• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : نقطة ضعف الفلسفة .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

نقطة ضعف الفلسفة

أخشى على الفلسفة من الفيلسوف الكادح...(الفيلسوف الكادح مقابل الحقيقي عند نيتشه)..أقصد بذلك شكلا من الممارسة الفلسفية تدور مدار الإغراق في الاقتباس دون الإقباس..والمؤانسة دون الإمتاع..والتقليد دون الإبداع..والتحصيل دون الابتكار..فلسفة منزوع منها غريزة التّأمل وقريحة التعمّق وقلق التعقيد الذي يفرضه العالم..فلسفة تتحوّل إلى ديانة بينما ليس وظيفتها إلاّ الفهم..ليس لها أن تحدث اليقين لأنّ اليقينيات ليس شأنها بل شأنها كان ولا زال هو تدبير القلق المعرفي وإدارة الأسئلة الحقيقية التي تحول دون موت العقل في التكرار وإطلاق الحياة الفكرية داخل كل نسق يسعى لقمع الأسئلة خوفا منها أو تفاديّا لأجندتها.. حيث تغدو الفلسفة مجرّد عناء تحصيل لا متعة إشراق..وحيث هي محاولة لمحاصرة السؤال لا إطلاقه..الذين ساهموا في انسداداتها هم الفلاسفة الكادحون الذين لم يقف جريهم في تحصيل مفاتيحها التي حوّلوها إلى مفاتيح غلق لا مفاتيح فتح..هم الذين اضفوا على مفاهيمها روح الجمود وحوّلوا مفاهيمها إلى أصنام جامدة..هم من حوّلها إلى صناعة مملّة لقتل العقل وتزيف الواقع..ولذا وفي تاريخها الطويل والممتد حتى قبل ميلاد اليونان كانت الفلسفة تحفر بأسئلتها التلقائية في جسد الجهل..ربما العصر الحديث سعى لأسباب أراها تتعلّق بالاقتصاد السياسي إلى محاصرة الفلسفة في زاوية تاريخية حرجة..لقد أخرجها من مسكنها الأنطلوجي وحوّلها إلى شعر لوصف اليومي والبكاء على أطلال المفاهيم..مهما بدت حرية التفكير الغربي التي عادة ما نقيسها بواسطة المقارنة مع مجالنا المنكوب، فإنّ ديكتاتورية الأنساق وتربّصها بالعقل والرقابة على السؤال ماضية في غرب لا زال يحاصر العقل بالكثير من الاستبدالات الأورذوكسية..ظلت الفلسفة الغربية حتى يومنا هذا وصفا للبداهات اليومية..أشبه ما تكون بشعر جاك بريفير وهو يصف هيئة رجل يتهيّأ ذات صباح لمغادرة منزله دون ان ينبس ببنت شفة ودون أن يلتفت إلى زوجته..إنّها حالة وصف لما يدركه الكادحون في هذه الحياة..ففي شعر أرتير رامبو قد نعثر على إلماحات فلسفية قد لا توجد عند سارتر الذي نهب تراث هيدغر ولم يفعل أكثر مما يفعله كلّ كادح فيلسوف..حتى التمرد الذي يمارسه فيلسوف كادح ليس هو تمرد فيلسوف حقيقي..فلا حدود لتمرد هذا الأخير سوى فيض الحقيقة وإشراقها..ولا شيء يدهش هذا الأخير في مشاهد اليومي ولا أطلال المفاهيم ما لم تتمكّن من تحقيق الجديد في جوابات مقنعة عن أسئلة مؤرقة..الفيلسوف الكادح قد يكون حرفيّا لا صاحب ذوق..الفيسلوف الحقيقي يضجر من التكرار بخلاف الفيلسوف الكادح الذي يجد سكاناه في التكرار بل ويجد رهانه في مفرق الحصول لا في مرتقى الحضور..من هذا المنطلق كم استوقفتني أفكار ينطق بها عابروا سبيل من قبيل الجدّاة والحمقى والشعراء شريطة أن يكونوا شعراء حقّا وليسوا صائغي كلمات..الفيلسوف ليس فقط من يجيد السؤال بل من يتوقّع الجواب ويتوقع مفارقاته فتراه يهيئ له أسئلة استداركية لحماية العقل من لعبة الأجوبة المزيّفة..الفيلسوف حين يطرح سؤالا فهو ينتظر جوابا فلسفيا..وهو أدرى الناس بمكر الأيديولوجيا التي تخشى منه وحده..ثمة نوعان من أسئلة الفيلسوف: واحدة منها هدفها إذكاء جذوة المعرفة وفسح المجال أمام المعرفة..والثانية أسئلة هدفها قطع الطريق امام الأجوبة الزّائفة..ومهما بدا الأمر فإنّ الأيديولوجيا ، هذا الكائن المتغوّل ، لم يستسلم بل لطالما اخترق الحرم المقدّس للسؤال وعاد إلينا كما لو كان الممثل الشرعي للفلسفة..وطبيعي أنّ الأيديولوجيا اقتحمت الفلسفة من نقطة ضعفها: الفيلسوف الكادح..



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=76146
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 03 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28