بسم الله الرحمن الرحيم
من المعجزات المهمة المذكورة في القرآن الكريم هي معجزة انشقاق القمر ولأهميتها فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم ، قال تعالى: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ ، وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)). فالآية الكريمة لم تذكر من الذي شق القمر وواضح استغنائها عن ذكر ذلك لأن الله سبحانه هو خالق كل شيء ، وشقّ القمر هو شيء من الاشياء ، فمعجزة شق القمر هي من فعل الله سبحانه وتعالى بلا ريب.
وفيما يلي بعض الروايات نذكرها من باب التأييد - لا من باب الاستدلال - في عدم ودود "قوة اعجازية" عند المعصوم وانما المعجزة تحدث بالدعاء ، وربما بعض ما سنذكره من روايات غير معتبر سنداً ، ولكن مضمونها موافق لآيات الكتاب العزيز.
ـ قال أبو جعفر (محمد بن سليمان) : حدثنا أحمد بن عبدان البرذعي قال : حدثنا سهل بن شقير قال : حدثنا موسى بن عبد ربه قال : (قال) : علي (عليه السلام) : أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله أنا ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر ثم سعد بن أبي وقاص ، كنا نعبد الله في شعاب مكة ب " أجياد " وكان البيت في أيدي المشركين فأجمع أبو جهل بن هشام وأبو سفيان بن حرب وفراعنة قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا : يا محمد الست تدعي أنك نبي الله وأنك رسول الله وأن كل ما سألت الله من شئ فعل لك ! فقال النبي صلى وآله وسلم : ليس بالادعاء أقول بل الحقيقة أقول : أنا رسول الله رب العالمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم . فقال أبو جهل : لا نحتاج أن يكون بيننا قيل ولا قال ولكن إذا استدار القمر فصار مستديرا فأمر القمر فينشق نصفين فيصير نصفه على سطح مكة ونصفه على جبل أبي قبيس وتدعو شجرة أم غيلان من الجبل فيأتيك نصفها ويبقي نصفها فإذا فعلت ذلك آمنا بك من غير أن يكون بينك وبيننا سيف ولا قتال . فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : نعم - وأنسئ أن يقول " إن شاء الله " - فانتظر جبريل عليه السلام عشرة أيام ثم عشرين يوما ثم ثلاثين يوما لم يأته فقال مشركوا قريش : إن الذي كان يأتي محمدا قد شنأه وقلاه ؟ ؟ فلما كان ليلة الأربعين لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسوح - وهو حجة لمن لبس في هذه الأمة المسوح - ودخل إلى مصلاه ودعا فهبط عليه جبريل فقال : يا محمد أقرأه: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله). (و) اقرأ (أيضا) (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى). مر القمر فلينشق فيكون نصفه على سطح مكة ويكون نصفه على (جبل) أبي قبيس وادع الشجرة فيأتيك نصفها ويبقى نصفها في موضعه . قال : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبي جهل ومن معه فلما حضروا أمر القمر فانشق نصفين فصار نصفه على سطح مكة وصار نصفه على أبي قبيس . ودعا (أيضاً) الشجرة فأتى نصفها وبقي نصفها في موضعه . فلما نظر أبو جهل ومن معه إلى تلك (المعجزة) قالوا : هذا سحر مستمر من سحر محمد . فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (اقتربت الساعة وانشق القمر وان يروا آية يعرضوا ويقولوا : سحر مستمر)[1].
وربما يقال ان ما في الرواية (مر القمر) يعني ان الله سبحانه اقدره على شق القمر فامره فانشق ! ويرد هذا انه خلاف الظاهر ، ولا دليل على ان للمعصوم "قوة اعجازية" بل هو امر الله الحقيقي وفعل النبي الظاهري كما بيناه في الصفحات السابقة.
وقال الفيض الكاشاني: (في المجمع عن ابن عباس اجتمع المشركون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إن فعلت تؤمنون قالوا نعم وكانت ليلة بدر فسأل ربه أن يعطيه ما قالوا فانشق القمر فرقتين ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ينادي يا فلان يا فلان اشهدوا)[2].
