• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : قراءة نقدية في نص ( جنون في النقل لا في العقل للكاتب العراقي كريم خلف جبر الغالبي ) .
                          • الكاتب : د . عبير يحيي .

قراءة نقدية في نص ( جنون في النقل لا في العقل للكاتب العراقي كريم خلف جبر الغالبي )

*مقدّمة :
 
عندما يطالعني نص للأستاذ كريم خلف جبر الغالبي، أتحضّر لوجبة دسمة من الحكمة والبلاغة ، غنيّة بالفلسفة والرموز العميقة، مشبّعة بكل أنواع التوابل المُحضرة من حضارات مختلفة، والعابقة برائحة الأزمان، ليأتي التوازن برشة ملح يتقن الكاتب تقديرها بالكم بدقة متناهية ، وبعدها ...لك أن تتمتّع بطعم لن تنسيك الأيام لذّته...
مدرّس رياضيات وتربوي كبير من العراق من مدينة الناصرية، تلك المدينة التي لا يكاد بيت فيها يخلو من عالم أو أديب ... وقد جمع كاتبنا علوم العقل واللسان، فاقترب من حال الفلاسفة ...
 
*الموضوع :
 
عندما قرأت النص ، وجدته يغوص في تساؤلات [فلسفية ] ، تحديداً هو حوارية تدحض الفلسفة الوجودية وإدعاءاتها، تذكّرتُ كتاب / قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن /للعلّامة نديم الجسر مفتي طرابلس لبنان ، وهو عبارة عن حوار رائع مطوّل بين شاب متشكك في وجود الله وبين عالم شرعي ، يتميّز الكتاب بانسياب مشاهده وأفكاره ، وقد عرض فيه الأدلّة العقلية والفلسفية على وجود الله ، وكشف عن مواطن الخلل المنهجي في الفكرة الإلحادية، واشتمل على تلخيصات رائعة جداً لأفكار كثير من الفلاسفة الكبار .
ولا أظن أن هذا النص لا يقل شأناً عما جاء بالكتاب.
 
كمايحضرني ابن المقفع بكتابه الرائع كليلة ودمنة ، الذي أجرى فيه [الحكمة] على لسان الحيوان، وللكاتب تجربة رائدة في هذا المجال ، هناك سلسلة كتبها على لسان الهدهد والعفريت، وأنا في هذا النص أُكبِر فيه أنه أنطق أنثى بالحكمة وجعلها تجيب على تساؤلات ذكر، بإشارة منه إلى سمو  الأنثى ورفعتهاعندما يزيّنها عقل يفوق شَعرها جمالاً ..
 
وهذا يفتح لنا باباً اخر للتناص تطرّق إليه الكاتب، هو الجانب الإنساني ، والمقبولية [الاجتماعية] ، المرأة ومكانتها الراقية في المجتمع ، وهي مكانة للأسف خسرتها بشكل أو بآخر في أيامنا هذه، أخذ رأيها واستشارتها في أمور كبيرة، تتجاوز نطاقاتها الأنثوية ، بل قد تصل إلى فضاءات تتنافس فيها مع ذوي العقول الكبيرة ، وقد تفوقهم ، فضاءات العلم والحكمة والفلسفة والتحليل المنطقي للظواهرالمتغيرة والثوابت والماديات، إضافة إلى العلوم الإجتماعية ، هذا الدور كانت تشغله منذ بدء الخليقة ، ولنا في أم سلمة أم المؤمنين خير مثال يوم سألها الرسول الكريم المشورة بشأن أصحابه الذين رفضوا الامتثال لأمره بالرجوع إلى المدينة وعدم إتمام الحج في ذلك العام، وكان حزيناً حائراً، فأشارت عليه  صَلّى الله عليه وسلّم بذبح أضحيته والتحلّل من الإحرام ، استشارها بأمر يخص الأمّة ..! لم يستشر أحداً من أصحابه ، وإنما استشار أنثى ، بأمر اربكه ...!
عقل الرجل مبرمج على نظام الصناديق ، يصنّف أولوياته في صناديق مختلفة ، إذا أراد  إحداها بحث عنها، فتح صندوقها وغاص فيه ثم عند الانتهاء  منه يغلقه بإحكام ، وعملية البحث عن الصندوق قد تكون مربكة وتأخذ وقتاً، أما عقل المرأة فهو صندوق واحد يسع كل عقلها، تضع فيه كل أولوياتها وعلومها واهتماماتها، يسهل عليها الوصول إلى أي منها ، كل شيء عندها مرتب في أماكن مكشوفة وظاهرة، لذلك لديها القدرة على الخوض بكل المجالات برؤية دقيقة عميقة حكيمة ومنطقية ، ناهيك عن الإخلاص والإتقان الذي تعتمده كأساس لحياة ناجحة .
وهذا ما نجح الكاتب في التأكيد عليه .. المرأة تاجها العقل وليس الشعر ...
 
