لا أطلب منك أن ترى إلى نفسك كجزء من الكون هزيل..فالبنيانيون أرادوا منك ان تكون برغيّا في ماكنة محكمة لا يد لك في نشأتها ووظائفها..كل ذلك هربا من فكرة الكائن صانع تاريخه ومغيّر أحواله..وبالفعل ستكون في مقام المعدوم إن أنت نظرت إلى الكون بوصفه مجرد كوسموس تجري عليه قوانين الفيزيقا..وقد عرفت أنّ هذه القوانين تطورت هي الأخرى تطورا كبيرا ولا زالت مساحة منها ملتبسة في انتظار ما ستكشف عنه عبقرية الإنسان..كل ذلك في محاولة مستدامة للتحرر من وطأة الكوسموس..لكن الكون الذي نقصده هو أكبر من ذلك..يتسع أكثر..وأن تكون كونيا يعني أن يكون الكون فيك لا أن تكون فيه..وهذه ليس مهمّة الميكانيكا ولا الكوانتا..إنها حكاية العالم الذي ينطوي فيك..فكرة الهولوغرام نفسها إن كنت أدركت من ذلك ما يجعل المعنى أكثر منطقيا بلغة الأشياء..أنت الجزء الذي فيك انطوى الكل..هذا إن أحسنت فقه جدل الكل والجزء الذي حيّر الفلاسفة حتى غدا منهم من يرى الكل أكبر من الجزء ، متناسيا الجدل الناظم بينهما وعازفا عن إدراك مكنون الحركة الجوهرية التي تعيد تنظيم العلاقات بينهما..أن تكون كونيّا أي تستشعر كبرياءك الذي أنت من دونه فاقد للرغبة في الكمال..وليس الكمال إلاّ اندماجك في الكوني وانعتاقك من جزئيتك القاتلة..تنتفي هنا غرابة الكائن في كونه الذي ظنّ البعض أنه على خصومة معه لا تنفكّ إلا بالتحدّي..والحال أنّ التحدّي الوحيد هو تحدّي النّفس الأمّارة بالجزئيانية والمناهضة للكوني في ذات أدركت سعادتها في الكمالات الكونية..ويقولون التاريخ: تلك العبارة الغامضة..حتى أنها انحطت لتصبح محض كرونولوجيا تقيس دبيب كائن يتلوّى في دروب اليومي كأنّه ضرب من الحشرات..التاريخ لما كتب له..وتاريخ الكائن الكوني ليس بالضرورة تاريخ أنفاسه وحركته اليومية ونبضات قلبه..هو وجوده نفسه..تاريخ وجوده..أو الحركة الجوهرية لنفسه المتكاملة في درب الوجود..وهذا التاريخ الفعلي المحايث لخبرة الوجود هو تاريخ الكائن الكوني وليس تاريخه الجزئي..هذا وحده التاريخ العصي عن التحريف..ولا يكتبه المؤرخون، بل تكتبه النفس كشاهد على قرن الحركة الجوهرية..تاريخ يكتب مرة واحدة بصدق ونبل وموضوعية..وحده تاريخ الكائن الكوني..أما جغرافيا الكائن فهي رحلته الكونية نفسها التي انطوت على كل الاتجاهات..فكرة المكان نفسها والأحياز لا تحدد مصير الكائن الكوني..إنما سوف يواجه الإنسان الكوني تحدّيات من نوع آخر..تحديات تأتي من ماضيه الجزئي المتربّص به..من عالم الإنسان الجزئي الذي أدمن اندماجه في حيّز من الكون ملول..أركانه ودروبه وعلامات طريقه محصورة معدودة مكرورة..لكي يحول الإنسان الكوني دون انحطاطه إلى الكائن الجزئي فهو مضطر إن يتمثل لغة الكائن الجزئي..لغة تتمنّع أحيانا عن استيعاب حقائق الكوني..لغة تكاملت في الحيّز الملول المحصور المكرور.. ليس أمام الكائن الجزئي إلاّ الانتحار في عالمه الجزئي..وليس له إلا العناد ببضاعته المزجاة أمام منطق الكوني..وهنا الشّقاء..وهنا الخوف على الكوني من الإرتداد..وهنا مأساة تاريخ الإنسان الكوني..لأنّ انحداره سيكون هو الأعنف من كل أشكال الانحدارات..نكرر مرة أخرى، أنّه بينك وبين حقيقتك الكونية هي ان تغمض عينيك قليلا مع وجود إرادة حقيقية للاندماج وتنفض عنك قيود الإنسان الجزئي..أن لا تفجّر عشقك الكوني في أحياز الجزئي..أن تستشعر العالم الكبير الذي سينطوي في ذاتك متى ما قرّرت أن تكون مصهرا لكل تناقضات الكون التي تتنافر في الحيز الجزئي بينما هي تتكامل في العالم الكوني..اكبر قليلا بحقيقتك الكونية فستجد أن الأضداد تلتئم وتتعايش ولا تتنافر كما هو حالها في كونهم الزّائف...
|