قال ابن كثير: (قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، والعاص بن هشام ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب [ بن أسد بن عبد العزى ] ، وزمعة بن الأسود ، والنضر بن الحارث ، ونظراؤهم [ كثير ]. فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن فعلت تؤمنوا ؟ " قالوا نعم ! وكانت ليلة بدر - فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا ، فأمسى القمر قد سلب نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا . ثم قال أبو نعيم . وحدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا الحسن بن العباس الرازي ، عن الهيثم بن العمان ، حدثنا إسماعيل بن زياد ، عن ابن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس . قال : انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله ؟ فهبط جبرائيل فقال يا محمد قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها . فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة ، فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ، ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا . فقالوا : يا محمد ما هذا إلا سحر واهب فأنزل الله : ( اقتربت الساعة وانشق القمر ) )[3].
قال السيوطي: (وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس في قوله اقتربت الساعة وانشق القمر قال اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاصي بن وائل والعاصي بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحرث فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ان كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبى قبيس ونصفا على قعيقعان فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ان فعلت تؤمنوا قالوا نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبى قبيس ونصفا على قعيقعان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم اشهدوا.
وأخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هل من آية نعرف بها انك رسول الله فهبط جبريل فقال يا محمد قل يا أهل مكة ان تختلفوا هذه الليلة فسترون آية فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبريل فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا يا محمد ما هذا الا سحر ذاهب فأنزل الله اقتربت الساعة وانشق القمر)[4].
قال السيد الطباطبائي: (أقول : وقد روي انشقاق القمر بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة وهم أنس ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وجبير بن مطعم ، وابن عباس ، وحذيفة بن اليمان ، وعد في روح المعاني ممن روي عنه الحديث من الصحابة عليا صلى الله عليه وآله وسلم ثم نقل عن السيد الشريف في شرح المواقف وعن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمتري في تواتره)[5].
فهذه الرواية صريحة ان انشقاق القمر لم يكن من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) بل هو من قبل الله سبحانه ولم تحصل المعجزة الا بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله) وبعدما اخبر جبريل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) بموعد حدوث تلك المعجزة. اي ان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتم تفويضه بفعل المعجزات ولا ولاية تكوينية له من خلال "قوى اعجازية" مزعومة ، بل تحصل المعجزة بأمر الله سبحانه.
وربما يقال انه ورد في اخبار اخرة كخبر البحار ان الله امر كل شيء بطاعتك ، وفي خبر اخر عن مناقب ابن شهراشوب عن الامام الحسين (عليه السلام) انه قال: ما خلق الله شيئا الا وقد امره بالطاعة لنا , وهذه الاخبار بغض النظزر عن مدى اعتبارها وتدقيق اسانيدها قد تفيد ان الكائنات في طاعة المعصومين لكنها لا تفيد بان المعصومين يمتلكون "قوى اعجازية" !
اسناد فعل المعجزة الى الانبياء مجازي ام حقيقي؟
قال السيد الخوئي (قده): (وأما الولاية التكوينية ، فهي التصرف التكويني بالمخلوقات انسانا كان أو غيره ، ويدل عليها آيات منها : قوله تعالى : ( وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ، فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ، فغلبوا مناك وانقلبوا صاغرين ) ومنها : قوله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ، إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ، فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ، وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ، وإذ تخرج الموتى بإذني . . . الخ ) ) حيث أسند الله الفعل إلى الأنبياء ، وغير ذلك من الآيات)[6]. ولكن هل ان اسناد الفعل اليهم (عليهم السلام) هو اسناد حقيقي ام مجازي ؟
نعم نُقِرُّ ان للانبياء والاوصياء (عليهم السلام) قدرة على التصرف التكويني بالمخلوقات انساناً كان أو غيره ، ولكن ما هو سبيل ذلك التصرف؟ هل ان التصرف التكويني المذكور هو سبيل التفويض والولاية التكوينية ام سبيل الدعاء؟
الايات الكريمة والاحاديث التي اوردناها تبين ان ذلك التصرف التكويني انما يتم من خلال الدعاء حصراً حيث لم تشر الى اي تفويض لهم (عليهم السلام) بإحداث اي معجزة او كرامة ، كما لم تنص على وجود "قوى اعجازية" لديهم.
