته يقلب كتاب شعرا في يده وقد أفلتت صفحاته بسرعة –دس بصره بين دفتي كتابه   وترك لي دخان سيكاره يجري وراء موجات الغيم الغاربة –قال لي لاعليك سأتذكرك –وتركته يقرا لي خاتمة ديوانه الجديد ---قاطعته –ها –ها-الم تذكرني –أجاب  -وكيف لي أتذكرك أيها الصبي المشاكس الصغير المأخوذ بدهشة الكون المتخفي في أعماقي السحيقة –كيف لي أن استعيد تلك الذاكرة –كانت كل دواخلي قد بدأت تنتفض من جديد كما لو أن دماء الشمس قد سرت في عروقي بدبيب حارق ---تقدم نحوي وجهه الشاحب لايزال يفترسني أرخى رأسه فوق كتفي ثم خطى يخبط الأرض بقدميه العاريتين فتح عينيه بسعة سحب نفسا عميقا جدا ودون أن يلتفت إلى الوراء أدرك هروب حبر السحب الرمادية ولكن نظراته ظلت تغوص في –ساد صمت طويل نهض واقفا مثل قافلة كبيرة من جمال مذعورة تهرول بعجل -----                                          
 
 
(6)                                      
  
كانت الفكرة غريبة نوعا ما – غير أن ذلك كان ضروريا لاستكمال قصائده مهملة تخلصا من ذلك الإلحاح النفسي الغريب لدى انتهائه من وضع اللمسات الأخيرة لديوان العائلة – في دروب الغربة ينسلخ الحلم في تباينات مختلفة –تباينات هائلة المساحة براقة الشكل لكنها فاقدة الحقيقة –ناقوس المحطة الأخيرة يعلن الوصول يهبط كمال متثاقلا الشتاء بانتظاره –خال الوفاض لقد باع كل شيء في المزاد –في الميدان العام كانت حركة ليالي الشتاء مخمورة بمريدها ---أصدقاء يفترشون البسطات –جنود مرتزقة –مواصلات المترو ترتفع وتهبط بالتعاقب ---كان على كمال أن ينتظر وان يبحث عن منقذ يجمع أشلاءه المزروعة على ضفتي دجلة ليلة رأس السنة –كان مصرا أن يلاقيه ---ربما فقد بطاقته الشخصية –ربما تزوجته العزلة –في الحلم قابل أمه ترقد بسلام قبلها وظل ينثر القرنفل فوقها ----المنقذ يبحث عنه   --وقد أضاع الكثير من الوقت  من اجله ---وما أن رآه يفتح الباب حتى عانقه بترحاب جم كأنه لم يقابله من قبل –من يدري ربما كان يعاني وحشة خانقة وهو يتوق لمحادثته –وللوهلة الأولى شمم منه رائحة الشراب الرخيص الذي اعتاد تناوله وهي تفوح من أنفاسه القريبة من وجهه---
 
(7)                                        
 
في المساء أخذت ظلمة الليل تطفئ جذوة المغيب بعد قليل سوف تخلو الدروب من المارة –اصفق الباب خلفه في يأس مفجع—بعد أن تناهى إلى مسمعه صرير السرير تأكد مرة أخرى من إيصاد الباب سار كالمخدر نحو غرفة النوم والسراج يكاد أن يتهاوى من يده ---طابور طويل من الذكريات المبعثرة في النسيان ظلت تلامس ذاكرته ألخدره –كان لحركة أصابعه المرتعشة ووجهه المصفر قراءة لمغامرة عاطفية ألمت به –ازرقاق شفتيه وتعرق جبينه –دليلا كافيا لفضح حبه المقهور –ومن دون أن يفكر بالتمرد على ذهوله المشوب بالفرح –داهمته نوبة إحساس عاصف بالوحدة تطاير على أثرها محتوى دواخله من الطمأنينة وقد عاوده رعب الرحيل ---ضجت من حوله نداءات القلب المؤجلة –كان قد فكر بلا جدوى ---بإيهام نفسه بان الدروب القصيرة والملتوية للدرابين تضطجع نساء على مسالخ الذاكرة---نساء ملفوفات بالسواد الكالح لعباءات مضى عليها زمن طويل---في ذلك المساء كانت لديه رغبة حد الثمالة –تهويمات مواتيه متجذرة لمعاشرة ملكات الأندلس وهو يندلق على فروج النساء صريع الغواية –يهيم في الأزقة---يتساقط وجهه في الطرقات فيما يحاول لملمة أخر الأشياء ----  
 
(8)                                  
 