وأود هنا أن أشير أيضاً إلى ناحية مهمة أيضاً تعتبر من الأدبيات الاجتماعية الهامة جداً ، وهي [أدب الحوار]، وهو حيثية نفتقدها إلى حد ما في زماننا هذا، فن الإصغاء ، واحترام المحاور، والتركيز معه في دقائق الحديث ، ومحاولة إدراك ما ترمي إليه ، أيضاً الحرص على أن يكون الحديث مترابط ، ومراعاة السياق والتسلسل والترتيب من مقدّمة وعرض ونتيجة ، وهذا فن موجود قديماً في مجتمعاتنا العربية تدخل ضمن فن الخطابة ،    
 
*الهيكلية الأخبارية والحبكة
 
١- الزمكانية :
النص ( مقالة حوارية ) يتبع المدرسة الواقعية الإتباعية الفلسفية التي تميل إلى الحكمة التي تعيش في كل زمان ومكان .
النص منطوٍ تحت النظرية الفن للمجتمع، حفل النص بصور بيانية رائعة وكأن الكاتب يرسم لوحة من حروف لوَّنها ومرّ عليها بعصا سحريّة فأكسبتها هالة ...
إن أخضعنا النص لميزات النص الأدبي السبعة نجده : 
١- الربط 
٢- التماسك 
٣- القصدية
٤- المقبولية 
٥- الموفقية 
٦- التناص
٧- الإخبارية
يعني يحقق معظم الميزات ، لذلك يخضع للتفكيك والنقد
 
 
٢- الصراع الدرامي :
 
الصراع (فكري عقائدي فلسفي)، انتهى بنقطة التقاء مُؤسِّسة لبناء فكرة تكون ركيزة لبناء (مجتمع )يقوم على سيادة (العقل والمنطق والحكمة) ضمن أسس ناظمة تهدف لإعادة الإنتماء إلى (الإنسانية بكل ما فيها من قيم راقية ).
 
يبدأ الكاتب مقالته بعنوان مثير / جنون في النقل لا في العقل /
عنوان مُلَخِّص للمقالة ، تنفي عن العقل تهمة الجنون ، والجنون هو السرطان الذي  إن هاجم العقل صرعه ...
الجنون الحاصل هو جنون أتى بالانتقال عبر الأجيال والأزمان ..
حوار يبدؤه شاب باحث عن الحقيقة ، يخاطب فتاة تتجلَّى فيها الحكمة في أعلى درجاتها ، يلخّص الشاب فكرة النشوء والاستمرار ، يبحث أصل البشر منذ بداية الخلق، من زمن أبينا آدم وأمنا حواء إلى النهاية القدرية التي وضعها الله ، شريط مجهري متناهي بالصغر، شيفرة وراثية (DNA)، في نواة خلية، لأجلها خلق الله الكون مرّت عبر العصورالطويلة كزمان وعبر تضاريس الأرض قاطبة كمكان، والأرض مستقرها ومستودعها..
عند حدوث الطوفان قدّر لها الله النجاة ، نجت بزوجين اثنين على ظهر سفينة نوح ، تلاقحا لتأمين الاستمرارية والانتقال، أُنقِذت البشرية بأمر الله، وهذا أمر عصي الفهم على الوجوديين ، وعلى يد سيدنا نوح الذي كان من أولي العزم بين الرسل ، بنى السفينة التي عبرت بالبشرية إلى مشيئة الله ، بطريق شائك رافقته الأحزان والقسوة والظلم ، حال الدنيا بالمجمل ..
هكذا قدّم الشاب لحديثه مع الفتاة ، يؤكد إيمانه، و وحدة النسل والأصل( أنا يابنة النبي من سلالتكم )،  يوقّر محدّثته ( يا ابنة الأنبياء ، ويؤسّس لحديثه معها بطريقة حضارية راقية، بادئاً بتحضير القلوب وغسلها من الذنوب ، على مبدأ ( التخلية ) ، ثم يمضي في حوار بنّاء يقصد فيه الوصول إلى إقناع واقتناع ...
يستأذن بطرح أسئلة حار منها عقله ، وتألّم منها قلبه، أسئلة عقيدة ..
الشمس والقمر ، آيتان ماديتان متناوبتان ..
الليل والنهار، آيتان زمنيتان متناوبتان..
إن كان  الشمس أو القمر مخلوق مادي ثابت ، فهل الليل والنهار ثابتان أيضاً؟ أم أن ليل الأمس غير ليل اليوم ؟ ونهار الغد غير نهار اليوم ؟
لنلاحظ أدب الحوار ... 
مهّد لحديثه بطريقة لبقة جداً، أثنى على رجاحة عقل الفتاة ، وسأل أسئلته وانتظر الإجابة ... 
أين نحن من ذاك الأدب ؟
يأتيه الجواب بفلسفة علمية راقية، ومحاكاة عقلية :
هناك فرق بين الولادة والتكرار ، وعلى من يقارن بينهما أن يكون محايداً، هذا شرط ، لأن من الوارد أن يكون منتمياً لأحدهما أو للاثنين دون أن يدري ..
القاعدة الأساس التي يحب الاتفاق عليها لفهم الفرق بين التوالد والتكرارهي [ الجزءأصغر من الكل ولا يمكن أن يساويه ] هذه قاعدة في علم المادة ، يجمع عليها الجميع وأولهم الوجوديين .
 