واما الاية الكريمة التي ذكرها وهي قوله تعالى: ((وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك ، فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ، فغلبوا مناك وانقلبوا صاغرين)) فتبين ان فعل المعجزة انما تم من قبل الله سبحانه وان موسى (عليه السلام) فقط مأمور بإلقاء العصا دون ان يكون له دور آخر في احداث المعجزة التي حدثت من قبل الله سبحانه ، كما هو حال سائر المعجزات.
واما الآية الاخرى التي ذكرها السيد الخوئي (رضوان الله عليه) فتتعلق بالمسيح (عليه السلام) ، قوله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ، إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني ، فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني ، وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ، وإذ تخرج الموتى بإذني . . . الخ ) ) ، قال: (حيث أسند الله الفعل إلى الأنبياء) وهو صحيح ولكن هو اسناد مجازي وليس حقيقي ، فالمعجزة تحدث على يد النبي (عليه السلام) ولكن بأمر الله تعالى وليس بتفويض النبي (عليه السلام) لفعلها عن طؤيق "قوى اعجازية" مزعومة. وقد ذكرنا في سطور ماضية رواية الكافي التي توضح ان احياء المسيح (عليه السلام) للموتى كان عن طريق الدعاء ، وفيها: (فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى عليه السلام ثم دعا الله تعالى فانفرج القبر وخرج ابنها حياً).
وكذلك قوله تعالى عن انزال المائدة ((قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) ، ولو كانت لعيسى (عليه السلام) قدرة تكوينية بغير الدعاء لاستخدمها مباشرة لانزال المائدة بدلاً من الدعاء.
ونقرأ أيضاً جواباً للسيد الخوئي (رضوان الله عليه) فيه تأييد لما ذهبنا اليه ، فقد سُئِلَ التالي: ( (947) فإنّ المنسوب إلى سماحتكم أنّكم تعتقدون بأنّ علم النبي والأئمة الهداة ( عليهم السّلام ) علم حضوري لا حصولي ، وأنّهم محيطون بكل ما يعلمه الله ( سبحانه وتعالى ) : وأنّكم قلتم إنّ علمهم ( عليهم السّلام ) علم حضور وإحاطة لا علم حصول وإخبار . كما أنّه نسب إليكم القول بأنّهم ( عليهم السّلام ) يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ، وكل ذلك بالقدرة الموجودة فيهم هم على فعل هذه الأشياء ، ومعنى هذا بأنّ المعاجز ليست من فعل الله الذي يجريها على أيديهم ، بل أنّه ( سبحانه وتعالى ) جعلهم الفاعلين لكل ما ذكرناه ، فهل هذا الكلام صحيح ؟ وما مدى صحة ما نسب إليكم ؟) فكان جوابه: (باسمه تعالى : هذه النسبة غير صحيحة ، نحن نعتقد إجمالًا بأنّهم عالمون بما علَّمهم الله تعالى تفضلًا عليهم وتكرّماً لهم وإجابةً لما يحتاج النّاس إليه ولهم الولاية التكوينية إجمالًا وهم فاعلون بإذن الله التكويني فيما هو صلاح عندهم والله هو الخالق الرازق المحيي المميت ، والله العالم)[7]. وهذا الجواب يبين بوضوح معارضة السيد الخوئي لمن يقول بتفويض الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) التصرف التكويني ، ورفض ما ورد في السؤال حول (القدرة الموجودة فيهم هم على فعل هذه الأشياء) وان كل شيء هو بيد الله سبحانه ويتم بإذنه.
