• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الربيع الأعرابي وحرية الآبق .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

الربيع الأعرابي وحرية الآبق

الإقليم يتهستر..العسكرة باتت مفتاحا لمن لا مفتاح له..السياسات تنفضح لأنّها مورست سفاحا منذ الاستقلالات التي ضحكت على ذقون الملأ والعامة سواء بسواء، برشوة مزوّرة إسمها الدولة الوطنية القائمة على لهيب الشرعية المفقودة..اليوم صغار الأمم تعيدنا إلى جبروت النّازية..حين تصبح الحرب هواية من خلد للهزيمة دهرا فاعلم أنّ الأمر وراءه رهاب الموت السياسي..لا قيمة للكائن العربي في لعبة الموت تلك..والإرهاب هو الوسيلة التي بها يتم الإفلات من العقاب الدّولي..جماعات وظيفية للاستعمال فقط..وتلك قصّة باتت واضحة للعيان..اليوم البلاد العربية تخوض حربا رعناء ليس فقط دفاعا عن أوهام الشرعية ومكتسبات التموضع الإقليمي..هذا الأخير ، أي التموضع الإقليمي، تفرضه الشروط الجغرافية ومقدّرات الأمم وليس رهين رشوة أو تحالف يفتقر إلى أملاح التاريخ المعدنية ونكهة الحضارة المعتقة..فالذين راهنوا على ما أسمّيه بالمحاور المفبركة سيجدون حقائق التاريخ والجغرافيا صلبة أمامهم مما يعني أنّ نهاية المحاور المفبركة هو النزوع التدريجي نحو المروق..كل هذا هو نتاج طبيعي لما هو ليس طبيعيا برسم التاريخ والجغرافيا..تدفع المنطقة فاتورة اعتلالها السياسي..وهو الاعتلال الذي أطلقوا عليه في لحظة من البله السياسي عنوان: الاعتدال..مع أنّ الاعتدال ليس شأنا للدّول الفاقدة للسيادة واستقلالية القرار..المال لا يمكنه أن يشتري الحقيقة إلى الأبد..وهناك تبدو المسألة في غاية السخف حينما تعلّق الجميع وتحت سمع وإشراف الرجعية المتنكّرة للإنسان والدستور بشعار الحريّة..كانت تلك أسخف لحظة في تاريخ جاهليتنا السياسية المعاصرة..كنّا مثل عبيد ييئسوا من إنسانيتهم وعلّقوا المشكلة العربية على الحرية من دون أن يكتسبوا الشجاعة لربط تموضعهم المتخلّف بما فيه فقدان الحرية نفسها بالاستعمار..استصغر صغارنا خطر الاستعمار بألوان طيفه وتغلغله المخاتل في أنسجة اجتماعنا..لقد بات جزء من فعالية اجتماعنا وفاعلا في صلب عصبياتنا ومعاشنا..وهكذا أحبّ أن يركب حتى زفير ثوارنا الذين أفقدهم الاستبداد الموصول بسادته في المركز الغربي ليلغوا من جدول أعمالهم التاريخية النضال من أجل الكرامة..ولعلّ سبب هذا الحديث هو ورقة قدّمها المنصف المرزوقي تحت عنوان: التنوير وقضايا الحرّية..وأنا في الخرطوم وفي موضوع كان يفترض أن يكون بعيدا عن عجر وبجر السياسوية التي أنتجت لنا في محيطنا العربي ألوانا من الهستريا والبلاهة..كنت أتمنّى لو حضر المنصف المرزوقي معنا لأهدم نظام خطابه الكيدي..ولكن وليس لي إلا أن أقول: ولكن..قرأ الورقة عنه حرفوش زعم أنه مختص في تاريخ الأفكار، مع أنّي سعيت مرارا لكي أنبّهه إلى أنّه أجهل الناس بأقل الأفكار..كان الحرفوش الأيديولوجي الذي لم أعلم حتى الآن بوصلته الفكرلوجية يواجه كل فكرة أدافع بها عن الممانعة بأنّني لست موضوعيا وبأنني أيديولوجي..وهكذا اهتدى الألعبان إلى أن يكرر هذا الغباء مرارا مستندا إلى رباطة جأشي ـ وطولة البال ـ، ومنه فهمت أن تعريفه للموضوعية أن يأتي قولك مطابقا لقوله، كما أن تعريفه للأيديولوجيا بات هو أن لا يكون لك رأي مخالف..وتلك هي الديكتاتورية بلحمها وعظمها التي تنكّر لها عبيد برنار هنري ليفي..بما أنّ رأيي عبّرت عنه أمام كبار الأقوام فلم أجد ما يمنعني أن اعبر عنه أمام صغار الأقزام..علما أنّ أسهل شيئ في مزاجي هو أن أقلب الطاولة على المتعجرفين.. جاء في الورقة التي بعثها المنصف المرزوقي الذي اعتذر بسبب انتدابه كمراقب في الانتخابات بجزر القمر الكثير من الإحالات على آباء التنوير، وتعاطى مع تلك المفاهيم تعاطيا أجربا..ثم ما لبث أن ضرب مثلا سلبيا ببشار الأسد وسوريا في موضوع غير ذي صلة..كنت مضطرا أن أردّ ردّا جميلا..ولكن بدا لي أنّ الرد غير المباشر والمحترف لن يفهمه رعاع قوم يجهلون تاريخ الأفكار وسياقاتها..