٣- العقدة 
يقاطعها كعادة البشر [ التوالد وهم لتكرار لا نشعر به ]!!
[وعلى اعتبار ( خاطئ) أن الجزء يساوي الكل والكل يساوي الجزء ]
والصحيح [ أن الجزء يماثل الكل في مادته لكن لا يساويه ]
هذا الإفتراض يقود إلى تساؤل أخطر هو [ هل الفرد هو تكرار لموجود أم أنه توالد مستمر ؟ وما معنى التكرار؟ هل هو وجود شيء مطابق للشيء نفسه ؟ أم أنه الشيء نفسه لكنه بدّل أماكنه ؟ بهذه الحالة تكراره لا يعني تكرار وجوده وإنما تكرار ظهوره ، وهل التوالد مختص بالمادة دون الروح ؟ويأتي السؤال الأخطر : هل نحن تكرار لشخص واحد ينتهي بآدم ؟]
 
٤- الانفراج 
أسئلة تتحدى العقول، تأتيه الإجابة من جنس السؤال، هي تستخدم معه نفس الأداة التي يقارع بها، 
العقل والعلم والمنطق :
[ التوالد هو تكرار يمر بأطوار، الإنسان هو إنسان الأمس، هو آدم بمادته ، كما الليل والنهار والشمس والشجرة كمادة ، النخبة التي أسقطت رطباً على مريم بنت عمران هي نفسها نخلة اليوم بمادتها والتي قدّر الله عليها أن تطرح نفس الرطب ]
وبمنتهى الذكاء والفطنة هي تطرح عليه سؤالها : [ هل ننتظر من إنسان اليوم ما انتظرناه من آدم ؟وهل على إنسان اليوم أن ينتج ما أنتجه آدم ؟]
سؤال جعله مشدوهاً ..!
لكنه يجيب معترفاً بعجزه :
[ ما أسهل الجواب عندما ننظر للخلقة ( المادة ) وما أعجزه عندما ننظر إلى ما وراء المادة ، العقل وأفكاره ، فهل عقل الأمس كعقل اليوم ؟هكذا ينبغي للسؤال أن يكون .. إنسان هذا العصر الذي بلغ أعلى درجات التطور على المستوى المادي ، هل بلغ عقله أيضاً نفس درجة التطور ؟
هل نملك عقولاً أكثر تطوراً من عقل آدم ؟ ]
 
٥-النهاية :
تأتي إجابتها قمة في الإبهار :
[ إذا كان الأمر كذلك ، فالقمة ليست أكثر أهمية من الأساس ، وما نريد أن نبنيه لا بد من الاهتمام بأسسه وقواعده أكثر من قمته ، فهل يحقّ لنا أن نقول : أيننا من عقول آبائنا، أم أننا نقول : أينهم من عقولنا ].
وتدور الدائرة ...بين القمة والأساس...
 
*الجمالية في النص والأسلوب
 
١- السرد:
الكاتب مختبئ بحوار شخصيتين ، ادعى أنه فقط ينقل حوارهما، لكنه بالحقيقة هو المحرّك والموجّه الرئيسي للفكرة 
 
٢-الحوار:
خارجي مباشر كشف أبعاد الشخصية وأظهر النفس الغامضة فيها ، قام بوظيفته بالتطور بالحدث للوصول إلى عقدة ، انتهت أيضاً بالحوار إلى انفراج ، ونهاية تدويرية رائعة ..
 