كلام السيد الحائري حول التفويض والولاية التكوينية
قال السيد كاظم الحائري: (فقد يكون المراد بالولاية التكوينية أنّ اللّه عز وجل فوض العالم وما يجري فيه الى الإمام عليه السلام ، فالإمام هو الذي يُسيّر الأحداث، فإن كان هذا هو مقصود القائل بالولاية التكوينية، فعندئذٍ نقول : إنّ هذا ينقسم الى قسمين أو يحتمل فيه احتمالان، أمّا أن يفترض أصحاب هذا الرأي أنّ الإمام يسيّر الأحداث وفق عللها الغائبة عنّا والتي عرّفها له اللّه تبارك وتعالى، فالإمام وفق العلل يسيّر الأحداث، وأمّا أن يفترض - ما يشبه مقولة المفوّضة - أنّ اللّه تبارك وتعالى كأنّما فوض الاُمور إليهم، وبدلاً عن إرادة اللّه « إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون » تحلّ إرادة الأئمة عليهم السلام ويقع ما يريدون فهم الذين يريدون الحياة لمن يحيى ويريدون الموت لمن يموت وهكذا، وبالإرادة مباشرة يفعل الإمام ما يريد. فإن فُرض الأوّل وهو أنّ اللّه تبارك وتعالى أرشد الأئمة عليهم السلام الى علل الحوادث والأحداث فيتصرفون في العالم وفق تحريك العلل، فهذا كلام فى الوقت الذي لم أجد دليلاً عليه لا في كتاب ولا في سنّة، لا يوجد دليل مخالف ومعارض له فى الكتاب والسنّة، ولا توجد لدينا ضرورة دينية تمنع عن القول بذلك[8]. أمّا لو قصدوا المعنى الثاني وهو أنّ اللّه فوض إليهم الاُمور، فكما أنّ اللّه تبارك وتعالى يفعل ما يريد وما يشاء وبإرادته يُسير العالم كذلك نفترض الإمام عليه السلام ، وكأنّه يحلّ محلّ اللّه تبارك وتعالى، وبإذنه سبحانه ومشيئته، فهذا فى روحه يرجع الى التفويض، أو الى شق من شقوق التفويض، الذي ننكره كما ننكر الجبر ونقول، لا جبر ولا تفويض. انّ التفويض له معنيان وشقان، فتارة يُفترض أنّ اللّه تعالى فوض العالم الى عباده وهو كأنّما ترك العالم، وعبادُه يفعلون ما يريدون، و اُخرى يفترض: أنّ اللّه تبارك وتعالى فوض العالم الى قسم من عباده فقط وهم المعصومون عليهم السلام ، وهذا التفويض بشقيه يخالف ظاهر الآيات المباركات التي تسند الاُمور - دائماً ومباشرة - الى اللّه تعالى كما في الآيات التي أشرنا إليها منها قوله تعالى : « ألا له الخلق والأمر » وقوله تعالى « إنّ اللّه هو الرزّاق » وقوله تعالى « اللّه يتوفى الأنفس حين موتها » وقوله تعالى « لن يصيبنا إلّا ما كتب اللّه لنا » وما شابه ذلك. كما أنّ هناك آيات اُخرى تقبل الحمل على نفس المعنى الذي ندّعيه من قبيل قوله تعالى بالنسبة للمسيح عليه السلام : (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني) ، فالمقطع الأوّل، « وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني » هو من القسم الذي ذكرناه من أنّ فعل البشر ينسبه الى اللّه بالمعنى الذي شرحناه، فقد خلق من الطين كهيئة الطير - وكل إنسان يستطيع أن يخلق الطين كهيئة الطير -، وهو فعل البشر ومع ذلك فإنّ اللّه تعالى يقول : « بإذني » وكل ما قام به عيسى عليه السلام هو بإذن اللّه، من إبراء الأكمه والأبرص وإخراج الموتى وغير ذلك، كما أنّ الآية الاُخرى تتحدث عن لسان عيسى عليه السلام: ( أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللّه واُبري الأكمه والأبرص واُحيي الموتى بإذن اللّه واُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم). إن كلمة بإذني أو كلمة بإذن اللّه فى هذه الآيات المباركات هي على منوال الآيه الاُخرى التي تقول: ( وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه )، الذي يعني أنّ الموت من قبل اللّه تعالى، فهو الذي يميت النفس، وهو الذي يميت الإنسان، (وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه)، وكذلك في الآيات الماضية حينما يقول «اُبرىء الأكمه والأبرص» و « اُحيي الموتى بإذن اللّه » أي أنّ اللّه تعالى يُبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وما على عيسى عليه السلام إلّا أن يطلب من اللّه تبارك وتعالى أن يُيريء ويحيي، وعندها يُيريء ويحيي سبحانه وتعالى.