بعد أن شكرت الجميع قلت للمنصف غير المنصف ولقارئ فنجانه المعتوه بأنّ هناك أفكارا مهمة وردت في الورقة، ولكن علينا أن ندرك وقد استند المنصف المرزوقي على قول كانط وموقفه التنويري في رسالة التنوير، كان عليه أن يدرك بأن كانط كان ضدّ الثورة..ومثله مثل صاحب لواياثان هو لا يعطي الحق للشعب في أن ينتهك العقد الاجتماعي..نعم كنت أحب أن أظهر السفاهة الفلسفية التي تخلط بين السياقات والأفكار وبالتالي الضحك الفلسفي على المرزوقي الأبله..ثم قلت كان على المنصف الذي تقلد منصب رئيسا لدولة أن يتجنّب ذكر الأسماء ـ الأسد ـ لأنّ الأمر موضع اختلاف على الأقل..وكنت أعتقد انهم يفهمون ما أعني..فالأنظار صعبة حينما تكون وحدك في بحر من ضحايا الدعاية..ثم ـ وهذا هو بيت القصيد ـ قلت إنّ الحرية وحدها لا تكفي من دون قيد..والقيد هنا ليس المانع لها وإنما الممانع بها، والمانع من جعلها لعبة خارج الضمير ..قلت وأنا أستهدف رجّ مقولة المنصف المرزوقي عن الحرية، أنّ الحرية قد تكون كريمة وقد تكون سافلة..بينما الكريم لا يمكن إلا أن يكون حرّا..فالكرامة هي التي تجعلني لا أخضع لإشراف الرجعية التي لا عهد لها بالدستور والحريات وحقوق الإنسان ثم أفتل عضلاتي الثورية على الغير..قلت: إنّهم لن يستطيعوا قول هذه الحقيقة لأنهم ليسوا أحرارا..أكرر مرّة أخرى أنّني كنت جدّا متأسّفا لأن المنصف المرزوقي لم يكن حاضرا بشخصه ليكون للمقام مقال، ولكن ازدادت معاناة الوعي حينما قرئت من قبل حرفوش ضلالي لا يميّز بين الناقة والجمل ولكنه يكثر من الزعيق الثوروي الذي أكسبه الكثير من المصالح التي ضيّعناها ونحن فرحون أمام هدير تحرر كاذب يعجب النوكى نباته..ربيع كرّس ازدواجية المعايير والتسامح مع قتلة الإنسان ومحاور الرجعية.. نعم، إنهم ليسوا أحرارا لقول هذه الحقيقة.. ليست الحرية أن تتهجّى مفردات في تاريخ مائع من الأفكار..بل المطلوب هو أن تكون حرّا في إعلان الموقف من سياسات هدر الكرامة..المنصف المرزوقي حرفوش سياسي ـ أقولها وأنا بذلك زعيم ـ مرّروا به مرحلة من اللعب السياسوي في تونس التي لا زالت حتى اليوم تعاني من الارتباك..لقد حاولوا أن يصوروا المنصف كبطل تحرري وكأنه فولتر..وشيء مؤلم هذا..أما الحرفوش الذي قرأ فنجانه فقد أخبرني ذات مرة بأن المرزوقي يشبه عمر بن الخطاب.. شيء مضحك بالفعل.. واهكذا بتنا أمام شكل من أشكال الثورة الفرنسية.. ثورة جاءت بالسبسي وهو من أركان النظام القديم..بينما الغنوشي الذي كان متحمّسا للإطاحة بسوريا يقول اليوم لا نريد تدخلا في ليبيا، لأنه هو هو نفسه موقف قطر وتركيا دفاعا عن أصدقائهم في طرابلس..أتساءل حتى اليوم: ما هي حكاية هذا الربيع الأهبل الذي صغّر الكبار وكبّر الصغار؟..أما المنصف المرزوقي فهو أصغر من أن يتطاول على بشّار الأسد..ذلك لأنّ الدور التاريخي لهذا الزعيم القومي فاق الخيال..وهو تحدّي يقتضي رجالا على قدر من الصلابة والوعي..صفات للقادة التاريخيين لا يعرفها حرافيش الزمن المرّ..هنا فقط نتعلم معنى التحرر..لقد ألهم الربيع الأعرابي دهاقنته الكثير من الوقاحة..والكثير من العبث بالمفاهيم الكبرى..ومن ذلك عبثهم بمعنى الحرّية بينما هم جميعا لم يخرجوا من بيت الطاعة للرجعية التي أشرفت بالإعلام والمال والعلائق الاستخبارية على كلّ مشاريعهم المشبوهة والتي لا زالت تهدر كرامتنا العربية..وتنتج لنا دجّالين ومدمني البترودولار..هو إذن طبيب ليس مداويا حتى للكلوم..هو دجّال صغير في مسلسل من راكبي أمواج ثورات جرباء اختاروا لها من كلّ قبيلة أجربها ومن كل ثقافة أسخفها..يحسبون أنّهم إن ضحكوا على جماهير عاجزة عن التمييز بين الحرية لا بشرط والحرية بشرط الكرامة، فسوف يمررون أمامنا هذا البؤس الأنطوميتري لثورات لا تملك الحرية ولا الجرأة أن تقول لا للاحتلال والإمبريالية ولصنّاع البؤس الثالثي..إنّ قادة التٌكتُك الثوروي العربي هم أصغر من أن يركبوا تاريخ ثورة تاريخانية لا تتعايش مع بنية عميقة للرجعية والإمبريالية وفلسفة موت الإنسان...
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=75129
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 02 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29