٣-الصور البلاغية :
النص زاخر بالصور البيانية والاستعارات 
يا أول بنت آدم # كناية عن الأخوة 
تعتز له كل خيوط شباك الكون # استعارة مكنية 
يا ابنة النبي ، يا ابنة الأنبياء # كناية عن كرامة الأصل 
ما أناإلا نقطة تصب في خلية حسية # تشبيه تمثيلي 
معبداً ذلك الطريق بإيفاء من دموع الحرمان # استعارة مكنية 
صابغاً أرصفته بلون احمرار طرفي عينيه اللائذتين .. # استعارة مكنية 
أسئلة في القلب جائرة ، وفي العقل حائرة # استعارة مكنية
القلب - العقل # طباق إيجاب
حائرة - جائرة # جناس ناقص 
مرئي - لا مرئي # طباق سلب
قمة- أساس # طباق إيجاب 
 
*الشخصيات :
 
شخصيتان رئيسيتان ، الشاب المؤمن حقيقة لكن تؤرقه تساؤلات فلسفية وجودية عديدة ، حار فيها وحزبه أمرها فلجأ إلى الشخصية الثانية ، ويبدو أنها مشروع حبّه ، زوّدها الكاتب بالحكمة والفطنة، وجعلها تقود الحوار لتوصل الشخصية الأولى إلى العقدة ، وبعدها تستلم هي الزمام لتصل بالحوار إلى الإنفراج ومن ثم النهاية ببراعة كبيرة .
 
 
*الدلالات السيميائية :
ألقيت الضوء على ثلاث مفاصل في هذا النص ...
١- فلسفي :
-الشمس هي هي # المادة
-فهل أن الليل والنهار هو هو ؟# هل الليل والنهار مادة ؟
-إن ما يأتي من ليل لا يشبه ليل مضى #الليل ليس واحد، ليس مادة
-وما يأتي من نهار لا يشبه نهار قضى # النهار ليس هو هو ليس مادة .
-هناك فرق بين من يتوالد وبين ما يتكرر # هناك فرق بين المجسم واللامرئي.
-الجزء أصغر من الكل ولا يمكن أن يساويه # قانون طبيعة
-هل التوالد مختص بالأجسام دون الأرواح طالما الروح واحدة # سؤال فلسفي وجودي
-التكرار وجود شيء مطابق للشيء نفسه ؟ # سؤال فلسفي
-ام أن الشي نفسه قد تعددت أماكنه ؟ # سؤال فلسفي
-وهذا لا يعني تكراره وإنما تكرار ظهوره # استنتاج فلسفي
-هل نحن تكرار لشخص واحد؟ #  
سؤال فلسفي 
 
٢- حكمة ومنطق:
-التوالد هو تكرار لا بد أن يمر بأطوار # استنتاح منطقي
-إنسان اليوم هو إنسان الأمس # استنتاح منطقي 
-هل ما ننتظره منك كالذي انتظرناه من آدام # سؤال منطقي
-هل عقل الأمس كعقل اليوم؟ # سؤال منطقي
-هل نملك عقولاً أكثر تطوراً من عقل أول ابن لآدم؟# سؤال منطق
-القمة ليست أكثر أهمية من الأساس # حكمة
-ما نريد أن نبنيه لا بد من الاهتمام بأسسه وقواعده أكثر من قمته # حكمة
-أيننا من عقول آبائنا أم أننا نقول أينهم من عقولنا ؟# سؤال واستنتاج منطق 
 
٣-الأدبي الاجتماعي :
-ما بيني وبينك يا أول بنت آدم ، يا ابنة الأنبياء، أنا يا ابنة النبي # توقير وتبجيل للأنثى ومدح لأصلها وكرامتها.
-لن يمنع وصولي إليك قطع من ليل ولا تلافيف من نهار # إصراره على وصلها والسعي إليها 
-فما بين القلوب لا تحجبه إلا الذنوب # تأكيد على صفاء نيّته اتجاهها.
-ولا بد لك تجيبي على أسئلة في القلب جائرة ، وفي العقل حائرة # إقرار ضمني برجاحة عقلها وطلب مباشر للمشورة
-أنصتي إلي في لحظة عابرة واسمعي قولي هذا # استئذان بالإصْغاء  
 
*الخاتمة :
الحقيقة لا أنكر مطلقاً أن النص أتعبني في الجري وراء كوامنه، فهو نص فلسفي رمزي بمسحة سريالية ، الغوص فيه عميق ، وسبر دواخله منهك ، لكن لذة البحث وتفكيكه تجعل التعب يزول بسرعة لتحل مكانه نشوة ظفر ...
تحياتي وتقديري للأديب الفيلسوف كريم خلف جبر الغالبي ، أتمنى أن أكون موفقة في إعطاء النص حقه بقراءتي هذه ...
 