روايات إثبات الولاية التكوينية للأئمة :
أمّا الروايات التي قد يتسمك بها لإثبات الولاية التكوينية للأئمة عليهم السلام فهي من قبيل ما ورد فى زيارة الجامعة الكبيرة كقوله عليه السلام : « بكم فتح اللّه وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه وبكم ينفّس ألهم... »، قد يفترض أنّ هذا يعني الولاية التكوينية، أي أنّ الأئمة هم الذين يديرون الأرض والسماء والغيث وما شابه، وكذلك الرواية المعروفة أو الحديث القدسي المعروف على الألسن، « لولاك لما خلقت الأفلاك »، ومنها الروايات الواردة بعنوان « لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها »، فيقال إنّ حياة العالم مرتبطة بحياة الإمام والحجّة المعصوم، ولولاه لفنى وانتهى العالم، ومنها ما روي عن أبي حمزة « قال : قلت لأبي عبد اللّه الصادق عليه السلام ، تبقى الأرض بغير امام؟ قال عليه السلام لو بقيت الأرض بغير ا مام لساخت » ورواية اُخرى، وهي التوقيع الشريف المعروف عن الإمام صاحب الزمان الذي أجاب فيه على عدة اسئلة من جملتها قوله عليه السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء »، وعن الإمام الباقر عليه السلام يقول : « لو بقيت الأرض يوما بلا ا مام منّا لساخت بأهلها، ولعذبهم اللّه بأشد عذابه، وذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى جعلنا حجة في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد اللّه أن يهلكهم ولا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا من بينهم ورفعنا اللّه، ثم يفعل اللّه ما يشاء ( شاء (وأحبَّ »، وأمثال هذه الروايات كثيرة وهي شبه متواترة كلها تدل على هذا المضمون، وعلى أنّ قوام العالم بالإمام المعصوم وبدونه ينتهي العالم. فمجموع هذه الروايات لا شكّ تعطي معنى مسلماً عند أتباع مدرسة أهل البيت عليه السلام ، وهو أن قيام العالم ووجود العالم وسبب الحياة فى العالم كله مرتبط بالإمام المعصوم، ولولاه لما كان شيء من هذا القبيل، إلّا أنّ هذا لا يعني ما يسمى بالولاية التكوينية، فافتراض أنّهم سلام اللّه عليهم هم الذين يباشرون العمل الذي يفترض مباشرته من قبل اللّه تبارك وتعالى شيء، وافتراض أنّ اللّه تعالى هو الذي يديم العالم ويدير الاُمور ببركتهم سلام اللّه عليهم شيء آخر، وهذه الروايات انّما دلت على المفهوم الثاني ولم تدل على المفهوم الأوّل، فالاستدلال بها على مبدأ الولاية التكوينية بالمعنى الأوّل خلط بين المفهومين)[9].
اذن لا ولاية تكوينية ولا تفويض للانبياء والاوصياء (عليهم السلام) لا في ادارة الكون ولا في التصرف التكويني ولا في المعجزات. انما هو تصرف تكويني لهم (عليهم السلام) في إطار الدعاء فقط ، كما دلّ على ذلك الدليل.
