• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : عدوى استبعاد المثقف .
                          • الكاتب : ادريس هاني .

عدوى استبعاد المثقف

ظلّ موقع المثقف في خريطة الربيع العربي موقفا ملتبسا..كان في المقام المتأخّر نظرا لانزوائه القديم عن الشأن العام..إحدى أسباب هذا الانزواء هو انهيار مرحلة هيمن عليها باراديغم المثقف المناضل الذي رأى في انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية تاريخ ليس فقط الخيارات غير الليبرالية بل حتى أنماط ووظيفة المثقف في مرحلة اجتياح الرأسمالية المتوحشة للمركز والهامش على السواء..تدفق جيل كامل من اليسار ناحية الأحزاب اليمينية كما وجد قسم منهم ملاذا في التموقع الرمادي بينما أعلن البعض استقالته معلنا نهاية المثقف العضوي..في تلك الأثناء نبتت نابتة المثقفين الذين صنعوا في مراكز تكرير النذالة فملؤوا الفراغ ببدائل انتهازية سارعت أكثر من غيرها في تكريس السخرية بالأنماط التقليدية للمثقف العضوي وبات لسان حالهم أن المثقف يجب أن لا يتدخّل فيما لا يعنيه وهو بالتأكيد المعنى النقيض لتعريف سارتر للمثقف بأنه يتدخل فيما لا يعنيه..الخطاب الذي حملته النابتة يتطلّب تماهيّا سلسا مع متطلبات مرحلة اقتضت تمييع دور المثقف واستبعاده بل احتقار الثقافة ومنح القيمة للثقافوية والسياسوية وهي الشكل المزيّف للثقافة والسياسة..هو إذن مرحلة من الانحطاط التي سيدفع ثمنها الإنسان في منطقتنا العربية حيث اعتقد الكثيرون أن المثقف خان قضايا مجتمعه بينما الحقيقة أن المثقف تمّ استبعاده بأدوات قهر ممنهجة مما جعله بعيدا عن الأحداث..وأثناء الربيع العربي حصلت مسرحية خطيرة تتعلق بإعادة توظيف نابتة من المثقفين لتمرير مشروع يصعب أن يتحمله السياسوي وحده..فالثورة تحتاج إلى مثقف..وبما أن المثقف أعلن استقالته فلم يعد أمام دهاقنة الربيع العربي سوى أن يستقطبوا بدائل من هذه النابتة أو أولئك الذين طال عليهم الزمان فقست قلوبهم وهيمنت عليهم البلاهة..والحقيقة أنّ الربيع العربي مهما بات أمره هشّا واقتربت نهايته إلاّ أنّ ثمة ما يوحي بأنّ آثاره ستبقى بعض الشيء بل إنّ عدواه ستنتقل إلى الجبهة النقيضة، حيث أنّ في جبهة الممانعة أيضا انتقل الفيروس نفسه حيث ستنشأ نزعة إن صح التعبير سأسميها "السياسومترية"، تراهن على الجشطالت الخادع والتمظهرات الممسرحة والغوغائية باعتبار أنّ السياسة حين لا تثقف نفسها تصبح حالة غوغائية، وحيث يقاس الموقف بالضجيج والأرقام الكاذبة والنفوذ الوهمي..المثقف حينما يركن إلى مبادئه لا يمكن أن يعقد عهدا مع فاوست السياسوية القائمة على النزعة الانتهازية والمتصالحة مع الهشاشة..الاستهانة الممنهجة بالمثقف هي ليست كارثة ومؤشرا على ضحالة النابتة السياسوية بل هي خطيئة تاريخية لها عواقب وخيمة على المعنى والجدوى والحقيقة..بل هو فعل ضد التاريخ نفسه باعتبار أن التاريخ لا يمضي على أمر لا يكون فيه للمثقف العضوي دورا حقيقيا..الحسابات السياسوية ليست هي ما يصنع التاريخ، بل صمت المثقف كفيل بأن يغير الكثير من مسارات التاريخ التي تواجه تشويش السياسوية الضحلة..واحدة من مؤشّرات هذا الوضع المزري هو الإصرار على استبعاد النقد والديمقراطية وتضخيم الحسابات والشخصنة والسباق على تسلّح الأنانيات وغياب أي تموضع حول القضية المحورية التي هي ملهمة كل عمل مشترك..التواطؤ والتآمر على المثقف هو عدوى انتقلت إلى الضفة الأخرى باعتبار أنّ الضفة الأخرى هي أيضا مسرح كبير لكل أشكال الانتهازيات الصغيرة والسباق والطمع وسائر الأمراض النفسية التي تتعرض لها كل المشاريع السياسية..وأعتقد أنّ هذا الشكل من الانتهازية السياسوية سيكون قاتلا لمشروع الممانعة نفسها بل سيكون هو المشكلة التي ستصيب الممانعة التي تفرض شروطا حقيقية على سياسييها ومثقفيها بأن يكونوا أقل انتهازية وأكثر مبدئية ومتقدّمين على نابتة السياسة والثقافة الانهزامية التي قام عليها مشروع الربيع العربي..إنّ الثورات التاريخية تقاس بمدى حضور وانخراط المثقف وتقدّمه في عملية التغيير.. ربما كان استحضار نابتة المثقفين في الربيع العربي أكثر ذكاء..بينما السياسوية لا زالت على توحّشها في الضفة المخالفة نظرا لغياب الرقابة واستسهال فعل استبعاد المثقف..براغماتية التعاطي مع الشكلانيات ووهم المورفولوجيا الخادعة للكميّ على النّوعي الذي هو جوهر الفعل الممانع، أمراض تنخر جسم الممانعة فضلا عن تكريس التبسيط الذي يرقى مع البعض إلى حالة الوعي الخادع بالحاضر والمصير..أمام هذا الوضع الذي بات يتحوّل إلى ظاهرة مهددة لجدوى وبنية الممانعة بات المشهد مسرحا للعبثية السياسية والتسطيح والفوضى والإلتباس..حالة لا تخلو من كاريكاتيرية من شأنها أن تقضم جدّية وجدوى المشروع السياسي..فالكرامة كلّ لا يتجزّأ..والوعي قضية أعمق من كل الرياضة الغوغائية التي باتت سمة رسمية للخطاب الذي كان يفترض أن يكون هو الأعمق من كل خطاب..و يبدو أنّ مرض السياسوية القاتل سيكون دائما وأبدا هو الطاعون الذي سيهلك الحرث والنسل ويجعل تاريخنا هو بالأحرى تاريخ إهانة المثقف وكوميديا السياسوي سارق النّار المدنّسة..إنها بالتأكيد فرصة مؤقّتة سيجرفها التاريخ..لأنّ التاريخ لا يرحم ولا يجامل.. 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=76759
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 04 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20