النص الأصلي 
 
 جنون في النقل لا في العقل:
ما بيني وبينك يا أول بنت لآدم ،  ليس سوى خيطٍ واهٍ من خيوط شبكة عصور عنكبوتية ، وما أنا إلا نقطة عصب في خلية حسية ، تهتزُّ لها كل خيوط شباك الكون ، مروراً بعصورها الجليدية حتى آخر عاصفة في صحراء الجزيرة العربية ، أنا يا ابنة النبي من سلالتكم ، ركبت في سفينة نوح بعد أن رست على أرض منفية في آخر جزيرة من جزر يعيش عليها من كل زوجين اثنين ، فما زال سكانها يرقبونه آتياً على أول طريق اختار الرحيل فيه بعد الطوفان ، عسى أن يحتفي معهم كي يمنحونه وسام البقاء على أرضهم المنسية ، لقد رسم ملامح ذلك الطريق بيديه المتعبتين من دقِّ المسامير على آخر خشبة سندت أضلاع تلك السفينة ، معبداً ذلك الطريق بإسفلتٍ من دموع الحرمان ، صابغاً أرصفته بلون احمرار طرفي عينيه اللائذتين خجلاً من أنظار شرار قومه المستهزئين ، يا ابنة الأنبياء سوف لن يمنع وصولي  إليك قطع من ليل ولا تلافيف من نهار ، فما بين القلوب لا تحجبه إلا الذنوب ولابد لك أن تجيبين على أسئلة في القلب جائرة ، وفي العقل حائرة ، فأنصتي إليَّ في لحظة عابرة واسمعي قولي هذا : 
-إذا كانت الشمس هي هي وكذلك القمر ، فهل إن الليل والنهار هو هو أيضا ؟ أم إن من يأتي من ليل لا يشبه ليل مضى ؟ وما يأتي من نهار لا يشبه نهار قضى .
أجابته : 
-لابد لنا أن نعرف بأن هناك فرقاً كبيرا بين من يتوالد وبين من يتكرر ، والذي يجيد فن المقارنة بين الاثنين لابد أن يكون حيادياً ، وإن كان ينتمي لأحدهما دون أن يدري ،  أو ربما ينتمي إلى اثنيهما في عالم لا مرئي ، ولكي نفرق بين التوالد والتكرار لابد لنا أن نعرف ، أن الجزء أصغر من الكل ولا يمكن أن  يساويه . 
 
قال لها :
-ما يحدث من توالد ما هو إلا وهم لتكرار لا نشعر به ، فإذا كان الجزء يساوي الكل والكل يساوي الجزء ، فهل الفرد هو تكرار لفكرة وجود أم توالد مستمر ؟ وهل التوالد مختص بالأجسام دون الأرواح طالما الروح هي واحدة ؟ وما معنى التكرار بالضبط؟ هل هو وجود شيء مطابق للشيء نفسه ؟ أم إن الشيء نفسه قد تعددت أماكنه ، وهذا لا يعني تكراره وإنما تكرار ظهوره ، وهل نحن تكرار لشخص واحد ينتهي بآدم ؟ 
أجابته :
-في هذه الحالة لابد لنا أن نعترف إن التوالد هو تكرار لابد أن يمر بأطوار ، فإنسان اليوم هو إنسان الأمس ، وما أنت إلا كأول الخلق من آدم ،  لأن الليل هو الليل ، والنهار هو النهار ، والشمس هي الشمس ، والشجرة هي الشجرة ، وأن النخلة التي تساقطت رطباً جنياً على مريم بنت عمران هي هي نخلة اليوم ، وعليها أن تمنحنا الرطب نفسه ، وهنا لابد من سؤال : فهل ما ننتظره منك كالذي انتظرناه من آدم ؟ 
قال لها :
-ما أسهل الجواب عندما ننظر للخلقة وما أصعبه وأبعده منالا عندما ننظر إلى ما وراء الخلقة ، إلى ذلك العقل وما جاء به من أفكار ، فهل عقل الأمس كعقل اليوم ؟وما دمنا في أعلى درجات التطور ، فهل نملك عقولاً  أكثر تطورا من عقل أول ابن لآدم ؟ 
أجابته :
-إذا كان الأمر كذلك ، فالقمة ليست أكثر أهمية من الأساس ، وما نريد أن نبنيه لابد من الاهتمام بأسسه وقواعده أكثر من قمته ، فهل يحق لنا أن نقول ؟ أيننا من عقول آبائنا أم إننا نقول أينهم من عقولنا ؟



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=78736
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 05 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19