المعجزات والاسم الاعظم:
علم الكتاب والاسم الاعظم ، لدى الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) بعض منه ، ولدى نبينا (صلى الله عليه وآله) واوصيائه (عليهم السلام) غالبيته.
ففي رواية عن بحار الانوار للعلامة المجلسي ، قال: (وفي رواية مفصّلة عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ويطيعنا كل شيء حتى السموات والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والجنة والنار. اعطانا الله ذلك كله بالاسم الاعظم الذي علمنا وخصنا به)[10]. وقد تفرّد العلامة المجلسي بهذه الرواية وقال عنها: (أقول: ذكر والدي رحمه الله أنه رأى في كتاب عتيق جمعه بعض محدثي أصحابنا في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الخبر ، ووجدته أيضاً في كتاب عتيق مشتمل على أخبار كثيرة. قال: روي عن محمد بن صدقة أنه قال: سأل ابو ذر الغفاري سلمان الفارسي رضي الله عنهما با ابا عبد الله ما معرفة الامام امير المؤمنين (عليه السلام) بالنورانية؟ قال: يا جندب فامض بنا حتى نسأله عن ذلك) ثم يذكر تمام الحديث بطوله[11]. وكما هو ظاهر فالحديث ضعيف لمجهولية سنده. ومع ذلك فإن مضمون الرواية يتوافق مع روايات اخرى بنفس المضمون ، ففيها (ويطيعنا كل شي حتى السموات والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والبحار والجنة والنار. اعطانا الله ذلك كله بالاسم الاعظم الذي علمنا وخصنا به) ، فيكون دعائهم باستخدام الاسم الاعظم ، فلا تفويض. على ان الاسم الاعظم من الامور الغيبية التي لا نعرف حقيقتها ، ولا نعرف هل ان الدعاء به له خصوصية الاجابة ام هو مفتاح التصرف بالاشياء. وحتى على فرض انه مفتاح للتصرف بالاشياء فهو يبقى مجرد مفتاح ينطق به المعصوم وتحققه هو بمشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعني ذلك امتلاك المعصوم لـ "قدرة اعجازية" تمكنه من فعل المعجزات!
وعن الإمام الرضا (عليه السلام)، قال: (إنّ بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها).
وفي الاصول من الكافي ، باب (ما أعطى الائمة عليهم السلام من اسم الله الاعظم):
[1- محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن محمد بن الفضيل قال: أخبرني شريس الوابشي ، عن جابر، عن ابي جعفر عليه السلام قال: إن اسم الله الاعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين ونحن عندنا من الاسم الاعظم اثنان وسبعون حرفا، وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
2 - محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد، عن زكريا بن عمران القمي، عن هارون بن الجهم، عن رجل من أصحاب أبي عبدالله عليه السلام لم أحفظ اسمه قال سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام اعطي حرفين كان يعمل بهما واعطي موسى أربعة أحرف، واعطي إبراهيم ثمانية أحرف، واعطي نوح خمسة عشر حرفا، واعطي آدم خمسه وعشرين حرفا، وإن الله تعالى جمع ذلك كله لمحمد صلى الله عليه وآله وإن اسم الله الاعظم ثلاثة وسبعون حرفا، أعطى محمدا صلى الله عليه وآله اثنين وسبعين حرفا وحجب عنه حرف واحد.
3 - الحسين بن محمد الاشعري، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن عبدالله، عن علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام قال: سمعته يقول: اسم الله الاعظم ثلاثة وسبعون حرفا، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الارض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الارض في أقل من طرفه عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب].
ويظهر من الروايات الشريفة ان الاسم الاعظم من يمتلكه يمكنه ان يأتي بالمعجزات بمجرد ان يتكلم به المعصوم (عليه السلام) ، ولذلك فهو مختص معرفته او معرفة بعضه بالانبياء والاوصياء (عليهم السلام). والرواية تقول ان المعصوم (عليه السلام) تكلم بالاسم الاعظم مما يعني ان الاسم الاعظم قد لا يستخدم فقط في الدعاء بل ربما يكون مفتاحاً للتصرف بالتكوين. وإنْ صح هذا الامر فهو لا يتعارض مع ما ذهبنا اليه من انه لا توجد لدى المعصوم (عليه السلام) "قوى اعجازية" بل ان الله سبحانه امر الكائنات بطاعة المعصوم (عليه السلام) فبمجرد تكلمه بالاسم الاعظم تخضع الكائنات لطاعته.
