• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : عن النفس والدين .
                          • الكاتب : د . اسعد الامارة .

عن النفس والدين

 إن من يشرع  في البحث عن أحوال الإنسان وقضاياه التي تتعلق بمعتقده الديني أو المذهبي أو السياسي، أو أحواله الاقتصاديه والاجتماعية والعلمية لايلبث أن يجد نفسه  في مواجهة قضايا النفس، أعني ما يجول في نفسه، كيف أكتسب هذا المعتقد، وكيف انتمى إلى هذا المذهب أو ذاك الدين، وكيف وجد نفسه في هذا المستوى الاقتصادي في مجتمعه، وهل صنف بهذه الشريحة أم تلك، وهل حتم عليه الإنتماء لهذا التخصص العلمي، أم أن رغبته وقدراته هي التي قادته إلى هذا الفكر أو المعتقد أو المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، أو حتى إلى المكانة الاجتماعية.
إن كثيرا من الشباب المتحمسين لهذا المعتقد، أو لهذه الحركة السياسية، أو لهذا الجانب من العلم، أو لهذه المهنة التي تدر أرباحا مع منزلة اجتماعية يحملون معهم رايات التبشير وقوة المبشرين فيكون دفاعهم حماسيًا، ودافعيتهم لا توصف، فالبعض من معتنقي الدين أو المذهب أو الفكر السياسي يتصورون أنفسهم مجاهدين، مؤمنين يقودون الإنسانية نحو تغيير القيم والسلوك العام والمعتقدات البالية، وقد نقول ان هذه العقلية مصدرها زعيم الحركة، أو قوة تأثير المرجع الديني، أو ممن تأثر به هؤلاء الشبان، أو من أندفع نحو طلب العلم متأثرًا بشخص ما في أسرته، أو قريب له فأندفع نحو تحقيق أهدافه.  
إن اندفاع البعض هو اختيار واعي، وليست لحظة عشوائية بل يقف أول الأمر أمام أحواله يعرفها تمام المعرفة ويغوص في أعمق تفاصيلها، ولكنه في نهاية الأمر وبعد أن ينتهي من ذلك ولابد له من أن يبدأ منها وأن يبدأ بها لكي يقتنع بما رسمه لنفسه، أنه يبتعد في إختياره عن شيء أسمه قلق المستقبل، وربما لا ندري يكون هذا القلق، أعني به قلق المستقبل هو الذي دفعه لإن يختار هذا الطريق رغم قساوة ممراته، وكثرة عثراته، ويقول أطباء النفس وعلمائها أن الإنسان إذا ما واجه صعوبة في التكيف لجأ إلى النكوص كوسيلة لحماية نفسه من الموقف الصعب، ولابد من مجابهة معركته التكيفية في الاختيار، فهو يتراجع إلى الخلف ويمارس وجوده على مستوى أكثر بدائية، وهو يفعل ذلك بهدف التكيف مع الموقف، إلا أن النكوص يحد من قدرته على المجابهة، فالأختيار في بدايته ملازم للحرية، ومن يؤمن بمذهب ما أو معتقد سماوي، أو دين يؤمن تمامًا أن الإنسان خلقه الله لطاعته فقد أعطاه في الوقت ذاته القدرة على العصيان ومخالفة أمره، إلا انه وهو يخالف أمر الله باختياره سبيل غير الطريق الذي رسمه له من يقلده، أو من يتبعه كمرجع له فإنه يدفع الثمن بان يزداد حيرة وتوهانا.