عبارات العزاء التي لم تفلح في مواراة التساؤل المزروع على الجدران – ما زالت تتوهج رغم قدم تلك الحروب ورغم انطفاء الأعوام –انسحب كمال محفوف بالألم في محاولة للتناسي –وجوه الحرب مشرعة تراقب بحذر – والسماء تنذر بهلاك مجهول---الكل يتطلع إلى المجهول –أفواه تصرخ المغفرة –المغفرة –اللغط يقطع أصال الصمت  --كمال يتجاوز شوارع الضجيج إلى المطار حيث الأنوار الزرق وعلى جانبي الطريق تنفذ روائح نتنه –أنفاس الليل الساخنة تنثر رذاذ البارود على رؤوس الشوارع ما بعد منتصف الليل –المنازل الملفوفة بالسكون قد أعيتها أغنيات الفجر –كمال يمضي بلا ملجأ رغم غموض الحرب ودوي المدافع وأصوات الانفجارات وتناثر الشظايا والجثث---المنية رياح تطوي الزغاريد وطلقات الرصاص تغلق مسامع طبقات الظلام الحالكة –كان هذا كافيا لانتهاك خلوة الشعراء—وافتضاح أسرارهم  وفي الفضاء المقابل أشلاء قصادهم تهرب في فزع جنوني مخيف ---كمال يضيع في رهبة الليل –وعند أخر كاس لايعرف كم مضى منذ على وقوفه في هذا المكان المندرس –أرقام حسابية لايمكن التكهن بها –لاكنها مقضيه –من يدري ربما لو مد البصر عبر دجلة سيلقى طفولته   --صباه – نساءه تسال عبه ليس معقولا إن ما انقضى ضاع تماما لابد من وجود شاعر أخر في مكان ما –
 
9                                       
ركن قصي بعيد عن الآخرين – كمال يجلس القرفصاء يتأبط جذاذات ورق صفراء—تاركا رأسه هابطا باتجاه الأرض متشاغلا بإعقاب السكائر والأوراق المبعثرة –لحظة وينقل ببصره إلى سقف يتداعى إلى مسمعه صوت سجانه—نفذ ببصره إلى كوة خاوية حلق عاليا بين أسراب الطيور التي تملكت السماء من دون عائق ---تمتد إليه مخالب مقززة تلتف حول عنقه وتهبط به الأرض –خر ساقطا-امتلأت سراديب ضياعه بالوحدة –تقطر في جوفه غربة أخرى –فتغادره أغلاله السورة –المركبات الرمادية تحيط بالمكان تغلق الطرق –الجنود يعتمرون خوذهم المكسوة بشباك التمويه ---في المقهى هبط درويش يقرا الطالع –كمال يستبد به الفضول يبسط كفه أمام الدرويش  غير متوجس واثقا من قدميه الداميتين وعينيه الجاحظتين –ذاك كان رعب ممزوج بكآبة لذيذة ---الدرويش يبتسم ويطبق صامتا –يدس كفه في فتحة داخل كلابيته السمراء ليخرج فص فيروزي  ويعلقه في رقبته بهدوء –ويربت على كتفه-- الأزقة المؤدية إلى السراديب تقتلع نفسها من جذورها وتحدودب مهرولة بعيدا عن الأفق نحو النهايات على منصة التحريق سيخلد ثانية –ربما طبع اثر قدميه على الطين –وربما يدرك المغول تحتل بغداد وتجتاح الشام في زمن لايسمع وقع سنابك الجيل أو قرع القنا ---
 
10                                          
علي إذن أن أتخلص من ذكريات الماضي في اسبانيا, وان ابحث لنفسي عن مصاحبات جديدة ,لااريد المزيد من اللعانات كفاني غربة لنفسي وعن أمي , كلما اشتقت إلى وطني عاودت قراءة قصائدي ورفقة صبايا اسبانيا الجميلات ..... الحنين إلى قريته ونفض الغبار عن لافتة مدرسته القديمة يعود به إلى أيام الصبا ... آه ما أقسى استرجاع الطفولة , يفرح كمال لمجيء يوم الجمعة ... على السطوح هدى تسقى عطش أصص الورد وتلاعب أعشاش البلابل –ضحكتها لاستطيع أي قوة في الكون محو أثرها من ذاكرته لذا كان إحساسه يختلط بالمرارة وخيبة الأمل لكونه لم يكن وفيا للوعد الذي قطعه إليها  --لماذا لم يخبرها  --انه يحب الأطفال منها –لايهم –بنتا كانت آم صبي ---ابتسم تلمس في الحلم طفله الوحيد غير انه لم يشعر بذلك العبق الطفو لي الذي اعتاد أن بتشممه في عنقه امسك بكتفيه وراح يمازحه ويسائله عن سبب تركه حضن أمه الساعة –تلمس جسد الطفل فلم يعثر على حياة ونبضات قلبه ---ابتعد كمال فزعا فلم يبق من ضوء المكان سوى نضح يتبدد --- 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=738
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 10 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28