وفيما يلي بعض الروايات الاخرى التي نرى من المناسب ذكرها:
في معاني الاخبار للشيخ الصدوق باب (معنى الحروف المقطعة في اوايل السور من القرآن): عن الامام الصادق (عليه السلام): (( الم ) حرف من حروف اسم الله الأعظم ، المقطع في القرآن ، الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام فاذا دعا به أجيب)[12]. وفي رواية اخرى في باب (متشابهات القرآن وتفسير المقطعات): (أو الامام فاذا دعا به اجيب)[13].
وروى الشيخ الصدوق في (فضائل الاشهر الثلاثة) في باب حديث ام داود وعملها ، قول الامام الصادق (عليه السلام): (فإنه دعاء شريف وفيه اسم الله الاعظم الذي إذا دعى به أجاب واعطى) الحديث[14].
وفي سفينة البحار: قد ورد عن علي (عليه السلام) أنه قال: اذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فيستجاب لك فاقرأ من أول سورة الحديد الى قوله وهو عليم بذات الصدور، وآخر الحشر من قوله لو انزلنا هذا القرآن، ثم إرفع يديك وقل: يا من هو هكذا أسألك بحق هذه الأسماء أن تصلي على محمد وآل محمد واسأل حاجتك.
ولذلك فان ما يمتلكه الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) هو الاسم الاعظم (على اختلاف في عدد حروفه بحسب النبي او الوصي) ، وان كل ما يمتلكه الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) هو الدعاء بالاسم الاعظم ، اما تحقيق المعجزة فهو من قبل الله سبحانه وتعالى ، فلا تفويض لهم في إحداث المعجزة.
________________________________________
الهوامش:
[1] مناقب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - محمد بن سليمان الكوفي - ج 1 - ص 42 – 45.
[2] التفسير الصافي - الفيض الكاشاني - ج 5 - ص 99. أيضاً: تفسير مقتنيات الدرر - مير سيد علي الحائري الطهراني ( المفسر ) - ج 10 - ص 286.
[3] البداية والنهاية - ابن كثير - ج 3 - ص 148.
[4] الدر المنثور في التفسير بالمأثور - جلال الدين السيوطي - ج 6 - ص 133 – 134.
[5] تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 19 - ص 60.
[6] صراط النجاة ( تعليق الميرزا التبريزي ) - السيد الخوئي - ج 3 - ص 417 – 420.
[7] صراط النجاة ( تعليق الميرزا التبريزي ) - السيد الخوئي - ج 5 - ص 293.
[8] ولكن القول بذلك يدخل في باب القول بغير علم حيث يذكر سماحته ان هذا الرأي لا دليل عليه في كتاب ولا في سنة ، والقول بغير علم حرام. قال تعالى في سورة الاسراء: ((وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)).
[9] الامامة وقيادة المجتمع / السيد كاظم الحائري / مطبعة باقري ، سنة 1995م – ص126 – 132
[10] الولاية التكوينية / الشيخ علي النمازي الشاهرودي / ترجمة وتحقيق محمد جعفر المدرسي / شركة الاعلمي للمطبوعات في بيروت / الطبعة الاولى 2011م – ص 90
[11] بحار الانوار / العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي (قده) / تحقيق محمد باقر البهبودي وعبد الرحيم الرباني الشيرازي / دار احياء التراث العربي / الطبعة الثانية 1983م - ج26 ص7
[12] معاني الاخبار – الشيخ الصدوق – ص23.
[13] معاني الاخبار – الشيخ الصدوق – ص375.
[14] فضائل الاشهر الثلاثة – الشيخ الصدوق – ص35.
|