أن الإنسان يغير نفسه ويطور نفسه، يبعث قدراته بعثًا من خلال هذا الإخضاع المستمر للعالم، هذا العالم المتمثل بفلسفة بعينها فالدين فلسفة، والعلم فلسفة، وحركة المجتمع والتوافق معه تحتاج إلى فلسفة خاصة بالفرد، والإنتماء لحركة سياسية لها أيضا فلسفة، الإنسان إذن  يَقدم على اعتناق هذه الفلسفة أو تلك، يهدف من خلالها إلى  محاولة تغيير العالم ويستمر دون توقف في تغيير هذا العالم من خلال مواكبة الكشوف في مختلف العلوم ومنها الطب والهندسة والتكنولوجيا، يغير أيضا من نفسه، تغييرا دائمًا ومستمرا في إرادته وقدرته ومبادرته وإبداعه وعزمه وقدرته على المواجهة.  فالنفس الإنسانية قابلة للتغيير والتحول مع تقدم العمر والنضج الذي يصاحبه، فالبعض الذي لا يؤمن بوجود الخالق في مطلع شبابه، يرضخ لفلسفته الذاتيه ويتحول إلى الإيمان بالله، أو من يؤمن بأن الكحول هي الوسيلة الأكثر في  اعادة صفاء الذهن والهروب من مواجهة أعباء الحياة اليومية، قد يلجأ في نهاية المطاف إلى تركها ويستبدلها بأساليب أخرى مختلفة تماما، وكذلك المعتقد الديني أو المذهبي الذي هو في الأساس فلسفة أعتنقها البعض، وقامت على فكرة مؤداها أن من عرف نفسه ، عرف ربه، فهل يصح أن يقتل الإنسان أخيه الإنسان من أجل فلسفة، صحيح أن الفلسفة قد تلوث عقول البعض وتدفعهم نحو ارتكاب المعاصي، أو ارتكاب الكبائر ومنها الشك، وأول محطات الشك هو أن ننظر إلى النفس البشرية بعزلة عن الوجود الخارجي الذي يُكون أرضيتها، فهي مرآة لما هو خارجها، ويقول علماء النفس أن الخارج بدوره إسقاط لما بداخلها، تبقى فكرة القتل بأسم المعتقد الديني نابعة من نفس غير سوية، وإن الشفقة التي تصدر من المتعصب للمذهب أو  المعتقد قد تكون رد فعل لما تنطوي عليه النفس من القسوة.  
يقول "د.ريكان إبراهيم" استشاري الطب النفسي في كتابه علم نفس الإلحاد والإيمان لقد صنع العقل البشري دينًا كما صنع الدين عقلًا، هذا ما حصل عبر مسيرة الإنسان الطويلة إلى أن التقى العقل والدين في محطةٍ واحدةٍ أو حقيقةٍ واحدة هي وجود الله واحدًا لا مُتعددًا وشاملًا لا محددًا، وقوله أيضا ان الدين صنعه العقل، ظل يؤثر في قدرة الإنسان المعاصر على استلهام الإشراق الفاضل في الدين السماوي الذي صنع أو صنّع العقل الإنساني من جديد فظهرت لدينا في هذا الإنسان حالة "التدين" ونعني بها الإرتكاء على الوسائل الوضعية في فهم الدين الخالص. ولا يعني التدين إلغاء الآخر، ولا يعني اعتناق المذهب نفي وجود الآخر، وقول الامام علي بن أبي طالب"ع" خير دليل على قوة إستخدام العقل من خلال قوله: أما أخ لك في الدين او نضير لك في الخلق. فلذا وجدت الحكمة لدى العقلاء وسيان الامر في أفواه  المجانين، والجنون هنا ليس بالمعنى المرضي، بل في معنى الاعتقاد الخاطئ ومحاولة فرض الرأي والمعتقد الديني، أو المذهبي أو السياسي على الآخر بغض النظر هل أتفق معك أم لم أتفق، وأن جنون التعصب نابع أساسًا من النفس البشرية، وإن جنون هؤلاء ما هو إلا تعبير عن جنون المجتمع وما تسود به من نزعات تعصبية، وقولنا أخيرا أن التخصص وحده لا يصلح لمجابهة المشاكل في الواقع، وكذلك الدين أو المذهب أو المعتقد،  لأن كل إنسان لديه تخصص علمي أكاديمي أو غير أكاديمي ويؤمن بفلسفة ربما تكون قد أفسدت عقله بجانبها المتطرف في السياسة أو في الدين أو في المذهب أو الاقتصاد أو في العلوم البحتة أو في الرياضة أيضا، وقول الدكتور محمد شعلان أن كل أمرء يحكم وجوده في المجتمع لا يسعه إلا أن يكون له مواقف أزاء الآخرين وهو موقف سياسي وديني ومذهبي في المقام الأول، وإذا كان للسياسة علماء وللدين علماء وللمذهب مراجع وعلماء وللمجتمع البشري علماء تخصصوا وتبحروا في علومه فإن هذا لا يبرر وصايتهم على أصحاب الممارسة في الواقع، فلم يكن أي من الأنبياء متخصصًا في علوم الدين، أو المذهب، كما لم يكن زعيم وطني متخصصًا في علوم السياسة، وما دامت العلاقة بين العبد وربه ليس بها وساطة وبين المواطن وممثله كذلك فلا مفر من أن يتخذ كل أمرئ موقفه السياسي والديني والمذهبي، والفرق هو هل يكون هذا الموقف قائمًا على وعي وارادة، أو بدون وعي ولا ارادة.
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=77545
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 04 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28